وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ( 166 ) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ( 167 ) الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 168 ) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( 169 )

( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) بأحد من القتل والجرح والهزيمة، ( فَبِإِذْنِ اللَّهِ ) أي: بقضائه وقدره، ( وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي: ليُميزّ وقيل ليرى.

( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي: لأجل دين الله وطاعته، ( أَوِ ادْفَعُوا ) عن أهلكم وحريمكم، وقال السدي: أي كثّروا سوادَ المسلمين ورابطوا إن لم تُقاتلوا يكونُ ذلك دفعاً وقمعا للعدو، ( قَالُوا لَوْ نَعْلَم قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ ) وهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه الذين انصرفوا عن أُحد وكانوا ثلاثمائة قال الله تعالى: ( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ ) أي: إلى الكفر يومئذ أقربُ ( مِنْهُمْ لِلإيمَانِ ) أي: إلى الإيمان ، ( يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم ) يعني: كلمة الإيمان ( مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّه أَعْلَم بِمَا يَكْتُمُونَ )

( الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ ) في النسب لا في الدين وهم شهداء أُحد ( وَقَعَدُوا ) يعني: قعد هؤلاء القائلون عن الجهاد ( لَوْ أَطَاعُونَا ) وانصرفوا عن محمد صلى الله عليه وسلم وقعدوا في بيوتهم ( مَا قُتِلُوا قُلْ ) يا محمد، ( فَادْرَءُوا ) فادفعوا ، ( عَنْ أَنْفُسِكُم الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) إن الحذر لا يغني عن القدر.

قوله تعالى: ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ) الآية قيل: نـزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين .

وقال الآخرون: نـزلت في شهداء أحد وكانوا سبعين رجلا أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا محمد بن حماد، أنا أبو معاوية عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبد الله ( هو ابن مسعود ) رضي الله عنهما عن هذه الآية: ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) الآية قال أما أنّا قد سألنا عن ذلك فقال: « أرواحهم كطير خضر » ويروى « في جوف طير خضر لها قناديلُ معلقة بالعرش تسرحُ من الجنة في أيها شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربُّك اطلاعة فقال: سلوني ما شئتم فقالوا : يا رب كيف نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا؟ فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا شيئا قالوا: إنا نسألك أن تردَّ أرواحنا إلى أجسادنا نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تُركوا » .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا عبد الله بن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان، أنا جيعوية أنا صالح بن محمد، أنا سليمان بن عمرو، عن إسماعيل بن أمية، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما أصيب إخوانُكم يوم أُحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طيرٍ خُضرٍ ترد أنهارَ الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيثُ شاءتْ وتأوي إلى قناديلَ من ذهب تحت العرش، فلما رأوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم ورأوا ما أعدَّ الله لهم من الكرامة قالوا: ياليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله بنا كي يرغبوا في الجهاد ولا يتكلوا عنه فقال الله عز وجل أنا مخبرٌ عنكم ومبلغٌ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنـزل الله تعالى ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ) إلى قوله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ . »

سمعت عبد الواحد بن أحمد المليحي، قال: سمعت الحسن بن أحمد القتيـبي قال: سمعتُ محمد بن عبد الله بن يوسف قال: سمعت محمد بن إسماعيل البكري، قال: سمعت يحيى بن حبيب بن عربي قال: سمعتُ موسى بن إبراهيم قال: سمعت طلحة بن خراش قال: سمعتُ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: « يا جابر ما لي أراك منكسرا » ؟ قلتُ يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينًا قال: « أفلا أبشرك بما لقي الله به أباكَ » ؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: « ما كلم الله تعالى أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وإنه أحيا أباك فكلّمه كفاحًا قال: يا عبدي تمنَّ عليّ أعطِك قال: يا ربِّ أحيني فأقتل فيك الثانية، قال الرب تبارك وتعالى: إنه قد سبق منّي أنهم لا يرجعون فأنـزلت فيهم ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ) . »

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنا أبو الحسن الطيسفوني، أنا عبد الله بن عمر الجوهري، أنا أحمد بن علي الكشميهني، أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر، أنا حميد عن أنس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من عبد يموتُ له عند الله خيرٌ يحبُّ أن يرجع إلى الدنيا وأنّ له الدنيا وما فيها، إلا الشهيد لما يَرَى من فضلِ الشهادة، فإنه يحبُّ أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرةً أخرى » .

وقال قوم: نـزلت هذه الآية في شهداء بئر معونة وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك وغيرهم من أهل العلم قال: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر، مُلاعِبُ الأسِنَّة وكان سيد بني عامر بن صعصعة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأهدى إليه هدية فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها وقال لا أقبل هدية مشرك، فأسِلْم إن أردتَ أن أقبل هديتَك؟ ثم عرض عليه الإسلام وأخبره بما له فيه وما أعدّ الله للمؤمنين وقرأ عليه القرآن فلم يُسلم، ولم يبعد وقال: يا محمد إن الذي تدعو إليه حسنٌ جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فيدعونهم إلى أمرك رجوتُ أن يستجيبوا لك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني أخشى عليهم أهل نجد » .

فقال أبو البراء: أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك.

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من خيار المسلمين منهم الحارث بن الصِّمَّة وحرام بن مِلْحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن يزيد ابن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه، وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أُحد، فساروا حتى نـزلوا بئر معونة وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم فلما نـزلوها قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء؟ فقال حرام بن مِلحان: أنا فخرج بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء فلما أتاهم حرام بن مِلحان لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حرام بن ملحان: يا أهل بئر معونة إني رسولُ رسولِ الله إليكم إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال: الله أكبر فزتُ وربِّ الكعبة.

ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا: لن نخفر أبا براء قد عقد لهم عقدًا وجوارًا ثم استصرخ عليهم قبائل من بني سُلَيْم - عُصَيَّة ورِعْلا وذكوان - فأجابوه فخرجوا حتى غشوا القومَ فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قُتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق فارتثَّ من بين القتلى فضلوه فيهم فعاش حتى قُتل يوم الخندق، وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلم ينبههما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على المعسكر! فقالا والله إن لهذا الطير لشأنًا فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري لعمرو بن أمية الضمري: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره فقال الأنصاري الله أكبر لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل القوم حتى قتل وأخذوا عمرو بن أمية الضمري أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجزَّ ناصيتهَ وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمِّه فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هذا عمل أبي براء قد كنتُ لهذا كارها متخوفا » فبلغ ذلك أبا براء فشقّ عليه إخفارُ عامر إياه وما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره.

وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة، فروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول: مَنِ الرجلُ منهم لما قتل رأيته رُفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه؟ قالوا: هو عامر بن فهيرة، ثم بعد ذلك حمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه على فرسه فقتله .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الأعلى بن حماد، أنا يزيد بن زريع، أنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك: « أن رِعْلا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو لهم فأمدَّهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، وكانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب على رِعْلٍ وذكوان وعصية وبني لحيان. »

قال أنس رضي الله عنه: فقرأنا، فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رَفع: « بَلِّغُوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا » ثم نسخت ( فرفع بعدما قرأناه ) زمانا وأنـزل الله تعالى: ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ) الآية.

وقيل: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة تحسروا على الشهداء، وقالوا: نحن في النعمة وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور، فأنـزل الله تعالى تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم ( وَلا تَحْسَبَنَّ ) ولا تظننّ ( الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) قرأ ابن عامر « قتلوا » بالتشديد، والآخرون بالتخفيف « أمواتا » كأموات من لم يُقْتلْ في سبيل الله ( بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) قيل أحياء في الدِّين وقيل: في الذكر، وقيل: لأنهم يُرزقون ويأكلون ويتمتعون كالأحياء، وقيل: لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة، وقيل: لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض.

وقال عبيدة بن عمير: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أُحد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، ألا فأتوهم وزوروهم وسلِّموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يُسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه » . ( يُرْزَقُونَ ) من ثمار الجنة وتحفها.

فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 170 )

( فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُم اللَّه مِنْ فَضْلِهِ ) رزقه وثوابه، ( وَيَسْتَبْشِرُونَ ) ويفرحون ( بِالَّذِين َلَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ ) من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد لعلمهم أنهم إذا استشهدوا ولحقوا بهم ونالوا من الكرامة ما نالوا فهم لذلك مستبشرون، ( أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ( 171 ) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 172 )

( يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ ) أي: وبأن الله، وقرأ الكسائي بكسر الألف على الاستئناف .

( لا يُضِيع أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، حدثنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « تكَفَّلَ الله لمن جاهد في سبيله لا يُخرجُه من بيته إلا الجهادُ في سبيله وتصديقُ كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرجَ منه مع ما نال من أجر وغنيمة » .

وقال: « والذي نفسي بيده لا يُكْلَمُ أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يُكْلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعبُ دمًا اللون لون الدم والريح ريح المسك » .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسن بن محمد القاضي، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أنا علي بن الحسن الدارابجردي أنا عبد الله بن يزيد المقرئ، أنا سعيد، حدثني محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الشهيدُ لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألمَ القَرْصَةِ » .

قوله تعالى: ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ) الآية، وذلك أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أُحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم وتلاوموا وقالوا: لا محمدًا قتلتم ولا الكواعب أردفتم، قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم؟ ارجعوا فاستأصلوهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يُرهب العدو ويُريهم من نفسه وأصحابه قوةً فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان، فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من الجرح والقرح الذي أصابهم يوم أُحد ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا يخرجَنَّ معنا أَحدٌ إلا من حضر يومنا بالأمس فكلّمه جابر بن عبد الله، فقال: يا رسول الله إن أبي كان قد خلفني على أخوات لي سبع، وقال لي يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجلَ فيهنَّ ولست بالذي أوثرك على نفسي في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلفْ على أخواتك، فتخلفتُ عليهن فأذِنَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه.

وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرْهبًا للعدو وليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم فينصرفوا.

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا رضي الله عنهم حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال .

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعبد الله بن الزبير: يا ابن أختي أما والله إن أباك وجدك - تعني أبا بكر والزبير - لَمِنَ الذين قال الله عز وجل فيهم: ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُم الْقَرْحُ ) فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة - مسلمهم وكافرهم - عيبة نصحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتُهم معه لا يُخفونَ عنه شيئًا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد والله لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله تعالى كان قد أعفاك منهم، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لقد أصبنا جُلَّ أصحابه وقادتهم لنكرنَّ على بقيتهم فلنفرغنَّ منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدًا قال: ما وراءك يا معبدَ ؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقًا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ونَدِموا على صنيعهم، وفيهم من الحنق عليكم شيءٌ لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول ؟ قال: والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل، قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني والله أنهاك عن ذلك فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتًا:

كـادَتْ تُهَـدُّ مِـنَ الأصـواتِ رَاحلَتي إذْ سَــالَتِ الأرضُ بـالجُرْدِ الأبـابيلِ

فذكر أبياتا فردّ ذلك أبا سفيان ومن معه.

ومرّ به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة قال: ( ولم؟ قالوا: نريد الميرة ) قال: فهل أنتم مبلّغون عني محمدًا رسالة وأحمل لكم إبلكم هذه زبيبًا بعكاظ غدًا إذا وافيتمونا؟ قالوا: نعم، قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم وانصرف أبو سفيان إلى مكة، ومرّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: « حَسْبُنا الله ونِعْمَ الوكيل » ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد الثالثة . هذا قول أكثر المفسرين.

وقال مجاهد وعكرمة: نـزلت هذه الآية في غزوة بدر الصغرَى وذلك أن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال: يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ذلك بيننا وبينك إن شاء الله » فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نـزل مجنة من ناحية مرّ الظهران ثم ألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع فلقي نُعَيْمَ بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرًا فقال له أبو سفيان: يا نعيم إني واعدتُ محمدًا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى وإنّ هذه عام جدب ولا يُصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأةً ولأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي فَالْحَقْ بالمدينة فثبِّطْهم وأعلمْهم أنِّي في جمع كثير لا طاقة لهم بنا، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يدي سهيل بن عمرو ويضمنها قال: فجاء سهيل فقال له نعيم يا أبا يزيد: أتضمن لي هذه القلائص وأنطلق إلى محمد وأثبّطه؟ قال: نعم فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال: أين تريدون؟ فقالوا: واعدَنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها فقال: بئس الرأي رأيتم أتوكم في دياركم وقرارِكم فلم يفلت منكم إلا الشريدُ، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم، والله لا يفلت منكم أحد، فكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفس محمد بيده لأخرجَنَّ ولو وحدي » فأما الجبان فإنه رجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقال: « حسبنا الله ونعم الوكيل » .

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى وافوا بدرًا الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يريدون أن يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنون: حسبنا الله ونعم الوكيل، حتى بلغوا بدرًا وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة فلم يلقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدًا من المشركين ووافقوا السوق وكانت معهم تجارات ونفقات فباعوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين فذلك قوله تعالى: ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ) أي أجابوا ومحل « الذين » خفض على صفة المؤمنين تقديره: إن الله لا يُضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله والرسول، ( مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُم الْقَرْحُ ) أي: نالتهم الجراح تم الكلام هاهنا ثم ابتداء فقال: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ ) بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته إلى الغزو، ( وَاتَّقَوْا ) معصيته ( أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ( 173 )

( الَّذِينَ قَالَ لَهُم النَّاسُ ) ومحل « الذين » خفض أيضا مردودُ على الذين الأول وأراد بالناس: نعيم بن مسعود، في قول مجاهد وعكرمة فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم وحده وقال محمد بن إسحاق وجماعة: أراد بالناس الركب من عبد القيس، ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ) يعني أبا سفيان وأصحابه، ( فَاخْشَوْهُمْ ) فخافوهم واحذروهم فإنه لا طاقة لكم بهم، ( فَزَادَهُمْ إِيمَانًا ) تصديقًا ويقينًا وقوةً ( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ) أي: كافينا الله، ( وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) أي: الموكول إليه الأمور فعيل بمعنى مفعول.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أحمد بن يونس، أخبرنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( حَسْبُنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) .

 

فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ( 174 )

( فَانْقَلَبُوا ) فانصرفوا، ( بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ) بعافية لم يلقوا عدوا ( وَفَضْلٍ ) تجارة وربح وهو ما أصابوا في السوق ( لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ) يصبهم أذى ولا مكروه، ( وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّه ) في طاعة الله وطاعة رسوله وذلك أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوًا فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم، ( وَاللَّه ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ )

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 175 ) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 176 ) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 177 ) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 178 )

قوله تعالى: ( إِنَّمَا ذَلِكُم الشَّيْطَانُ ) يعني: ذلك الذي قال لكم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ من فعل الشيطان ألقي في أفواههم ليرهبوهم ويجبنُوُا عنهم، ( يُخَوِّف أَوْلِيَاءَهُ ) أي يخوفكم بأوليائه، وكذلك هو في قراءة أبي بن كعب يعني: يخوّف المؤمنين بالكافرين قال السدي: يعظّم أولياءَهُ في صدورهم ليخافوهم يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود « يخوفكم أولياءه » ( فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ ) في ترك أمري ( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) مصدقين بوعدي فإني متكفل لكم بالنصرة والظفر.

قوله عز وجل: ( وَلا يَحْزُنْكَ ) قرأ نافع « يحزنك » بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك جميع القرآن إلا قوله لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ ضدّه أبو جعفر وهما لغتان: حزن يحزن وأحزن يحزن إلا أن اللغة الغالبة حزن يحزن، ( الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) قال الضحاك: هم كفار قريش وقال غيره: هم المنافقون يسارعون في الكفر بمظاهرة الكفار. ( إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ) بمسارعتهم في الكفر، ( يُرِيد اللَّه أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ ) نصيبًا في ثوابِ الآخرة، فلذلك خَذَلهم حتى سارعوا في الكفر، ( وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )

( إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا ) استبدلوا ( الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ) وإنما يضرون أنفسهم، ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )

( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) قرأ حمزة هذا والذي بعده بالتاء فيهما، وقرأ الآخرون بالياء فمن قرأ بالياء « فالذين » في محل الرفع على الفاعل وتقديره ولا يحسبن الكفار إملاءنا لهم خيرًا، ومن قرأ بالتاء يعني: ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا، وإنما نصب على البدل من الذين، ( أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ ) والإملاء الإمهال والتأخير، يقال: عشت طويلا حميدًا وتمليت حينًا ومنه قوله تعالى: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ( مريم - 46 ) أي: حينا طويلا ثم ابتدأ فقال: ( إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ) نمهلهم ( لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ )

قال مقاتل: نـزلت في مشركي مكة وقال عطاء: في قريظة والنضير.

أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله القفال، أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البَرْوَنْجِرْدِيّ، أنا أبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي، أنا محمد بن يونس أنا أبو داود الطيالسي، أنا شعبة عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: « من طال عمُرُه وحَسُنَ عمَلُه » قيل: فأي الناس شر؟ قال: « من طال عمرُه وساء عمَلُه » .

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 179 )

قوله تعالى: ( مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) اختلفوا فيها، فقال الكلبي: قالت قريش: يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض، فأخبرنا بمن يُؤمن بك وبمن لا يُؤمن بك فأنـزل الله تعالى هذه الآية.

وقال السدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عُرضتْ علي أمتي في صورها في الطين كما عُرِضتْ على آدم وأُعْلِمْتُ من يؤمن بي ومن يكفر بي » فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء: زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد، ونحن معه وما يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا أنبأتكم به » فقام عبد الله بن حذافة السهمي: فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: حذافة فقام عمر فقال: يا رسول الله رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبالقرآن إمامًا وبك نبيًا فاعفُ عنا عفا الله عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « فهل أنتم منتهون » ؟ ثم نـزل عن المنبر فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

واختلفوا في حكم الآية ونظمها، فقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين: الخطاب للكفار والمنافقين يعني ( مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) يا معشر الكفار والمنافقين من الكفر والنفاق ( حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ )

وقال قوم: الخطاب للمؤمنين الذين أخبر عنهم، معناه: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق، فرجع من الخبر إلى الخطاب .

( حَتَّى يَمِيزَ ) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بضم الياء والتشديد وكذلك التي في الأنفال، وقرأ الباقون بالخفيف يقال: ماز الشيء يميزُه ميزًا وميزّه تمييزًا إذا فرّقه فامتاز، وإنما هو بنفسه، قال أبو معاذ إذا فرقت بين شيئين قلت: مزت ميزًا، فإذا كانت أشياء قلت: ميزتها تمييزًا وكذلك إذا جعلت الشيء الواحد شيئين قلت: فَرَقَت بالتخفيف ومنه فرق الشعر، فإن جعلته أشياء قلت: فرَّقته تفريقًا، ومعنى الآية حتى يميزَ المنافق من المخلص، فميز الله المؤمنين من المنافقين يوم أحد حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال قتادة: حتى يميز الكافر من المؤمن بالهجرة والجهاد.

وقال الضحاك: ( مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) في أصلاب الرجال وأرحام النساء يا معشر المنافقين والمشركين حتى يفرق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين وقيل: ( حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ ) وهو المذنب ( مِنَ الطَّيِّبِ ) وهو المؤمن يعني: حتى يحط الأوزار عن المؤمن بما يصيبه من نكبة ومحنة ومصيبة، ( وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ) لأنه لا يعلم الغيب أحدٌ غيره، ( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) فيُطلعه على بعض علم الغيب، نظيره قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ( سورة الجن الآيتان: 27،26 ) .

وقال السدي: معناه وما كان الله ليطلع محمدًا صلى الله عليه وسلم على الغيب ولكن الله اجتباه، ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ )

وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 180 )

( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُم اللَّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ ) أي: ولا يحسبن الباخلون البخل خيرًا لهم، ( بَلْ هُوَ ) يعني: البخل، ( شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ) أي: سوف يطوقون ( مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) يعني: يجعل ما منعه من الزكاة حيَّةً تُطَوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فوقه إلى قدمه وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي وائل والشعبي والسدي.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا علي بن عبد الله المديني، أنا هاشم بن القاسم، أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاتَه مُثّلَ له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرعَ له زبيبتان يُطَوَّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنـزك، ثم تلا ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ) الآية » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمرو بن حفص بن غياث، أنا أبي، أنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إليه يعني: النبي صلى الله عليه وسلم قال . « والذي نفسي بيده، أو والذي لا إله غيره، أو كما حلف ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يُؤدي حقها إلا أُتي بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحُه بقرونها كلّما جازت أُخراها رُدتْ عليه أولاها حتى يُقضَى بين الناس » .

قال إبراهيم النخعي: معنى الآية يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقًا من النار قال مجاهد: يَكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم.

وروى عطية عن ابن عباس: أن هذه الآية نـزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وأراد بالبخل كتمان العلم كما قال في سورة النساء الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ( النساء - 37 ) .

ومعنى قوله « سيطُوقون ما بخلوا به يوم القيامة » أي: يحملون وزرَه وإثمهُ كقوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ( الأنعام - 31 ) .

( وَلِلَّهِ مِيرَاث السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يعني: أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم، نظيره قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ( مريم - 40 ) ( وَاللَّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) قرأ أهل البصرة ومكة يعلمون بالياء وقرأ الآخرون بالتاء.