خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ( 43 )

( خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ) وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم من السجود ووجوههم أشد بياضا من الثلج وتسود وجوه الكافرين والمنافقين ( تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) يغشاهم ذل الندامة والحسرة ( وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ) قال إبراهيم التيمي: يعني إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة وقال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون ( وَهُمْ سَالِمُونَ ) أصحاء فلا يأتونه قال كعب الأحبار: والله ما نـزلت هذه الآية إلا عن الذين يتخلفون عن الجماعات.

فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ( 44 ) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( 45 ) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ( 46 ) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( 47 ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ( 48 ) لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ( 49 ) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 50 )

( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ) أي فدعني والمكذبين بالقرآن وخل بيني وبينهم. قال الزجاج: معناه لا تشغل قلبك بهم [ كِلْهُم ] إليَّ فإني [ أكفيكهم ] [ قال ومثله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا معناه في اللغة: لا تشغل قلبك به وكله إليَّ فإني أجازيه. ومثله قول الرجل: ذرني وإياه، ليس أنه منعه منه ولكن تأويله كِلْه، فإني أكفيك أمره ]

قوله تعالى: ( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ) سنأخذهم بالعذاب ( مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ، فعذبوا يوم بدر. ( وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيدِي مَتِينٌ أَمْ تَسأَلُهُمْ أَجرًا فَهُمْ مِنْ مَّغْرَمٍ مُّثقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الغَيبُ فَهُمْ يَكتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) اصبر على أذاهم لقضاء ربك ( وَلا تَكُنْ ) في الضجر والعجلة ( كَصَاحِبِ الْحُوتِ ) وهو يونس بن متى ( إِذْ نَادَى ) ربه [ في ] بطن الحوت ( وَهُوَ مَكْظُومٌ ) مملوء غمًا.

( لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ ) أدركته ( نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) حين رحمه وتاب عليه ( لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ ) لطرح بالفضاء من بطن الحوت ( وَهُوَ مَذْمُومٌ ) يذم ويلام بالذنب [ يذنبه ] .

( فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ ) اصطفاه ( فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ )

وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ( 51 ) وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ( 52 )

( وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ) وذلك أن الكفار أرادوا أن يصيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين فنظر إليه قومٌ من قريش وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه.

وقيل: كانت العين في بني أسد حتى كانت الناقة والبقرة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول: يا جارية خذي المكتل والدراهم فأتينا بشيء من لحم هذه فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر .

وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثًا ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنمًا أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلا حتى تسقط منها طائفة وعدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به مثل ذلك، فعصم الله نبيه وأنـزل: « وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم » أي ويكاد ودخلت اللام في « ليزلقونك » لمكان « إن » وقرأ أهل المدينة: « لَيزْلقونك » بفتح الياء، والآخرون بضمها وهما لغتان، يقال: زلقَه يَزلُقه زلقًا وأَزْلَقهُ يزلُقه إزلاقًا.

قال ابن عباس: معناه: ينفذونك، ويقال: زلق السهم: إذا أنفذ.

قال السدي: يصيبونك بعيونهم. قال النضير بن شميل: يعينونك. وقيل: يزيلونك.

وقال الكلبي: يصرعونك. وقيل: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة.

قال ابن قتيبة: ليس يريد أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرًا شديدًا بالعداوة والبغضاء، يكاد يسقطك .

وقال الزجاج: يعني من شدة عداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك. وهذا مستعمل في [ كلام العرب ] يقول القائل: نَظر إليَّ نظرًا يكاد يصرعني، ونظرا يكاد يأكلني. يدل على صحة هذا المعنى: أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهو قوله: ( لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ) وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهية فيحدون إليه النظر بالبغضاء ( وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) أي ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن. فقال الله تعالى:

( وَمَا هُوَ ) يعني القرآن ( إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) قال ابن عباس: موعظة للمؤمنين. قال الحسن: دواء إصابة العين أن يقرأ الإنسان هذه الآية .

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال حدثنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « العين حق » ونهى عن الوشم .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، حدثنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي، أخبرنا أبو نصر بن محمد بن حمدويه بن سهل المروزي، حدثنا محمود [ بن آدم المروزي ] حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر، عن عبيد بن رفاعة الزرقي أن أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ قال: « نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين » .

 

سورة الحاقة

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَاقَّةُ ( 1 ) مَا الْحَاقَّةُ ( 2 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ( 3 ) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ( 4 ) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ( 5 )

( الْحَاقَّةُ ) يعني القيامةُ سميت حاقة لأنها حقت فلا كاذبة لها. وقيل لأن فيها حواق الأمور وحقائقها ولأن فيها يحق الجزاء على الأعمال، أي يجب يقال: حق عليه الشيء إذا وجب يحق [ حقوقا ] قال الله تعالى: وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( الزمر- 71 ) قال الكسائي: « الحاقة » يوم الحق. ( مَا الْحَاقَّةُ ) هذا استفهام معناه التفخيم لشأنها كما يقال: زيد ما زيد على التعظيم لشأنه. ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ) أي أنك لا تعلمها إذ لم تعاينها ولم تر ما فيها من الأهوال. ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ) قال ابن عباس وقتادة: بالقيامة سميت قارعة لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة. وقيل: كذبت بالعذاب الذي أوعدهم نبيهم حتى نـزل بهم فقرع قلوبهم. ( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) أي بطغيانهم وكفرهم. قيل: هي مصدر، وقيل: نعت أي بفعلهم الطاغية وهذا معنى قول مجاهد، كما قال: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ( الشمس- 11 ) وقال قتادة: بالصيحة الطاغية، وهي التي جاوزت مقادير الصياح فأهلكتهم. وقيل: طغَت على الخُزَّان [ فلم يكن لهم عليها سبيل ولم يعرفوا كم خرج منها ] كما طغى الماء على قوم نوح.

وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ( 6 ) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( 7 ) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ( 8 )

( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) عتت على خُزَّانها فلم تطعهم ولم يكن لهم عليها سبيل، وجاوزت المقدار فلم يعرفوا كم خرج منها. ( سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ ) أرسلها عليهم. وقال مقاتل: سلطها عليهم ( سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ) قال وهب: هي الأيام التي تسميها العرب أيام العجوز، ذات برد ورياح شديدة. قيل: سميت عجوزًا لأنها في عجز الشتاء. وقيل: سميت بذلك لأن عجوزًا من قوم عاد دخلت سربًا فتبعتها الريح، فقتلتها اليوم الثامن من نـزول العذاب وانقطع العذاب ( حُسُومًا ) قال مجاهد وقتادة: متتابعة ليس لها فترة، فعلى هذا فهو من حسم الكَيّ وهو أن يتابع على موضع الداء بالمكواة حتى يبرأ، ثم قيل لكل شيء توبع: حاسم وجمعه حسوم، مثل شاهد وشهود، وقال الكلبي ومقاتل: حسومًا دائمة. وقال النضر بن شميل: حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم، والحسم: القطع والمنع ومنه حسم الداء. قال الزجاج: [ الذي توجبه الآية فعلى معنى ] تحسمهم حسوما تفنيهم وتذهبهم. وقال عطية: حسومًا كأنها حسمت الخير عن أهلها ( فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا ) أي في تلك الليالي والأيام ( صَرْعَى ) هلكى جمع صريع ( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) ساقطة، وقيل: خالية الأجواف. ( فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ) أي من نفس باقية، يعني: لم يبق منهم أحد.