وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ( 9 ) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ( 10 ) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ( 11 )

( وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ ) قرأ أهل البصرة والكسائي بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن معه من جنوده وأتباعه، وقرأ الآخرون بفتح القاف وسكون الباء، أي ومن قبله من الأمم الكافرة ( وَالْمُؤْتَفِكَاتُ ) أي: قرى قوم لوط، يريد: أهل المؤتفكات. وقيل يريد الأمم الذين ائتفكوا بخطيئتهم، أي أهلكوا بذنوبهم ( بِالْخَاطِئَةِ ) أي بالخطيئة والمعصية وهي الشرك. ( فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ ) يعني لوطًا وموسى ( فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ) نامية. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: شديدة. وقيل: زائدة على عذاب الأمم. ( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ ) أي عتا وجاوز حده حتى علا على كل شيء وارتفع فوقه، يعني زمن نوح عليه السلام ( حَمَلْنَاكُمْ ) أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم ( فِي الْجَارِيَةِ ) في السفينة التي تجري في الماء.

لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ( 12 ) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ( 13 ) وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ( 14 ) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( 15 ) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ( 16 ) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ( 17 )

( لِنَجْعَلَهَا ) أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا مِنْ إِغْراق قوم نوح ونجاة من حملنا معه ( لَكُمْ تَذْكِرَةً ) عبرة وموعظة ( وَتَعِيَهَا ) قرأ القواس عن ابن كثير وسليم عن حمزة باختلاس العين، وقرأ الآخرون بكسرها أي تحفظها ( أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) أي: حافظة لما جاء من عند الله. قال قتادة: [ أذن ] سمعت وعقلت ما سمعت. قال الفَّراء: لتحفظها كل أذن فتكون عبرة وموعظة لمن يأتي بعد . ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ) وهي النفخة الأولى. ( وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ ) رفعت من أماكنها ( فَدُكَّتَا ) كسرتا ( دَكَّةً ) كسرة ( وَاحِدَةً ) فصارتا هباءً [ منثورًا ] . ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) قامت القيامة. ( وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ) ضعيفة. قال الفراء: وَهْيُها: تشُّقُقها . ( وَالْمَلَكُ ) يعني الملائكة ( عَلَى أَرْجَائِهَا ) نواحيها وأقطارها ما لم ينشق منها واحدها: « رجا » مقصورًا وتثنيته رَجَوَان. قال الضحاك: تكون الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الرب فينـزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ ) أي فوق رءوسهم يعني الحملة ( يَوْمَئِذٍ ) يوم القيامة ( ثَمَانِيَةٌ ) أي ثمانية أملاك.

جاء في الحديث: « إنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخرى، فكانوا ثمانية على صورة الأوعال ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء » .

وجاء في الحديث: « لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر » .

أخبرنا أبو بكر بن الهيثم الترابي، أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي، أخبرنا محمد بن يحيى الخالدي، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم [ الحنظلي ] حدثنا عبد الرزاق، حدثنا يحيى بن العلاء، عن عمه شعيب بن خالد، حدثنا سماك بن حرب، عن عبد الله بن عميرة، عن العباس بن عبد المطلب قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فمرت سحابة فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: « أتدرون ما هذا؟ قلنا: السحاب. قال: والمزن؟ قلنا: والمزن، قال: والعنان؟ فسكتنا فقال: هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكذلك غلظ كل سماء خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض [ ثم بين ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن كما بين السماء والأرض ] ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء » .

ويروى هذا عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس.

وروي عن ابن عباس أنه قال: « فوقهم يومئذ ثمانية » أي: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله .

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ( 18 ) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ( 19 ) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ( 20 ) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ( 21 ) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( 22 ) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ( 23 )

( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ) على الله ( لا تَخْفَى ) قرأ حمزة والكسائي: « لا يخفى » بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء ( مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ) أي فِعْلة خافية. قال الكلبي: لا يخفى على الله منكم شيء. قال أبو موسى: يعرض الناس ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما العرضة الثالثة فعندها تطاير الصحف فآخذ بيمينه وآخذ بشماله وذلك قوله عز وجل: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ) تعالوا اقرءوا كتابيه الهاء في « كتابيه » هاء الوقف. ( إِنِّي ظَنَنْتُ ) علمت وأيقنت ( أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ) أي: [ أني ] أحاسب في الآخرة. ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ ) حالة من العيش ( رَاضِيَة ) مرضية كقوله: مَاءٍ دَافِقٍ ( الطارق- 6 ) يريد: يرضاها بأن لقي الثواب وأمن العقاب. ( فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ) رفيعة. ( قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ) ثمارها قريبة لمن يتناولها [ في كل أحواله ينالها ] قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا يقطعون كيف شاءوا. ويقال لهم:

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ( 24 ) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ( 25 ) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ( 26 ) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ( 27 ) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ( 28 ) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ( 29 ) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ( 30 ) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ( 31 ) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ( 32 )

( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ ) قدمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة ( فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ ) الماضية يريد أيام الدنيا. ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ) قال ابن السائب: تُلْوَى يده اليسرى [ من صدره ] خلف ظهره ثم يعطى كتابه. وقيل: تنـزع يده اليسرى من صدره إلى خلف ظهره ثم يعطى كتابه؛ ( فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَم أَدرِ مَا حِسَابِيَه ) يتمنى أنه لم يؤت كتابه لما يرى فيه من قبائح أعماله. ( يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ) يقول: يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاضية الفارغة من كل ما بعدها والقاطعة للحياة، فلم أحيَ بعدها. و « القاضية » موت لا حياة بعده يتمنى أنه لم يبعث للحساب. قال قتادة: يتمنى الموت ولم يكن عنده في الدنيا شيء أكره من الموت. ( مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ) لم يدفع عني من عذاب الله شيئًا. ( هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ) ضلت عني حجتي، عن أكثر المفسرين. وقال ابن زيد: زال عني ملكي وقوتي. قال مقاتل: يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك، يقول الله لخزنة جهنم: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ) اجمعوا يده إلى عنقه. ( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي: أدخِلوه الجحيم. ( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ) فأدخلوه فيها. قال ابن عباس: سبعون ذراعا بذراع المَلكَ، فتدخل في دبره وتخرج من منخره . وقيل: تدخل في فيه وتخرج من دبره. وقال نوف البكالي: سبعون ذراعا كل ذراع سبعون باعًا كل باع أبعد مما بينك وبين مكة، وكان في رحبة الكوفة وقال سفيان: كل ذراع سبعون ذراعا. قال الحسن: الله أعلم أي ذراع هو.

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن يزيد، عن أبي السمح، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو أن [ رضاضة ] مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفًا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها » .

وعن كعب قال: لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقه منها.

إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ( 33 ) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 34 )

( إِنَّه كَانَ لا يُؤمِنُ بِاللهَّ العَظِيم وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) لا يطعم المسكين في الدنيا ولا يأمر أهله بذلك.