سورة الانفطار

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ( 1 ) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ( 2 ) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ( 3 ) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ( 4 ) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ( 5 ) يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ( 6 )

( إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ) انشقت. ( وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ) تساقطت. ( وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ) فُجّر بعضها في بعض واختلط العذب بالملح فصارت بحرًا واحدًا وقال الربيع: « فجرت » فاضت. ( وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ) بحثت وقلب ترابها وبعث ما فيها من الموتى أحياءً يقال: بعثرت الحوض وبحثرتهُ إذا قلبته فجعلت أسفله أعلاه. ( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) قيل: « ما قدمت » من عمل صالح أو سيئٍ « وأخرت » من سنة حسنة أو سيئة. وقيل: « ما قدمت » من الصدقات « وأخرت » من التركاتِ على ما ذكرنا في قوله: يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( القيامة- 13 ) . ( يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ما خدعك وسوَّل لك الباطل حتى أضعت ما وجب عليك. والمعنى: ماذا أمنك من [ عذابه ] قال عطاء: نـزلت في الوليد بن المغيرة.

وقال الكلبي ومقاتل: نـزلت في الأسود بن شريق ضرب النبي فلم يعاقبه الله عز وجلَّ فأنـزل الله هذه الآية يقول: ما الذي غرك بربك الكريم المتجاوز عنك إذ لم يعاقبك عاجلا بكفرك؟ قال قتادة: غره عدوه المسلط عليه يعني الشيطان قال مقاتل: غره عفو الله حين لم يعاقبه في أول [ مرة ] . وقال السدي: غره رفق الله به.

وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة. فيقول: يا ابن آدم ما غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما [ علمت ] ؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟.

وقيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله يوم القيامة فقال: ما غرك بربك الكريم؟ ماذا كنت تقول؟ قال: أقول غرني ستورك المرخاة .

وقال يحيى بن معاذ: لو أقامني بين يديه فقال ما غرك بي؟ [ فأقول ] غرني بك بِرُّك بي سالفًا وآنفًا.

وقال أبو بكر الوراق: لو قال لي: ما غرك بربك الكريم؟ لقلت: غرني كرم الكريم.

قال بعض أهل الإشارة: إنما قال بربك الكريم دون سائر أسمائه وصفاته كأنه لقنه الإجابة حتى يقول: غرني كرم الكريم.

الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ( 7 ) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ( 8 )

( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ) قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر « فَعَدَلك » بالتخفيف أي صرفك وأمالك إلى أي صورة شاء حسنًا وقبيحًا وطويلا وقصيرًا. وقرأ الآخرون بالتشديد أي قومك وجعلك معتدل الخلق والأعضاء. ( فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) قال مجاهد والكلبي ومقاتل: في أي شبه من أب أو أم أو خال أو عم.

وجاء في الحديث: أن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضر كل عرق بينه وبين آدم ثم قرأ « في أي صورة ما شاء ركبك » . وذكر الفراء قولا آخر: « في أي صورة ما شاء ركبك » إن شاء في صورة إنسان وإن شاء في صورة دابةٍ أو حيوان آخر.

كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ( 9 ) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ( 10 ) كِرَامًا كَاتِبِينَ ( 11 ) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( 12 ) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ( 13 ) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ( 14 ) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ( 15 ) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ( 16 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ( 17 ) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ( 18 )

( كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ ) قرأ أبو جعفر بالياءِ وقرأ الآخرون بالتاء لقوله: « وإن عليكم لحافظين » ( بِالدِّين ) بالجزاء والحساب. ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ) رقباء من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم. ( كِرَامًا ) على الله ( كَاتِبِين ) يكتبون أقوالكم وأعمالكم. ( يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) من خير أو شر. قوله عز وجل: ( إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ) الأبرار الذين بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء فرائض الله عز وجل واجتناب معاصيه. ( وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) روي أن سليمان بن عبد الملك قال لأبي حازم المدني: ليت شعري ما لنا عند الله؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله فإنك تعلم ما لك عند الله. قال: فأين أجد في كتاب الله؟ قال عند قوله: « إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم » قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( الأعراف- 56 ) . قوله عز وجل: ( يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ) يدخلونها يوم القيامة ثم عظَّم ذلك اليومَ فقال: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ) ثم كرر تعجبًا لشأنه فقال ( ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ )

يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( 19 )

( يَوْمَ لا تَمْلِكُ ) قرأ أهل الكوفة والبصرة: « يوم » برفع الميمِ ردا على اليوم الأولِ وقرأ الآخرون بنصبهَا أي: في يومٍ يعني: هذه الأشياء في يوم لا تملك ( نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا ) قال مقاتل: يعني لنفس كافرة شيئا من المنفعةِ ( وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) أي لم يُملّكِ الله في ذلك اليوم أحدًا شيئًا كما ملكهم في الدنيا.

 

سورة المطففين

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ( 1 )

( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) يعني الذين ينقصون المكيال والميزان ويبخسون حقوق الناس. قال الزجاج: إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان: مطففٌ لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف.

أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد علي الصيرفيُّ حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلديُّ أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن الحافظُ حدثنا عبد الرحمن بن بشرٍ حدثنا علي بن الحسين بن واقدٍ حدثني أبي حدثني يزيد النحوي أن عكرمة حدثه عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنـزل الله عز وجل: « ويل للمطففين » فأحسنوا الكيل .

وقال السدي: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وبها رجل يقال له: أبو جهينةَ ومعه صاعانِ يكيل بأحدهما ويكتال بالآخرِ فأنـزل الله هذه الآية .

فالله تعالى جعل الويل للمطففين. ثم بين أن المطففين من هم فقال:

الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ( 2 ) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( 3 ) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ( 4 ) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ( 5 ) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 6 )

( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ) وأراد إذا اكتالوا من الناس أي أخذوا منهمْ و « مِنْ » و « على » متعاقبان.

قال الزجاج: المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل [ الوزن ] [ وأراد: الذين إذا اشتروا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن ] .

( وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم أي للناسِ يقال: وزنتك حقك وكلتك طعامكَ أي وزنت لك وكِلت لك كما يقال: نصحتك ونصحت لك وكسبتك وكسبت لك.

قال أبو عبيدة: وكان عيسى بن عمر يجعلهما حرفين يقف على « كالوا ووزنوا » ويبتدئ « هم يخسرون » وقال أبو عبيدة: والاختيار الأول يعني: أن كل واحدة كلمة واحدةُ لأنهم كتبوها بغير ألفٍ ولو كانتا مقطوعتين لكانت: « كالوا [ و ] وزنوا » بالألف كسائر الأفعال مثل جاءوا وقالوا: واتفقت المصاحف على إسقاط الألفِ ولأنه يقال في اللغة: كلتك ووزنتك كما يقال: كلت لك ووزنت لك. « يخسرون » أي ينقصونَ قال نافع: كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: اتق الله وأوف الكيل والوزنَ فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم.

( أَلا يَظُنُّ ) يستيقن ( أُولَئِك ) الذين يفعلون ذلك ( أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) يعني يوم القيامة.

( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ ) [ من قبورهم ] ( لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي لأمره ولجزائه ولحسابه.

أخبرنا عبد الواحد المليحيُّ أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيميُّ أخبرنا محمد بن يوسفَ حدثنا محمد بن إسماعيلَ أخبرنا إبراهيم بن المنذرِ أخبرنا معنٌ حدثني مالكٌ عن نافعٍ عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه » .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهنيُّ أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارثِ حدثنا محمد بن يعقوب الكسائيُّ حدثنا عبد الله بن محمودٍ حدثنا إبراهيم بن عبد الله الخلَّالُ حدثنا عبد الله بن المباركِ عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابرٍ قال: [ حدثني سليم بن عامر ] حدثني المقداد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون [ قدر ] ميل أو اثنين » - قال سليم: لا أدري أي الميلين يعني مسافة الأرض أو الميل الذي تكحل به العين؟ - قال: « فتصهرهم الشمس فيكون في العَرَق بقدر أعمالهمْ فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ومنهم من يأخذه إلى حقويهِ ومنهم من يلجمه إلجامًا » فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلمَ وهو يشير بيده إلى فيه يقول: « ألجمه إلجامًا » .