وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ( 187 )

( وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر بالياء فيهما لقوله تعالى: ( فَنَبَذُوه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ) وقرأ الآخرون بالتاء فيها على إضمار القول، ( فَنَبَذُوه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ) أي: طرحوه وضيّعوه وتركوا العمل به، ( وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا ) يعني: المآكل والرُّشا، ( فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) قال قتادة: هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئا فليُعَلِّمْه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة.

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) الآية.

حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي، أخبرنا أبو معاذ الشاه بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو بكر عمر بن سهل بن إسماعيل الدينوري، أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتيّ، أخبرنا أبو حذيفة موسى بن مسعود أخبرنا إبراهيم بن طهمان عن سماك بن حرب، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سُئل عن علم يَعْلَمَه فكتمه أُلِجْمَ يوم القيامة بلجام من نار » .

وقال الحسن بن عمارة: أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت: إن رأيتَ أن تحدثني؟ فقال: أما علمتَ أني قد تركتُ الحديث؟ فقلت: إمّا أن تحدثني وإما أن أحدثك فقال: حدثني فقلت: حدثني الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار قال: سمعتُ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعَلِّموا قال: فحدثني أربعين حديثا .

لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 188 )

قوله : ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ) الآية قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( لا تَحْسَبَنَّ ) بالتاء، أي: لا تحسبن يا محمد الفارحين وقرأ الآخرون بالياء « لا يحسبن » الفارحُون فرحَهم مُنْجيا لهم من العذاب ( فلا يحسبنهم ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالياء وضم الباء خبرًا عن الفارحين، أي فلا يحسبُنّ أنفسهم، وقرأ الآخرون بالتاء وفتح الباء أي: فلا تحسبنّهم يا محمد وأعاد قوله ( فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ ) تأكيدًا وفي حرف عبد الله بن مسعود ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ ) غير تكرار.

واختلفوا فيمن نـزلت هذه الآية أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا سعيد بن أبي مريم، أنا محمد بن جعفر، حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فنـزلت ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ) الآية .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا إبراهيم بن موسى، أنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم: أخبرني ابن أبي مليكة أن علقمة بن وقاص أخبره أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه إنمّا دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه فأخبروه بغيره فأروه أن قد استُحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس رضي الله عنهما وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كذلك حتى قوله: ( يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ) .

قال عكرمة: نـزلت في فنحاص وأُشيَع وغيرهما من الأحبار يفرحون بإضلالهم الناس وبنسبة الناس إياهم إلى العلم وليسوا بأهل العلم . وقال مجاهد: هم اليهود فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه .

وقال سعيد بن جبير: هم اليهود فرحوا بما أعطى الله آل إبراهيم وهم برآء من ذلك .

وقال قتادة ومقاتل: أتت يهود خيبر نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: نحن نعرفك ونصدقك وإنا على رأيكم ونحن لكم ردء، وليس ذلك في قلوبهم فلما خرجوا قال لهم المسلمون: ما صنعتم؟ قالوا: عرفناه وصدقناه فقال لهم المسلمون: أحسنتم هكذا فافعلوا فحمدوهم ودعوا لهم فأنـزل الله تعالى هذه الآية وقال: ( يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ) قال الفراء بما فعلوا كما قال الله تعالى: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ( مريم - 27 ) أي: فعلت، ( وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ ) بمنجاة، ( مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 189 ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ ( 190 )

( وَلِلَّهِ مُلْك السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يصرفها كيف يشاء ، ( وَاللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ ) أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفرايني، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ، أنا أحمد بن عبد الجبار، أنا ابن فضيل، عن حصين بن عبد الرحمن، عن حبيب بن أبي ثابت، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه رَقَدَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه استيقظ فتسوّك ثم توضأ وهو يقول: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) حتى ختم السورة ثم قام فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاثَ مرات ست ركعات كل ذلك يستاك ثم يتوضأ ثم يقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث ركعات ثم أتاه المؤذن فخرج إلى الصلاة وهو يقول: « اللهم اجعل في بصري نورًا وفي سمعي نورًا وفي لساني نورًا واجعل خلفي نورًا وأمامي نورًا واجعل من فوقي نورًا ومن تحتي نورًا اللهم أعطني نورا » .

ورواه كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما وزاد: « اللهم اجعل في قلبي نورًا وفي بصري نورًا وفي سمعي نورًا وعن يميني نورًا وعن يساري نورًا » .

قوله تعالى: ( لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ ) ذوي العقول ثم وصفهم فقال:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( 191 ) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ( 192 )

( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ) قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم والنخعي وقتادة: هذا في الصلاة يصلي قائمًا فإن لم يستطع فقاعدًا فإن لم يستطع فعلى جنب.

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، أنا هناد أنا وكيع عن إبراهيم بن طهمان، عن حسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، عن عمران بن حصين قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض فقال: « صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب » . .

وقال سائر المفسرين أراد به المداومة على الذكر في عموم الأحوال لأن الإنسان قلَ ما يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث، نظيره في سورة النساء فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ( النساء - 103 ) ، ( وَيَتَفَكَّرُون َفِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) وما أبدع فيهما ليَدُلّهم ذلك على قدرة الله ويعرفوا أن لها صانعًا قادرًا مدبرًا حكيمًا قال ابن عون: الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة، ( رَبَّنَا ) أي: ويقولون ربنا ( مَا خَلَقْتَ هَذَا ) ردّه إلى الخلق فلذلك لم يقل هذه ، ( بَاطِلا ) أي: عبثا وهزلا بل خلقته لأمر عظيم وانتصب الباطل بنـزع الخافض، أي: بالباطل، ( سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار )

( رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ) أي: أهنته، وقيل: أهلكته، وقيل: فضحته، لقوله تعالى: وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي ( هود - 78 ) فإن قيل: قد قال الله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ( التحريم - 8 ) ومن أهل الإيمان من يدخل النار وقد قال: ( إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ) قيل: قال أنس وقتادة معناه: إنك من تخلد في النار فقد أخزيته وقال سعيد بن المسيب هذه خاصة لمن لا يخرج منها فقد روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: « أن الله يدخل قومًا النارَ ثم يخرجون منها » . ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ )

رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ( 193 ) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( 194 )

( رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا ) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم قاله ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما، وأكثر الناس، وقال القرظي: يعني القرآن فليس كل أحد يلقى النبي صلى الله عليه وسلم، ( يُنَادِي لِلإيمَانِ ) أي إلى الإيمان، ( أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ) أي: في جملة الأبرار.

( رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ ) أي: على ألِسنَةِ رسلك، ( وَلا تُخْزِنَا ) ولا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنا ، ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِف الْمِيعَادَ )

فإن قيل: ما وجه قولهم: ( رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ ) وقد علموا أن الله لا يخلف الميعاد؟ قيل: لفظه دعاء ومعناه خبر أي: لتؤتينا ما وعدتنا على رُسلك تقديره: ( فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا ) ( وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) لتؤتِيَنا ما وعدتنا على رُسلك من الفضل والرحمة وقيل: معناه ربنا واجلعنا ممن يستحقون ثوابَك وتؤتيهم ما وعدتهم على ألْسنَةِ رسلك لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها، وقيل: إنما سألوه تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء، قالوا: قد عَلِمنَا أنك لا تخلف ولكن لا صبرَ لنا على حلمك فعجِّل خزيهم وانصرنا عليهم.