وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا ( 122 ) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 123 )

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي: من تحت الغُرف والمساكن، ( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا )

قوله تعالى: ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ) الآية. قال مسروق وقتادة والضحاك: أراد ليس بأمانيكم أيها المسلمون ولا أماني أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى، وذلك أنَّهم افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبلَ نبيّكم وكتابُنا قبل كتابكم فنحن أوْلَى بالله منكم، وقال المسلمون: نبيّنا خاتمُ الأنبياء وكتابُنا يقضي على الكتب، وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أوْلى .

وقال مجاهد: ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ) يا مشركي أهل الكتاب، وذلك أنهم قالوا: لا بعثَ ولا حسابَ، وقال أهل الكتاب: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ( البقرة - 80 ) لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة - 111 ) ، فأنـزل الله تعالى: ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ) أي: ليس الأمر بالأماني وإنّما الأمر بالعمل الصالح.

( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وجماعة: الآية عامة في حق كل عامل.

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نـزلت هذه الآية شقّت على المسلمين وقالوا: يا رسول الله وأيّنا لم يعمل سوءًا غيرك فكيف الجزاء؟ قال: « منه ما يكون في الدنيا، فمنْ يعملْ حسنةً فله عشرُ حسنات، ومن جُوزي بالسيّئة نقصتْ واحدةٌ من عشر، وبقيتْ له تسعُ حسنات، فويل لمن غلبتْ آحادُه أعشارَه، وأمّا ما يكون جزاء في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته، فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل، فيعطي الجزاءَ في الجنة فيؤتي كلّ ذي فضلٍ فَضْلَه » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد العبدوسي، ثنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ببغداد، ثنا يحيى بن جعفر بن الزبرقان والحارث بن محمد، قالا ثنا روح هو ابن عبادة، ثنا موسى بن عبيدة، أخبرني مولى بن سباع: سمعت عبد الله بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُنـزلتْ عليه هذه الآية: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا أبا بكر ألا أقرئك آية أُنـزلتْ عليّ؟ قال: قلتُ بلى، قال: فأقرأنيها، قال: ولا أعلم إلا أني وجدتُ انفصامًا في ظهري حتى تمطَّيت لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أبا بكر؟ فقلتُ يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأيُّنا لم يعمل سوءًا؟ إنا لَمَجْزِيُّون بكل سوء عملناه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله، وليست لكم ذنوب، وأمّا الآخرون فيُجمع ذلك لهم حتى يُجزوا يومَ القيامة » .

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ( 124 ) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ( 125 )

قوله تعالى: ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) أي: مقدار النقير، وهو النقرة التي تكون في ظهر النَّواة، قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل البصرة وأبو بكر ( يَدْخُلُون ) بضم الياء وفتح الخاء هاهنا وفي سورة مريم وحم المؤمن، زادَ أبو عمرو: يَدْخُلُونَهَا في سورة فاطر، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء.

روى الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: لما نـزلت لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ قال أهل الكتاب: نحنُ وأنتم سواء، فنـزلت هذه الآية: ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ ) الآية ، ونـزلت أيضا:

( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا ) أحكمُ دينًا ( مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) أي أخلص عمله لله، وقيل: فوض أمره إلى الله، ( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) أي: مُوحِّد، ( وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ) يعني: دين إبراهيم عليه السلام، ( حَنِيفًا ) أي: مُسلمًا مُخلصًا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ومن دين إبراهيم الصلاة إلى الكعبة والطواف بها ومناسك الحج، وإنما خُصَّ إبراهيم لأنه كان مقبولا عند الأمم أجمع، وقيل: لأنه بُعث على ملة إبراهيم وزيد له أشياء.

( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ) صفيًا، والخلّة: صفاء المودّة، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان إبراهيم عليه السلام أبا الضيفان، وكان منـزله على ظهر الطّريق يضيّف من مرَّ به من الناس، فأصاب الناسَ سَنَةٌ فحُشروا إلى باب إبراهيم عليه السلام يطلبون الطعامَ وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر، فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي له بمصر، فقال خليله لغلمانه: لو كان إبراهيم عليه السلام إنما يريده لنفسه احتملنا ذلك له، فقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة، فرجع رُسل إبراهيم عليه السلام، فمرُّوا ببطحاء فقالوا: [ إنا لو ] حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة، فإنّا نستحي أن نمرّ بهم وإبلنا فارغة، فملؤوا تلك الغرائر سهلة، ثم أتوا إبراهيم فأعلموه وسارة نائمة، فاهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه، فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار، فقالت: سبحان الله ما جاء الغلمان؟ قالوا: بلى، قالت: فما جاءوا بشيء؟ قالوا: بلى، فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هي أجود دقيق حُواري يكون، فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناسَ فاستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام، فقال: يا سارة من أين هذا؟ قالت: من عند خليلك المصري، فقال: هذا من عند خليلك الله، قال: فيومئذٍ اتخذه الله خليلا . قال الزجاج: معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل، والخلة: الصداقة، فسُمي خليلا لأنّ الله أحبه واصطفاه. وقيل: هو من الخلة وهي الحاجة، سُمي خليلا أي: فقيرًا إلى الله [ لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلا إلى الله عزّ وجل ] والأول أصح لأن قوله ( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ) يقتضي الخلة من الجانبين، ولا يتصور الحاجة من الجانبين.

ثنا أبو المظفر بن أحمد التيمي، ثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم، ثنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الإطرابلسي، ثنا أبو قلابة الرقاشي، ثنا بشر بن عمر، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو كُنتُ متخذًا خليلا لاتخذتُ أبا بكر خليلا ولكنَّ أبا بكر أخي وصاحبي، ولقد اتخذ الله صاحبَكم خليلا » .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ( 126 )

قوله عز وجل: ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ) أي: أحاط علمه بجميع الأشياء.

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ( 127 )

قوله تعالى: ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ) الآية: قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: نـزلت هذه الآية في بنات أم كُجّة وميراثهن وقد مضت القصة في أول السورة .

وقالت عائشة رضي الله عنها: هي اليتيمة تكون في حجر الرجل، وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سُنَّة صداقها، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركها، وفي رواية هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب أن يتزوجها لدمامتها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها حتى تموت فيرثها، فنهاهم الله عن ذلك.

قوله عز وجل: ( وَيَسْتَفْتُونَك ) أي: يستخبرونك في النساء، ( قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ) قيل معناه ويفتيكم في ما يتلى عليكم، وقيل معناه: ونفتيكم ما يتلى عليكم، يريد: الله يفتيكم وكتابه يفتيكم فيهن، وهو قوله عز وجل: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ قوله ( فِي يَتَامَى النِّسَاءِ ) هذا إضافة الشيء إلى نفسه لأنه أراد باليتامى النساء، ( اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ) أي: لا تعطونهن، ( مَا كُتِبَ لَهُنَّ ) من صداقهن، ( وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ) أي: في نِكَاحِهنّ لمالِهنّ وجمالهنّ بأقل من صداقهن، وقال الحسن وجماعة أراد أن تؤتونهن حقهن من الميراث، لأنهم كانوا لا يُوَرِّثُون النساءَ، وترغبون أن تنكحوهن، أي: عن نكاحهن لدمامتهن.

( وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ ) يريد: ويُفتيكم في المستضعفين من الولدان وهم الصغار، أن تعطوهم حقوقهم، لأنهم كانوا لا يُوَرِّثون الصغار، يريد ما يتلى عليكم في باب اليتامى من قوله ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) يعني بإعطاء حقوق الصغار، ( وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ) أي: ويفتيكم في أن تقُوموا لليتامى بالقسط بالعدل في مُهورهن ومواريثهن، ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ) يُجازيكم عليه.