اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ( 87 ) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا ( 88 )

قوله تعالى: ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ) اللام لامُ القسم تقديره: والله ليجمعنّكم في الموت وفي القبور، ( إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) وسُميت القيامةَ قيامةً لأن الناس يقومون من قبورهم، قال الله تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا ( المعارج - 43 ) وقيل: لقيامهم إلى الحساب، قال الله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( المطففين- 6 ) ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ) أي: قولا ووعدًا، وقرأ حمزة والكسائي ( أَصْدَق ) صاد ساكنة بعدها دال بإشمام الزاي.

( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) اختلفوا في سبب نـزولها فقال قوم: نـزلت في الذين تخلِّفُوا يوم أُحد من المنافقين، فلما رجعوا قال بعضُ الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اقتلهم فإنّهم منافقون، وقال بعضهم: اعف عنهم فإنهم تكلّموا بالإسلام.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو الوليد، أنا شعبة، عن عدي بن ثابت، قال: سمعت عبد الله بن يزيد، يحدث عن زيد بن ثابت، قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أُحد رجع ناسٌ ممن خرج معه وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة تقول نقاتلهم وفرقة تقول لا نقاتلهم، فنـزلت: ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ) وقال: « إنها طَيْبُة تَنفي الذنوبَ كما تنفي النارُ خَبَثَ الفِضّة » .

وقال مجاهد: قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ثم ارتدُّوا واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتّجرُون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة، فاختلف المسلمون فيهم، فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون .

وقال بعضهم: نـزلت في ناس من قريش قدِمُوا المدينة وأسلموا ثم نَدِمُوا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنـزهين حتى باعدوا من المدينة فكتبُوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ولكنّا اجْتَوَيْنَا المدينة واشتقنا إلى أرضنا، ثم إنهم خرجوا في تجارة لهم نحو الشام فبلغ ذلك المسلمين، فقال بعضهم: نخرج إليهم فنقتلهم ونأخذ ما معهم لأنهم رَغِبُوا عن ديننا، وقالت طائفة: كيف تقتلون قومًا على دينكم إن لم يذَرُوا دِيارَهم، وكان هذا بعين النبي صلى الله عليه وسلم وهو سَاكِتٌ لا ينهى واحدًا من الفريقين، فنـزلت هذه الآية .

وقال بعضهم: هم قوم أسلموا بمكة ثم لم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين، فنـزلت ( فَمَا لَكُمْ ) يا معشر المؤمنين ( فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) أي: صرتم فيهم فئتين، أي: فرقتين، ( وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ ) أي: نَكَّسَهم وردَّهم إلى الكفر، ( بِمَا كَسَبُوا ) بأعمالهم غير الزاكية ( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا ) أي: أن ترشدوا ( مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ) وقيل: معناه أتقولون أنّ هؤلاء مهتدون وقد أضلّهم الله، ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ) أي: من يضلله الله عن الهدى، ( فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا ) أي: طريقًا إلى الحق.

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 89 ) إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا ( 90 )

قوله تعالى: ( وَدُّوا ) تمنَّوا، يعني أولئك الذين رجعوا عن الدين تمنّوا ( لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ) في الكفر، وقوله ( فَتَكُونُونَ ) لم يُردْ به جواب التمني لأن جواب التمني بالفاء منصوب، إنما أراد النسق، أي: وَدُّوا لو تكفرون ووَدُّوا لو تكونون سواء، مثل قوله وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( القلم - 9 ) أي: ودّوا لَوْ تدهن وودّوا لَوْ تُدهنون، ( فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ ) منعَ من موالاتهم، ( حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) معكم.

قال عكرمة: هي هجرة أخرى، والهجرة على ثلاثة أوجه: هجرة المؤمنين في أول الإسلام، وهي قوله تعالى لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ( الحشر - 8 ) وقوله: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( النساء - 100 ) ، ونحوهما من الآيات، وهجرة المنافقين : وهي الخروج في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صابرًا محتسبًا [ كما حكى هاهنا ] مَنَعَ من موالاتهم حتى يهاجروا في سبيل الله، وهجرة سائر المؤمنين وهي ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « المهاجرُ من هَجَرَ ما نهى الله عنه » .

قوله تعالى: ( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أعرضوا عن التوحيد والهجرة، ( فَخُذُوهُم ) أي: خذوهم أسارى، ومنه يقال للأسير أخيذ، ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) في الحِلّ والحَرَمِ، ( وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) ثم استثنى طائفة منهم فقال:

( إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ ) وهذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة، لأنّ موالاة الكفار والمنافقين لا تجوز بحال، ومعنى ( يَصِلُون ) أي: ينتسبون إليهم ويتصلون بهم ويدخلون فيهم بالحِلَفِ والجوار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريدون ويلجأون إلى قوم، ( بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ) أي: عهد، وهم الأسلميون، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَادَعَ هلال بن عويمر الأسلمي قبل خروجه إلى مكة على أن لا يعينه ولا يُعين عليه، ومن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ولجأ إليه فلهم من الجوار مثل ما لهلال،. وقال الضحّاك عن ابن عباس: أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة كانوا في الصلح والهدنة، وقال مقاتل: هم خُزاعة.

وقوله: ( أَوْ جَاءُوكُمْ ) أي: يتصلون بقوم جاءوكم، ( حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ) أي: ضاقت صدورهم، قرأ الحسن ويعقوب « حصرةً » ) منصوبة منونة أي: ضيقة صدورهم، [ يعني القوم الذين جاءوكم وهم بنو مدلج، كانوا عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشًا أن لا يقاتلوهم، حصرت: ضاقت صدورهم ] ، ( أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ ) أي: عن قتالكم للعهد الذي بينكم، ( أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ) يعني: من أمِنَ منهم، ويجوز أن يكون معناه أنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ولا يقاتلون قومهم معكم، يعني قريشًا قد ضاقت صُدُورُهم لذلك.

وقال بعضهم: أو بمعنى الواو، كأنّه يقول: إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حَصِرَتْ صدورُهم، أي: حصرت صدورهم عن قتالكم والقتال معكم، وهم قوم هلال الأسلميون وبنو بكر، نهى الله سبحانه عن قتال هؤلاء المرتدين إذا اتصلوا بأهل عهدٍ للمسلمين، لأنّ من انضم إلى قوم ذوي عهدٍ فله حكمهم في حقن الدم.

قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ) يذكر منَّتَهُ على المسلمين بكفِّ بأس المعاهدين، يقول: إن ضيق صدورهم عن قتالكم لما ألقى الله في قلوبهم من الرعب وكفهم عن قتالكم، ولو شاء الله لسلطهم عليكم فَلَقَاتلوكم مع قومهم، ( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ ) أي: اعتزلوا قتالكم، ( فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ ) ومن اتصل بهم، ويقال: يوم فتح مكة يقاتلوكم مع قومهم، ( وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ) أي: الصلح فانقادوا واستسلموا ( فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا ) أي: طريقا بالقتل والقتال.

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ( 91 )

قوله تعالى: ( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ ) قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: هم أسد وغَطَفَان كانوا حاضري المدينة تكلموا بالإسلام رياءً وهم غير مسلمين، وكان الرجل منهم يقول له قومه بماذا أسلمت؟ فيقول آمنت بهذا القرد وبهذا العقرب والخنفساء، وإذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنا على دينكم، يريدون بذلك الأمنَ في الفريقين.

وقال الضحاك عن ابن عباس هم بنو عبد الدار كانوا بهذه الصفة، ( يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ ) فلا تتعرّضوا لهم، ( وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ) فلا يتعرضوا لهم، ( كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ ) أي: دُعُوا إلى الشرك، ( أُرْكِسُوا فِيهَا ) أي: رجعوا وعادوا إلى الشرك، ( فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ) أي: فإن لم يكفُّوا عن قتالكم حتى تسيروا إلى مكة، ( وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ) أي: المفاداة والصلح، ( وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ ) ولم يقبضوا أيديهم عن قتالكم، ( فَخُذُوهُم ) أسراء، ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) أي: وجدتموهم، ( وَأُولَئِكُم ) أي: أهل هذه الصفة، ( جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ) أي: [ حُجَّةً بينّةً ظاهرة بالقتل والقتال ] .

 

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 92 )

قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا ) الآية نـزلت في عياش ( بن أبي ربيعة ) المخزومي، وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فأسلم ثم خاف أن يُظهر إسلامَه لأهله فخرج هاربًا إلى المدينة، وتحصّن في أطمٍ من آطامها، فجزعت أمه لذلك جزعًا شديدًا وقالت لابنيها الحارث وأبي جهل بن هشام وهما أخواه لأمه: والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى تأتوني به، فخرجا في طلبه، وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أتوا المدينة، فأتوا عياشًا وهو في الأطم، قالا له: انـزل فإن أمك لم يؤوها سقفُ بيت بعدك، وقد حلفت ألا تأكل طعامًا ولا تشرب شرابًا حتى ترجع إليها ( ولك عهد الله ) علينا أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك، فلما ذكروا له جزع أمه وأوثقوا له بالله نـزل إليهم فأخرجوه من المدينة ثم أوثقوه بنسعةٍ، فجلده كل واحد منهم مائة جلدة، ثم قدموا به على أمه فلما أتاها قالت: والله لا أحُلّكَ من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به، ثم تركوه موثقًا مطروحًا في الشمس ما شاء الله، فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال: يا عياش أهذا الذي كنت عليه فوالله لئن كان هدى لقد تركت الهدى، ولئن كانت ضلالة لقد كنت عليها، فغضب عياش من مقالته، وقال: والله لا ألقاك خاليًا أبدا إلا قتلتك، ثم إن عياشًا أسلم بعد ذلك وهاجر ثم أسلم الحارث بن زيد بعده وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عياش حاضرًا يومئذ ولم يشعر بإسلامه، فبينا عياش يسير بظهر قباء إذ لقي الحارثَ فقتله، فقال الناس: ويحك أي شيء صنعت؟ إنه قد أسلم، فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت، وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته، فنـزل: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً ) .

وهذا نهي عن قتل المؤمن كقوله تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ( الأحزاب - 53 ) .

( إِلا خَطَأً ) استثناء منقطع معناه: لكنْ إنْ وقَعَ خطأ، ( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) أي: فعليه إعتاق رقبة مؤمنة كفارة، ( وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ ) كاملة، ( إِلَى أَهْلِهِ ) أي: إلى أهل القتيل الذي يرثونه، ( إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا ) أي: يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية، ( فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) أراد به إذا كان الرجل مسلمًا في دار الحرب منفردًا مع الكفار فقتله من لم يعلم بإسلامه فلا دية فيه، وعليه الكفارة، وقيل: المراد منه إذا كان المقتول مسلمًا في دار الإسلام وهو مِنْ نَسَبِ قوم كفار، وقرابتُهُ في دار الحرب حربٌ للمسلمين ففيه الكفارة ولا دية لأهله، وكان الحارث بن زيد من قوم كفار حرب للمسلمين وكان فيه تحرير رقبة ولم يكن فيه دية لأنه لم يكن بين قومه وبين المسلمين عهد.

قوله تعالى: ( وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) أراد به إذا كان المقتول كافرًا ذميًا أو معاهدًا فيجب فيه الدية والكفارة، والكفارة تكون بإعتاق رقبة مؤمنة سواء كان المقتول مسلمًا أو معاهدًا، رجلا كان أو امرأةً، حرًا كان أو عبدًا، وتكون في مال القاتل، ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ) والقاتل إن كان واجدًا للرقبة أو قادرًا على تحصيلها بوجود ثمنها فاضلا عن نفقته ونفقة عياله وحاجته من مسكن ونحوه فعليه الإعتاق، ولا يجوز أن ينتقل إلى الصوم فإن عجز عن تحصيلها فعليه صومُ شهرين متتابعين، فإن أفطر يومًا متعمدًا في خلال الشهرين أو نسي النية ونوى صومًا آخر وجب عليه استئناف الشهرين.

وإن أفطر يومًا بعذر مرضٍ أو سفرٍ فهل ينقطع التتابع؟ اختلف أهل العلم فيه، فمنهم من قال: ينقطع وعليه استئناف الشهرين، وهو قول النخعي وأظهر قولي الشافعي رضي الله عنه لأنه أفطر مختارًا، ومنهم من قال: لا ينقطع وعليه أن يبني، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي.

ولو حاضت المرأة في خلال الشهرين أفطرت أيام الحيض ولا ينقطع التتابع، فإذا طَهُرَتْ بَنَتْ على ما صامت، لأنه أمرٌ مكتوب على النساء لا يمكنهن الاحتراز عنه.

فإن عجز عن الصوم فهل يخرج عنه بإطعام ستين مسكينًا؟ فيه قولان، أحدهما: يخرج كما في كفارة الظهار، والثاني: لا يخرج لأن الشرع لم يذكر له بدلا فقال: ( فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ )

( تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ ) أي: جعل الله ذلك توبة لقاتل الخطأ ( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا ) بمن قتل خطأ ( حَكِيمًا ) فيما حكم به عليكم.

أما الكلام في بيان الدية، فاعلم أن القتل على ثلاثة أنواع: عمد محض، وشبه عمد، وخطأ محض.

أما العمد المحض فهو: أن يقصد قتل إنسان بما يقصد به القتل غالبا فقتله ففيه القصاص عند وجود التكافؤ، أو دية مغلظة في مال القاتل حالَّة.

وشبه العمد: أنْ يقصد ضربه بما لا يموت مثله من مثل ذلك الضرب غالبًا، بأن ضربه بعصًا خفيفة، أو حجر صغير ضربة أو ضربتين، فمات فلا قصاص فيه، بل يجب فيه دِيَةُ مغلّظة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين.

والخطأ المحض هو: أن لا يقصد ضربه بل قصد شيئا آخر فأصابه فمات منه فلا قصاص فيه، بل تجب ديةٌ مخففة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين.

وتجب الكفارة في ماله في الأنواع كلها، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه: قتل العمد لا يوجب الكفارة ، لأنه كبيرة كسائر الكبائر.

وديةُ الحر المسلم مائة من الإبل فإذا عدمت الإبل وجبت قيمتها من الدراهم أو الدنانير في قول، وفي قولٍ يجب بدل مقدر منها وهو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، لما رُوي عن عمر رضي الله عنه: فرض الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشر ألف درهم « . »

وذهب قوم إلى أن الواجب في الدية مائة من الإبل، أو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم، وهو قول عروة بن الزبير والحسن البصري رضي الله عنهما، وبه قال مالك.

وذهب قوم إلى أنها مائة من الإبل أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي.

ودية المرأة نصف دية الرجل، ودية أهل الذمة والعهد ثلث دِيةِ المسلم، إن كان كتابيًا، وإن كان مجوسيًا فخُمسُ الدِّيَة، رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: دِيَةُ اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه.

وذهب قوم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دِيَةِ المسلم، رُوي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي.

وقال قوم: دية الذمي نصف دية المسلم وهو قول عمر بن عبد العزيز، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله.

والدية في العمد المحض وشبه العمد مغلّظة بالسِّن فيجب ثلاثون حُقّة وثلاثون جَذَعة وأربعون خَلِفَة في بطونها أولادها، وهو قول عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، وبه قال عطاء، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي رضي الله عنه، أنا ابن عيينة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ألا إن في قتل العمد الخطأ بالسوط أو العصا مائة من الإبلِ مُغلّظة، منها أربعون خَلِفَة في بطونها أولادها » .

وذهب قوم إلى أن الدِّية المغلّظة أرباعٌ: خمسٌ وعشرون بنت مخاض، وخمْسَ وعشرون بنت لبون، وخمسٌ وعشرون حُقّة، وخَمسٌ وعشرون جَذَعَة، وهو قول الزهري وربيعة وبه قال مالك وأحمد وأصحاب الرأي.

وأما دِيةُ الخطأ فمخففة، وهي أخماسٌ بالاتفاق، غير أنهم اختلفوا في تقسيمها، فذهب قوم إلى أنها عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لَبُون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حُقّة، وعشرون جَذَعَة، وهو قول عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة، وبه قال مالك والشافعي رحمهم الله، وأبدل قوم بني اللبون ببنات المخاض، يُروى ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، وبه قال أحمد وأصحاب الرأي.

ودية الأطراف على هذا التقدير، ودية المرأة فيها على النصف من دية الرجل، والدية في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة، وهم عصبات القاتل من الذكور، ولا يجب على الجاني منها شيء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجَبَها على العاقلة.

وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ( 93 )

قوله تعالى: ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ) الآية، نـزلت في مِقْيَس بن صُبَابة الكناني، وكان قد أسلم هو وأخوه هشام، فوجد أخاه هشام قتيلا في بني النجار فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه رجلا من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمْتم قاتل هشام بن صبابة أن تدفعوه إلى مقيس فيقتص منه، وإن لم تعلموا أن تدفعوا إليه ديَتَه، فأبلغهم الفهري ذلك فقالوا: سمعًا وطاعة لله ولرسوله، والله ما نعلم له قاتلا ولكنّا نؤدي ديَتَه، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين نحو المدينة فأتى الشيطان مقيسًا فوسوس إليه، فقال: تقبل دية أخيك فتكون عليك مسبَّة، اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية؛ فتغفل الفهري فرماه بصخرة فشدخه، ثم ركب بعيرًا وساق بقيتها راجعًا إلى مكة كافرًا فنـزل فيه: ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ) ( فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ) بكفره وارتدادِهِ، وهو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، عمّن أمَنَهُ فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة.

قوله تعالى: ( وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ) أي: طرده عن الرحمة، ( وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) اختلفوا في حكم هذه الآية.

فحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قاتل المؤمن عمدًا لا توبةَ له، فقيل له: أليس قد قال الله في سورة الفرقان: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ إلى أن قال وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَنْ تَابَ ( الفرقان 68 - 70 ) ، فقال: كانت هذه في الجاهلية، وذلك أن أناسًا من أهل الشرك كانُوا قد قتلُوا وزنوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنّ الذي تدعوا إليه لحَسَنٌ، لو تخبرنا أنّ لِمَا عملنا كفارة، فنـزلت وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إلى قوله إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ فهذه لأولئك.

وأما التي في النساء فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم.

وقال زيد بن ثابت: لما نـزلت التي في الفرقان وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ، عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نـزلت الغليظة بعد اللّينة فنسخت اللينة، وأراد بالغليظة هذه الآية، وباللّينة آية الفرقان.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: تلك آية مكية وهذه مدنية نـزلت ولم ينسخها شيء.

والذي عليه الأكثرون، وهو مذهب أهل السنة: أن قاتل المسلم عمدًا توبته مقبولة لقوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ( طه - 82 ) وقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ( النساء - 48 ) وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل، كما رُوي عن سفيان بن عُيينة أنه قال: إن لم يقتل يقال له: لا توبةَ لك، وإن قَتَلَ ثم جاء يُقال: لك توبة. ويُروى مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وليس في الآية متعلق لمن يقول بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر، لأن الآية نـزلت في قاتل وهو كافر، وهو مقيس بن صبابة، وقيل: إنه وعيد لمن قتل مؤمنًا مستحلا لقتله بسبب إيمانه، ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافرًا مخلدًا في النار، وقيل في قوله تعالى: ( فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ) معناه: هي جزاؤه إن جازاه، ولكنه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له بكرمه، فإنه وعد أنْ يغفر لمن يشاء.

حكي أن عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال له: هل يُخلفُ الله وعدَه؟ فقال: لا فقال: أليس قد قال الله تعالى ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ) فقال له أبو عمرو بن العلاء: من العجمة أُتِيْتَ يا أبا عثمان! إن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفًا وذمًا، وإنما تعد إخلاف الوعد خلفًا وذمًا، وأنشد:

وإنِّـــي وإنْ أوْعَدْتُــه أو وَعَدْتُــه لَمُخْــلِفُ إيعـادِي ومُنْجِـزُ مَوْعِـدِي

والدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، قال أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن، عبادة بن الصامت رضي الله عنه - وكان شهد يوم بدرًا وهو أحد النقباء ليلة العقبة - وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: « بايعوني على أن لا تُشْرِكُوا بالله شيئا ولا تسرقُوا ولا تزنُوا ولا تقتلُوا أولادَكم ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونَه بينَ أيديكُم وأرجلكم ولا تعصُوا في معروفٍ، فمنْ وفىَّ منكم فأجرُه على الله، ومن أصاب من ذلك شيئُا فعُوقِبَ في الدنيا فهو كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله، فهو إلى الله إن شاءَ عفا عنه وإن شاء عاقبه » ، فبايعناه على ذلك .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 94 )

قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ) الآية، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: نـزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك، وكان من أهل فدك وكان مسلمًا لم يُسلم من قومه غيره، فسمعوا بسريةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم، وكان على السرية رجل يقالُ له غالب بن فُضالة الليثي، فهربُوا وأقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين، فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقُول من الجبل، وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيلُ سمعهم يكبرون، فلمّا سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكبرّ ونـزل وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فتغشاه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجدًا شديدًا، وكان قد سبقهم قبل ذلك الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « قتلتموه إرادَةَ ما مَعَه » ؟ ثم قرأ هذه الآية على أسامة بن زيد، فقال: يا رسول الله استغفر لي، فقال فكيف بلا إله إلا الله؟ قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال أسامة: فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيدها حتى وَددْتُ أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفرَ لي بعد ثلاث مرات، وقال: « اعتقْ رقبةً » .

وروى أبو ظبيان عن أسامة رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله إنّما قال خوفًا من السلاح، قال: « أفلا شققتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفًا أم لا » ؟

وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ رجلٌ من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له فسلّم عليهم، قالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم فقاموا فقتلُوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنـزل الله تعالى هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) . .

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) يعني إذا سافرتم في سبيل الله، يعني: الجهاد.

( فَتَبَيَّنُوا ) قرأ حمزة والكسائي هاهنا في موضعين وفي سورة الحجرات بالتاء والثاء من التثبيت، أي: قفوا حتى تعرفوا المؤمنَ من الكافر، وقرأ الآخرون بالياء والنون من التبين، يقال: تَبَيَّنْتُ الأمرَ إذا تأملته، ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَم ) هكذا قراءة أهل المدينة وابن عامر وحمزة، أي: المقادة، وهو قول « لا إله إلا الله محمد رسول الله » ، وقرأ الآخرون السلام، وهو السلام الذي هو تحية المسلمين لأنه كان قد سلّم عليهم، وقيل: السلّم والسلام واحد، أي: لا تقولوا لمن سلّم عليكم لستَ مؤمنًا، ( تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يعني: تطلبون الغُنم والغنيمة، و « عرض الحياة الدنيا » منافعها ومتاعها، ( فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ ) أي غنائم، ( كَثِيرَة ) وقيل: ثوابٌ كثير لمن اتّقَى قتلَ المؤمن، ( كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) قال سعيد بن جبير: كذلك كنتم تكتُمُون إيمانكم من المشركين ( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) بإظهار الإسلام، وقال قتادة: كنتم ضُلالا من قبل فمنَّ الله عليكم بالإسلام والهداية.

وقيل معناه: كذلك كنتم من قبل تأمنْون في قومكم بلا إله إلا الله قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها فمنَّ الله عليكم بالهجرة، فَتَبَيَّنُوا أن تقتلوا مؤمنًا.

( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) قلت: إذا رأى الغزاةُ في بلد أو قرية شعارَ الإسلام فعليهم أن يكفُّوا عنهم، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قومًا فإن سمع أذانًا كفَّ عنهم، وإن لم يسمع أغار عليهم.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا سفيان، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن ابن عصام، عن أبيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعثَ سريةً قال: « إذا رأيتم مسجدًا أو سمعتم مؤذنًا فلا تقتُلُوا أحدًا » .