أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا ( 60 )

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ) الآية قال الشعبي: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد، لأنه عرف أنه لا يأخذ الرّشوة ولا يميل في الحكم، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود لعلمه أنهم يأخذون الرشوة ويميلون في الحكم، فاتفقَا على أن يأتيَا كاهنًا في جُهينة فيتحاكما إليه، فنـزلت هذه الآية .

قال جابر: كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها واحد في جُهينة وواحد في أسلم، وفي كل حي كهان.

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نـزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر، كان بينه وبين يهودي خصومة فقال اليهودي: ننطلق إلى محمد، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف، وهو الذي سماه الله الطاغوت، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي، فلما خرجا من عنده لزمه المنافق، وقال: انطلق بنا إلى عمر رضي الله عنه، فأتيا عمر، فقال اليهودي: اختصمتُ أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك، فقال عمر رضي الله عنه للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، قال لهما رويدكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت وأخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج فضرب به المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرضَ بقضاء الله وقضاء رسوله. فنـزلت هذه الآية. وقال جبريل: إن عمر رضي الله عنه فرّق بين الحق والباطل، فسُمي الفاروق .

وقال السدي: كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضُهم وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النضير قتل به أو أخذ ديته مائة وسق من تمر، وإذا قتل رجلُ من بني النضير رجلا من قريظة لم يقتل به وأعطى ديته ستين وسقًا، وكانت النضير وهم حلفاء الأوس أشرف وأكثر من قريظة وهم حلفاء الخزرج، فلما جاء الله بالإسلام وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فاختصموا في ذلك، فقالت بنو النضير: كنّا وأنتم قد اصطلحنا على أن نقتل منكم ولا تقتلون منّا، وديتُكم ستون وسْقًا وديتُنَا مائة وسْق، فنحن نعطيكم ذلك، فقالت الخزرج: هذا شيء كنتم فعلتموه في الجاهلية لكثرتكم وقِلَّتِنا فقهرتُمونا، ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد فلا فضل لكم علينا، فقال المنافقون منهم: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي، وقال المسلمون من الفريقين: لا بلْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى المنافقون وانطلقوا إلى أبي بردة ليحكم بينهم، فقال: أعظموا اللقمة، يعني الحظ، فقالوا: لك عشرة أوسق، قال: لا بل مائة وسق ديتي، فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم، فأنـزل الله تعالى آية القصاص، وهذه الآية: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ) يعني الكاهن أو كعب بن الأشرف، ( وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا )

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ( 61 ) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ( 62 )

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ) أي: يُعرضون عنك إعراضا.

( فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ ) هذا وعيد، أي: فكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة، ( بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) يعني: عقوبةَ صدودِهم، وقيل: هي كل مُصيبة تُصيب جميع المنافقين في الدنيا والآخرة، وتم الكلام هاهنا، ثم عاد الكلام إلى ما سبق، يُخبر عن فعلهم فقال: ( ثُمَّ جَاءُوكَ ) يعني: يتحاكمون إلى الطاغوت، ( ثُمَّ جَاءُوكَ ) [ يحيونك ويحلفون ] .

وقيل: أراد بالمصيبة قتل عمر رضي الله عنه المنافق، ثم جاءوا يطلبون ديته، ( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا ) ما أردنا بالعدُول عنه في المحاكمة أو بالترافع إلى عمر، ( إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ) قال الكلبي: إلا إحسانًا في القول، وتوفيقًا: صوابًا، وقال ابن كيسان: حقًا وعدلا نظيره: « ليَحْلِفُنّ إن أردنا إلا الحسنى » ، وقيل: هو إحسان بعضهم إلى بعض، وقيل: هو تقريب الأمر من الحق، لا القضاء على أمر الحكم، والتوفيق: هو موافقة الحق، وقيل: هو التأليف والجمع بين الخصمين.

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا ( 63 ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ( 64 ) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( 65 )

( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) مِنَ النفاق، أي: علم أنّ ما في قلوبهم خلاف ما في ألسنتهم، ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) أي: عن عُقوبتهم وقيل: فأعرض عن قبول عذرهم وعظهم باللسان، وقل لهم قولا بليغًا، وقيل: هو التخويف بالله، وقيل: أن توعدهم بالقتل إن لم يتوبوا، قال الحسن: القول البليغ أن يقول لهم: إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قُتلتم لأنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ، وقال الضحاك: ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ ) في الملأ ( وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا ) في السّر والخلاء، وقال: قيل هذا منسوخ بآية القتال.

وله عز وجل ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) أي: بأمر الله لأنّ طاعة الرسول وجبت بأمر الله، قال الزجاج: ليطاع بإذن الله لأن الله قد أذن فيه وأمر به، وقيل: إلا ليُطاع كلام تام كاف، بإذن الله تعالى أي: بعلم الله وقضائه، أي: وقوعُ طاعته يكون بإذن الله، ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) بتحاكمهم إلى الطاغوت ( جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا )

قوله تعالى: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) الآية.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير: أنّ الزبير رضي الله عنه كان يحدِّث أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج مِنَ الحرة كانا يسقيان به. كلاهما، فقال رسول الله للزبير: اسقِ يا زبير، ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري، ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلونّ وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال للزبير: اسقِ ثم احبس الماءَ حتى يبلغ الجدر، فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقَّه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد به سعة له وللأنصاري، فلمّا أحْفَظَ الأنصاريُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقّه في صريح الحكم.

قال عروة: قال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية إلا نـزلت في ذلك ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) الآية .

وروي أن الأنصاري الذي خاصم الزبير كان اسمه حاطب بن أبي بلتعة فلما خَرَجَا مرَّ على المقداد فقال: لمن كان القضاء، فقال الأنصاري: قضَى لابن عمته ولَوَى شدقه ففطن له يهودي كان مع المقداد، فقال: قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاءٍ يقضي بينهم، وأيْمُ الله لقد أذنبنا ذنبًا مرّة في حياة موسى عليه السلام فدعا موسى إلى التوبة منه، فقال: اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنّا، فقال ثابت بن قيس بن شماس: أمّا والله إنّ الله ليعلم مني الصدقَ ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت، فأنـزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) .

وقال مجاهد والشعبي: نـزلت في بِشْر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر رضي الله عنه .

قوله تعالى: ( فَلا ) أي: ليس الأمر كما يزعمون أنهم مؤمنُون ثم لا يرضون بحكمك، ثم استأنف القَسَم ( وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ) ويجوز أن يكون ( لا ) في قوله ( فَلا ) صلة، كما في قوله فَلا أُقْسِمُ حتى يُحكِّمُوك: أي يجعلوك حكمًا، ( فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) أي: اختلف واختلط من أمورهم والْتَبَسَ عليهم حُكمه، ومنه الشجر لالتفاف أغصانه بعضها ببعض، ( ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا ) قال مجاهد: شكًّا، وقال غيره: ضِيقًا، ( مِمَّا قَضَيْتَ ) قال الضحاك: إثْمًا، أي: يأثمون بإنكارهم ما قضيت، ( وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) أي: وينقادوا لأمرك انقيادًا .

 

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ( 66 ) وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ( 67 ) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( 68 ) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ( 69 )

قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا ) أي: فرضنا وأوجبنا، ( عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) كما أمرنا بني إسرائيل ( أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ ) كما أمرنا بني إسرائيل بالخروج من مصر، ( مَا فَعَلُوهُ ) معناه: أنّا ما كتبنا عليهم إلا طاعة الرسول والرضَى بحكمه، ولو كتبْنَا عليهم القتل والخروج عن الدور ما كان يفعله، ( إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) نـزلت في ثابت بن قيس وهو من القليل الذي استثنى الله، قال الحسن ومقاتل لما نـزلت هذه الآية قال عمر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليل، والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « إنّ من أمتي لرجالا الإيمانُ في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي » .

قرأ ابن عامر وأهل الشام ( إِلا قَلِيلا ) بالنصب على الاستثناء، وكذلك هو في مصحف أهل الشام، وقيل: فيه إضمار، تقديره: إلا أن يكون قليلا منهم، وقرأ الآخرون قليل بالرفع على الضمير الفاعل في قوله ( فَعَلُوه ) تقديره: إلا نفر قليل فعلوه، ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ ) مِنْ طاعة الرسول والرضى بحكمه، ( لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ) تحقيقًا وتصديقًا لإيمانهم.

( وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ) ثوابًا وافرًا.

( وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) أي: إلى الصراط المستقيم.

قوله تعالى: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) الآية، نـزلتْ في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما غيَّر لونك » ؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اسْتَوْحَشْتُ وحشةً شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرتُ الآخرة فأخاف أن لا أراك لأنك ترفع مع النبيين، وإنّي إن دخلت الجنة كنتُ في منـزلة أدنى من منـزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنـزلت هذه الآية .

وقال قتادة: قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يكون الحال في الجنة وأنتَ في الدرجات العُلَى ونحن أسفل منك؟ فكيف نراك؟ فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ ) في أداء الفرائض، ( وَالرَّسُول ) في السنن ( فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) أي لا تفوتهم رؤية الأنبياء ومجالستهم لا أنهم يرفعون إلى درجة الأنبياء، ( وَالصِّدِّيقِينَ ) أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والصدّيق المبالغ في الصدق، ( وَالشُّهَدَاء ) قيل: هم الذين استشهدوا في يوم أُحد، وقيل: الذين استشهدوا في سبيل الله، وقال عكرمة: النبيون هاهنا: محمد صلى الله عليه وسلم والصديقون أبو بكر، والشهداء عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ( وَالصَّالِحِينَ ) سائر الصحابة رضي الله عنهم، ( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) يعني: رفقاء الجنّة، والعرب تضع الواحد موضع الجمع، كقوله تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ( الحج - 5 ) أي: أطفالا وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي: الأدبار.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي، أنا أبو العباس السراج، أنا قتيبة بن سعد، أنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس أنّ رجلا قال: يا رسول الله الرجل يحبُّ قومًا ولمّا يلحق بهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « المرء مَعَ من أحبَّ » .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي وأبو عمرو محمد بن عبد الرحمن النسوي قالا أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، أنا أبو العباس الأصم، أنا أبو يحيى زكريا بن يحيى المروزي، أنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: « وما أعددت لها » ؟ قال: فلم يذكر كثيرًا، إلا أنه يحب الله ورسولَه قال: « فأنتَ مع من أحببت » .

ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ( 70 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ( 71 ) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ( 72 )

( ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ) أي: بثواب الآخرة، وقيل: بمن أطاع رسول الله وأحبَّه، وفيه بيان أنهم لن ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم، وإنّما نالوُها بفضل الله عز وجل.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا عبد الرحيم بن منيب، أنا يعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قارِبُوا وسَدِّدُوا واعلمُوا أنه لا ينجو أحدُ منكم بِعَمَلِهِ » ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: « ولا أنا إلا أن يتغمدَنِي الله برحمة منه وفضل » .

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ) من عدوِّكم، أي: عدّتكم وآلتكم من السلاح، والحِذْرُ والحَذَرُ واحد، كالمِثْل والمَثَل والشِّبْهِ والشَّبَهِ، ( فَانْفِرُوا ) اخْرُجُوا ( ثُبَاتٍ ) أي: سرايا متفرقين سرية بعد سرية، والثبات جماعات في تفرقة واحدتها ثبة، ( أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ) أي: مجتمعين كلكم مع النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: ( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ) نـزلت في المنافقين

وإنما قال ( مِنْكُم ) لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسبِ وإظهارِ الإسلام، لا في حقيقة الإيمان، ( لَيُبَطِّئَنّ ) أي: ليتأخرنّ، وليتثاقلنَّ عن الجهاد، وهو عبد الله بن أبَيّ المنافق، واللام في ( لَيُبَطِّئَنّ ) لام القسم، والتبطئة: التأخر عن الأمر، يقال: ما أبطأ بك؟ أي: ما أخَّرَك عنّا؟ ويقال: أبْطَأَ إبطاءً وبطَّأَ يبطِّئُ تَبْطِئةً . ( فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ) أي: قتلٌ وهزيمة، ( قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ ) بالقُعود، ( إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ) أي: حاضرًا في تلك الغزاة فيصيبني ما أصابهم.

وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ( 73 ) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( 74 )

( وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ ) فتح وغنيمة ( لَيَقُولَنَّ ) هذا المنافق، وفيه تقديم وتأخير، وقوله ( كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ) متصل بقوله فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ تقديره: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ، كأنْ لمْ تكنْ بينكُمْ وبينَهُ مودةٌ أي: معرفة.

قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب ( تَكُن ) بالتاء، والباقون بالياء، أي: ولئن أصابكم فضلُ من الله لَيَقُولَنَّ: ( يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ ) في تلك الغزاة، ( فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ) أي: آخذ نصيبًا وافرًا من الغنيمة، وقوله ( فَأَفُوزَ ) نصب على جواب التمني بالفاء، كما تقول: وددت أن أقوم فيتبعني الناس.

قوله تعالى : ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ) قيل: نـزلت في المنافقين، ومعنى يشرون أي: يشترون، يعني الذين يختارون الدنيا على الآخرة، معناه: آمنوا ثم قاتلوا، وقيل: نـزلت في المؤمنين المخلصين، معناه فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون أي: يبيعُون الحياة الدنيا بالآخرة ويختارُون الآخرة ( وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ ) يعني يستشهد، ( أَوْ يَغْلِبْ ) يظفر، ( فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ ) في كلا الوجهين ( أَجْرًا عَظِيمًا ) ويدغم أبو عمرو والكسائي الباء في الفاء حيث كَان .

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « تكَفَّلَ الله لمن جاهدَ في سبيله لا يُخرجُهُ من بيتهِ إلا الجهادُ في سبيلهِ وتصديق كلمتهِ أن يُدخلَه الجنةَ أو يرجعَه إلى مسكنهِ الذي خرجَ منه معَ ما نال من أجرٍ أو غنيمة » .

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر الجوهري، أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر، أنا إسماعيل بن جعفر، أنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: « مَثَلُ المجاهد في سبيل الله كمثل القانتِ الصائمِ الذي لا يفتُرُ من صلاةٍ ولا صيامٍ حتى يُرجعهُ الله إلى أهلهِ بما يرجعُه من غنيمةٍ وأجرٍ، أو يتوفاه فيدخله الجنة » .