لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( 95 )

قوله تعالى: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الآية، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، ثنا عبد العزيز بن عبد الله، ثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد الزهري، حدثني صالح بن كيسان، عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: رأيتُ مروان بن الحكم جالسًا في المسجد فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أنا زيد بن ثابت رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه ) قال: فجاء ابنُ أم مكتوم وهو يُمْلِيها علي، فقال: يا رسول الله لو أستطيعُ الجهادَ لجاهدتُ، وكان رجلا أعمى، فأنـزل الله تعالى عليه وفخذُهُ على فخذي، فثقلتْ علي حتى خفتُ أن ترضَّ فخذي، ثم سُرِّي عنه فأنـزل الله ( غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ) .

فهذه الآية في الجهاد والحثِّ عليه، فقال: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) عن الجهاد ( غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ) قرأ أهل المدينة وابن عامر والكسائي بنصب الراء، أي: إلا أولي الضّرر، وقرأ الآخرون برفع الراء على نعت « القاعدين » يُريُد: لا يستوي القاعدون الذين هم غيرُ أولي الضرر، أي: غير أولي الزَّمَانَةِ والضّعف في البدن والبصر، ( وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ) غير أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، لأن العذر أقعدهم.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا عبد الرحيم بن منيب، أنا يزيد بن هارون، أخبرنا حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا رجع من غزوة تبوك، فَدَنَا من المدينة قال: « إنّ في المدينة لأقوامًا ما سرتُمْ من مسيرٍ ولا قطعتم من وادٍ إلا كانوا معكم فيه » ، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: « نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر »

ورَوى القاسم عن ابن عباس قال: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) عن بدر والخارجون إلى بدر.

قوله تعالى: ( فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ) أي: فضيلةً، وقيل: أراد بالقاعدين هاهنا أولي الضرر، فضّل الله المجاهدين عليهم درجةً لأن المجاهد باشر الجهاد مع النِّية وأولو الضرر كانت لهم نيةٌ ولكنّهم لم يباشروا، فنـزلوا عنهم بدرجة، ( وَكُلا ) يعني المجاهد والقاعد ( وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ) يعني: الجنة بإيمانهم، وقال مقاتل: يعني المجاهد والقاعد المعذُور، ( وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) يعني: على القاعدين من غير عذر.

دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 96 )

( دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) قال ابن محيريز في هذه الآية: هي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمَّر سبعين خريفا.

وقيل: الدرجات هي الإسلام والجهاد والهجرة والشهادة فازَ بها المجاهدون، أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي، أنا عبد الله بن مسلم أبو بكر الجُورَبْذِي، أنا يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، حدثني أبو هانئ الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الجبلي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يا أبا سعيد من رضيَ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا وجبت له الجنة » قال فعجب لها أبو سعيد فقال: أعِدْهَا علي يا رسول الله، ففعل، قال: « وأخْرَى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض » قال: وما هي يا رسول الله؟ فقال: « الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله » .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي بن الشاه، أنا أبي، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن صالح المطرِّز، أنا محمد بن يحيى، أنا شريح بن النعمان، أنا فليح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من آمَنَ بالله ورسولهِ وأقامَ الصلاةَ وصامَ رمضانَ كانَ حقًّا على الله عز وجل أن يُدخلهُ الجنّةَ، جاهد في سبيل الله أو جلسَ في أرضه التي وُلد فيها » ، قالوا: أفلا نُنذر الناس بذلك؟ قال: « إن في الجنّة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل من الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتُمُ الله فاسألوه الفِرْدَوسَ فإنه أوسط الجنّةِ وأعلى الجنّةِ وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة » .

واعلمْ أن الجهاد في الجملة فرضٌ، غير أنه ينقسم إلى فرض العين وفرض الكفاية.

ففرض العين: أن يدخل الكفارُ دار قوم من المؤمنين، فيجب على كل مكلف من الرجال، ممن لا عذر له من أهل تلك البلدة الخروجُ إلى عدوهم، حرًا كان أو عبدًا، غنيًا كان أو فقيرًا، دفعًا عن أنفسهم وعن جيرانهم.

وهو في حق من بَعُدَ منهم من المسلمين فرض على الكفاية، فإن لم تقع الكفاية بمن نـزل بهم يجب على من بعد منهم من المسلمين عونُهم، وإن وقعت الكفاية بالنازلين بهم فلا فرض على الأبعدين إلا على طريق الاختيار، ولا يدخل في هذا القسم العبيد والفقراء، ومن هذا القبيل أن يكون الكفار قارِّين في بلادهم، فعلى الإمام أن لا يخلي سنة عن غزوة يغزوها بنفسه أو بسراياه حتى لا يكون الجهاد معطَّلا والاختيارُ للمطيق الجهاد مع وقوع الكفاية بغيره: أنْ لا يقعد عن الجهاد، ولكنْ لا يُفترض، لأنّ الله تعالى وعد المجاهد والقاعد الثوابَ في هذه الآية فقال: وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ولو كان فرضًا على الكافة لاستحق القاعد العقاب لا الثواب.

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( 97 )

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) الآية، نـزلت في ناس من أهل مكة تكلَّمُوا بالإسلام ولم يهاجروا، منهم: قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما، فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم فقتلوا مع الكفار، فقال الله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) أراد به ملك الموت وأعوانه، أو أراد ملك الموت وحده، كما قال تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ( السجدة - 11 ) ، والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع ( ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) بالشرك، وهو نصب على الحال أي: في حال ظلمهم، قيل: أي بالمقام في دار الشرك لأن الله تعالى لم يقبل الإسلام بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالهجرة، ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا هجرة بعد الفتح » ، وهؤلاء قُتلوا يومَ بدر وضربتِ الملائكة وجوههم وأدبارهم، وقالوا لهم: فِيْمَ كنتم؟ فذلك قوله تعالى: ( قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ) أي: في ماذا كنتم؟ أو في أي الفريقين كنتم؟ أفي المسلمين؟ أم في المشركين؟ سؤال توبيخ وتعيير فاعتذروا بالضعف عن مقاومة أهل الشرك، و ( قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ ) عاجزين ، ( فِي الأرْضِ ) يعني أرض مكة، ( قَالُوا ) يعني: الملائكة ( أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ) يعني: إلى المدينة وتخرجوا من مكة، من بين أهل الشرك؟ فأكذبهم الله تعالى وأعلمنا بكذبهم، وقال: ( فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ ) منـزلهم ( جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) أي: بئس المصير إلى جهنم.

إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا ( 98 ) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ( 99 ) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 100 )

ثم استثنى أهل العذر منهم، فقال: ( إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ) لا يقدرون على حيلة ولا على نفقة ولا قوة للخروج منها، ( وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا ) أي: لا يعرفون طريقًا إلى الخروج. وقال مجاهد: لا يعرفون طريق المدينة.

( فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ) يتجاوز عنهم، وعسَى من الله واجبٌ ، لأنه للإطماع، والله تعالى إذا أطمع عبدًا وصله إليه، ( وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنتُ أنا وأمي ممن عذر الله، يعني المستضعفين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهؤلاء المستضعفين في الصلاة.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا معاذ بن فضالة، أنا هشام، عن يحيى هو ابن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد في الركعة الآخرة من صلاة العشاء قنت اللّهم أنجِ عياشَ بن أبي ربيعة اللّهم أنجِ الوليدَ اللّهم أنجِ سلمةَ بن هشام اللّهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين اللّهم اشْدُدُ وطأتَكَ على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف » .

قوله تعالى: ( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ( مُرَاغَمًا ) أي: مُتَحَوَّلا يتحول إليه، وقال مجاهد: متزحزحًا عما يكره، وقال أبو عبيدة: المُراغم: يقال: راغمت قومي وهاجرتهم، وهو المُضْطَرَبُ والمَذْهَبُ.

رُوي أنه لمّا نـزلت هذه الآية سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير مريض يقال له جُنْدُع بن ضَمْرة، فقال: والله ما أبيت الليلة بمكة، أخرجوني، فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التنعيم فأدركه الموت، فصفقَ يمينه على شماله ثم قال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك، فمات فبلغ خبرُه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لو وَافَى المدينة لكان أتم وأوْفَى أجرًا، وضحك المشركون وقالوا: ما أدرك هذا ما طلب، فأنـزل الله: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ ) . أي: قبل بلوغه إلى مهاجره، ( فَقَدْ وَقَعَ ) أي: وجَبَ ( أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) بإيجابه على نفسه فضْلا منه، ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا )

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ( 101 )

قوله عز وجل: ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ ) أي: سافرتم، ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ) أي: حرج وإثم ( أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) يعني من أربع ركعات إلى ركعتين، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء ( إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ ) أي: يغتالكم ويقتلكم ( الَّذِينَ كَفَرُوا ) في الصلاة، نظيره قوله تعالى: عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ( يونس - 83 ) أي: يقتلهم.

( إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ) أي: ظاهر العداوة.

اعلم أن قصر الصلاة في السفر جائز بإجماع الأمة، واختلفوا في جواز الإتمام: فذهب أكثرهم إلى أن القصر واجب، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة وهو قول مالك وأصحاب الرأي، لِمَا رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: « الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأُقرتْ صلاة السفر وأُتمت صلاة الحضر » .

وذهب قوم إلى جواز الإتمام، رُوي ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، وبه قال الشافعي رضي الله عنه، إن شاءَ أتمَّ وإن شاءَ قصرَ، والقصرُ أفضل.

[ أخبرنا الإمام عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا إبراهيم بن محمد، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: « كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصرَ الصلاةَ وأتمَّ » .

وظاهر القرآن يدل على هذا ، لأنه قال: ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) ولفظ لا جناح إنما يستعمل في الرخص لا فيما يكون حتمًا، فظاهر الآية [ يوجب أنّ القصر ] لا يجوز إلا عند الخوف وليس الأمر على ذلك، إنمّا نـزلت الآية على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو.

والقصر جائز في السفر في حال الأمن عند عامة أهل العلم، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا مسلم بن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد عن ابن جريج، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار، عن عبد الله بن بَابَاه، عن يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما قال الله تعالى ( أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وقد أمن الناس، فقال عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبتُ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته » .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا عبد الوهاب، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سافر رسول الله بين مكة والمدينة آمنًا لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين .

وذهب قوم إلى أنّ ركعتي المسافر ليستا بقصر إنما القصر أن يصلي ركعة واحدة في الخوف، يُروى ذلك عن جابر رضي الله عنه وهو قول عطاء وطاوس والحسن ومجاهد ، وجعلوا شرط الخوف المذكور في الآية: باقيًا وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الاقتصار على ركعة واحدة لا يجوز خائفًا كان أو آمنًا.

واختلف أهل العلم في مسافة القصر، فقالت طائفة : يجوز القصر في السفر الطويل والقصير ، رُوي ذلك عن أنس رضي الله عنه ، وقال عمرو بن دينار: قال لي جابر بن زيد: اقصر بعرفة، أما عامة الفقهاء فلا يجوِّزون القصر في السفر القصير.

واختلف في حد ما يجوز به القصر، فقال الأوزاعي: مسيرة يوم، وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة بُرُدٍ، وهي ستة عشر فرسخًا، وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق، وقول الحسن والزهري قريب من ذلك، قالا مسيرة يومين، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه، قال: مسيرة ليلتين قاصدتين، وقال في موضع: ستة وأربعون ميلا بالهاشمي، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: مسيرة ثلاثة أيام.

وقيل: قوله ( إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) متصل بما بعده من صلاة الخوف منفصل عمّا قبله، رُوي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: نـزل قوله ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) هذا القدر، ثم بعد حوْلٍ سألُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنـزل: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ الآية. ومثله في القرآن كثير أن يجيء الخبر بتمامه ثم يُنسق عليه خبر آخر، وهو في الظاهر كالمتصل به، وهو منفصل عنه، كقوله تعالى: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( يوسف - 51 ) ، وهذه حكاية عن امرأة العزيز، وقوله: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ( يوسف - 52 ) إخبار عن يوسف عليه السلام.