وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ( 66 ) وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ( 67 ) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( 68 ) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ( 69 )

قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا ) أي: فرضنا وأوجبنا، ( عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) كما أمرنا بني إسرائيل ( أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ ) كما أمرنا بني إسرائيل بالخروج من مصر، ( مَا فَعَلُوهُ ) معناه: أنّا ما كتبنا عليهم إلا طاعة الرسول والرضَى بحكمه، ولو كتبْنَا عليهم القتل والخروج عن الدور ما كان يفعله، ( إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) نـزلت في ثابت بن قيس وهو من القليل الذي استثنى الله، قال الحسن ومقاتل لما نـزلت هذه الآية قال عمر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليل، والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « إنّ من أمتي لرجالا الإيمانُ في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي » .

قرأ ابن عامر وأهل الشام ( إِلا قَلِيلا ) بالنصب على الاستثناء، وكذلك هو في مصحف أهل الشام، وقيل: فيه إضمار، تقديره: إلا أن يكون قليلا منهم، وقرأ الآخرون قليل بالرفع على الضمير الفاعل في قوله ( فَعَلُوه ) تقديره: إلا نفر قليل فعلوه، ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ ) مِنْ طاعة الرسول والرضى بحكمه، ( لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ) تحقيقًا وتصديقًا لإيمانهم.

( وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ) ثوابًا وافرًا.

( وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) أي: إلى الصراط المستقيم.

قوله تعالى: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) الآية، نـزلتْ في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما غيَّر لونك » ؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اسْتَوْحَشْتُ وحشةً شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرتُ الآخرة فأخاف أن لا أراك لأنك ترفع مع النبيين، وإنّي إن دخلت الجنة كنتُ في منـزلة أدنى من منـزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنـزلت هذه الآية .

وقال قتادة: قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يكون الحال في الجنة وأنتَ في الدرجات العُلَى ونحن أسفل منك؟ فكيف نراك؟ فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ ) في أداء الفرائض، ( وَالرَّسُول ) في السنن ( فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) أي لا تفوتهم رؤية الأنبياء ومجالستهم لا أنهم يرفعون إلى درجة الأنبياء، ( وَالصِّدِّيقِينَ ) أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والصدّيق المبالغ في الصدق، ( وَالشُّهَدَاء ) قيل: هم الذين استشهدوا في يوم أُحد، وقيل: الذين استشهدوا في سبيل الله، وقال عكرمة: النبيون هاهنا: محمد صلى الله عليه وسلم والصديقون أبو بكر، والشهداء عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ( وَالصَّالِحِينَ ) سائر الصحابة رضي الله عنهم، ( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) يعني: رفقاء الجنّة، والعرب تضع الواحد موضع الجمع، كقوله تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ( الحج - 5 ) أي: أطفالا وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي: الأدبار.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي، أنا أبو العباس السراج، أنا قتيبة بن سعد، أنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس أنّ رجلا قال: يا رسول الله الرجل يحبُّ قومًا ولمّا يلحق بهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « المرء مَعَ من أحبَّ » .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي وأبو عمرو محمد بن عبد الرحمن النسوي قالا أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، أنا أبو العباس الأصم، أنا أبو يحيى زكريا بن يحيى المروزي، أنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: « وما أعددت لها » ؟ قال: فلم يذكر كثيرًا، إلا أنه يحب الله ورسولَه قال: « فأنتَ مع من أحببت » .

ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ( 70 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ( 71 ) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ( 72 )

( ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ) أي: بثواب الآخرة، وقيل: بمن أطاع رسول الله وأحبَّه، وفيه بيان أنهم لن ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم، وإنّما نالوُها بفضل الله عز وجل.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا عبد الرحيم بن منيب، أنا يعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قارِبُوا وسَدِّدُوا واعلمُوا أنه لا ينجو أحدُ منكم بِعَمَلِهِ » ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: « ولا أنا إلا أن يتغمدَنِي الله برحمة منه وفضل » .

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ) من عدوِّكم، أي: عدّتكم وآلتكم من السلاح، والحِذْرُ والحَذَرُ واحد، كالمِثْل والمَثَل والشِّبْهِ والشَّبَهِ، ( فَانْفِرُوا ) اخْرُجُوا ( ثُبَاتٍ ) أي: سرايا متفرقين سرية بعد سرية، والثبات جماعات في تفرقة واحدتها ثبة، ( أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ) أي: مجتمعين كلكم مع النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: ( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ) نـزلت في المنافقين

وإنما قال ( مِنْكُم ) لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسبِ وإظهارِ الإسلام، لا في حقيقة الإيمان، ( لَيُبَطِّئَنّ ) أي: ليتأخرنّ، وليتثاقلنَّ عن الجهاد، وهو عبد الله بن أبَيّ المنافق، واللام في ( لَيُبَطِّئَنّ ) لام القسم، والتبطئة: التأخر عن الأمر، يقال: ما أبطأ بك؟ أي: ما أخَّرَك عنّا؟ ويقال: أبْطَأَ إبطاءً وبطَّأَ يبطِّئُ تَبْطِئةً . ( فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ) أي: قتلٌ وهزيمة، ( قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ ) بالقُعود، ( إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ) أي: حاضرًا في تلك الغزاة فيصيبني ما أصابهم.

وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ( 73 ) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( 74 )

( وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ ) فتح وغنيمة ( لَيَقُولَنَّ ) هذا المنافق، وفيه تقديم وتأخير، وقوله ( كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ) متصل بقوله فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ تقديره: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ، كأنْ لمْ تكنْ بينكُمْ وبينَهُ مودةٌ أي: معرفة.

قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب ( تَكُن ) بالتاء، والباقون بالياء، أي: ولئن أصابكم فضلُ من الله لَيَقُولَنَّ: ( يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ ) في تلك الغزاة، ( فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ) أي: آخذ نصيبًا وافرًا من الغنيمة، وقوله ( فَأَفُوزَ ) نصب على جواب التمني بالفاء، كما تقول: وددت أن أقوم فيتبعني الناس.

قوله تعالى : ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ) قيل: نـزلت في المنافقين، ومعنى يشرون أي: يشترون، يعني الذين يختارون الدنيا على الآخرة، معناه: آمنوا ثم قاتلوا، وقيل: نـزلت في المؤمنين المخلصين، معناه فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون أي: يبيعُون الحياة الدنيا بالآخرة ويختارُون الآخرة ( وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ ) يعني يستشهد، ( أَوْ يَغْلِبْ ) يظفر، ( فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ ) في كلا الوجهين ( أَجْرًا عَظِيمًا ) ويدغم أبو عمرو والكسائي الباء في الفاء حيث كَان .

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « تكَفَّلَ الله لمن جاهدَ في سبيله لا يُخرجُهُ من بيتهِ إلا الجهادُ في سبيلهِ وتصديق كلمتهِ أن يُدخلَه الجنةَ أو يرجعَه إلى مسكنهِ الذي خرجَ منه معَ ما نال من أجرٍ أو غنيمة » .

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر الجوهري، أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر، أنا إسماعيل بن جعفر، أنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: « مَثَلُ المجاهد في سبيل الله كمثل القانتِ الصائمِ الذي لا يفتُرُ من صلاةٍ ولا صيامٍ حتى يُرجعهُ الله إلى أهلهِ بما يرجعُه من غنيمةٍ وأجرٍ، أو يتوفاه فيدخله الجنة » .