إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ( 18 )

( إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ) الآيات، وذلك أن الله تعالى لما أنـزل على النبي صلى الله عليه وسلم حم * تَنْـزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ إلى قوله: الْمَصِيرُ ( غافر: 1- 3 ) قام النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم لاستماعه لقراءته [ القرآن ] أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم، فقال: [ والله ] لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه [ لمثمر ] وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يُعلى، ثم انصرف إلى منـزله فقالت قريش: [ سحره محمد ] [ صبأ والله الوليد، والله لتصبون قريش كلهم، وكان يقال للوليد: ريحانة قريش ] فقال لهم أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزينًا، فقال له الوليد: مالي أراك حزينًا يا ابن أخي؟ قال: وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك النفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنك زيَّنت كلام محمد وتدخل على ابن أبي كبشة، وابن أبي قحافة، لتنال من فضل طعامهم فغضب الوليد، فقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالا وولدًا، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل من الطعام؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه، فقال لهم: تزعمون أن محمدًا مجنون، فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهم لا قال: تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه قط تكهن؟ قالوا: اللهم لا قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا قال: تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئًا من الكذب؟ قالوا: لا - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين قبل النبوة، من صدقه - فقالت قريش للوليد: فما هو؟ فتفكر في نفسه ثم نظر ثم عبس، فقال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه وولده؟ فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر فذلك قوله عز وجل: ( إِنَّهُ فَكَّرَ ) في محمد والقرآن ( وَقَدَّرَ ) في نفسه ماذا يمكنه أن يقول في محمد والقرآن.

فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( 19 ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( 20 ) ثُمَّ نَظَرَ ( 21 ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ( 22 ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ( 23 ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ( 24 ) إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ ( 25 ) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( 26 )

( فَقُتِلَ ) لعن، وقال الزهري: عُذّب، ( كَيْفَ قَدَّرَ ) على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ. ( ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) كرره للتأكيد، وقيل: معناه لعن على أي حال قدر من الكلام، كما يقال لأضربنه كيف صنع أي على أي حالٍ صنع. ( ثُمَّ نَظَرَ ) في طلب ما يدفع به القرآن ويرده. ( ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ) كلح وقطب وجهه ونظر بكراهية شديدة كالمهتم المتفكر في شيء. ( ثُمَّ أَدْبَرَ ) عن الإيمان ( وَاسْتَكْبَرَ ) تكبر حين دعي إليه. ( فَقَالَ إِنْ هَذَا ) ما هذا الذي يقرؤه محمد ( إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) يروى ويحكى عن السحرة. ( إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ ) يعني يسارًا وجبرًا فهو يأثره عنهما. وقيل: يرويه عن مسيلمة صاحب اليمامة. قال الله تعالى ( سَأُصْلِيه ) سأدخله ( سَقَرَ ) وسقر اسم من أسماء جنهم.

وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ( 27 ) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ( 28 ) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ( 29 ) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ( 30 )

( وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ) أي لا تبقي ولا تذر فيها شيئًا إلا أكلته وأهلكته. وقال مجاهد: لا تميت ولا تحيي يعني لا تبقي من فيها حيًا ولا تذر من فيها ميتًا كلما احترقوا جُدِّدوا. وقال السدي: لا تبقي لهم لحمًا ولا تذر لهم عظمًا. وقال الضحاك: إذا أخذت فيهم لم تبق منهم شيئًا وإذا أعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم ولكل شيء ملالة وفترة إلا لجهنم. ( لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ) مغيرة للجلد حتى تجعله أسود، يقال: لاحه السقم والحزن إذا غيره، وقال مجاهد: تلفح الجلد حتى تدعه أشد سوادًا من الليل. وقال ابن عباس وزيد بن أسلم: محرقة للجلد. وقال الحسن وابن كيسان: تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانًا نظيره قوله: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ( الشعراء- 91 ) و ( لَوَّاحَة ) رفع على نعت « سقر » في قوله: « وما أدراك ما سقر » و « البَشَر » جمع بشرة وجمع البشر أبشار. ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) [ أي: على ] النار تسعة عشر من الملائكة، وهم خزنتها: مالك ومعه ثمانية عشر. وجاء في الأثر: أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نـزعت منهم الرحمة، يرفع أحدهم سبعين ألف فيرميهم حيث أراد من جهنم .

قال عمرو بن دينار: إن واحدًا منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر.

قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك: لما نـزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبر أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدَّهم، أي: الشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم قال أبو [ الأشد ] أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، عشرة على ظهري وسبعة على بطني، فاكفوني أنتم اثنين.

وروي أنه قال: أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة. فأنـزل الله عز وجل ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً )

وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ( 31 ) كَلا وَالْقَمَرِ ( 32 ) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ( 33 ) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ( 34 )

( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً ) لا رجالا آدميين، فمن ذا يغلب الملائكة؟ ( وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ ) أي عددهم في القلة ( إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) أي ضلالة لهم حتى قالوا ما قالوا ( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) لأنه مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر، ( وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ) يعني من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقًا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا وجدوا ما قاله موافقًا لما في كتبهم ( وَلا يَرْتَابَ ) ولا يشك ( الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ) في عددهم ( وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) شك ونفاق ( وَالْكَافِرُونَ ) [ مشركو مكة ] ( مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا ) أي شيء أراد بهذا الحديث؟ وأراد بالمثل الحديث نفسَه. ( كَذَلِكَ ) أي كما أضل الله من أنكر عدد الخزنة وهدى من صدق كذلك ( يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ ) قال مقاتل: هذا جواب أبي جهل حين قال: أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر؟ قال عطاء: ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ ) يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، لا يعلم عدتهم إلا الله، والمعنى إن تسعة عشر هم خزنة النار، ولهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلم إلا الله عز وجل، ثم رجع إلى ذكر سقر فقال: ( وَمَا هِيَ ) يعني [ سقر ] ( إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ) إلا تذكرة وموعظة للناس. ( كَلا وَالْقَمَرِ ) هذا قسم، يقول: حقا. ( وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) قرأ نافع وحمزة وحفص ويعقوب « إذ » بغير ألف، « أدبر » بالألف، وقرأ الآخرون « إذا » بالألف « دبر » بلا ألف، لأنه أشد موافقة لما يليه، وهو قوله: ( وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ) ولأنه ليس في القرآن قسم بجانبه إذ وإنما بجانب الإقسام إذا [ ودبر وأدبر ] كلاهما لغة، يقال: دبر الليل وأدبر إذا ولى ذاهبًا. قال أبو عمرو: دبر لغة قريش، وقال قطرب: دبر أي أقبل، تقول العرب: دبرني فلان أي جاء خلفي، فالليل يأتي خلف النهار.

( وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ) أضاء وتبين.

إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ ( 35 ) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ( 36 ) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ( 37 ) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( 38 ) إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ( 39 )

( إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ ) يعني أن سقر لإحدى الأمور العظام، وواحد الكبر: كبرى، قال مقاتل والكلبي: أراد بالكُبَر: دركات جهنم، وهي سبعة: جنهم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية. ( نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ) يعني النار نذيرًا للبشر، قال الحسن: والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها، وهو نصب على القطع من قوله: « لإحدى الكبر » لأنها معرفة، و « نذيرا » نكرة، قال الخليل: النذير مصدر كالنكير، ولذلك وصف به المؤنث، وقيل: هو من صفة الله سبحانه وتعالى، مجازه: وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة نذيرًا للبشر أي إنذارًا لهم. قال أبو رزين يقول أنا لكم منها نذير، فاتقوها. وقيل: هو صفة محمد صلى الله عليه وسلم معناه: يا أيها المدثر قم نذيرًا للبشر، [ فأنذر ] وهذا معنى قول ابن زيد. ( لِمَنْ شَاءَ ) بدل من قوله « للبشر » ( مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ ) في الخير والطاعة ( أَوْ يَتَأَخَّرَ ) عنها في الشر والمعصية، والمعنى: أن الإنذار قد حصل لكل واحد ممن آمن أو كفر. ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) مرتهنة في النار بكسبها مأخوذة بعملها. ( إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ) فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم في النار ولكن يغفرها الله لهم. قال قتادة: علق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين. واختلفوا فيهم: روي عن علي رضي الله عنه أنهم أطفال المسلمين.

وروى أبو ظبيان عن ابن عباس: هم الملائكة.

وقال مقاتل: هم أصحاب الجنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق، حين قال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وعنه أيضا: هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم، وعنه أيضا: هم الذين كانوا ميامين على أنفسهم.

وقال الحسن: هم المسلمون المخلصون. وقال [ القاسم ] كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر إلا من اعتمد على الفضل، وكل من اعتمد على الكسب فهو رهين به، ومن اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ به.

فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 40 ) عَنِ الْمُجْرِمِينَ ( 41 ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ( 42 ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ( 43 ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( 44 ) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ( 45 ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ( 46 ) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ( 47 )

( فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ ) المشركين. ( مَا سَلَكَكُمْ ) أدخلكم ( فِي سَقَرَ ) فأجابوا ( قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) [ لله ] ( وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوض ) في الباطل ( مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) ( حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ) وهو الموت.