الجزء الثالث عشر

 

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 53 ) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ( 54 ) .

( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ) من الخطأ والزلل فأزكيها، ( إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) بالمعصية ( إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي ) أي: إلا من رحم ربي فعصمه، « ما » بمعنى من - كقوله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ ( النساء - 3 ) أي: مَنْ طاب لكم- وهم الملائكة، عصمهم الله عز وجل فلم يركّبْ فيهم الشهوة.

وقيل: « إلا ما رحم ربي » إشارة إلى حالة العصمة عند رؤية البرهان.

( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فلما تبين للملك عذر يوسف عليه السلام وعرف أمانته وعلمه:

( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ) أي: أجعله خالصا لنفسي، ( فَلَمَّا كَلَّمَهُ ) فيه اختصار تقديره: فجاء الرسول يوسف فقال له: أجب الملك الآن.

رُوي أنه قام ودعا لأهل السجن فقال: اللهم عطِّف عليهم قلوب الأخيار، ولا تُعَمِّ عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد، فلما خرج من السجن كتب على باب السجن: هذا قبر الأحياء، وبيت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء. ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثيابا حسانا وقصد الملك .

قال وهب: فلما وقف بباب الملك قال: حسبي ربي من دنياي، وحسبي ربي من خلقه، عزّ جارُه، وجلّ ثناؤُه، ولا إله غيره. ثم دخل الدار فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بك من شره وشر غيره. فلما نظر إليه الملك سلَّم عليه يوسف بالعربية فقال: الملك ما هذا اللسان؟ قال: لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال الملك: ما هذا اللسان؟ قال هذا لسان آبائي، ولم يعرف الملك هذين اللسانين.

قال وهب: وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا فكلما تكلم بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان وزاد عليه بلسان العربية والعبرانية، فأعجب الملك [ ما رأى منه ] مع حداثة سنه، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة، فأجلسه و، ( قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ ) [ المكانة في الجاه ] ، ( أَمِينٌ ) أي: صادق.

وروي أن الملك قال له: إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها.

فقال يوسف: نعم أيها الملك، رأيتَ سبع بقرات سمان شهب غرٍّ حِسَان، كشفَ لك عنهنَّ النيل، فطلعنَ عليك من شاطئه تشخب أخلافهن لبنا، فبينما أنت تنظر إليهن ويعجبك حُسنهنّ إذ نضب النيلُ فغار ماؤه وبدا يبسه، فخرج من حمأته سبع بقرات عجاف شُعثٍ غُبرٍ مُتقلّصات [ البطون، ليس لهن ضروع ولا أخلاف ] ، ولهن أنياب وأضراس وأكف كأكف الكلاب، وخراطيم كخراطيم السباع، فافترسن السمان افتراس السبع، فأكلن لحومهن، ومَزّقنَ جلودهنّ، وحطمنَ عظامهنّ، وتمششن مخهن، فبينما أنت تنظر وتتعجب إذ سبع سنابل خضر وسبع أخر سود في منبت واحد [ عروقهن في الثرى والماء، فبينما أنت تقول في نفسك أنى هذا؟ خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات، والمنبت واحد وأصولهنّ في الماء ] إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهن النار، فاحترقن فصرن سودا فهذا ما رأيت، ثم انتبهتَ من نومك مذعورا.

فقال الملك: والله ما شأن هذه الرؤيا - وإن كانت عجيبة- بأعجب مما سمعتُ منك، فما ترى في رؤياي أيها الصديق؟

فقال يوسف عليه السلام:أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة،وتجعل الطعام في الخزائن بقصبه وسنبله ليكون القصب والسنبل عَلَفا للدواب،وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخُمسَ، فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، ويأتيك الخلق من النواحي للميرة فيجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك.

فقال الملك: ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه ويكفيني الشغل فيه؟.

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ( 55 ) .

فـ ( قَالَ ) يوسف، ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ ) الخزائن: جمع خزانة، وأراد خزائن الطعام والأموال، والأرض: أرض مصر، أي: خزائن أرضك.

وقال الربيع بن أنس: على خراج مصر ودخله.

( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) أي: [ حفيظ للخزائن عليم بوجوه مصالحها. وقيل: حفيظ عليم ] كاتب حاسب.

وقيل: حفيظ لما استودعتني، عليم بما ولّيتني.

وقيل: حفيظ للحساب عليم بالألسن أعلم لغة كل من يأتيني.

وقال الكلبي: حفيظ بتقديره في السنين الخصبة [ في الأرض الجدبة ] عليم بوقت الجوع حين يقع، فقال له الملك. ومن أحق به منك؟! فولاه ذلك وقال له: إنك اليوم لدينا مكين، ذو مكانة ومنـزلة، أمين على الخزائن.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الفنجوي، حدثنا مخلد بن جعفر البقرجي، حدثنا الحسن بن علوية، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا إسحاق بن بشر، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته، ولكنه أخره لذلك سنة فأقام في بيته سنة مع الملك » .

وبإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما انصرمت السنة من اليوم الذي سأل الإمارة دعاه الملك فتوجه [ وقلده بسيفه ] ووضع له سريرا من ذهب مكلّل بالدر والياقوت، وضرب عليه حلة من إستبرق، وطول السرير ثلاثون ذراعا، وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشا وستون مقرمة، ثم أمره أن يخرج، فخرج متوَّجا، ولونه كالثلج، ووجهه كالقمر، يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه، فانطلق حتى جلس على السرير، ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته وفوّض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عمّا كان عليه وجعل يوسف مكانه قاله ابن إسحاق .

وقال ابن زيد: وكان لملك مصر خزائن كثيرة فسلم سلطانه كله إليه وجعل أمره وقضاءه نافذا، قالوا: ثم إن قطفير هلك في تلك الليالي فزوج الملكُ يوسفَ راعيلَ امرأة قطفير، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ فقالت: أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له ولدين: أفراثيم بن يوسف، وميشا بن يوسف .

واستوثق ليوسف ملك مصر، أي: اجتمع، فأقام فيهم العدل، وأحبه الرجال والنساء، فذلك قوله تعالى:

وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 56 ) وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 57 ) .

( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ ) يعني: أرض مصر ملكناه ، ( يَتَبَوَّأُ مِنْهَا ) أي: ينـزل ( حَيْثُ يَشَاءُ ) ويصنع فيها ما يشاء.

قرأ ابن كثير: « نشاء » بالنون ردا على قوله: ( مَكَّنَّا ) وقرأ الآخرون بالياء ردا على قوله ( يَتَبَوَّأُ ) .

( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ) أي: بنعمتنا، ( وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) قال ابن عباس ووهب: يعني الصابرين.

قال مجاهد وغيره: فلم يزل يوسف عليه السلام يدعو الملك إلى الإسلام ويتلطف له حتى أسلم الملك وكثير من الناس. فهذا في الدنيا.

( وَلأجْرُ الآخِرَةِ ) ثواب الآخرة، ( خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) .

فلما اطمأن يوسف في ملكه دبَّر في جمع الطعام بأحسن التدبير، وبنى الحصون والبيوت الكثيرة، وجمع فيها الطعام للسنين المجدبة، وأنفق بالمعروف حتى خلت السنون المخصبة ودخلت السنون المجدبة بهول لم يعهد الناس بمثله.

ورُوي أنه كان قد دبر في طعام الملك وحاشيته كل يوم مرة واحدة نصف النهار ، فلما دخلت سنة القحط كان أول من أخذه الجوع هو الملك في نصف الليل فنادى يا يوسف الجوعَ الجوعَ!.

فقال يوسف: هذا أوان القحط.

ففي السنة الأولى من سني الجدب هلك كل شيء أعدُّوه في السنين المخصبة، فجعل أهل مصر يبتاعون من يوسف الطعام، فباعهم أول سنة بالنقود حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه، وباعهم السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء، وباعهم السنة الثالثة بالمواشي والدواب حتى احتوى عليها أجمع، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق في يد أحد عبد ولا أمة، وباعهم السنة الخامسة بالضياع والعقار والدور حتى احتوى عليها، وباعهم السنة السادسة بأولادهم حتى استرقهم، وباعهم السنة السابعة برقابهم [ حتى استرقهم ] ، ولم يبق بمصر حر ولا حرة إلا صار عبدا له.

فقال الناس: ما رأينا يوما كاليوم ملكا أجل ولا أعظم من هذا.

ثم قال يوسف للملك: كيف رأيت صنع ربي فيما خوَّلني فما ترى في ذلك؟

فقال له الملك: الرأي رأيك ونحن لك تبع.

قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددْتُ عليهم أملاكهم .

وروي أن يوسف كان لا يشبع من طعام في تلك الأيام، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟.

فقال: أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع، وأمر يوسف عليه السلام طباخي الملك أن يجعلوا غداءه نصف النهار، وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين، فمن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار.

قال: وقصد الناسُ مصرَ من كل أوبٍ يمتارون الطعام فجعل يوسف لا يمكن أحدا منهم - وإن كان عظيما- من أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس، وتزاحم الناس عليه وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب الناس في سائر البلاد من القحط والشدة، ونـزل بيعقوب ما نـزل بالناس، فأرسل بنيه إلى مصر للميرة، وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمه، فذلك قوله تعالى:

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ( 58 ) .

( وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ) وكانوا عشرة، وكان منـزلهم بالعرنات من أرض فلسطين، بغور الشام، وكانوا أهل بادية وإبل وشاة، فدعاهم يعقوب عليه السلام وقال: يا بني بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام، فتجهزوا لتشتروا منه الطعام، فأرسلهم فقدموا مصر، ( فَدَخَلُوا عَلَيْهِ ) على يوسف، ( فَعَرَفَهُمْ ) يوسف عليه السلام.

قال ابن عباس ومجاهد: عرفهم بأول ما نظر إليهم.

وقال الحسن: لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه.

( وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) أي: لم يعرفوه. قال ابن عباس: وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة، فلذلك أنكروه.

وقال عطاء: إنما لم يعرفوه لأنه كان على سرير الملك وعلى رأسه تاج الملك.

وقيل: لأنه كان بِزِيِّ ملوك مصر، عليه ثياب من حرير وفي عنقه طوق من ذهب، فلما نظر إليهم يوسف وكلموه بالعبرانية، قال لهم: أخبروني مَنْ أنتم وما أمركم فإني أنكرت شأنكم؟ قالوا نحن قوم من أرض الشام رعاة، أصابنا الجهد فجئنا نمتار.

فقال: لعلكم جئتم تنظرون عورة بلادي.

قالوا: لا والله ما نحن بجواسيس، إنما نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ صديق يقال له يعقوب نبي من أنبياء الله.

قال: وكم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر، فذهب أخ لنا معنا إلى البرية، فهلك فيها، وكان أحبنا إلى أبينا.

قال: فكم أنتم ها هنا؟.

قالوا: عشرة.

قال: وأين الآخر؟

قالوا: عند أبينا، لأنه أخو الذي هلك لأمه ، فأبونا يتسلَّى به.

قال: فمن يعلم أن الذي تقولون حق؟

قالوا: أيها الملك إنا ببلاد لا يعرفنا أحد [ من أهلها ] .

فقال يوسف: فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين، وأنا أرضى بذلك.

قالوا: فإن أبانا يحزن على فراقه وسنراود عنه أباه.

قال: فَدَعُوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم، فاقترعوا بينهم، فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأيا في يوسف، فخلّفوه عنده. فذلك قوله عز وجل:

وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْـزِلِينَ ( 59 ) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ ( 60 ) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ( 61 ) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 62 ) .

( وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ ) أي: حمَّل لكل واحد بعيرا بعدتهم، ( قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ) يعني ينيامين، ( أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ ) أي: أُتمّه ولا أبخس الناس شيئا، فأزيدكم حمل بعير لأجل أخيكم، وأكرم منـزلتكم وأحسن إليكم، ( وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْـزِلِينَ ) قال مجاهد: أي خير المضيفين. وكان قد أحسن ضيافتهم.

( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي ) أي: ليس لكم عندي طعام أكيله لكم ( وَلا تَقْرَبُونِ ) أي: لا تقربوا داري [ وبلادي ] بعد ذلك وهو جزم على النهي.

( قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ ) أي: نطلبه ونسأله أن يرسله معنا، ( وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ) ما أمرتنا به.

( وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ ) قرأ حمزة والكسائي وحفص: ( لِفِتْيَانِهِ ) بالألف والنون، وقرأ الباقون: « لفتيته » بالتاء من غير ألف يريد لغلمانه، وهما لغتان مثل الصِّبْيان والصِّبْيَة، ( اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ ) ثمن طعامهم وكانت دراهم.

وقال الضحاك عن ابن عباس: كانت النعال والأدم.

وقيل: كانت ثمانية جرب من سويق المقل. والأول أصح.

( فِي رِحَالِهِمْ ) أوعيتهم، وهي جمع رحل، ( لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا ) انصرفوا، ( إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

واختلفوا في السبب الذي فعله يوسف من أجله، قيل: أراد أن يريهم كرمه في ردِّ البضاعة وتقديم الضمان في البر والإحسان، ليكون أدعى لهم إلى العود، لعلّهم يعرفونها، أي: كرامتهم علينا.

وقيل: رأى لؤما أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع حاجتهم إليه، فردَّه عليهم من حيث لا يعلمون تكرُّمًا.

وقال الكلبي: تخوّف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى.

وقيل:فعل ذلك لأنه علم أن ديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة نفيا للغلط ولا يستحلون إمساكها.

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( 63 ) .

( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا ) إنا قدمنا على خير رجل، أنـزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من أولاد يعقوب ما أكرمنا كرامته، فقال لهم يعقوب: إذا أتيتم ملك مصر فأقرئوه مني السلام، وقولوا له: إنّ أبانا يصلي عليك ويدعو لك بما أوليتنا، ثم قال: أين شمعون؟ قالوا: ارتهنه ملك مصر، وأخبروه بالقصة، فقال لهم: ولِمَ أخبرتموه؟ قالوا: إنه أخذنا وقال أنتم جواسيس - حيث كلمناه بلسان العبرانية- وقصُّوا عليه القصة، وقالوا يا أبانا:

( مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ ) [ قال الحسن: معناه يمنع منا الكيل ] إن لم تحمل أخانا معنا.

وقيل: معناه أعطى باسم كل واحد حملا ومنع منا الكيل لبنيامين، والمراد بالكيل: الطعام، لأنه يكال.

( فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا ) بنيامين، ( نَكْتَل ) قرأ حمزة والكسائي: ( يكتل ) بالياء، يعني: يكْتَلْ لنفسه كما نحن نكتال، [ وقرأ الآخرون: ( نكتل ) بالنون، يعني: نكتل نحن ] وهو الطعام. وقيل: نكتل له، ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) .

 

قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( 64 ) .

( قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ ) يوسف ( مِنْ قَبْلُ ) أي: كيف آمنكم عليه وقد فعلتم بيوسف ما فعلتم؟ ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ) قرأ حمزة والكسائي وحفص: ( حَافِظًا ) بالألف على التفسير، كما يقال: هو خيرٌ رجلا وقرأ الآخرون: ( حفظا ) بغير ألف على المصدر، يعني: خيركم حفظا، يقول: حفظه خير من حفظكم. ( وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَـزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ( 65 ) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ( 66 ) .

( وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ ) الذي حملوه من مصر، ( وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ ) ثمن الطعام، ( رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي ) أي: ماذا نبغي وأي شيء نطلب؟ وذلك أنهم ذكروا ليعقوب عليه السلام إحسان الملك إليهم، وحثّوه على إرسال بنيامين معهم، فلما فتحوا المتاع ووجدوا البضاعة، ( هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ) أيُّ شيء نطلب بالكلام، فهذا هو العيان من الإحسان والإكرام، أَوْفَى لنا الكيل ورَدَّ علينا الثمن. أرادوا تطييب نفس أبيهم، ( وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ) أي: نشتري لهم الطعام فنحمله إليهم. يقال: مارَ أهله يَمِيْر مَيْرا: إذا حمل إليهم الطعام من بلد [ إلى بلد آخر ] . ومثله: امتار يمتار امتيارا. ( وَنَحْفَظُ أَخَانَا ) بنيامين، أي: مما تخاف عليه. ( وَنَـزْدَادُ ) على أحمالنا، ( كَيْلَ بَعِيرٍ ) أي: حمل بعير يكال لنا من أجله، لأنه كان يعطي باسم كل رجل حمل بعير، ( ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) [ أي: ما حملناه قليل لا يكفينا وأهلنا. وقيل: معناه نـزداد كيل بعير ذلك كيل يسير ] لا مؤنة فيه ولا مشقة.

وقال مجاهد: البعير ها هنا هو الحمار. كيل بعير، أي: حمل حمار، وهي لغة، يقال للحمار: بعير. وهم كانوا أصحاب حُمُرٍ، والأول أصح أنه البعير المعروف.

( قال ) لهم يعقوب، ( لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ ) تعطوني ( مَوْثِقًا ) ميثاقا وعهدا، ( مِنَ اللَّهِ ) والعهد الموثَّق: المؤكّد بالقسم. وقيل: هو المؤكد [ بإشهاد الله ] على نفسه ( لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ) وأدخل اللام فيه لأن معنى الكلام اليمين، ( إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ) قال مجاهد إلا أن تهلكوا جميعا.

وقال قتادة: إلا أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك.

وفي القصة: أن الإخوة ضاق الأمر عليهم وجهدوا أشد الجهد، فلم يجد يعقوب بدا من إرسال بنيامين معهم.

( فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ) أعطوه عهودهم ، ( قَال ) يعني: يعقوب ( اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) شاهد. وقيل: حافظ. قال كعب: لما قال يعقوب فالله خير حافظا، قال الله عز وجل: وعزتي لأرُدَّنَّ عليك كليهما بعدما توكَّلْت عليَّ.

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ( 67 ) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 68 ) .

( وَقَال ) لهم يعقوب لما أرادوا الخروج من عنده، ( يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) وذلك أنه خاف عليهم العين؛ لأنهم كانوا أعطوا جمالا وقوة وامتداد قامةٍ، وكانوا ولد رجل واحد، فأمرهم أن يتفرقوا في دخولهم لئلا يصابوا بالعين، فإن العين حق ، وجاء في الأثر: « إنّ العَين تُدخلُ الرجلَ القبرَ، والجملَ القدرَ » .

وعن إبراهيم النخعي: أنه قال ذلك لأنه كان يرجو أن يروا يوسف في التفرق. والأول أصح.

ثم قال: ( وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) معناه: إن كان الله قضى فيكم قضاء فيصيبكم مجتمعين كنتم أو متفرقين، فإن المقدور كائن والحذر لا ينفع من القدر، ( إِنِ الْحُكْمُ ) ما الحكم، ( إِلا لِلَّهِ ) هذا تفويض يعقوب أموره إلى الله، ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) اعتمدت، ( وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) .

( وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ) أي: من الأبواب المتفرقة. وقيل: كانت المدينة مدينة الفرماء ولها أربعة أبواب، فدخلوها من أبوابها، ( مَا كَانَ يُغْنِي ) يدفع ( عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) صَدَق اللهُ تعالى يعقوبَ فيما قال، ( إِلا حَاجَةً ) مراداً، ( فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ) أشفق عليهم إشفاق الآباء على أبنائهم وجرى الأمر عليه، ( وَإِنَّهُ ) يعني: يعقوب عليه السلام، ( لَذُو عِلْمٍ ) يعني: كان يعمل ما يعمل عن علم لا عن جهل، ( لِمَا عَلَّمْنَاهُ ) أي: لتعليمنا إياه. وقيل: إنه لعامل بما علم.

قال سفيان: من لا يعمل بما يعلم لا يكون عالما. وقيل: وإنه لذو حفظ لما علَّمناه.

( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ما يعلم يعقوب لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم. وقال ابن عباس: لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه.

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 69 ) .

قوله عز وجل: ( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ) قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به، فقال: أحسنتم وأصبتم، وستجدون جزاء ذلك عندي، ثم أنـزلهم وأكرمهم ، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحيدا، فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه، فقال يوسف: لقد بقي أخوكم هذا وحيدا، فأجلسه معه على مائدته، فجعل يُواكله فلما كان الليل أمر لهم [ بمثل ذلك ] وقال: لينم كل أخوين منكم على مثال، فبقى بنيامين وحده، فقال يوسف: هذا ينام معي على فراشي، فنام معه، فجعل يوسف يضمه إليه ويشم ريحه حتى أصبح، وجعل روبين يقول: ما رأينا مثل هذا، فلما أصبح، قال لهم: إني أرى هذا الرجل ليس معه ثان فسأضمه إليَّ فيكون منـزله معي، ثم أنـزلهم منـزلا وأجرى عليهم الطعام، وأنـزل أخاه لأمه معه، فذلك قوله تعالى:

( آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ ) أي: ضمَّ إليه أخاه فلما خلا به قال: ما اسمك؟ قال: بنيامين، قال: وما بنيامين؟ قال: ابن المثكل، وذلك أنه لما ولد هلكت أمه. قال: وما اسم أمك؟ قال: راحيل بنت لاوى، فقال: فهل لك من ولد؟ قال: نعم عشرة بنين، [ قال: فهل لك من أخ لأمك، قال: كان لي أخ فهلك، قال يوسف ] أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك، فقال بنيامين: ومَنْ يجد أخاً مثلك أيها الملك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف عند ذلك وقام إليه وعانقه ، وقال له: ( قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ ) أي: لا تحزن، ( بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) بشيء فعلوه بنا فيما مضى، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا، ولا تعَلّمْهم شيئا مما أعلمتك، ثم أوفى يوسف لإخوته الكيل، وحمل لهم بعيرا بعيرا، ولبنيامين بعيرا باسمه، ثم أمر بسقاية الملك فجعلت في رحل بنيامين.

قال السدي: جعلت السقاية في رحل أخيه، والأخ لا يشعر.

وقال كعب: لما قال له يوسف إني أنا أخوك، قال بنيامين: أنا لا أفارقك، فقال له يوسف: قد علمت اغتمام والدي بي وإذا حبستك ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع وأنسبك إلى ما لا يحمد ، قال: لا أبالي، فافعل، ما بدا لك، فإني لا أفارقكَ، قال: فإني أدسُّ صاعي في رحلك ثم أنادي عليكم بالسرقة، ليهيأ لي ردّك بعد تسريحك. قال: فافعل فذلك قوله تعالى:

 

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ( 70 ) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ( 71 ) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ( 72 ) .

( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ) وهي المشربة التي كان الملك يشرب منها.

قال ابن عباس: كانت من زبرجد.

وقال ابن إسحاق: كانت من فضة. وقيل: من ذهب، وقال عكرمة: كانت مشربة من فضة مرصعة بالجواهر، جعلها يوسف مكيالا لئلا يكال بغيرها، وكان يشرب منها.

والسقاية والصواع واحد، وجعلت في وعاء طعام بنيامين، ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا وذهبوا منـزلا.

وقيل: حتى خرجوا من العمارة، ثم بعث خلفهم مَنْ استوقفهم وحبسهم.

( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ) نادى منادٍ، ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ ) وهي القافلة التي فيها الأحمال. قال مجاهد: كانت العير حميرا. وقال الفراء: كانوا أصحاب إبل. ( إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) قفوا. قيل: قالوه من غير أمر يوسف. وقيل: قالوه بأمره، وكان هفوة منه. وقيل: قالوه على تأويل أنهم سرقوا يوسف من أبيه، فلما انتهى إليهم الرسول، قال لهم: ألم نكرم ضيافتكم ونحسن منـزلتكم، ونوفِّكم كيلكم، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قالوا: سقاية الملك فقدناها، ولا نَتَّهِمُ عليها غيركم. فذلك قوله عز وجل:

( قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ) عطفوا على المؤذن وأصحابه، ( مَاذَا تَفْقِدُونَ ) ما الذي ضلّ عنكم. والفقدان: ضدّ الوجد.

( قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير ) من الطعام، ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) كفيل، يقوله المؤذن.

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ( 73 ) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ( 74 ) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ( 75 ) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ( 76 ) .

( قَالُوا ) يعني: إخوة يوسف، ( تَاللَّه ) أي: والله، وخصت هذه الكلمة بأن أبدلت الواو فيها بالتاء في اليمين دون سائر أسماء الله تعالى. ( لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ ) لنسرق في أرض مصر.

فإن قيل: كيف قالوا لقد علمتم؟ ومن أين علموا ذلك؟.

قيل: قالوا لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض، فإنا منذ قطعنا هذا الطريق لم نَرْزَأ أحدا شيئا فاسألوا عنا مَنْ مررنا به: هل ضررنا أحدا؟

وقيل: لأنهم ردوا البضاعة التي جعلت في رحالهم ،قالوا: فلو كنا سارقين ما رددناها.

وقيل: قالوا ذلك لأنهم كانوا معروفين بأنهم لا يتناولون ما ليس لهم، وكانوا إذا دخلوا مصر كمموا أفواه دوابهم كيلا تتناول شيئا من حروث الناس.

( وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ) .

( قَالُوا ) يعني المنادي وأصحابه ( فَمَا جَزَاؤُهُ ) أي: جزاء السارق، ( إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ) في قولكم « وما كنا سارقين » .

( قَالُوا ) [ يعني: إخوة يوسف ] ، ( جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ) أي: فالسارق جزاؤه أن يسلَّم السارق بسرقته إلى المسروق منه فيسترقه سنة، وكان ذلك سُنَّة آل يعقوب في حكم السارق، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ضعفي قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عنده، فرد الحكم إليهم ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم.

( كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) الفاعلين ما ليس لهم فعله من سرقة مال الغير.

فقال الرسول عند ذلك: لا بدّ من تفتيش أمتعتكم.

فأخذ في تفتيشها. ورُوي أنه ردّهم إلى يوسف فأمر بتفتيش أوعيتهم بين يديه.

( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ ) لإزالة التهمة، ( قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ) فكان يفتش أوعيتهم واحدا واحدا. قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا رحل بنيامين، قال: ما أظن هذا أخذه، فقال إخوته: والله لا نترك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك ولأنفسنا، فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه. فذلك قوله تعالى:

( ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ) وإنما أَنَّث الكناية في قوله « ثم استخرجها » والصُّوَاع مذكر، بدليل قوله: « وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ » ؛ لأنه ردّ الكناية ها هنا إلى السقاية.

وقيل: الصواع يذكر ويؤنث. فلما أخرج الصواع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم من الحياء، وأقبلوا على بنيامين وقالوا: ما الذي صنعت فضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل؟ ما يزال لنا منكم البلاء، متى أخذت هذا الصواع؟ فقال بنيامين: بل بنو راحيل لا يزال لهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم، فأخذوا بنيامين رقيقا .

وقيل: إن ذلك الرجل أخذ برقبته ورده إلى يوسف كما يرد السراق. ( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ) والكيد ها هنا جزاء الكيد، يعني: كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهم. وقد قال يعقوب عليه السلام ليوسف: « فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا » ، فكدنا ليوسف في أمرهم.

والكيد من الخلق: الحيلة، ومن الله تعالى التدبير بالحق. وقيل: كدنا: ألهمنا. وقيل: دبَّرنا. وقيل: أردنا. ومعناه: صنعنا ليوسف حتى ضم أخاه إلى نفسه، وحال بينه وبين إخوته.

( مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ ) فيضمه إلى نفسه، ( فِي دِينِ الْمَلِكِ ) أي: في حكمه. قاله قتادة. وقال ابن عباس: في سلطانه. ( إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) يعني: إن يوسف لم يكن يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كِدْنَا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك، وهو ما أجرى على ألسنة الإخوة أن جزاء السارق الاسترقاق، فحصل مراد يوسف بمشيئة الله تعالى.

( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ) بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته. وقرأ يعقوب: « يرفع » و « يشاء » بالياء فيهما [ وإضافة درجات إلى ( مَنْ ) في هذه السورة. والوجه أن الفعل فيهما مسند إلى الله تعالى وقد تقدم ذكره في قوله: ( إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) أي: يرفع الله درجات من يشاء. وقرأ الباقون بالنون فيهما إلا أن الكوفيين قرؤوا: « درجات » بالتنوين، ومَنْ سواهم بالإضافة، أي: نرفع به نحن، والرافع أيضا هو الله تعالى ] .

( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) قال ابن عباس: فوق كل عالمٍ عالمٌ إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى. فالله تعالى فوق كل عالم.

قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ( 77 ) .

( قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) يريدون أخاً له من أمه، يعني: يوسف. واختلفوا في السرقة التي وصفوا بها يوسف عليه السلام، فقال سعيد بن جبير وقتادة: كان لجده، أبي أمه، صنم يعبده، فأخذه سرّاً، أو كسره وألقاه في الطريق لئلا يعبد .

وقال مجاهد: إن يوسف جاءه سائل يوما، فأخذ بيضة من البيت فناولها للسائل. وقال سفيان بن عيينة: أخذ دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلا. وقال وهب: كان يخبئ الطعام من المائدة للفقراء .

وذكر محمد بن إسحاق: أن يوسف كان عند عمته ابنة إسحاق، بعد موت أمه راحيل، فحضنته عمته وأحبته حبا شديدا، فلما ترعرع وقعت محبة يعقوب عليه، فأتاها وقال: يا أختاه سلِّمي إليَّ يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة. قالت: لا والله، فقال: والله ما أنا بتاركه، فقالت: دعه عندي أياما أنظر إليه لعلّ ذلك يسليني عنه، ففعل ذلك، فعمدت إلى منطقة لإسحاق كانوا يتوارثونها بالكبر، فكانت عندها لأنها كانت أكبر ولد إسحاق، فحزمت المنطقة على يوسف تحت ثيابه وهو صغير، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق اكشفوا أهل البيت فكشفوا فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله إنه لَسَلَمٌ لي، فقال يعقوب: إن كان فعل ذلك فهو سَلَمٌ لك ، فأمسكته حتى ماتت، فذلك الذي قال إخوة يوسف: ( إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) .

( فَأَسَرَّهَا ) أضمرها ( يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ) وإنما أتت الكناية لأنه عني بها الكلمة، وهي قوله: ( قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا ) [ ذكرها سرا في نفسه ولم يصرح بها، يريد أنتم شر مكانا ] أي: منـزلة عند الله ممن رميتموه بالسرقة في صنيعكم بيوسف، لأنه لم يكن من يوسف سرقة حقيقية، وخيانتكم حقيقة، ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ) تقولون.

قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 78 ) .

( قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا ) وفي القصة أنهم غضبوا غضبا شديدا لهذه الحالة، وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وإذا صاح ألقت كل امرأة حامل سمعت صوته ولدها، وكان مع هذا إذا مسَّه أحد من ولد يعقوب سكن غضبه.

وقيل: كان هذا صفة شمعون من ولد يعقوب.

وروي أنه قال لإخوته: كم عدد الأسواق بمصر؟ فقالوا عشرة، فقال: اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك، أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق، فدخلوا على يوسف فقال روبيل: لتردن علينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلا ألقت ولدها وقامت كل شعرة في جسد روبيل فخرجت من ثيابه، فقال يوسف لابن له صغير: قم إلى جنب روبيل فمسه. وروي: خذ بيده فأتني به، فذهب الغلام فمسّه فسكن غضبه. فقال روبيل: إن ها هنا لَبَزْرًا من بَزْر يعقوب، فقال يوسف: مَنْ يعقوب؟.

ورُوي أنه غضب ثانيا فقام إليه يوسف فركضه برجله وأخذ بتلابيبه، فوقع على الأرض وقال: أنتم معشر العبرانيين تظنون أنْ لا أحدَ أشدّ منكم؟

فلما صار أمرهم إلى هذا ورأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وذلوا، وقالوا: يا أيها العزيز إنّ له أباً شيخاً كبيراً يحبه، ( فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ) بدلا منه، ( إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) في أفعالك . وقيل: من المحسنين إلينا في توفية الكيل وحسن الضيافة ورد البضاعة. وقيل: يعنون إن فعلت ذلك كنت من المحسنين.

 

قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ( 79 ) .

( قال ) يوسف، ( مَعَاذَ اللَّهِ ) أعوذ بالله، ( أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ) ولم يقل إلا من سرق تحرزا من الكذب، ( إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ) إن أخذنا بريئا بمجرم.

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 80 ) .

( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ) أي: أيسوا من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوه. وقال أبو عبيدة: اسْتَيْئَسُوا استيقنوا أن الأخ لا يرد إليهم. ( خَلَصُوا نَجِيًّا ) أي: خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم.

والنجيُّ يصلح للجماعة كما قال ها هنا، ويصلح للواحد كقوله: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ( مريم - 52 ) وإنما جاز للواحد والجمع لأنه مصدر جعل نعتا كالعدل والزور، ومثله النجوى يكون اسما ومصدرا، قال الله تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ( الإسراء - 47 ) ، أي: متناجون. وقال: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ ( المجادلة - 7 ) ، وقال في المصدر إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ ( المجادلة - 10 ) .

( قَالَ كَبِيرُهُمْ ) يعني: في العقل والعلم لا في السن. قال ابن عباس والكلبي: هو يهوذا وهو أعقلهم. وقال مجاهد: هو شمعون، وكانت له الرئاسة على إخوته. وقال قتادة والسدي والضحاك: هو روبيل، وكان أكبرهم في السن، وهو الذي نهى الإخوة عن قتل يوسف .

( أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا ) عهدا. ( مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ ) قصّرتم ( فِي يُوسُفَ ) واختلفوا في محل « ما » ؛ قيل: هو نصب بإيقاع العلم عليه، يعني: ألم تعلموا من قبل تفريطكم في يوسف.

[ وقيل: وهو في محل الرفع على الابتداء وتم الكلام عند قوله: ( مِنَ اللَّهِ ) ثم قال ( وَمِنْ قَبْلُ ) هذا تفريطكم في يوسف ] وقيل: ( مَا ) صلة. أي: ومن قبل هذا فرطتم في يوسف.

( فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ ) التي أنا بها وهي أرض مصر ( حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ) بالخروج منها ويدعوني، ( أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ) بردِّ أخي إليّ، أو بخروجي وترك أخي. وقيل: أو يحكم الله لي بالسيف فأقاتلهم وأسترد أخي.

( وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) أعدل مَنْ فَصَل بين الناس.

ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ( 81 ) .

( ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ ) يقول الأخ المحتبس [ بمصر ] لإخوته ارجعوا إلى أبيكم، ( فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ ) بنيامين، ( سَرَقَ ) قرأ ابن عباس والضحاك « سُرِّق » بضم السين وكسر الراء وتشديدها، يعني: نُسب إلى السرقة، كما يقال: خوَّنته أي نسبته إلى الخيانة.

( وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا ) [ يعني: ما قلنا هذا إلا بما علمنا ] فإنّا رأينا إخراج الصاع من متاعه. وقيل: معناه: وما شهدنا، أي: ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما علمنا، وليست هذه شهادة منا إنما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم.

وقيل: قال لهم يعقوب عليه السلام: ما يدري هذا الرجل أن السارق يُؤخذ بسرقته إلا بقولكم، فقالوا: ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترقُّ إلا بما علمنا، وكان الحكم ذلك عند الأنبياء؛ يعقوب وبنيه.

( وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ) قال مجاهد وقتادة: ما كنا نعلم أن ابنك سيسرق ويصير أمرنا إلى هذا ولو علمنا ذلك ما ذهبنا إليه، وإنما قلنا ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه منه سبيل. وعن ابن عباس: ما كنا لليله ونهاره ومجيئه وذهابه حافظين. وقال عكرمة: وما كنا للغيب حافظين فلعلها دُسَّتْ بالليل في رحله.

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( 82 ) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 83 ) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ( 84 ) .

( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ) أي: أهل القرية وهي مصر. قال ابن عباس: هي قرية من قرى مصر كانوا ارتحلوا منها إلى مصر. ( وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ) أي: القافلة التي كنا فيها. وكان صَحِبَهم قومٌ من كنعان من جيران يعقوب. قال ابن إسحاق: عرف الأخ المحتبس بمصر أن إخوته أهل تهمة عند أبيهم لِما كانوا صنعوا في أمر يوسف، فأمرهم أن يقولوا هذا لأبيهم.

( وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) فإن قيل: كيف استجاز يوسف أن يعمل مثل هذا بأبيه ولم يخبره بمكانه، وحبس أخاه مع علمه بشدة وجد أبيه عليه، وفيه معنى العقوق وقطيعة الرحم وقلة الشفقة؟. قيل: قد أكثر الناس فيه، والصحيح أنه عمل ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى، أمره بذلك، ليزيد في بلاء يعقوب، فيضاعف له الأجر، ويلحقه في الدرجة بآبائه الماضين. وقيل: إنه لم يظهر نفسه لإخوته؛ لأنه لم يأمن أن يدبروا في أمره تدبيرا فيكتموه عن أبيه. والأول أصح.

( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ ) زيَّنت، ( أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ) وفيه اختصار معناه: فرجعوا إلى أبيهم وذكروا لأبيهم ما قال كبيرهم، فقال يعقوب: ( بل سولت لكم أنفسكم أمرا ) ، أي: حمل أخيكم إلى مصر لطلب نفع عاجل. ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ) يعني: يوسف، وبنيامين، وأخاهم المقيم بمصر. ( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ ) بحزني ووجدي على فقدهم، ( الْحَكِيمُ ) في تدبير خلقه.

قوله تعالى: ( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ ) وذلك أن يعقوب عليه السلام لما بلغه خبر بنيامين تتامَّ حزنه وبلغ جهده، وتهيج حزنه على يوسف فأعرض عنهم، ( وَقَالَ يَا أَسَفَى ) يا حزناه، ( عَلَى يُوسُفَ ) والأسفُ أشدُّ الحزن، ( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ) عمي بصره. قال مقاتل: لم يبصر بهما ست سنين، ( فَهُوَ كَظِيمٌ ) أي: مكظوم مملوء من الحزن ممسك عليه لا يبثه. وقال قتادة: يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا. قال الحسن: كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانون عاما، لا تجفُّ عينا يعقوب وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب.

قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ( 85 ) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 86 ) .

( قَالُوا ) يعني: أولاد يعقوب، ( تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُف ) أي: لا تزال تذكر يوسف، لا تفتر من حبه، و « لا » محذوفة من قوله ( تَفْتَأ ) يقال: ما فتئ يفعل كذا أي: ما زال، كقول امرئ القيس:

فقلــتُ يميــنُ اللـه أَبْـرَحُ قائمًـا ولَــوْ قَطَّعُوا رأسِي لَدَيْكِ وأَوْصَالِي

أي: لا أبرح. ( حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا ) قال ابن عباس: دفنا وقال مجاهد: الحرض ما دون الموت، يعني: قريبا من الموت. وقال ابن إسحاق: فاسدا لا عقل لك.

والحرض: الذي فسد جسمه وعقله. وقيل: ذائبا من الهم. ومعنى الآية: حتى تكون دَنِفَ الجسم مخبول العقل.

وأصل الحرض: الفساد في الجسم والعقل من الحزن والهرم، أو العشق ، يقال: رجل حَرَض وامرأة حَرَض، ورجلان وامرأتان حَرَض، ورجال ونساء كذلك، يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه مصدر وضع موضع الاسم . ( أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) أي: من الميتين.

( قَالَ ) يعقوب عليه السلام عند ذلك لما رأى غِلظتهم ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ) والبثُّ: أشَدُّ الحزن، سمي بذلك لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يثبته أي يظهره، قال الحسن: بَثِّي أي: حاجتي.

ويُروى أنه دخل على يعقوب جارٌ له وقال: يا يعقوب مالي أراك قد تهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك؟ قال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف، فأوحى الله إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرْها لي، فقال: قد غفرتها لك، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله .

وروي أنه قيل له: يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك وقوَّس ظهرك؟ قال: أذهب بصري بكائي على يوسف، وقوَّس ظهري حزني على أخيه. فأوحى الله إليه: أتشكوني؟ فوعزتي وجلالي لا أكشف ما بك حتى تدعوني.

فعند ذلك قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله،فأوحى الله إليه: وعزتي وجلالي لو كانا ميتين لأخرجتهما لك، وإنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه منها شيئا، وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء، ثم المساكين، فاصنع طعاما وادع إليه المساكين.

فصنع طعاما ثم قال: من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب .

وروي أنه كان بعد ذلك إذا تغدى أمر من ينادي: مَنْ أراد الغداء فليأت يعقوب، وإذا أفطر أمر مَنْ ينادي: مَنْ أراد أن يفطر فليأت يعقوب، فكان يتغدى ويتعشى مع المساكين . وعن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى يعقوب: أتدري لِمَ عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟ قال: لا يا إلهي، قال: لأنك قد شويت عناقا وقترت على جارك، وأكلت ولم تطعمه.

وروي: أن سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور . وقال وهب والسدي وغيرهما: أتى جبريل يوسف عليه السلام في السجن فقال: هل تعرفني أيها الصديق؟

قال: أرى صورة طاهرة وريحا طيبة.

قال: إني رسول رب العالمين وأنا الروح الأمين.

قال: فما أدخلك مدخل المذنبين وأنت أطيب الطيبين ورأس المقربين [ وأمين رب العالمين ] ?

قال: ألم تعلم يا يوسف أن الله تعالى يطهر البيوت بطهر النبيين، وأن الأرض التي يدخلونها هي أطهر الأرضين، وأن الله تعالى قد طهر بك السجن وما حوله ، يا طُهر الطاهرين وابن الصالحين المخلصين.

قال: وكيف لي باسم الصديقين وتعدّني من المخلصين الطاهرين، وقد أدخلت مدخل المذنبين وسميت باسم الفاسقين؟

قال جبريل: لأنه لم يفتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربك لذلك سماك الله في الصديقين، وعدّك من المخلصين، وألحقك بآبائك الصالحين.

قال يوسف: هل لك علم بيعقوب أيها الروح الأمين؟

قال: نعم، وهبه الله الصبر الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم.

قال: فكم قدّر حزنه؟

قال: حزن سبعين ثكلى.

قال: فما زاد له من الأجر يا جبريل؟

قال: أجر مائة شهيد.

قال: أفتراني لاقيه؟

قال: نعم، فطابت نفس يوسف، وقال: ما أبالي بما لقيت إن رأيته .

قوله تعالى: ( وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) يعني: أعلم من حياة يوسف ما لا تعلمون.

روي أن ملك الموت زار يعقوب فقال له: أيها الملك الطيب ريحه، الحسن صورته، هل قبضت روح ولدي في الأرواح؟ قال: لا فسكن يعقوب وطمع في رؤيته، وقال: وأعلم أن رؤيا يوسف صادقة وإني وأنتم سنسجد له.

وقال السدي: لما أخبره ولده بسيرة الملك أحسَّت نفس يعقوب وطمع وقال لعله يوسف، فقال: يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه .

وروي عن عبد الله بن يزيد بن أبي فروة: أن يعقوب عليه السلام كتب كتابا إلى يوسف عليه السلام حين حبس بنيامين: من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله [ إلى ملك مصر ] أما بعد: فإنا أهل بيت وُكِّلَ بِنَا البلاء؛ أمَّا جدي إبراهيم فشدَّتْ يداه ورجلاه وألقي في النار، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وأما أبي فشدَّت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه، ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم، فقالوا: قد أكله الذئب، فذهبت عيناي [ من البكاء عليه ] ، ثم كان لي ابن وكان أخاه لأمه، وكنت أتسلَّى به، وإنك حبسته وزعمت أنه سرق، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته عليَّ وإلا دعوتُ عليك دعوةً تدرك السابع من ولدك، فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره، فأظهر نفسه على ما نذكره إن شاء الله تعالى .

 

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ( 87 ) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ( 88 ) .

قوله عز وجل: ( يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا ) تخبروا واطلبوا الخبر، ( مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ) والتحسّس بالحاء والجيم لا يبعد أحدهما من الآخر، إلا أن التحسس بالحاء في الخير وبالجيم في الشر، والتحسس هو طلب الشيء بالحاسَّة. قال ابن عباس: معناه التمسوا ( وَلا تَيْأَسُوا ) ولا تقنطوا ( مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ) أي: من رحمة الله، وقيل: من فرج الله. ( إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) .

( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ ) وفيه إضمار تقديره: فخرجوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف عليه السلام. ( قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ) أي: الشدة والجوع، ( وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ ) أي: قليلة رديئة كاسدة، لا تنفق في ثمن الطعام إلا بتجوز من البائع فيها، وأصل الإزجاء: السوق والدفع. وقيل: للبضاعة مزجاة لأنها غير نافقة، وإنما تجوز على دَفْعٍ من آخذها.

واختلفوا فيها، فقال ابن عباس: كانت دراهم رديئة زيوفا .

وقيل: كانت خَلَق الغرائر والحبال .

وقيل: كانت من متاع الأعراب من الصوف والأقط.

وقال الكلبي ومقاتل: كانت الحبة الخضراء.

وقيل: كانت من سويق المُقل .

وقيل: كانت الأدم والنعال .

( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ) أي: أعطنا ما كنت تعطينا قَبْلُ بالثمن الجيد الوافي.

( وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ) أي: تفضل علينا بما بين الثمنين الجيد والرديء ولا تنقصنا. هذا قول أكثر المفسرين.

وقال ابن جريج والضحاك: وتصدق علينا برد أخينا إلينا .

( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي ) يثيب، ( الْمُتَصَدِّقِينَ ) .

وقال الضحاك: لم يقولوا إن الله يجزيك؛ لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن.

وسئل سفيان بن عيينة: هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء سوى نبينا عليه الصلاة والسلام؟ فقال سفيان: ألم تسمع قوله تعالى: ( وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) ، يريد أن الصدقة كانت حلالا لهم.

وروي أن الحسن سمع رجلا يقول: اللهم تصدق علي، فقال: إن الله لا يتصدق وإنما يتصدق من يبغي الثواب، قل: اللهم أعطني أو تفضل عليّ .

قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ( 89 ) قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 90 ) .

( قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ) اختلفوا في السبب الذي حمل يوسف على هذا القول، قال ابن إسحاق: ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته الرقة فارفضَّ دمعه ، فباح بالذي كان يكتم منهم .

وقال الكلبي: إنما قال ذلك حين حكى لإخوته أن مالك بن ذعر قال: إني وجدت غلاما في بئر، من حاله كيت وكيت، فابتعته بكذا درهما فقالوا: أيها الملك، نحن بعنا ذلك الغلام، فغاظ يوسف ذلك وأمر بقتلهم فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولى يهوذا وهو يقول: كان يعقوب يحزن ويبكي لفقد واحد منا حتى كفّ بصره، فكيف إذا أتاه قتل بنيه كلهم؟ ثم قالوا له: إن فعلت ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا فإنه بمكان كذا وكذا، فذلك حين رحمهم وبكى، وقال ذلك القول .

وقيل: قاله حين قرأ كتاب أبيه إليه فلم يتمالك البكاء فقال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ فرقتُم بينهما، وصنعتُم ما صنعتُم إذ أنتم جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف؟ وقيل: مذنبون وعاصون. وقال الحسن: إذ أنتم شباب ومعكم جهل الشباب.

فإن قيل: كيف قال ما فعلتم بيوسف وأخيه، وما كان منهم إلى أخيه، وهم لم يسعوا في حبسه؟ قيل: قد قالوا له في الصاع ما يزال لنا بلاء، وقيل: ما رأينا منكم يا بني راحيل خيرا. وقيل: لما كانا من أم واحدة كانوا يؤذونه من بعد فَقْدِ يوسف.

( قَالُوا أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ ) قرأ ابن كثير وأبو جعفر: « إنَّك » على الخبر، وقرأ الآخرون على الاستفهام.

قال ابن إسحاق: كان يوسف يتكلم من وراء ستر فلما قال يوسف: هل علمتم ما فعلتم، كشف عنهم الغطاء ورفع الحجاب، فعرفوه.

وقال الضحاك عن ابن عباس: لما قال هذا القول تبسم يوسف فرأوا ثناياه كاللؤلؤ المنظوم فشبهوه بيوسف، فقالوا استفهاما أئنك لأنت يوسف؟.

وقال عطاء عن ابن عباس: إن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عن رأسه، وكان له في قرنه علامة وكان ليعقوب مثلها ولإسحاق مثلها ولسارة مثلها شبه الشامة، فعرفوه فقالوا: أئنك لأنت يوسف.

وقيل: قالوه على التوهم حتى، ( قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي ) ، بنيامين، ( قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ) أنعم علينا بأن جمع بيننا.

( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ ) بأداء الفرائض واجتناب المعاصي، ( وَيَصْبِرْ ) عما حرم الله عز وجل عليه. قال ابن عباس: يتقي الزنى ويصبر عن العزوبة. وقال مجاهد: يتقي المعصية ويصبر على السجن، ( فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) .

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ( 91 ) قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( 92 ) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ( 93 ) .

( قَالُوا ) معتذرين، ( تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا ) أي: اختارك الله وفضَّلك علينا، ( وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) أي: وما كنا في صنيعنا بك إلا مخطئين مذنبين. يقال: خَطِئَ خِطْئاً إذا تعمد، وأخطأ إذا كان غير متعمد .

( قَالَ ) يوسف وكان حليما، ( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) لا تعيير عليكم اليوم، ولا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم، ( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) .

فلما عّرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه، فقال: ما فعل أبي بعدي؟ قالوا: ذهبت عيناه فأعطاهم قميصه، وقال:

( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا ) أي: يعد مبصرا. وقيل: يأتيني بصيرا لأنه كان قد دعاه.

قال الحسن: لم يعلم أنه يعود بصيرا إلا بعد أن أعلمه الله عز وجل.

وقال الضحاك: كان ذلك القميص من نسج الجنة.

وعن مجاهد قال: أمره جبريل أن يرسل إليه قميصه، وكان ذلك القميص قميص إبراهيم عليه السلام، وذلك أنه جرد من ثيابه وألقي في النار عريانا، فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة، فألبسه إيّاه فكان ذلك القميص عند إبراهيم عليه السلام، فلما مات ورثه إسحاق، فلما مات ورثه يعقوب، فلما شبَّ يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في قصبة، وسدَّ رأسها، وعلَّقها في عنقه، لما كان يخاف عليه من العين، فكان لا يفارقه. فلما ألقي في البئر عريانا جاءه جبريل عليه السلام وعلى يوسف ذلك التعويذ، فأخرج القميص منه وألبسه إيّاه، ففي هذا الوقت جاء جبريل عليه السلام إلى يوسف عليه السلام وقال: أرسل ذلك القميص، فإن فيه ريح الجنة لا يقع على سقيم ولا مبتلى إلا عوفي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته وقال: ألقوه على وجه أبي يأت بصيرا، ( وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) .

وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ( 94 ) .

( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ ) أي خرجت من عريش مصر متوجهة إلى كنعان ( قَالَ أَبُوهُمْ ) أي: قال يعقوب لولد ولده، ( إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ) .

روي أن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير.

قال مجاهد: أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيام. وحكي عن ابن عباس: من مسيرة ثمان ليال.

وقال الحسن: كان بينهما ثمانون فرسخا .

وقيل: هبت ريح فصفقت القميص، فاحتملت ريح القميص إلى يعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أن ليس في الأرض من ريح الجنة، إلا ما كان من ذلك القميص، فلذلك قال: إني لأجد ريح يوسف.

( لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) تُسَفِّهوني، وعن ابن عباس: تُجَهِّلوني. وقال الضحاك: تهرِّمون فتقولون: شيخ كبير قد خرف وذهب عقله. وقيل: تضعِّفوني. وقال أبو عبيدة: تضلّلوني. وأصل الفَنَدِ: الفساد.

قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ( 95 ) .

( قَالُوا ) يعني: أولاد أولاده، ( تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) أي: خطئك القديم من ذكر يوسف لا تنساه، والضلال هو الذهاب عن طريق الصواب، فإن عندهم أن يوسف قد مات ويرون يعقوب قد لهج بذكره.

 

فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 96 ) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ( 97 ) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 98 ) .

( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ ) وهو المبشر عن يوسف، قال ابن مسعود: جاء البشير بين يدي العير. قال ابن عباس: هو يهوذا.

قال [ السدي: قال يهوذا ] أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب، فأنا أذهب إليه اليوم بالقميص فأخبره أن ولده حي فأفرحه كما أحزنته .

قال ابن عباس: حمله يهوذا وخرج حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتى أباه، وكانت المسافة ثمانين فرسخا.

وقيل: البشير مالك بن ذعر.

( أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ ) يعني: ألقى البشيرُ قميصَ يوسف على وجه يعقوب، ( فَارْتَدَّ بَصِيرًا ) فعاد بصيرا بعدما كان عمِي وعادت إليه قوته بعد الضعف، وشبابه بعد الهرم وسروره بعد الحزن.

( قَال أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) من حياة يوسف وأن الله يجمع بيننا.

ورُوي أنه قال للبشير: كيف تركت يوسف؟ قال: إنه ملك مصر، فقال يعقوب: ما أصنع بالملك على أي دين تركتَه؟ قال: على دين الإسلام، قال: الآن تمت النعمة .

( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) مذنبين.

( قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) قال أكثر المفسرين: أخَّر الدعاء إلى السَّحَر، وهو الوقت الذي يقول الله تعالى: « هل من داع فأستجيب له » فلما انتهى يعقوب إلى الموعد قام إلى الصلاة بالسحر، فلما فرغ منها رفع يديه إلى الله عز وجل وقال: اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لأولادي ما أتوا إلى أخيهم يوسف، فأوحى الله تعالى إليه أني قد غفرتُ لك ولهم أجمعين.

وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: سوف أستغفر لكم [ ربي يعني ليلة الجمعة . قال وهب: كان يستغفر لهم كل ] ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة.

وقال طاوس: أخَّر الدعاء إلى السَّحَر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء . وعن الشعبي قال: سوف أستغفر لكم ربي، قال: أسأل يوسف إن عفا عنكم أستغفر لكم ربي ( إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

روي أن يوسف كان قد بعث مع البشير إلى يعقوب مائتي راحلة وجهازا كثيرا ليأتوا بيعقوب وأهله وأولاده، فتهيأ يعقوب للخروج إلى مصر، فخرجوا وهم اثنان وسبعون من بين رجل وامرأة. وقال مسروق: كانوا ثلاثة وتسعين ، فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجنود وركب أهل مصر معهما يتلقون يعقوب، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا هذا فرعون مصر، قال: لا هذا ابنك، فلما دنا كل واحد من صاحبه ذهب يوسف يبدأ بالسلام، فقال جبريل: لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام، فقال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان .

وروي أنهما نـزلا وتعانقا. وقال الثوري: لما التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكيا، فقال يوسف: يا أبت بكيتَ حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى يا بني، ولكن خشيتُ أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك .

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ( 99 ) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَـزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 100 ) .

فذلك قوله تعالى: ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ ) أي: ضم إليه، ( أَبَوَيْهِ ) قال أكثر المفسرين: هو أبوه وخالته ليّا، وكانت أمه راحيل قد ماتت في نفاس بنيامين .

وقال الحسن: هو أبوه وأمه، وكانت حيَّة .

وفي بعض التفاسير أن الله عز وجل أحيا أمه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر .

( وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) فإن قيل: فقد قال فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه فكيف قال ادخلوا مصر [ إن شاء الله آمنين ] بعدما أخبر أنهم دخلوها؟ وما وجه هذا الاستثناء وقد حصل الدخول؟

قيل: إن يوسف إنما قال لهم هذا القول حين تلقاهم قبل دخولهم مصر. وفي الآية تقديم وتأخير، والاستثناء يرجع إلى الاستغفار وهو من قول يعقوب لبنيه سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله .

وقيل: الاستثناء يرجع إلى الأمن من الجواز لأنهم كانوا لا يدخلون مصر قبله إلا بجواز من ملوكهم، يقول: آمنين [ من الجواز إن شاء الله تعالى ، كما قال: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ( الفتح - 27 ) ] .

وقيل: « إن » هاهنا بمعنى إذْ، يريد: إذْ شاء الله، كقوله تعالى: وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( آل عمران - 139 ) . أي: إذ كنتم مؤمنين .

( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) أي: على السرير: أجلسهما. والرفع: هو النقل إلى العلو. ( وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ) يعني: يعقوب وخالته وإخوته.

وكانت تحية الناس يومئذ السجود، ولم يُرِدْ بالسجود وضعَ الجباه على الأرض، وإنما هو الانحناء والتواضع .

وقيل: وضعوا الجباه على الأرض وكان ذلك على طريق التحية والتعظيم، لا على طريق العبادة. وكان ذلك جائزا في الأمم السالفة فنسخ في هذه الشريعة .

ورُوي عن ابن عباس أنه قال: معناه: خرُّوا لله عز وجل سٌجَدًا بين يدي يوسف . والأول أصح .

( وقال ) يوسف عند ذلك: ( يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) وهو قوله: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ .

( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي ) [ ربي، أي ] : أنعم عليّ، ( إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ) ولم يقل من الجُبِّ مع كونه أشد بلاء من السجن، استعمالا للكرم، لكيلا يخجل إخوته بعدما قال لهم: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن أعظم، لأنه بعد الخروج من الجب صار إلى العبودية والرق، وبعد الخروج من السجن صار إلى الملك، ولأن وقوعه في البئر كان لحسد إخوته، وفي السجن مكافأة من الله تعالى لزلة كانت منه.

( وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ) والبدو بسيط من الأرض يسكنه أهل المواشي بماشيتهم، وكانوا أهل بادية ومواشٍ، يقال: بدَا يبدُو إذا صار إلى البادية. ( مِنْ بَعْدِ أَنْ نَـزَغَ ) أفسد، ( الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) بالحسد.

( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ ) أي: ذُو لُطف، ( لِمَا يَشَاءُ ) وقيل: معناه بِمَنْ يشاء.

وحقيقة اللطيف: الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرفق ( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

قال أهل التاريخ: أقام يعقوب بمصر عند يوسف أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش، ثم مات بمصر، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك، ومضى به حتى دفنه بالشام، ثم انصرف إلى مصر.

قال سعيد بن جبير: نُقل يعقوب عليه السلام في تابوت من ساج إلى بيت المقدس، فوافق ذلك اليوم الذي مات فيه العيص فَدُفِنَا في قبر واحد، وكانا وُلِدَا في بطن واحد، وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة .

فلما جمع الله تعالى ليوسف شمله على أن نعيم الدنيا لا يدوم سأل الله تعالى حُسنَ العاقبة، فقال:

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ( 101 ) .

( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) يعني: ملك مصر، والمُلْك: اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير. ( وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ) يعني: تعبير الرؤيا. ( فَاطِر ) أي: يا فاطر، ( السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: خالقهما ( أَنْتَ وَلِيِّي ) أي: معيني ومتولي أمري، ( فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ) يقول اقبضني إليك مسلما، ( وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) يريد بآبائي النبيين.

قال قتادة: لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف .

وفي القصة: لما جمع الله شمله وأوصل إليه أبويه وأهله اشتاق إلى ربِّه عز وجل فقال هذه المقالة.

قال الحسن: عاش بعد هذا سنين كثيرة. وقال غيره: لما قال هذا القول لم يمض عليه أسبوع حتى توفي.

واختلفوا في مدة غيبة يوسف عن أبيه، فقال الكلبي: اثنتان وعشرون سنة.

وقيل: أربعون سنة.

وقال الحسن: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد لقاء يعقوب ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة.

وفي التوراة مات وهو ابن مائة وعشر سنين، وولد ليوسف من امرأة العزير ثلاثة أولاد: أفرائيم وميشا ورحمة امرأة أيوب المبتلي عليه السلام.

وقيل: عاش يوسف بعد أبيه ستين سنة. وقيل: أكثر. واختلفت الأقاويل فيه.

وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة، فدفنوه في النيل في صندوق من رخام، وذلك أنه لما مات تشاحَّ الناس فيه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته، حتى همُّوا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث يتفرق الماء بمصر ليجري الماء عليه وتصل بركته إلى جميعهم.

وقال عكرمة: دفن في الجانب الأيمن من النيل، فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر، [ فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر ] ، فدفنوه في وسطه وقَدَّرُوا ذلك بسلسلة فأخصب الجانبان جميعا إلى أن أخرجه موسى فدفنه بقرب آبائه بالشام .

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ( 102 ) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ( 103 ) .

( ذَلِك ) الذي ذكرتُ، ( مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ ) أي: ما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب، ( إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ ) أي: عَزَمُوا على إلقاء يوسف في الجب، ( وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) بيوسف.

( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ ) يا محمد، ( وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) على إيمانهم.

ورُوي أن اليهود وقريشًا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف، فلما أخبرهم على موافقة التوراة لم يسلموا، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: إنهم لا يؤمنون وإن حرصت على إيمانهم .

 

فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 96 ) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ( 97 ) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 98 ) .

( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ ) وهو المبشر عن يوسف، قال ابن مسعود: جاء البشير بين يدي العير. قال ابن عباس: هو يهوذا.

قال [ السدي: قال يهوذا ] أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب، فأنا أذهب إليه اليوم بالقميص فأخبره أن ولده حي فأفرحه كما أحزنته .

قال ابن عباس: حمله يهوذا وخرج حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتى أباه، وكانت المسافة ثمانين فرسخا.

وقيل: البشير مالك بن ذعر.

( أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ ) يعني: ألقى البشيرُ قميصَ يوسف على وجه يعقوب، ( فَارْتَدَّ بَصِيرًا ) فعاد بصيرا بعدما كان عمِي وعادت إليه قوته بعد الضعف، وشبابه بعد الهرم وسروره بعد الحزن.

( قَال أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) من حياة يوسف وأن الله يجمع بيننا.

ورُوي أنه قال للبشير: كيف تركت يوسف؟ قال: إنه ملك مصر، فقال يعقوب: ما أصنع بالملك على أي دين تركتَه؟ قال: على دين الإسلام، قال: الآن تمت النعمة .

( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) مذنبين.

( قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) قال أكثر المفسرين: أخَّر الدعاء إلى السَّحَر، وهو الوقت الذي يقول الله تعالى: « هل من داع فأستجيب له » فلما انتهى يعقوب إلى الموعد قام إلى الصلاة بالسحر، فلما فرغ منها رفع يديه إلى الله عز وجل وقال: اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لأولادي ما أتوا إلى أخيهم يوسف، فأوحى الله تعالى إليه أني قد غفرتُ لك ولهم أجمعين.

وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: سوف أستغفر لكم [ ربي يعني ليلة الجمعة . قال وهب: كان يستغفر لهم كل ] ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة.

وقال طاوس: أخَّر الدعاء إلى السَّحَر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء . وعن الشعبي قال: سوف أستغفر لكم ربي، قال: أسأل يوسف إن عفا عنكم أستغفر لكم ربي ( إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

روي أن يوسف كان قد بعث مع البشير إلى يعقوب مائتي راحلة وجهازا كثيرا ليأتوا بيعقوب وأهله وأولاده، فتهيأ يعقوب للخروج إلى مصر، فخرجوا وهم اثنان وسبعون من بين رجل وامرأة. وقال مسروق: كانوا ثلاثة وتسعين ، فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجنود وركب أهل مصر معهما يتلقون يعقوب، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا هذا فرعون مصر، قال: لا هذا ابنك، فلما دنا كل واحد من صاحبه ذهب يوسف يبدأ بالسلام، فقال جبريل: لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام، فقال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان .

وروي أنهما نـزلا وتعانقا. وقال الثوري: لما التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكيا، فقال يوسف: يا أبت بكيتَ حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى يا بني، ولكن خشيتُ أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك .

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ( 99 ) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَـزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 100 ) .

فذلك قوله تعالى: ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ ) أي: ضم إليه، ( أَبَوَيْهِ ) قال أكثر المفسرين: هو أبوه وخالته ليّا، وكانت أمه راحيل قد ماتت في نفاس بنيامين .

وقال الحسن: هو أبوه وأمه، وكانت حيَّة .

وفي بعض التفاسير أن الله عز وجل أحيا أمه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر .

( وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) فإن قيل: فقد قال فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه فكيف قال ادخلوا مصر [ إن شاء الله آمنين ] بعدما أخبر أنهم دخلوها؟ وما وجه هذا الاستثناء وقد حصل الدخول؟

قيل: إن يوسف إنما قال لهم هذا القول حين تلقاهم قبل دخولهم مصر. وفي الآية تقديم وتأخير، والاستثناء يرجع إلى الاستغفار وهو من قول يعقوب لبنيه سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله .

وقيل: الاستثناء يرجع إلى الأمن من الجواز لأنهم كانوا لا يدخلون مصر قبله إلا بجواز من ملوكهم، يقول: آمنين [ من الجواز إن شاء الله تعالى ، كما قال: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ( الفتح - 27 ) ] .

وقيل: « إن » هاهنا بمعنى إذْ، يريد: إذْ شاء الله، كقوله تعالى: وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( آل عمران - 139 ) . أي: إذ كنتم مؤمنين .

( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) أي: على السرير: أجلسهما. والرفع: هو النقل إلى العلو. ( وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ) يعني: يعقوب وخالته وإخوته.

وكانت تحية الناس يومئذ السجود، ولم يُرِدْ بالسجود وضعَ الجباه على الأرض، وإنما هو الانحناء والتواضع .

وقيل: وضعوا الجباه على الأرض وكان ذلك على طريق التحية والتعظيم، لا على طريق العبادة. وكان ذلك جائزا في الأمم السالفة فنسخ في هذه الشريعة .

ورُوي عن ابن عباس أنه قال: معناه: خرُّوا لله عز وجل سٌجَدًا بين يدي يوسف . والأول أصح .

( وقال ) يوسف عند ذلك: ( يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) وهو قوله: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ .

( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي ) [ ربي، أي ] : أنعم عليّ، ( إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ) ولم يقل من الجُبِّ مع كونه أشد بلاء من السجن، استعمالا للكرم، لكيلا يخجل إخوته بعدما قال لهم: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن أعظم، لأنه بعد الخروج من الجب صار إلى العبودية والرق، وبعد الخروج من السجن صار إلى الملك، ولأن وقوعه في البئر كان لحسد إخوته، وفي السجن مكافأة من الله تعالى لزلة كانت منه.

( وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ) والبدو بسيط من الأرض يسكنه أهل المواشي بماشيتهم، وكانوا أهل بادية ومواشٍ، يقال: بدَا يبدُو إذا صار إلى البادية. ( مِنْ بَعْدِ أَنْ نَـزَغَ ) أفسد، ( الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) بالحسد.

( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ ) أي: ذُو لُطف، ( لِمَا يَشَاءُ ) وقيل: معناه بِمَنْ يشاء.

وحقيقة اللطيف: الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرفق ( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

قال أهل التاريخ: أقام يعقوب بمصر عند يوسف أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش، ثم مات بمصر، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك، ومضى به حتى دفنه بالشام، ثم انصرف إلى مصر.

قال سعيد بن جبير: نُقل يعقوب عليه السلام في تابوت من ساج إلى بيت المقدس، فوافق ذلك اليوم الذي مات فيه العيص فَدُفِنَا في قبر واحد، وكانا وُلِدَا في بطن واحد، وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة .

فلما جمع الله تعالى ليوسف شمله على أن نعيم الدنيا لا يدوم سأل الله تعالى حُسنَ العاقبة، فقال:

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ( 101 ) .

( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) يعني: ملك مصر، والمُلْك: اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير. ( وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ) يعني: تعبير الرؤيا. ( فَاطِر ) أي: يا فاطر، ( السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: خالقهما ( أَنْتَ وَلِيِّي ) أي: معيني ومتولي أمري، ( فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ) يقول اقبضني إليك مسلما، ( وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) يريد بآبائي النبيين.

قال قتادة: لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف .

وفي القصة: لما جمع الله شمله وأوصل إليه أبويه وأهله اشتاق إلى ربِّه عز وجل فقال هذه المقالة.

قال الحسن: عاش بعد هذا سنين كثيرة. وقال غيره: لما قال هذا القول لم يمض عليه أسبوع حتى توفي.

واختلفوا في مدة غيبة يوسف عن أبيه، فقال الكلبي: اثنتان وعشرون سنة.

وقيل: أربعون سنة.

وقال الحسن: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد لقاء يعقوب ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة.

وفي التوراة مات وهو ابن مائة وعشر سنين، وولد ليوسف من امرأة العزير ثلاثة أولاد: أفرائيم وميشا ورحمة امرأة أيوب المبتلي عليه السلام.

وقيل: عاش يوسف بعد أبيه ستين سنة. وقيل: أكثر. واختلفت الأقاويل فيه.

وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة، فدفنوه في النيل في صندوق من رخام، وذلك أنه لما مات تشاحَّ الناس فيه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته، حتى همُّوا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث يتفرق الماء بمصر ليجري الماء عليه وتصل بركته إلى جميعهم.

وقال عكرمة: دفن في الجانب الأيمن من النيل، فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر، [ فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر ] ، فدفنوه في وسطه وقَدَّرُوا ذلك بسلسلة فأخصب الجانبان جميعا إلى أن أخرجه موسى فدفنه بقرب آبائه بالشام .

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ( 102 ) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ( 103 ) .

( ذَلِك ) الذي ذكرتُ، ( مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ ) أي: ما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب، ( إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ ) أي: عَزَمُوا على إلقاء يوسف في الجب، ( وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) بيوسف.

( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ ) يا محمد، ( وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) على إيمانهم.

ورُوي أن اليهود وقريشًا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف، فلما أخبرهم على موافقة التوراة لم يسلموا، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: إنهم لا يؤمنون وإن حرصت على إيمانهم .

 

سورة الرعد

 

مكية إلا قوله: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا , وقوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا [ وهي ثلاث وأربعون آية ] .

بسم الله الرحمن الرحيم

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ( 1 ) .

( المر ) قال ابن عباس: معناه: أنا الله أعلم وأرى ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ) يعني: تلك الأخبار التي قصصتها [ عليك ] آيات التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة, ( وَالَّذِي أُنْـزِلَ إِلَيْكَ ) يعني: وهذا القرآن الذي أنـزل إليك, ( مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) أي: هو الحق فاعتصم به. فيكون محل « الذي » رفعا على الابتداء, والحق خبره.

وقيل: محلُّه خفض, يعني: تلك آيات الكتاب وآيات الذي أنـزل إليك, ثم ابتدأ: « الحق » , يعني: ذلك الحق .

وقال ابن عباس: أراد بالكتاب القرآن, ومعناه: هذه آيات الكتاب, يعني القرآن, ثم قال: وهذا القرآن الذي أنـزل إليك من ربك هو الحق.

( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) قال مقاتل: نـزلت في مشركي مكة حين قالوا: إن محمدا يقوله من تلقاء نفسه فردّ قولهم ثم بين دلائل ربوبيته, فقال عَزَّ من قائل:

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ( 2 ) .

( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) يعني: السَّواري, واحدها عمود, مثل: أديم وأَدَم, وعُمُد أيضا جمعه, مثل: رسول ورُسل.

ومعناه نفي العمد أصلا وهو الأصح, يعني: ليس من دونها دعامة تدعمها ولا فوقها علاقة تمسكها.

قال إياس بن معاوية: السماء مقبَّبة على الأرض مثل القبة

وقيل: « ترونها » راجعة إلى العمد, [ معناه ] لها عمد ولكن لا ترونها

وزعم: أن عمدها جبل قاف, وهو محيط بالدنيا, والسماء عليه مثل القبة .

( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) علا [ عليه ] ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) ذللهما لمنافع خلقه فهما مقهوران, ( كُلٌّ يَجْرِي ) أي: يجريان على ما يريد الله عز وجل, ( لأجَلٍ مُسَمًّى ) أي: إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا. [ وقال ابن عباس ] : أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما ينتهيان إليها لا يجاوزانها, ( يُدَبِّرُ الأمْرَ ) يقضيه وحده, ( يُفَصِّلُ الآيَاتِ ) يبين الدلالات, ( لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) لكي توقنوا بوعده وتصدقوه.

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 3 ) .

( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ ) بسطها, ( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ) جبالا ثابتة, واحدتها راسية, قال ابن عباس: كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض ( وَأَنْهَارًا ) وجعل فيها أنهارا. ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) أي: [ صنفين اثنين ] أحمر وأصفر, وحلوا وحامضا, ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ) أي: يلبس النهار بظلمة الليل, ويلبس الليل بضوء النهار, ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) فيستدلون. والتفكر تصرف القلب في طلب معاني الأشياء.

وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 4 ) .

( وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ) متقاربات يقرب بعضها من بعض, وهي مختلفة: هذه طيبة تنبت, وهذه سبخة لا تنبت, وهذه قليلة الريع, وهذه كثيرة الريع, ( وَجَنَّاتٌ ) بساتين, ( مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ ) رفعها كلها ابن كثير, وأبو عمرو, وحفص, ويعقوب, عطفا على الجنات, وجرَّها الآخرون نسقاً على الأعناب. والصنوان: جمع صنو, وهو النخلات يجمعهن أصل واحد.

( وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ) هي النخلة المنفردة بأصلها. وقال أهل التفسير صنوان: مجتمع, وغير صنوان: متفرق. نظيره من الكلام: قنوان جمع قنو. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في العباس: « عمّ الرجل صنو أبيه » . ولا فرق في الصنوان والقنوان بين التثنية والجمع إلا في الإعراب, وذلك أن النون في التثنية مكسورة غير منونة, وفي الجمع منونة.

( يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ ) قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب « يُسقى » بالياء أي يسقى ذلك كله بماء واحد, وقرأ الآخرون بالتاء لقوله تعالى: ( وَجَنَّاتٌ ) ولقوله تعالى من بعد « بعضها على بعض » , ولم يقل بعضه. والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نامٍٍ.

( وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ ) في الثمر والطعم. قرأ حمزة والكسائي « ويفضل » بالياء, لقوله تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ ( الرعد - 2 ) .

وقرأ الآخرون بالنون على معنى: ونحن نفضل بعضها على بعض في الأكل, وجاء في الحديث [ في قوله ] : « ونفضل بعضها على بعض في الأكل » , قال: « الفارسي, والدَّقَلُ, والحلو, والحامض » .

قال مجاهد: كمثل بني آدم, صالحهم وخبيثهم, وأبوهم واحد .

قال الحسن: هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم, ويقول: كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن عز وجل, فسطحها, فصارت قطعاً متجاورةً, فينـزل عليها المطر من السماء, فتخرج هذه زهرتها, وشجرها وثمرها ونباتها, وتخرج هذه سَبَخَها وملحها وخبيثها وكل يُسقَى بماء واحد, كذلك الناس خلقوا من آدم عليه السلام فينـزل من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع, وتقسو قلوب فتلهو.

قال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان, قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا ( الإسراء - 82 ) .

( إِنَّ فِي ذَلِكَ ) الذي ذكرت ( لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 5 ) .

( وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ) العجب تغير النفس برؤية المستبعد في العادة, والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ومعناه: إنك إن تعجب من إنكارهم النشأة الآخرة مع إقرارهم بابتداء الخلق [ من الله عز وجل ] فعجب أمرهم.

وكان المشركون ينكرون البعث, مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله تعالى, وقد تقرر في القلوب أن الإعادة أهون من الابتداء, فهذا موضع العجب.

وقيل: معناه: وإن تعجب من تكذيب المشركين واتخاذهم ما لا يضر ولا ينفع آلهة يعبدونها وهم قدْ رأوا من قدرة الله تعالى ما ضرب لهم به الأمثال فعجب قولهم, أي: فتعجب أيضا من قولهم: ( أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا ) بعد الموت, ( أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) أي: نعاد خلقا جديدا كما كنا قبل الموت.

قرأ نافع والكسائي ويعقوب « أئذا » مستفهما « إنّا » بتركه, على الخبر, ضده: أبو جعفر وابن عامر. وكذلك في « سبحان » في موضعين, والمؤمنون, والم السجدة, وقرأ الباقون بالاستفهام فيهما وفي الصافات في موضعين هكذا إلا أن أبا جعفر يوافق نافعاً في أول الصافات فيقدم الاستفهام ويعقوب لا يستفهم الثانية أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ( الصافات - 53 ) .

قال الله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ) يوم القيامة ( وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .

 

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ( 6 ) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ( 7 ) .

قوله عز وجل: ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) الاستعجال: طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته, والسيئة هاهنا هي: العقوبة, والحسنة: العافية. وذلك أن مشركي مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم يقولون: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأنفال - 32 ) .

( وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ) أي: مضت من قبلهم في الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها العقوبات. والمثلات جمع المَثُلَة بفتح الميم وضم الثاء, مثل: صَدُقَة وصَدُقَات .

( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) .

( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْهِ ) أي: على محمد صلى الله عليه وسلم ( آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) أي: علامة وحجة على نبوته, قال الله تعالى: ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ ) مُخَوِّف, ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) أي: لكل قوم نبي يدعوهم إلى الله تعالى. وقال الكلبي: داعٍٍ يدعوهم إلى الحق أو إلى الضلالة.

وقال عكرمة: الهادي محمد صلى الله عليه وسلم, يقول: إنما أنت منذر وأنت هادٍ لكل قوم, أي: داعٍٍ. وقال سعيد بن جبير: الهادي هو الله تعالى .

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ( 8 ) .

قوله تعالى: ( اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى ) من ذكر أو أنثى, سَوِيِّ الخَلْق أو ناقص الخلق, واحدا أو اثنين أو أكثر ( وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ ) أي ما تنقص ( وَمَا تَزْدَادُ ) .

قال أهل التفسير غيض الأرحام: الحيض على الحمل؛ فإذا حاضت الحامل كان نقصانا في الولد, لأن دم الحيض غذاء الولد في الرحم, فإذا أهرقت الدم ينقص الغذاء فينتقص الولد, وإذا لم تحض يزداد الولد ويتمُّ, فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم, والزيادة تمام خلقته باستمساك الدم.

وقيل: إذا حاضت ينتقص الغذاء وتزداد مدة الحمل حتى تستكمل تسعة أشهر ظاهرا, فإن رأت خمسة أيام دمًا وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام, فالنقصان في الغذاء, والزيادة في المدة .

وقال الحسن: غيضها: نقصانها من تسعة أشهر والزيادة, زيادتها على تسعة أشهر. وقيل النقصان: السَّقط, والزيادة: تمام الخلق. وأقل مدة الحمل: ستة أشهر, فقد يولد المولود لهذه المدة ويعيش .

واختلفوا في أكثرها: فقال قوم: أكثرها سنتان, وهو قول عائشة رضي الله عنها, وبه قال أبو حنيفة رحمه الله. وذهب جماعة إلى أن أكثرها أربع سنين, وإليه ذهب الشافعي رحمه الله, قال حماد بن سلمة. إنما سمي هَرِِم بن حيَّان هرمًا لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين . ( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ) أي: بتقدير وَحَدٍّ لا يجاوزه ولا يقصر عنه.

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ( 9 ) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ( 10 ) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ( 11 ) .

( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ ) الذي كل شيء دونه, ( الْمُتَعَالِ ) المستعلي على كل شيء بقدرته.

قوله تعالى: ( سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ) أي: يستوي في علم الله المُسِرّ بالقول والجاهر به, ( وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ) أي: مستتر بظلمة الليل, ( وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ) أي: ذاهب في سربه ظاهر. والسَّرْب - بفتح السين وسكون الراء- : الطريق .

قال القتيـبي: سارب بالنهار: أي متصرف في حوائجه. قال ابن عباس [ في هذه الآية ] هو صاحب ريبة, مستخفٍ بالليل, فإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم . وقيل: مستخف بالليل, أي: ظاهر, من قولهم: خفيت الشيء؛ إذا أظهرته, وأخفيته: إذا كتمته. وسارب بالنهار: أي متوارٍ داخل في سرب.

( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ ) أي: لله تعالى ملائكة يتعاقبون فيكم بالليل والنهار, فإذا صعدت ملائكة الليل جاء في عقبها ملائكة النهار, وإذا صعدت ملائكة النهار جاء في عقبها ملائكة الليل. والتعقيب: العود بعد البدء, وإنما ذكر بلفظ التأنيث لأن واحدها معقِّب, وجمعه معقِّبة, ثم جمع الجمع معقِّبات, كما قيل: أبناوات سعد ورجالات بكر.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي, أخبرنا زاهر بن أحمد, أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي, أخبرنا أبو مصعب, عن مالك, عن أبي الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يَتَعاقَبُون فيكم, ملائكة بالليل وملائكة بالنهار, ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر, ثم يَعْرُجُ الذين بَاتُوا فيكم, فيسألُهم ربهم - وهو أعلم بهم- : كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلُّون وأتيناهم وهم يصلُّون » .

قوله تعالى: ( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ) يعني: من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار, ومن خلفه: من وراء ظهره, ( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) يعني: بأمر الله, أي: يحفظونه بإذن الله ما لم يجئ المقدور, فإذا جاء المقدور خلوا عنه. وقيل: يحفظونه من أمر الله: أي مما أمر الله به من الحفظ عنه.

قال مجاهد: ما من عبد إلا وله ملك موكَّل به, يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوامّ, فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال وراءك! إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه.

قال كعب الأحبار: لولا أن الله عز وجل وكّل بكم ملائكة يَذُبُّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطَّفكم الجن. وقال عكرمة: الآية في الأمراء وحرسهم يحفظونهم من بين أيديهم ومن خلفهم .

وقيل: الآية في المَلَكَيْن القاعِدَيْن عن اليمين وعن الشمال يكتبان الحسنات والسيئات, كما قال الله تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ( ق - 17 ) . قال ابن جريج: معنى يحفظونه أي: يحفظون عليه أعماله من أمر الله, يعني: الحسنات والسيئات. وقيل: الهاء في قوله « له » : راجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال: له معقبات يعني لمحمد صلى الله عليه وسلم حراس من الرحمن من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [ يعني: من شر الجن ] وطوارق الليل والنهار .

وقال عبد الرحمن بن زيد: نـزلت هذه الآيات في عامر بن الطفيل, وأربد بن ربيعة, وكانت قصتهما على ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة, وهما عامريان, يريدان رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو جالس في المسجد في نفر من أصحابه, فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر، وكان أعور وكان من [ أجلِّ ] الناس فقال رجل: يا رسول الله, هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك, فقال: دعه فإن يرد الله به خيرا يهده.

فأقبل حتى قام عليه, فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؟

قال: « لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين » .

قال: تجعل لي الأمر بعدك.

قال: ليس ذلك إلي, إنما ذلك إلى الله عز وجل, يجعله حيث يشاء.

قال: فتجعلني على الوبر وأنت على المدر, قال: لا.

قال: فماذا تجعل لي؟

قال: أجعل لك أعِنة الخيل تغزو عليها.

قال: أوليس ذلك إليَّ اليوم؟ قم معي أكلمك. فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان [ عامر ] أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فَدُرْ من خلفه فاضربه بالسيف, فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه فدار أربد خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه, فاخترط من سيفه شبرا, ثم حبسه الله تعالى عنه, فلم يقدر على سلّه, وجعل عامر يومئ إليه, فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرأى أربد وما صنع بسيفه, فقال: اللهم اكفنيهما بما شئت. فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صحو قائظ فأحرقته, وولّى عامر هاربا وقال: يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جرداً وفتياناً مرداً.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يمنعك الله تعالى من ذلك, وأبناء قيلة يريد: الأوس والخزرج. فنـزل عامر بيت امرأة سلولية, فلما أصبح ضمَّ عليه سلاحه وقد تغير لونه, فجعل يركض في الصحراء, ويقول: ابرز يا ملك الموت, ويقول الشعر, ويقول: واللات والعزى لئن أبصرت محمدا وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذنَّهما برمحي, فأرسل الله إليه ملكاً فلطمه بجناحه فأرداه في التراب وخرجت على ركبتيه في الوقت غُدَّة عظيمة, فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية. ثم دعا بفرسه فركبه ثم أجراه حتى مات على ظهره فأجاب الله دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقتل عامر بن الطفيل بالطعن وأربد بالصاعقة, وأنـزل الله عز وجل في هذه القصة قوله: ( سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) يعني لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله . [ يعني تلك المعقبات من أمر الله ] . وفيه تقديم وتأخير.

وقال لهذين: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ) من العافية والنعمة, ( حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) من الحال الجميلة فيعصوا ربهم.

( وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا ) أي: عذابا وهلاكا ( فَلا مَرَدَّ لَهُ ) أي: لا رادَّ له ( وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ) أي: ملجأ يلجؤون إليه. وقيل: والٍٍ يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم.

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ( 12 ) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ( 13 ) .

قوله عز وجل: ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ) قيل: خوفا من الصاعقة, طمعاً في نفع المطر. وقيل: الخوف للمسافر, يخاف منه الأذى والمشقة والطمع للمقيم يرجو منه البركة والمنفعة.

وقيل: الخوف من المطر في غير مكانه وإبَّانه, والطمع إذا كان في مكانه وإبَّانه, ومن البلدان ما إذا أمطروا وقحطوا وإذا لم يمطروا أخصبوا.

( وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) بالمطر. يقال: أنشأ الله السحابة فنشأت أي: أبداها فبدت, والسحاب جمع, واحدتها سحابة, قال علي رضي الله عنه: السحاب غربال الماء.

( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) أكثر المفسرين على أن الرعد اسم ملك يسوق السحاب, والصوت المسموع منه تسبيحه .

قال ابن عباس: من سمع صوت الرعد فقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده, والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير, فإن أصابته صاعقة فعليَّ ديته.

وعن عبد الله بن الزبير: أنه كان إذا سمع صوت الرعد ترك الحديث: وقال « سبحان من يسبح الرعد بحمده, والملائكة من خيفته, ويقول: إن هذا الوعيد لأهل الأرض شديد . »

وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى: « لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل, ولأطلعت عليهم الشمس بالنهار, ولم أسمعهم صوت الرعد »

وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: الرعد ملك موكل بالسحاب يصرفه إلى حيث يؤمر, وإن بحور الماء في نقرة إبهامه, وإنه يسبح الله تعالى, فإذا سبح لا يبقى مَلَكٌ في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينـزل القطر. ( وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) أي: تسبح الملائكة من خيفة الله عز وجل وخشيته. وقيل: أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد, جعل الله تعالى له أعوانا, فهم خائفون خاضعون طائعون.

قوله تعالى: ( وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ ) جمع صاعقة, وهي: العذاب المهلك, ينـزل من البرق فيحرق من يصيبه, ( فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ) كما أصاب أربد بن ربيعة. وقال محمد بن علي الباقر: الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب الذاكر.

( وَهُمْ يُجَادِلُونَ ) يخاصمون, ( فِي اللَّهِ ) نـزلت في شأن أربد بن ربيعة حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ممَّ ربك أمن دُرٍّ أم من ياقوت أم من ذهب؟ فنـزلت صاعقة من السماء فأحرقته .

وسئل الحسن عن قوله عز وجل: ( وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ ) الآية, قال: كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم نفراً يدعونه إلى الله ورسوله. فقال لهم: أخبروني عن رب محمد هذا الذي تدعونني إليه ممَّ هو؟ من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته فانصرفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه؟ فقال: ارجعوا إليه, فرجعوا إليه فجعل لا يزيدهم على مثل مقالته الأولى, وقال: أجيب محمدا إلى رب لا أراه ولا أعرفه. فانصرفوا وقالوا: يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى وأخبث.

فقال: ارجعوا إليه, فرجعوا, فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه, وهو يقول هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة, فكانت فوق رؤوسهم, فرعدت وبرقت، ورمت بصاعقة, فاحترق الكافر, وهم جلوس, فجاؤوا يسعون ليخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاستقبلهم قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, فقالوا لهم:احترق صاحبكم.فقالوا:من أين علمتم فقالوا: أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ ) .

( وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ) قال علي رضي الله عنه: شديد الأخذ .

وقال ابن عباس: شديد الحول .

وقال الحسن: شديد الحقد .

وقال مجاهد: شديد القوة .

وقال أبو عبيدة: شديد العقوبة.

وقيل: شديد المكر.

والمِحال والمُمَاحلة: المماكرة والمغالبة.

 

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ( 14 ) .

( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) أي: لله دعوة الصدق.

قال علي رضي الله عنه: دعوة الحق التوحيد .

وقال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله .

وقيل: الدعاء بالإخلاص, والدعاء الخالص لا يكون إلا لله عز وجل .

( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) أي: يعبدون الأصنام من دون الله تعالى. ( لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ) أي: لا يجيبونهم بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضر, ( إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ) أي: إلا كباسط كفيه ليقبض على الماء [ والقابض على الماء ] لا يكون في يده شيء, ولا يبلغ إلى فيه منه شيء, كذلك الذي يدعو الأصنام, وهي لا تضر ولا تنفع, لا يكون بيده شيء.

وقيل: معناه كالرجل العطشان الذي يرى الماء من بعيد, فهو يشير بكفه إلى الماء, ويدعوه بلسانه, فلا يأتيه أبدا, هذا معنى قول مجاهد.

ومثله عن علي وعطاء: كالعطشان الجالس على شفير البئر, يمد يده إلى البئر فلا يبلغ قعر البئر إلى الماء, ولا يرتفع إليه الماء, فلا ينفعه بسط الكف إلى الماء ودعاؤه له, ولا هو يبلغ فاه، كذلك الذين يدعون الأصنام لا ينفعهم دعاؤها, وهي لا تقدر على شيء.

وعن ابن عباس: كالعطشان إذا بسط كفيه في الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف بهما الماء, ولا يبلغ الماء فاه ما دام باسطا كفيه. وهو مثل ضربه لخيبة الكفار .

( وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ ) أصنامهم, ( إِلا فِي ضَلالٍ ) يضل عنهم إذا احتاجوا إليه, كما قال: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( الأنعام - 24 وغيرها ) .

وقال الضحاك عن ابن عباس: وما دعاء الكافرين ربهم إلا في ضلال لأن أصواتهم محجوبة عن الله تعالى.

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ( 15 ) .

قوله عزّ وجل: ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا ) يعني: الملائكة والمؤمنين, ( وَكَرْهًا ) يعني: المنافقين والكافرين الذين أكرهوا على السجود بالسيف.

( وَظِلالُهُمْ ) يعني: ظلال الساجدين طوعا وكرها تسجد لله عز وجل طوعا. قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع, وظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره.

( بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) يعني إذا سجد بالغدو أو العشي يسجد معه ظله. و « الآصال » : جمع « الأصُل » , و « الأصُل » جمع « الأصيل » , وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس.

وقيل: ظلالهم أي: أشخاصُهم, بالغدو والآصال: بالبُكَرِ والعَشَايا. وقيل: سجود الظل تذليله لما أُريدَ له.

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 16 ) .

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماَوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: خالقُهما ومدبِّرهما [ فسيقولون الله ] لأنهم يقرُّون بأن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض, فإذا أجابوك فقل أنت أيضا يا محمد: « الله » . وروي أنه لما قال هذا للمشركين عطفوا عليه فقالوا: أجِِبْ أنت, فأمره الله عز وجل فقال: ( قُلِ اللَّهُ ) .

ثم قال الله لهم إلزاما للحجة: ( قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ) معناه: إنكم مع إقراركم بأن الله خالق السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء فعبدتموها من دون الله, يعني: الأصنام, وهم ( لا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا ) فكيف يملكون لكم؟

ثم ضرب لهم مثلا فقال: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ ) كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن, ( أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر « يستوي » بالياء, وقرأ الآخرون بالتاء لأنه لا حائل بين الاسم والفعل المؤنث. ( الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) أي: كما لا يستوي الظلمات والنور لا يستوي الكفر والإيمان.

( أَمْ جَعَلُوا ) أي: جعلوا, ( شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) أي: اشتبه ما خلقوه بما خلقه الله تعالى فلا يدرون ما خلق الله وما خلق آلهتهم.

( قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ثم ضرب الله تعالى مثلين للحق والباطل, فقال عز وجل:

أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ ( 17 ) .

( أَنْـزَلَ ) يعني: الله عز وجل, ( مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) يعني: المطر, ( فَسَالَتْ ) من ذلك الماء, ( أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) أي: في الصغر والكبر, ( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ ) الذي حدث من ذلك الماء, ( زَبَدًا رَابِيًا ) الزَّبَد: الخَبَثُ الذي يظهر على وجه الماء, وكذلك على وجه القِدْر, « رابياً » أي عالياً مرتفعاً فوق الماء، فالماء الصافي الباقي هو الحق, والذاهب الزائل الذي يتعلق بالأشجار وجوانب الأودية هو الباطل.

وقيل: قوله « أنـزل من السماء ماء » : هذا مَثَلٌ للقرآن, والأودية مَثَلٌ للقلوب, يريد: ينـزل القرآن, فتحمل منه القلوب على قدر اليقين والعقل والشك والجهل. فهذا أحد المَثَلَين. والمثل الآخر: قوله عز وجل: ( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ) .

قرأ حمزة والكسائي وحفص ( يُوقِدُونَ ) بالياء لقوله تعالى: ( مَا يَنْفَعُ النَّاسَ ) ولا مخاطبة هاهنا. وقرأ الآخرون بالتاء « ومما توقدون » أي: ومن الذي توقدون عليه في النار. والإيقاد: جعل النار تحت الشيء ليذوب.

( ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ ) أي: لطلب زينة, وأراد الذهبَ والفضةَ؛ لأن الحلية تُطلبُ منهما, ( أَوْ مَتَاعٍ ) أي: طلب متاع وهو ما ينتفع به, وذلك مثل الحديد, والنحاس, والرصاص, والصُّفْرـ تذاب فيتخذ منها الأواني وغيرها مما ينتفع بها, ( زَبَدٌ مِثْلُهُ ) .

( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ) أي: إذا أُذيبَ فله أيضاً زبد مثل زبد الماء, فالباقي الصافي من هذه الجواهر مثل الحق, والزبد الذي لا ينتفع به مثل الباطل.

( فَأَمَّا الزَّبَدُ ) الذي علا السيل والفِلِزّ, ( فَيَذْهَبُ جُفَاءً ) أي: ضائعا باطلا والجفاء ما رمى به الوادي من الزَّبَد, والقِدْرُ إلى جنباته. يقال: جفا الوادي وأَجْفَأ: إذا ألقى غُثاءهُ, وأَجْفَأَتِ القِدْر وجَفَأَت: إذا غَلت وألقَت زبدها, فإذا سكنت لم يبق فيها شيء.

معناه: إن الباطل وإن علا في وقتٍ فإنه يضمَحِلُّ. وقيل: « جُفَاءً » أي: متفرقا. يقال: جفأتِ الريحُ الغيَم إذا فَرَّقَتْه وذهبَت به.

( وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ ) يعني: الماء والفلز من الذهب والفضة والصفر والنحاس, ( فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ ) أي: يبقى ولا يذهب.

( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ ) جعل الله تعالى هذا مثلا للحق والباطل, أي: أَنَّ الباطل كالزبد يذهب ويضيع, والحقّ كالماء والفلز يبقى في القلوب. وقيل: هذا تسلية للمؤمنين, يعني: أن أمر المشركين كالزبد يُرى في الصورة شيئاً وليس له حقيقة, وأمرُ المؤمنين كالماءِ المستقرِّ في مكانه له البقاءُ والثبات.

لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 18 ) .

قوله تعالى: ( لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لربهم ) أجابوا لِرَبِّهِمُ فأطاعوه, ( الْحُسْنَى ) الجنة, ( وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ ) أي: لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداءً من النار, ( أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ ) قال إبراهيم النخعي: سُوء الحساب: أن يحاسبَ الرجلُ بذنبه كلّه لا يغفر له من شيء ( وَمَأْوَاهُمْ ) في الآخرة ( جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) الفِراش, أي: بئس ما مُهِِد لهم.

 

أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ( 19 ) .

قوله تعالى: ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) فيؤمن به ويعمل بما فيه, ( كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ) عنه لا يعلمُه ولا يعملُ به. قيل: نـزلت في حمزة وأبي جهل. وقيل: في عمار وأبي جهل .

فالأول حمزة أو عمار، والثاني أبو جهل, وهو الأعمى. أي: لا يستوي مَنْ يبصر الحق ويتبعُه ومَنْ لا يُبصرُه ولا يتبعُهُ.

( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ ) يتعظ, ( أُولُو الألْبَابِ ) ذوو العقول.

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ( 20 ) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ( 21 ) .

( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ) بما أمرهم الله تعالى به وفَرَضَهُ عليهم فلا يخُالفونه, ( وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ) وقيل: أراد العهدَ الذي أخذه على ذرية آدم عليه السلام حين أخرجهم من صُلبه.

( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) قيل: أراد به الإيمان بجميع الكتب والرسل ولا يفرقون بينهما. والأكثرون على أنه أراد به صلة الرحم .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان, أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرّياني, حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا ابن أبي شيبة, حدثنا سفيان بن عيينة, عن الزهري, عن أبي سلمة أنَّ عبد الرحمن بن عوف عادَ أبا الدرداء فقال - يعني عبد الرحمن- : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فيما يحكي عن ربه عز وجل: « أنا الله, وأنا الرحمن, وهي الرَّحِمُ, شققت لها من اسمي اسما, فمن وصلها وصَلْتُه ومن قطعها بَتَتُّه » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أنبأنا أبو منصور السمعاني, أخبرنا أبو جعفر الرَّياني, حدثني حميد بن زنجويه, حدثنا ابن أبي أويس ، قال: حدثني سليمان بن بلال عن معاوية بن أبي مُزَرِّد, عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرَّحِمُ فأخذت بِِحَقْوَيِ الرحمن, فقال: مَهْ, قالت: هذا مقامُ العائذ بك من القطيعة, قال: ألا ترضين أن أصِلَ مَنْ وصلك وأقطعَ مَنْ قطعكِ؟ قالت: بلى يا ربِّ, قال: فذلك لك » , ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ( محمد - 22 ) .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أنبأنا أبو منصور السمعاني, أنبأنا أبو جعفر الرَّياني, حدثنا حميد بن زنجوَيه, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا كثير بن عبد الله اليشكري, حدثنا الحسن بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ثلاثةٌ تحت العرشِ يوم القيامة: القرآنُ يُحَاجُّ العباد, له ظهرٌ وبطنٌ, والأمانةُ, والرَّحِمُ تنادي أَلا مَنْ وصَلني وصله الله ومَنْ قطعني قطَعه الله » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أنبأنا أبو منصور السمعاني, أخبرنا أبو جعفر الرَّياني, أخبرنا حميد بن زنجويه, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثني الليث بن سعد, حدثني عُقيل عن ابن شهاب أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من أحبَّ أن يُبْسَطَ له في رزقه ويُنْسَأَ له في أثره فليصلْ رحمه » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شُريح, أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي, حدثنا علي بن الجعد, حدثنا شعبة, عن عُيينة بن عبد الرحمن قال: سمعت أبي يحدِّث عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما مِنْ ذَنْبٍ أحرى أن يُعَجِّل الله لصاحبه العقُوبَة في الدنيا مع ما يُدَّخرُ له في الآخرة من البغي وقطيعةِ الرّحِمِ » .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي, أخبرنا أبو الحسين بن بشرَان, أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار, أخبرنا أحمد بن منصور الزيادي, حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر, عن الزهري, عن محمد بن جبير بن مطعم, عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يدخل الجنَّةَ قاطِعٌ » .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي, أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي, حدثنا أحمد بن إسحاق الصيدلاني, أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد بن نصر, حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين, حدثنا عمرو بن عثمان قال سمعت موسى بن طلحة يذكر عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه, أن أعرابياً عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير له فقال: أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار, قال صلى الله عليه وسلم: « تعبد الله, لا تشرك به شيئا, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة, وتصل الرحم » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور السمعاني, حدثنا أبو جعفر الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه حدثنا أبو يعلى وأبو نُعيم قالا حدثنا قطر, عن مجاهد, عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس الواصلُ بالمكافئ ولكنَّ الواصلَ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُه وَصَلَها » [ رواه محمد بن إسماعيل عن محمد بن كثير عن سفيان عن قطر وقال: إذا قطعت رحمه وصلها ] .

قوله تعالى: ( وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ) .

وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ( 22 ) .

( وَالَّذِينَ صَبَرُوا ) على طاعة الله, وقال ابن عباس: على أمر الله عز وجل. وقال عطاء: على المصائب والنوائب. وقيل: عن الشهوات. وقيل: عن المعاصي.

( ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ) طلب تعظيمه أن يخالفوه.

( وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) يعني يؤدّون الزكاة.

( وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يدفعون بالصالح من العمل السيئَ من العمل, وهو معنى قوله: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ( هود - 114 ) . وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا عملت سيئةً فاعمل بجنبها حسنةً تمحها, السِرُّ بالسر والعلانيةُ بالعلانية » .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة, أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث, أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي, أنبأنا عبد الله بن محمود, أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, حدثنا عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة, حدثني يزيد بن أبي حبيب, حدثنا أبو الخير, أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجلٍ كانت عليه درعٌ ضَيّقَةٌ قد خنقته, ثم عَمِل حسنة, فانفكَّت عنه حلقة, ثم عمل أخرى فانفكت أخرى, حتى يخرج إلى الأرض » .

وقال ابن كيسان: معنى الآية: يدفعون الذنب بالتوبة.

وقيل: لا يكافئون الشَّر بالشِّر, ولكن يدفعون الشَّر بالخير.

وقال القتيـبي: معناه: إذا سُفِهَ عليهم حَلِمُوا, فالسفَهُ: السَّيِّئَةُ, والحلمُ: الحسنة.

وقال قتادة: ردُّوا عليهم معروفا, نظيره قوله تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ( الفرقان - 63 ) .

وقال الحسن: إذا حُرِمُوا أعطوا ، وإذا ظُلِمُوا عَفَوْا ، وإذا قُطِعُوا وصلوا.

قال عبد الله بن المبارك: هذه ثمان خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنة.

( أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) يعني الجنة, أي: عاقبتهم دار الثواب. ثم بيّن ذلك فقال: ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) .

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ( 23 ) .

( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) بساتين إقامة, ( يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ) قيل: من أبواب الجنة. وقيل: من أبواب القصور.

سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( 24 ) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ( 25 ) .

( سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) أي: يقولون سلام عليكم.

وقيل: يقولون: سلَّمكم الله من الآفات التي كنتم تخافونَ منها.

قال مقاتل: يدخلون عليهم في مقدار يوم وليلة من أيام الدنيا ثلاث كرَّات, معهم الهدايا والتحف من الله عز وجل, يقولون سلام عليكم, ( بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة, أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث, أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي, أخبرنا عبد الله بن محمود, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن بقية بن الوليد, حدثني أرطاة بن المنذر قال: سمعت رجلا من مشيخة الجند يقال له أبو الحجاج يقول: جلست إلى أبي أمامة فقال: إن المؤمن ليكون متّكئًا على أريكته إذا أدخل الجنة, وعنده سِمَاطَان من خَدَمٍٍ, وعند طرف السِّماطين باب مبوَّبٌ . فيُقْبِلُ مَلَك من ملائكة الله يستأذن, فيقوم أقصى الخدم إلى الباب, فإذا هو بالمَلك يستأذن, فيقول للذي يليه: مَلَك يستأذن ويقول الذي يليه للذي يليه مَلَك يستأذن كذلك حتى يبلغ المؤمن, فيقول: ائذنوا له, [ فيقول أقربهم إلى المؤمن ] : ائذنوا له, [ ويقول الذي يليه للذي يليه: ائذنوا له ] كذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب, فيفتح له فيدخل, فيسلم ثم ينصرف .

( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) هذا في الكفار. ( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) أي: يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض. وقيل: يقطعون الرحم . ( وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) أي: يعملون بالمعاصي, ( أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) يعني: النار, وقيل: سوء المنقلب لأن منقلب الناس دُورُهم.

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ ( 26 ) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ( 27 ) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( 28 ) .

قوله عز وجل: ( اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) أي: يُوسِّع على من يشاء ويُضيقُ على من يشاء.

( وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يعني: مشركي مكة أَشروا وبَطَروا, والفرح: لذة في القلب بِنَيْل المشتهى, وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام.

( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ ) أي: قليل ذاهب. قال الكلبي: كمثل السُكرجةِ والقَصعة والقدَح والقِدرِ ينتفع بها [ ثم تذهب ] .

( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) من أهل مكة, ( لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) [ أي: يهدي إليه من يشاء بالإنابة. وقيل: يرشدُ إلى دينه من يرجع إليه بقلبه ] .

( الَّذِينَ آمَنُوا ) في محل النصب, بدل من قوله: « من أَنَابَ » , ( وَتَطْمَئِنُّ ) تسكن, ( قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ) قال مقاتل: بالقرآن, والسُّكون يكون باليقين, والاضطراب يكونُ بالشك, ( أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) تسكن قلوب المؤمنين ويستقر فيها اليقين.

قال ابن عباس: هذا في الحَلِفِ, يقول: إذا حلف المسلم بالله على شيء تسكن قلوبُ المؤمنينَ إليه .

فإن قيل: أليس قد قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِر اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ( الأنفال - 2 ) فكيف تكونُ الطمأنينةُ والوَجَل في حالةٍ واحدةٍ؟

قيل: الوَجَل عند ذكر الوعيد والعقاب, والطمأنينة عند ذكر الوعد والثواب, فالقلوب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه, وتطمئن إذا ذكرت فضل الله وثوابه وكرمه.

 

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ( 29 ) .

( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ابتداءٌ, ( طُوبَى لَهُمْ ) خبره.

واختلفوا في تفسير ( طُوبَى ) .

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: فَرَحٌ لهم وقُرّةُ عين.

وقال عكرمة: نِعْمَ مالهم.

وقال قتادة: حسنى لهم.

وقال معمر عن قتادة: هذه كلمة عربية, يقول الرجل للرجل: طوبى لك، أي: أصبت خيرا.

وقال إبراهيم: خير لهم وكرامة.

وقال الفراء: [ أصله من الطيب, والواو فيه لضمة الطاء, وفيه لغتان, تقول العرب: طوباك وطوبى لك أي: لهم الطيب ] .

( وَحُسْنُ مَآبٍ ) أي: حسن المنقلب.

قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: طوبى اسم الجنة بالحبشية.

قال الربيع: هو البستان بلغة الهند.

وروي عن أبي أمامة وأبي هريرة وأبي الدرداء قالوا: [ طوبى شجرة في الجنة تُظِلُّ الجنانَ كلها. وقال عبيد بن عمير ] : هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبي صلى الله عليه وسلم, وفي كل دار وغرفةٍ غصن منها لم يخلق الله لوناً ولا زهرةً إلا وفيها منها إلا السواد, ولم يخلق الله تعالى فاكهةً ولا ثمرة إلا وفيها منها. تنبع من أصلها عينان: الكافور والسلسبيل.

قال مقاتل: كل ورقة منها تُظِلُّ أمة عليها مَلَكٌ يُسبِّح الله عز وجل بأنواع التسبيح .

وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما طوبى؟ قال: « شجرةٌ في الجنة مسيرة مائة سنة, ثيابُ أهل الجنة تخرجُ من أكمَامِها » .

وعن معاوية بن قُرّة عن أبيه يرفعه: « طوبى شجرةٌ غرسها الله تعالى بيده, ونفخَ فيها من رُوحه, تنبت الْحُلِيَّ والحُلَل وإن أغصانها لَتُرى من وراء سُور الجنة » .

أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة, أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث, أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي, أخبرنا عبد الله بن محمود, أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, حدثنا عبد الله بن المبارك عن إسماعيل بن أبي خالد, عن زيادٍ مولى بني مخزوم, أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إنّ في الجنة لشجرةً يسير الراكب في ظلِّها مائة سنةٍ [ لا يقطعها ] اقرؤوا إن شئتم: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ( الواقعة - 30 ) فبلغ ذلك كعباً فقال: صدق والذي أنـزل التوراة على موسى عليه السلام والقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم, لو أنّ رجلا ركب حقّةً أو جذعة ثم دار بأصل تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هَرِماً, إن الله تعالى غرسها بيده ونفخ فيها من رُوحه, وإنّ أفنانها لمن وراءِ سور الجنة, ما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة .

وبهذا الإسناد عن عبد الله بن المبارك عن معمر عن الأشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: في الجنة شجرة يقال لها طوبى, يقول الله عز وجل لها: تفتَّقِي لعبدي عما شئت فتنفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما شاء, يفتق له عن الراحلة برحلها وزمامها [ وهيئتها ] كما شاء وعن الثياب .

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ( 30 ) .

قوله عز وجل ( كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ ) كما أرسلنا الأنبياء إلى الأمم أرسلناك إلى هذه الأمة, ( قَدْ خَلَتْ ) مضت, ( مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ ) لتقرأ, ( عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ) .

قال قتادة, ومقاتل, وابن جريج: الآية مدنية نـزلت في صُلح الحديبية, وذلك أن سهيل بن عمرو لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: اكتب « بسم الله الرحمن الرحيم » , قالوا: لا نعرف الرّحمن إلا صاحب اليمامة - يعنون مسيلمة الكذاب- اكتب كما كنتَ تكتب: « باسمك اللهم » , فهذا معنى قوله: ( وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ) .

والمعروف أن الآية مكية, وسبب نـزولها: أن أبا جهل سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحِجْر يدعُو يا الله يا رَحمن, فرجع إلى المشركين فقال: إن محمداً يدعو إلهين؛ يدعو الله, ويدعو إلهاً آخر يسمى الرحمن, ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فنـزلت هذه الآية, ونـزل قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ( الإسراء - 110 ) .

وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها نـزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: اسجدوا للرحمن, قالوا: وما الرحمن ؟ قال الله تعالى: ( قُلْ ) لهم يا محمد إنَّ الرحمن الذي أنكرتم معرفته, ( هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) اعتمدتُ ( وَإِلَيْهِ مَتَابِ ) أي: توبتي ومرجعي.

وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( 31 ) .

قوله عز وجل: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ) الآية. نـزلت في نفر من مشركي مكة؛ منهم أبو جهل بن هشام, وعبد الله بن أبي أمية؛ جلسوا خلف الكعبة وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فأتاهم, فقال له عبد الله بن أبي أمية: إن سرَّك أن نتبعك فسيِّر جبال مكة بالقرآن فأذهبها عنا حتى تنفسح, فإنها أرض ضيقة لمزارعنا, واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً, لنغرس فيها الأشجار ونـزرع, ونتخذ البساتين, فلستَ كما زعمت بأهون على ربك من داود عليه السلام حيث سخَّر له الجبال تُسبح معه, أو سخِّر لنا الريحَ فنركبَها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا ونرجع في يومنا, فقد سُخرت الريحُ لسليمان كما زعمتَ, ولستَ بأهون على ربك من سليمان, وأَحْيِ لنا جدَّك قُصَيّاً أو مَنْ شئت من آبائنا وموتانا لنسأله عن أمرك أحقٌّ ما تقول أم باطل؟ فإن عيسى كان يحيي الموتى, ولستَ بأهون على الله منه فأنـزل الله عز وجل: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ) فأذهبت عن وجه الأرض, ( أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ ) أي: شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً ( أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ) واختلفوا في جواب « لو » :

فقال قوم جوابه محذوف, اكتفى بمعرفةِ السامعين مرادَه وتقديره: لكان هذا القرآن, كقول الشاعر: .

فأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

أراد: لرددناه, وهذا معنى قول قتادة قال: لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم.

وقال آخرون: جواب لو مقدَّم. وتقدير الكلام: وهم يكفرون بالرحمن « ولو أن قرآنا سيرت به الجبال » كأنه قال: لو سيرت به الجبال « أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى » لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا, لما سبقَ من علمنا فيهم, كما قال: وَلَوْ أَنَّنَا نَـزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ( الأنعام - 111 ) ثم قال:

( بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا ) أي: في هذه الأشياء إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل.

( أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا ) قال أكثر المفسرين: معناه أفلم يعلم. قال الكلبي: هي لغة النَّخَع .

وقيل: لغة هوازن, يدل عليه قراءة ابن عباس: « أفلم يتبين الذين آمنوا » .

وأنكر الفراء أن يكون ذلك بمعنى العلم, وزعم أنه لم يسمع أحدا من العرب يقول: يئست, بمعنى: علمت, ولكن معنى العلم فيه مضمر .

وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا هذا من المشركين طمعوا في أن يفعل الله ما سألوا فيؤمنوا فنـزل: ( أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا ) يعني: الصحابة رضي الله عنهم أجمعين من إيمان هؤلاء, أي لم ييئسوا علما, وكلُّ مَنْ علم شيئاً يئس من خلافه, يقول: ألم ييئسهم العلمُ: ( أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ) .

( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا ) من كفرهم وأعمالهم الخبيثة ( قَارِعَةٌ ) أي: نازلة وداهية تقرعهم من أنواع البلاء, أحياناً بالجدب, وأحياناً بالسلب, وأحياناً بالقتل والأسر.

وقال ابن عباس: أراد بالقارعة: السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثهم إليهم.

( أَوْ تَحُلُّ ) يعني: السرية والقارعة, ( قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ ) وقيل: أو تحلُّ: أي تنـزل أنت يا محمد بنفسك قريبا من ديارهم, ( حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ) قيل: يوم القيامة. وقيل: الفتح والنصر وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه. ( إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) وكان الكفار يسألون هذه الأشياء على سبيل الاستهزاء فأنـزل الله تسليةً لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ( 32 ) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 33 ) .

( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ) كما استهزؤوا بك, ( فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) أمهلتهم وأطلت لهم المدة, ومنه « المَلَوانِ » , وهما: الليل والنهار, ( ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ) عاقبتهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار, ( فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) أي: عقابي لهم.

( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) أي: حافظها, ورازقها, وعالم بها, ومجازيها بما عملت. وجوابه محذوف, تقديره: كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه.

( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ ) بينوا أسماءهم.

وقيل: صِفُوهم ثم انظروا: هل هي أَهْل لأن تُعبد؟

( أَمْ تُنَبِّئُونَهُ ) أي: تُخبرون الله تعالى: ( بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ ) فإنه لا يعلم لنفسه شريكاً ولا في الأرض إلها غيره, ( أَمْ بِظَاهِرٍ ) يعني: أم تتعلقون بظاهر, ( مِنَ الْقَوْلِ ) مسموعٍٍ, وهو في الحقيقة باطل لا أصل له.

وقيل: بباطل من القول: قال الشاعر:

وعَيَّرنـي الواشـون أنـي أحبها وتلك شَكاةٌ ظـاهرٌ عنـك عـارُها

أي: زائل .

( بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ ) كيدهم. وقال مجاهد: شركهم وكذبهم على الله.

( وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ) أي: صرفوا عن الدين.

قرأ أهل الكوفة ويعقوب ( وَصُدُّوا ) وفي حم المؤمن ( وَصُدَّ ) بضم الصاد فيهما, وقرأ الآخرون بالفتح لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ( الحج - 25 ) , وقوله الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ( النحل - 88 وغيرها ) .

( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ) بخذلانه إياه, ( فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) .

لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ( 34 ) .

( لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) بالقتل والأسر, ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ ) أشد, ( وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) مانع يمنعهم من العذاب.

 

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ( 35 ) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ( 36 ) .

قوله عز وجل: ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) أي: صفة الجنة, كقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى ( النحل - 60 ) أي: الصفة العليا, ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي: صفة الجنة التي وعد المتقون أن الأنهار تجري من تحتها.

وقيل: « مثل » صلةٌ مجازُها « الجنة التي وُعد المتقون تجري من تحتها الأنهار » .

( أُكُلُهَا دَائِمٌ ) أي: لا ينقطع ثمرها ونعيمها, ( وَظِلُّهَا ) أي: ظلها ظليل, لا يزول, وهو ردٌّ على الجهمية حيث قالوا إن نعيم الجنة يفنى .

( تِلْكَ عُقْبَى ) أي: عاقبة ( الَّذِينَ اتَّقَوْا ) يعني: الجنة, ( وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) .

قوله عز وجل: ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) يعني: القرآن, وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ( يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ ) من القرآن, ( وَمِنَ الأحْزَابِ ) يعني: الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهم اليهود والنصارى, ( مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ) هذا قول مجاهد وقتادة .

وقال الآخرون: كان ذكر الرحمن قليلا في القرآن في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة, فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به فأنـزل الله سبحانه وتعالى: ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ) يعني: مشركي مكة حين كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصلح: بسم الله الرحمن الرحيم , قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة, يعنون مسيلمة الكذاب, فأنـزل الله عز وجل وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ( الأنبياء - 36 ) وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ( الرعد - 30 ) . وإنما قال « بعضه » لأنهم كانوا لا ينكرون ذكر الله وينكرون ذكر الرحمن.

( قُلْ ) يا محمد, ( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ) أي: مرجعي.

وَكَذَلِكَ أَنْـزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ ( 37 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ( 38 ) .

( وَكَذَلِكَ أَنْـزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا ) يقول: كما أنـزلنا إليك الكتابَ يا محمد, فأنكره الأحزاب, كذلك أنـزلنا الحكم والدين عربياً. نُسِبَ إلى العرب لأنه نـزل بلغتهم فكذب به الأحزاب. وقيل: نظم الآية: كما أنـزلتُ الكتبَ على الرسل بلغاتهم, فكذلك أنـزلنا عليك الكتاب حكماً عربياً.

( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ) في الملة. وقيل: في القبلة, ( بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ ) يعني: من ناصر ولا حافظ.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ ) روي أن اليهود, - وقيل: إن المشركين- قالوا: إنَّ هذا الرجل ليست له همة إلا في النساء فأنـزل الله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ) وما جعلناهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون.

( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ) هذا جواب عبد الله بن أبي أمية. ثم قال:

( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) يقول: لكل أمر قضاهُ اللهُ كتابٌ قد كتبه فيه ووقت يقع فيه.

وقيل: لكل آجل أجَّلَهُ الله كتاب أثبت فيه. وقيل: فيه تقديم وتأخير, تقديره: أي, لكل كتاب أجلٌ ومدة, أي: الكتب المنـزلة لكل واحدٍ منها وقت ينـزل فيه.

يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( 39 ) .

( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو, وعاصم ويعقوب « ويثبتُ » بالتخفيف وقرأ الآخرون بالتشديد. واختلفوا في معنى الآية:

فقال سعيد بن جبير, وقتادة: يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله, ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه .

وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة .

وروينا عن حذيفة بن أُسَيْد عن النبي صلى الله عليه وسلم: « يدخُلُ المَلَكُ على النُّطْفَةِ بعدما تستقرُّ في الرحم بأربعين, أو خمس وأربعين ليلة, فيقول: يا رب أَشَقِي أم سعيد؟ فَيُكْتَبَانِ, فيقول: إيْ ربِّ أذكرٌ أم أنثى؟ فَيُكْتَبَانِ, ويُكْتَبُ عملُه وأثرُه وأجلُه ورزقه, ثم تطوى الصحف فلا يُزاد فيها ولا يُنْقَصُ » .

وعن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما- أنهما قالا يمحو السعادةَ والشقاوةَ أيضاً, ويمحو الرِزق والأجلَ ويثبتُ ما يشاء.

وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها, وإن كنت كتبت عليَّ الشقاوة فامحني, وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة, فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. ومثله عن ابن مسعود.

وفي بعض الآثار: أن الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فترد إلى ثلاثة أيام, والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيمد إلى ثلاثين سنة.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور السمعاني, حدَّثنا أبو جعفر الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثني الليث بن سعد, حدثني زيادة بن محمد الأنصاري, عن محمد بن كعب القرظي, عن فضالة بن عبيد، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ينـزل الله عز وجل في آخر ثلاث ساعات يَبْقَيْنَ من الليل, فينظر في الساعة الأولى منهن في أم الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت »

وقيل: معنى الآية: إنّ الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم, فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثوابٌ ولا عقاب, مثل قوله: أكلت, شربت, دخلت, خرجت, ونحوها من كلام هو صادق فيه, ويثبت ما فيه ثواب وعقاب, هذا قول الضحاك والكلبي.

وقال الكلبي: يكتب القولَ كله, حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب.

وقال عطية عن ابن عباس: هو الرجل يعمل بطاعة الله عز وجل ثم يعود لمعصيةِ الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو, والذي يثبت: الرجل يعمل بطاعة الله, فيموت وهو في طاعةِ الله عز وجل فهو الذي يثبت.

وقال الحسن: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) أي من جاء أجلهُ يذهب به ويثبت مَنْ لم يجئ أجلُهُ إلى أجله.

وعن سعيد بن جبير قال: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) من ذنوب العباد فيغفرها ويثبت ما يشاء فلا يغفرها.

وقال عكرمة: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) من الذنوب بالتوبة, ويثبت بدل الذنوب حسنات, كما قال الله تعالى: فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان - 70 ) . وقال السدي: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) يعني القمر ( وَيُثْبِتُ ) يعني الشمس, بيانه قوله تعالى: فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ( الإسراء - 12 ) .

وقال الربيع: هذا في الأرواح يقبضها الله عند النوم, فمن أراد موتَه مَحاه فأمسكه, ومن أراد بقاءه أثبته وردَّه إلى صاحبه, بيانه قوله عز وجل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا الآية ( الزمر - 42 ) . ( وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) أي: أصل الكتاب, وهو اللوح المحفوظ الذي لا يبدَّل ولا يغير.

وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: هما كتابان: كتابٌ سوى أم الكتاب, يمحو منه ما يشاء ويثبتُ, وأم الكتاب الذي لا يُغيّر منه شيء.

وعن عطاء عن ابن عباس قال: إن لله تعالى لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام, من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت, لله في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) وسأل ابن عباس كعباً عن أم الكتاب؟ فقال: علم الله, ما هو خالق, وما خَلْقُه عاملون .

وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ( 40 ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 41 ) .

( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ) من العذاب قبل وفاتك, ( أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ) قبل ذلك, ( فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ ) ليس عليك إلا ذلك, ( وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ) الجزاء يوم القيامة.

قوله تعالى ( أَوَلَمْ يَرَوْا ) يعني: أهل مكة, الذين يسألون محمداً صلى الله عليه وسلم الآيات, ( أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) أكثر المفسرين على أن المراد منه فتح ديار الشرك, فإن ما زاد في ديار الإسلام فقد نقص من ديار الشرك, يقول: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) فنفتَحُها لمحمد أرضاً بعد أرض حوالي أرضهم, أفلا يعتبرون؟ هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة .

وقال قوم: هو خراب الأرض, معناه: أَو لَمْ يروا أنا نأتي الأرض فنخربها, ونُهلك أهلَها, أفلا يخافون أن نفعل بهم ذلك ؟

وقال مجاهد: هو خراب الأرض وقبض أهلها .

وعن عكرمة قال: قبض الناس. وعن الشعبي مثله.

وقال عطاء وجماعة: نقصانها موت العلماء, وذهاب الفقهاء .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أنبأنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني مالك, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتَّخذ الناس رُؤساءَ جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضَلُّوا وأضَلُّوا » .

وقال الحسن: قال عبد الله بن مسعود: موتُ العالم ثلمةٌ في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بالعلم قبل أن يُقبض وقَبضُه ذهابُ أهله .

وقال علي رضي الله عنه: إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كفّ لم تَعُدْ.

وقال سليمان: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخِرُ, فإذا هلك الأولُ قبل أن يتعلّم الآخر هَلكَ الناس.

وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: هلاك عُلمائهم .

( وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) لا رادَّ لقضائه, ولا ناقض لحكمه, ( وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) .

وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ( 42 ) .

( وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يعني: من قبل مشركي مكة, والمكر: إيصالُ المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر.

( فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا ) أي: عند الله جزاء مكرهم وقيل: إن الله خالق مكرهم جميعا, بيده الخيرُ والشرُ, وإليه النفع والضر, فلا يضر مَكْرُ أحدٍ أحدا إلا بإذنه.

( يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ ) قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو « الكافر » على التوحيد, وقرأ الآخرون: ( الْكُفَّارُ ) على الجمع. ( لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ) أي: عاقبة الدار الآخرة حين يدخلون النار, ويدخل المؤمنون الجنة.

 

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( 43 ) .

( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) إني رسوله إليكم ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) يريد: مؤمني أهل الكتاب يشهدون أيضاً على ذلك.

قال قتادة: هو عبد الله بن سلام .

وأنكر الشعبي هذا وقال: السورة مكية, وعبد الله بن سلام أسلم بالمدينة.

وقال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) أهو عبد الله بن سلام؟ فقال: وكيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية ؟

وقال الحسن ومجاهد: ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) هو الله عز وجل يدل عليه: قراءة عبد الله بن عباس, ( وَمِنْ عندِه ) بكسر الميم والدال, أي: من عند الله عز وجل, وقرأ الحسن وسعيد بن جبير: ( وَمِنْ عِندِه ) بكسر الميم والدال ( عُلِم الْكِتَابِ ) على الفعل المجهول دليل هذه القراءة قوله تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ( الكهف - 65 ) وقوله: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ( الرحمن - 1, 2 ) .

 

سورة إبراهيم

 

مكية [ وهي إحدى وخمسون ] آية إلا آيتين من قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا إلى قوله: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ

بسم الله الرحمن الرحيم

الر كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( 1 ) .

( الر كِتَابٌ ) أي: هذا كتاب ( أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ) يا محمد يعني: القرآن, ( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) أي: لتدعوهم من ظلمات الضلالة إلى نور الإيمان . ( بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) [ بأمر ربهم ] .

وقيل: بعلم ربهم .

( إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) أي: إلى دينه, و « العزيز » , هو الغالب, و « الحميد » : هو المستحق للحمد.

اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ( 2 ) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ( 3 ) .

( اللَّهِ الَّذِي ) قرأ أبو جعفر, وابن عامر: « اللهُ » بالرفع على الاستئناف, وخبره فيما بعده. وقرأ الآخرون بالخفض نعتًا للعزيز الحميد . وكان يعقوب إذا وصل خفض.

وقال أبو عمرو: الخفض على التقديم والتأخير, مجازه: إلى صراط الله العزيز الحميد ( الَّذِي لَهُ ما فٍي السماوات وَمَا فِي الأرضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) .

( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ) يختارون, ( الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) أي: يمنعون الناس عن قبول دين الله, ( وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) أي: يطلبونها زيغا وميلا يريد: يطلبون سبيل الله جائرين عن القصد.

وقيل: الهاء راجعة إلى الدنيا, معناه: يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق, أي: لجهة الحرام. ( أُولَئِكَ فِي ضَلال بَعِيدٍ ) .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 4 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( 5 ) .

قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) بلغتهم ليفهموا عنه. فإن قيل: كيف هذا وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى كافة الخلق؟

قيل: بُعِث من العرب بلسانهم, والناس تَبَعٌ لهم, ثم بثَّ الرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله عز وجل ويترجمون لهم بألسنتهم .

( فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) أي: من الكفر إلى الإيمان بالدعوة, ( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ) قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة: بنعم الله

وقال مقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة. يقال: فلان عالم بأيام العرب, أي بوقائعهم, وإنما أراد بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة, فاجتزأ بذكر الأيام عنها لأنها كانت معلومة عندهم .

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) و « الصبار » : الكثير الصبر, و « الشكور » : الكثير الشكر, وأراد: لكل مؤمن, لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين.

 

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 6 ) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ( 7 ) .

( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ) قال الفراء: العلة الجالبة لهذه الواو أن الله تعالى أخبرهم أن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح, وبالتذبيح, وحيث طرح الواو في « يذبِّحون » و « يقتِّلون » أراد تفسير العذاب الذي كانوا يسومونهم ( وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) يتركوهن أحياء ( وَفِي ذَلِكُمْ بَلاء مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) .

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ) أي: أعلم, يقال: أذَّن وتأذَّن بمعنى واحد, مثل أَوْعَدَ وتَوَعَّدَ, ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ ) نعمتي فآمنتم وأطعتم ( لأزِيدَنَّكُمْ ) في النعمة.

وقيل: الشكر: قيد الموجود, وصيد المفقود.

وقيل: لئن شكرتم بالطاعة لأزيدنكم في الثواب.

( وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ) نعمتي فجحدتموها ولم تشكروها, ( إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) .

وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 8 ) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ( 9 ) .

( وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) أي: غنيٌّ عن خلقه, حميدٌ: محمود في أفعاله, لأنه فيها متفضِّل وعادل.

( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ ) خبر الذين, ( مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ ) يعني: مَنْ كان بعد قوم نوح وعاد وثمود.

ورُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ثم قال: كذب النسَّابُون .

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: بين إبراهيم وبين عدنان ثلاثون قرنا لا يعلمهم إلا الله تعالى .

وكان مالك بن أنس يكره أن ينسِبَ الإنسان نفسه أبًا إلى آدم, وكذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم أولئك الآباءَ أحدٌ إلا الله عز وجل.

( جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) بالدلالات الواضحات, ( فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ) قال ابن مسعود: عضوا على أيديهم غيظا كما قال عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ( آل عمران - 119 ) .

قال ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم .

قال مجاهد وقتادة: كذبوا الرسل وردوا ما جاؤوا به يقال: رددت قول فلان في فيه أي كذبته.

وقال الكلبي: يعني أن الأمم ردُّوا أيديهم في أفواه أنفسهم, أي: وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة إلى الرسل أنِ اسكتوا .

وقال مقاتل: فردوا أيديهم على أفواه الرسل يسكتونهم بذلك .

وقيل: الأيدي بمعنى النِّعم. معناه: ردوا ما لو قبلوا كانت أيادي ونعمًا في أفواههم, أي: بأفواههم, يعني بألسنتهم.

( وَقَالُوا ) يعني الأمم للرسل, ( إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) موجب للريبة موقع للتهمة.

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 10 ) .

( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ) هذا استفهام بمعنى نفي ما اعتقدوه, ( فَاطِرِ السماواتِ وَالأرْضِ ) خالقهما ( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) أي: ذنوبكم و « من » صلة, ( وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) إلى حين استيفاء آجالكم فلا يعاجلكم بالعذاب.

( قَالُوا ) للرسل: ( إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) في الصورة, ولستم ملائكة وإنما ( تُرِيدُونَ ) بقولكم, ( أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) حجة بينة على صحة دعواكم.

 

قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 11 ) وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ( 12 ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ( 13 ) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ( 14 ) .

( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) بالنبوة والحكمة, ( وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

( وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ) وقد عرفنا أن لا نَنَالَ شيئا إلا بقضائه وقدره, ( وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ) بيَّنَ لنا الرشد, وبصَّرنَا طريق النجاة. ( وَلَنَصْبِرَنَّ ) اللام لام القسم, مجازه: والله لنصبرَن, ( عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) .

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) يَعْنُون: إلا أن ترجعوا, أو حتى ترجعوا إلى ديننا .

( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ) .

( وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) أي: من بعد هلاكهم.

( ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي ) أي: قيامه بين يدي كما قال: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن - 46 ) , فأضاف قيام العَبدِ إلى نفسه, كما تقول: نَدِمتُ على ضربك، أي: على ضربي إياك, ( وَخَافَ وَعِيدِ ) أي عقابي.

وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ( 15 ) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ( 16 ) .

قوله عز وجل: ( وَاسْتَفْتَحُوا ) أي: استنصروا. قال ابن عباس ومقاتل: يعني الأمم, وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذِّبْنا, نظيره قوله تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ( الأنفال - 32 ) .

وقال مجاهد وقتادة: واستفتحوا يعني الرسل، وذلك أنهم لما يئسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب كما قال نوح عليه السلام, رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ( نوح - 26 ) وقال موسى عليه السلام: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهَمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( يونس - 88 ) .

, الآية

( وَخَابَ ) خسر. وقيل: هلك, ( كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) والجبَّار: الذي لا يرى فوقه أحدا. والجبرية: طلب العلو بما لا غاية وراءه . وهذا الوصف لا يكون إلا لله عز وجل.

وقيل: الجبَّار: الذي يجبر الخلق على مرادهِ, والعنيد: المعاند للحق ومجانبه. قاله مجاهد.

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- : هو المُعْرض عن الحق.

وقال مقاتل: هو المتكبر.

وقال قتادة: « العنيدُ » الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله .

( مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ) أي: أمامه, كقوله تعالى وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ ( الكهف - 79 ) أي: أمامهم .

قال أبو عبيدة: هو من الأضداد .

وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الأمر من ورائك يريد أنه سيأتيك, وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه .

وقال مقاتل: « من ورائه جهنم » أي: بعده .

( وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ) أي: من ماءٍ هو صديد, وهو ما يسيل من أبدان الكفار من القَيْح والدم .

وقال محمد بن كعب: ما يسيل من فُروج الزُّناةِ, يُسْقَاه الكافر .

يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ( 17 ) .

( يَتَجَرَّعُهُ ) أي: يتحسَّاهُ ويشربه, لا بمرةٍ واحدة, بل جرعةً جرعةً, لمرارتِه وحرارته, ( ولا يَكَادُ يُسِيغُهُ ) و « يكاد » : صلة, أي: لا يسيغه, كقوله تعالى: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ( النور - 40 ) أي: لم يَرَهَا.

قال ابن عباس - رضي الله عنهما- : لا يجيزه.

وقيل: معناه يكاد لا يسيغه, ويسيغه فيغلي في جوفه.

أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة, أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث, أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي, أخبرنا عبد الله بن محمود, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن صفوان بن عمرو, عن عبد الله بن بسر عن أبي أمامة - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « ويسقى من ماء صديد يتجرعه » , قال: يقرب إلى فيه فيتكرهه, فإذا أُدني منه شوى وجهه, ووقعت فروة رأسه, فإذا شربه قطَّع أمعاءه, حتى يخرج من دُبُره, يقول الله عز وجل: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ( محمد - 15 ) , ويقول: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ( الكهف - 29 ) .

وقوله عز وجل: ( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) يعني: يجد هَمَّ الموت وألمه من كل مكان من أعضائه.

قال إبراهيم التيمي: حتى من تحت كل شعرة من جسده.

وقيل: يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه, ومن فوقه ومن تحته, وعن يمينه وعن شماله.

( وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ) فيستريح, قال ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت, ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة. نظيرها ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا ( الأعلى - 13 ) .

( وَمِنْ وَرَائِهِ ) أمامه, ( عَذَابٌ غَلِيظٌ ) شديد, وقيل: العذاب الغليظ الخلود في النار.

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ( 18 ) .

( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ ) يعني: أعمال الذين كفروا بربهم - كقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ ( الزمر - 60 ) - أي: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة, ( كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ) وصف اليومَ بالعصوف, والعصُوف من صفة الريح لأن الريح تكون فيها, كما يقال: يوم حار ويوم بارد, لأن الحر والبرد فيه.

وقيل: معناه: في يوم عاصف الريح, فحذف الريح لأنها قد ذكرت من قبل. وهذا مَثَلٌ ضربه الله لأعمال الكفار, يريد: أنهم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا لأنهم أشركوا فيها غير الله كالرماد الذي ذَرَتْه الريح لا ينتفع به, فذلك قوله تعالى:

( لا يَقْدِرُونَ ) يعني: الكفار ( مِمَّا كَسَبُوا ) في الدنيا, ( عَلَى شَيْءٍ ) في الآخرة, ( ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) .

 

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( 19 ) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ( 20 ) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ( 21 ) .

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السماوات وَالأرْضَ ) قرأ حمزة والكسائي « خالقُ السماواتِ والأرضِ » وفي سورة النور « خالق كل دابة » مضافا.

وقرأ الآخرون « خلق » على الماضي « والأرض » وكلٍّ بالنصب.

و « بالحق » أي: لم يخلقهما باطلا وإنما خلقهما لأمرٍ عظيم, ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) سواكم أَطْوَعَ لله منكم.

( وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ) منيع شديد, يعني أن الأشياء تسهل في القدرة, لا يصعب على الله تعالى شيء وإن جلّ وعَظُم.

قوله عز وجل: ( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا ) [ أي: خرجوا من قبورهم إلى الله وظهروا جميعا ] ( فَقَالَ الضُّعَفَاءُ ) يعني: الأتباع, ( لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ) أي: تكبَّروا على الناس وهم القادة والرؤساء: ( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ) جمع تابع, مثل: حَرَس وحارس, ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ ) دافعون, ( عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) .

( قَالُوا ) يعني القادة المتبوعين: ( لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ) أي: لو هدانا الله لدعوناكم إلى الهدى, فلما أضلَّنا دعوناكم إلى الضلالة ، ( سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ) مهربٍ ولا منجاةٍ.

قال مقاتل: يقولون في النار: تعالوا نجزع, فيجزعون خمسمائة عام, فلا ينفعهم الجزع, ثم يقولون: تعالوا نصبر, فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم, فحينئذ يقولون: ( سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ) .

قال محمد بن كعب القرظي بلغني أن أهل النار استغاثوا بالخزنة. فقال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ( غافر - 49 ) , فردت الخزنة عليهم: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى , فردت الخزنة عليهم: ( ادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ) ( غافر - 50 ) فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( الزخرف - 77 ) سألوا الموت, فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ستون وثلاثمائة يوما, واليوم كألف سنة مما تعدون, ثم لحظ إليهم بعد الثمانين إنكم ماكثون, فلما يئسوا مما قَبْله قال بعضهم لبعض: إنه قد نـزل بكم من البلاء ما ترون فهلموا فلنصبر, فلعل الصبر ينفعنا كما صبرَ أهل الدنيا على طاعة الله فنفعهم, فأجمعوا على الصبر, فطال صبرهم ثم جزعوا فنادوا: « سواءٌ علينا أجَزِعْنا أم صبرنا ما لنا من مَحيص » , أي: من منجى.

قال: فقام إبليس عند ذلك فخطبهم, فقال: « إن الله وعدكم وعد الحق » الآية, فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم فنودُوا: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ( غافر - 10 ) قالوا فنادوا الثانية: « فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون » , فردّ عليهم: وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا الآيات ( السجدة - 13 ) فنادوا الثالثة: رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ( إبراهيم 44 ) , فردّ عليهم: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ الآيات ( إبراهيم - 44 ) , ثم نادوا الرابعة: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فرد عليهم: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ , الآية ( فاطر - 37 ) قال: فمكث عليهم ما شاء الله, ثم ناداهم: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ , فلما سمعُوا ذلك قالوا: الآن يرحمنا, فقالوا عند ذلك: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ , قال عند ذلك: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ( المؤمنون 105- 108 ) فانقطع عند ذلك الرجاء والدعاء عنهم, فأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجوه بعض, وأطبقت عليهم النار.

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 22 ) .

قوله تعالى: ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ ) يعني: إبليس, ( لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ ) أي: فرغ منه فأدخل أهلَ الجنةِ الجنةَ وأهلَ النارِ النارَ.

وقال مقاتل: يوضع له منبر في النار, فيرقاه فيجتمع عليه الكفار باللائمة فيقول لهم:

( إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ) فوفى لكم به, ( وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ) وقيل: يقول لهم: قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار. ( وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) ولاية. وقيل: لم آتكم بحجة فيما دعوتكم إليه, ( إلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ) هذا استثناء منقطع معناه: لكن ( دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان ولا برهان, ( مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ ) بمُغِيثكم, ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ) بمغيثيَّ.

قرأ الأعمش وحمزة « بمصرخيِّ » بكسر الياء, والآخرون بالنصب لأجل التضعيف, ومَنْ كسر فلالتقاءِ الساكنين, حرِّكت إلى الكسر, لأن الياء أخت الكسرة, وأهل النحو لم يرضوه, وقيل: إنه لغة بني يربوع. والأصل ( بمصرخيني ) فذهبت النون لأجل الإضافة, وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة .

( إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) أي: كفرت بجعلكُم إياي شريكًا في عبادته وتبرأت من ذلك.

( إِنَّ الظَّالِمِينَ ) الكافرين, ( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .

أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة, أنبأنا محمد بن أحمد الحارث, أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي, أنبأنا عبد الله بن محمود, حَدَّثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن رشدين بن سعد, أخبرني عبد الرحمن بن زياد, عن دخين الحجري, عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة ذكر الحديث ثم قال: « يقول عيسى عليه السلام ذلكم النبيُّ الأمي، فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمَّها أحدٌ, حتى آتي ربي عز وجل فيشفِّعني ويجعل لي نورًا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي, ثم يقول الكفار: قد وجد المؤمنون مَنْ يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ فيقولون: ما هو غير إبليس, هو الذي أضلَّنا, فيأتونه فيقولون له: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا, فإنك أنت أضللتنا. فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمَّها أحدٌ, ثم تعظم جهنم ويقول عند ذلك: ( إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ) الآية . »

وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ( 23 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ( 24 ) .

قوله عز وجل: ( وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ) يسلِّم بعضهم على بعض, وتسلِّم الملائكة عليهم.

وقيل: المحيِّي بالسلام هو الله عز وجل.

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مثلا ) ألم تعلم, والمَثَلُ: قول سائر لتشبيه شيء بشيء. ( كَلِمَةً طَيِّبَةً ) وهي قول: لا إله إلا الله, ( كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ) وهي النخلة يريد كشجرة طيبة الثمر .

وقال ظبيان عن ابن عباس هي شجرة في الجنة .

( أَصْلُهَا ثَابِتٌ ) في الأرض, ( وَفَرْعُهَا ) أعلاها , ( فِي السَّمَاءِ ) كذلك أصل هذه الكلمة: راسخٌ في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق, فإذا تكلم بها عرجت, فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله عز وجل. قال الله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر - 10 ) .

 

تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 25 ) .

( تُؤْتِي أُكُلَهَا ) تعطي ثمرها, ( كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ) والحين في اللغة هو الوقت.

وقد اختلفوا في معناه هاهنا فقال مجاهد وعكرمة: الحين ها هنا: سنة كاملة, لأن النخلة تثمر كل سنة.

وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن: ستة أشهر من وقت إطلاعها إلى صرامها. ورُوي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقيل: أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها.

وقال سعيد بن المسيب: شهران من حين تؤكل إلى حين الصرام.

وقال الربيع بن أنس: « كل حين » : أي: كل غدوة وعشية, لأن ثمر النخل يؤكل أبدا ليلا ونهارًا, صيفًا وشتاءً, إما تمرًا أو رُطَبًا أو بُسْرًا, كذلك عملُ المؤمن يصعدُ أول النهار وآخره وبَركةُ إيمانه لا تنقطع أبدًا, بل تصل إليه في كل وقت .

والحكمةُ في تمثيل الإيمان بالشجرة: هي أن الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء: عِرق راسخ, وأصل قائم, وفرع عال, كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء: تصديق بالقلب, وقول باللسان, وعمل بالأبدان.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي, أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني, أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري, أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني, حدثنا علي بن حجر, حدثنا إسماعيل بن جعفر, حدثنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقط ورقُها, وإنها مثل المسلم فحدِّثوني ما هي؟ قال عبد الله: فوقع الناس في شجر البوادي, ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت, ثم قالوا: حدِّثْنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة. قال عبد الله: فذكرت ذلك لعمر, فقال: لأنْ تكون قلتَ هي النخلة كان أحبَّ إلي من كذا وكذا » .

وقيل: الحكمة في تشبيهها بالنخلة من بين سائر الأشجار: أن النخلة شبه الأشجار بالإنسان من حيثُ إنها إذا قطع رأسها يبست, وسائر الأشجار تتشعب من جوانبها بعد قطع رؤوسها ولأنها تشبه الإنسان في أنها لا تحمل إلا بالتلقيح ولأنها خلقت من فضل طينة آدم عليه السلام, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: « أكرموا عمتكم » قيل: ومَنْ عمتنا؟ قال: « النخلة » ( وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) .

وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ( 26 ) .

( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ) وهي الشرك, ( كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) وهي الحنظل .

وقيل: هي الثوم.

وقيل: هي الكشوث وهي العَشَقَة ( اجْتُثَّتْ ) يعني انقلَعَتَ, ( مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ) ثبات.

معناه: وليس لها أصل ثابت في الأرض, ولا فرع صاعد إلى السماء, كذلك الكافر لا خير فيه, ولا يصعدُ له قول طيب ولا عمل صالح.

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ( 27 ) .

قوله تعالى: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ) كلمة التوحيد, وهي قول: لا إله إلا الله ( فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يعني قبل الموت, ( وَفِي الآخِرَةِ ) يعني في القبر. هذا قول أكثر أهل التفسير.

وقيل: « في الحياة الدنيا » : عند السؤال في القبر, « وفي الآخرة » : عند البعث.

والأول أصح .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا أبو الوليد, حدثنا شعبة, أخبرني علقمة بن مرثد قال: سمعت سعيد بن عبيدة, عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, فلذلك قوله تعالى: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) . »

وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أنبأنا عبد الغافر بن محمد, أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي, أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, أنبأنا مسلم بن الحجاج, حَدَّثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ) قال: نـزلت في عذاب القبر يقال له: مَنْ ربك؟ فيقول: ربي الله, ونبيي محمد, فذلك قوله تعالى: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ) الآية .

وأخبرنا عبد الواحد المليحي, أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدَّثنا عياش بن الوليد, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا سعيد, عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ العبدَ إذا وُضِع في قبره, وتولّى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم, أتاه ملكان فَيُقْعِدانه, فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل, لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن, فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار, قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة, فيراهما جميعا » قال قتادة: وذكر لنا أنه يُفْسَحُ له في قبره, ثم رجع إلى حديث أنس قال:

وأما المنافق والكافر, فيقال له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري, كنت أقول ما يقول الناس, فيقال له: لا دَرَيْتَ ولا تلَيْتَ, ويُضْرَب بمطارقَ من حديدٍ ضربةً, فيصيح صيحة يسمعها مَنْ يليه غيرَ الثَّقَلَيْن « . »

أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي, حدثنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي, أنبأنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ, حدثنا عبد الله بن سعيد, حدثنا أسد بن موسى, حدثنا عنبسة بن سعيد بن كثير, حدثني جدي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الميت يسمع حِسَّ النِّعال إذا ولَّى عنه الناس مُدْبِرين, ثم يُجْلَسُ ويُوضَعُ كفنُه في عُنُقِه ثم يُسأل » .

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا قُبِر الميتُ أتاه مَلَكان أسودان أزرقان, يقال لأحدهما: المنكر, وللآخر النَّكير, فيقولان: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله, أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله, فيقولان له: قد كنا نعلم أنك تقولُ هذا, ثم يُفْسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين, ثم ينَّور له فيه, ثم يقال: نمْ كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحبُّ أهله إليه, حتى يبعثه الله تعالى, وإن كان منافقًا أو كافرا قال: سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله, لا أدري, فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه, فتختلف أضلاعه, فلا يزال فيها معذَّبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك » .

وروي عن البراء بن عازب رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن وقال: « فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان له مَنْ ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ [ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد فينتهرانه ويقولان له الثانية: من ربك وما دينك ومن نبيك ] وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فيثبته الله عز وجل, فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فينادي منادٍ من السماء: أن صَدَق عبدي, قال: فذلك قوله تعالى: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) . »

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي, أنبأنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني, أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي, أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام, أنبأنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي, حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء أبو إسحاق حدثنا هشام بن يوسف حدثنا عبد الله بن يحيى عن هانئ مولى عثمان قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال: « استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت, فإنه الآن يسأل » .

وقال عمرو بن العاص في سياق الموت وهو يبكي: فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار, فإذا دفنتموني فسنُّوا عليَّ التراب سنًا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي.

قوله تعالى: ( وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ) أي: لا يهدي المشركين إلى الجواب بالصواب في القبر ( وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) من التوفيق والخذلان والتثبيت وترك التثبيت.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ( 28 ) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ( 29 ) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ( 30 ) .

قوله عز وجل: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ) الآية.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, حدثنا عمرو, عن عطاء, عن ابن عباس: [ في قوله تعالى ] ( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ) قال: هم والله كفار قريش .

وقال عمرو: هم قريش, ومحمد صلى الله عليه وسلم نعمة الله .

( وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال: البوار يوم بدر, قوله ( بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ) أي: غيّروا نعمة الله عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم حيث ابتعثه الله تعالى منهم كفرا كفروا به فأحلُّوا, أي: أنـزلوا, قومهم ممن تابعهم على كفرهم دار البوار الهلاك, ثم بيَّن البوار فقال:

( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ) يدخلونها ( وَبِئْسَ الْقَرَارُ ) المستقر.

وعن علي كرم الله وجهه: الذين بدلوا نعمة الله كفرًا: هم كفار قريش نحروا يوم بدر .

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة, وبنو أمية, أما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر, وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين .

( وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ) أمثالا [ وليس لله تعالى ند ] ( لِيُضِلُّوا ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء, وكذلك في الحج وسورة لقمان والزمر: ( ليَضِلَّ ) وقرأ الآخرون بضم الياء على معنى ليضلوا الناس, ( عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا ) عيشوا في الدنيا, ( فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ )

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ ( 31 ) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ ( 32 ) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ( 33 ) .

( قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصلاةَ ) قال الفراء: هو جزم على الجزاء, ( وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خلالٌ ) مخاللة وصداقة. [ قرأ ابن كثير, وابن عمرو, ويعقوب: « لا بيع فيه ولا خلال » بالنصب فيهما على النفي العام. وقرأ الباقون: « لا بيعٌ ولا خلال » بالرفع والتنوين ] .

( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السماوات وَالأرْضَ وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) ( وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ ) ذللها لكم, تجرُونها حيث شئتم.

( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ) يجريان فيما يعود إلى مصالح العباد ولا يَفْتُرَان, قال ابن عباس دؤوبُهُما في طاعة الله عز وجل .

( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) يتعاقبان في الضياء والظلمة, والنقصان والزيادة.

 

وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( 34 ) .

( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) [ يعني: وآتاكم من كل شيء سألتموه ] شيئًا, فحذف الشيء الثاني اكتفاءً بدلالة الكلام, على التبعيض.

وقيل: هو على التكثير نحو قولك: فلان يعلم كلَّ شيء, وآتاه كل النَّاس, وأنت تعني بعضهم, نظيره قوله تعالى: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء ( الأنعام - 44 ) .

وقرأ الحسن « مِنْ كلٍّ » بالتنوين ( مَا ) على النفي يعني من كل ما لم تسألوه, يعني: أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها .

( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ ) أي: نعم الله, ( لا تُحْصُوهَا ) أي: لا تطيقوا عدَّها ولا القيام بُشكرِها.

( إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) أي: ظالم لنفسه بالمعصية, كافرٌ بربّه عز وجل في نعمته.

وقيل: الظلوم, الذي يشكر غير من أنعم عليه, والكافر: من يجحد مُنْعِمَه.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ( 35 ) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 36 ) .

قوله عز وجل: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ) يعني: الحرم, ( آمِنًا ) ذا أمن يؤمن فيه, ( وَاجْنُبْنِي ) أبعِدْني, ( وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ ) يقال: جَنَبْتُه الشيء, وأجْنَبْتُه جنبًا, وجَنَّبْتُهُ تَجْنِيْبًا واجتَنَبْتُهُ اجتنابًا بمعنى واحد.

فإن قيل: قد كان إبراهيم عليه السلام معصومًا من عبادة الأصنام, فكيف يستقيم السؤال؟ وقد عبد كثير من بنيه الأصنام فأين الإجابة؟

قيل: الدعاء في حقِّ إبراهيم عليه السلام لزيادة العصمة والتثبيت, وأما دعاؤه لبنيه: فأراد بنيه من صُلْبه, ولم يعبد منهم أحدٌ الصنم.

وقيل: إن دعاءه لمن كان مؤمنًا من بنيه .

( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) يعني ضلَّ بهن كثير [ من الناس ] عن طريق الهدى حتى عبدوهن, وهذا هو المقلوب، نظيره قوله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ( آل عمران - 175 ) , أي: يخوفهم بأوليائه.

وقيل: نسب الإضلال إلى الأصنام لأنهن سبب فيه, كما يقول القائل: فتنتني الدنيا, نسب الفتنة إلى الدنيا لأنها سبب الفتنة .

( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) أي: مِنْ أهل ديني, ( وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال السدي: معناه: ومن عصاني ثم تاب.

وقال مقاتل بن حيان: ومن عصاني فيما دون الشرك.

وقيل: قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك .

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ( 37 ) .

قوله عز وجل: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي ) أدخل « من » للتبعيض, ومجاز الآية: أسكنت من ذريتي ولدًا, ( بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) وهو مكة؛ لأن مكة وادٍ بين جبلين, ( عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) سماه محرَّما لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا عبد الله بن محمد, حدثنا عبد الرزاق, أنبأنا معمر, عن أيوب السختياني وكثير بن [ أبي كثير بن ] المطلب بن أبي وداعة - يزيد أحدهما على الآخر- عن سعيد بن جبير [ قال ] قال ابن عباس: أول ما اتَّخذ النساءُ المِنْطَقَ من قِبَلِ أمِّ إسماعيلَ, اتخذت مِنْطَقًا لتُعَفِّي أثرها على سارة, ثم جاء بها إبراهيم عليه السلام, وبابنها إسماعيل, وهي ترضعه, حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد, وليس بمكة يومئذ أحدٌ وليس بها ماء, فوضعهما هنالك, ووضع عندهما جرابًا فيه تمر, وسقاءً فيه ماء, ثم قَفَلَ إبراهيم منطلقًا, فتبعتْه أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنْس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا, وجعل لا يلتفت إليها, فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم, قالت: إذن لا يضيعّنا ثم رجعت, فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثَّنِيَّةِ حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت, ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه, فقال: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) حتى بلغ « يشكرون » .

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نَفِدَ ما في السِّقاء عطشتْ وعطش ابنها, وجعلت تنظر إليه يتلبَّط أو قال يتلَوَّى, وانطلقت كراهية أن تنظر إليه, فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها, فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا, فلم تر أحدًا, فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف دِرْعِها, ثم سَعَتْ سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي, ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا, فلم تر أحدًا, ففعلت ذلك سبع مرات.

قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « فلذلك سَعْيُ الناس بينهما » .

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه - تريد نفسها- ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعتَ إن كان عندك غِوَاث, فإذا هي بالمَلَكِ عند موضع زمزم, فبحث بعقبه - أو قال بجناحه- حتى ظهر الماء فجعلت تَخُوضُه وتقول بيدها هكذا, وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف.

قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم » أو قال: « لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا مَعِينًا » .

قال: فشربتْ وأرضعت ولدها, فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله, يبنيه هذا الغلام وأبوه, وإن الله لا يضيع أهله.

وكان موضع البيت مرتفعًا من الأرض كالرَّابية, تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك, حتى مرَّت بهم رُفْقة من جُرْهُم - أو أهل بيت من جرهم- مقبلين من طريق كَداء, فنـزلوا في أسفل مكة, فرأوا طائرًا عائفًا, فقالوا: إنّ هذا الطائر ليدور على ماء, ولَعَهْدنا بهذا الوادي وما فيه ماء, فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّيْن فإذا هم بالماء, فرجعوا فأخبروهم بالماء, فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء, فقالوا: أتأذنين لنا أن ننـزل عندك؟ فقالت: نعم, ولكن لا حقَّ لكم في الماء, قالوا: نعم.

قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس, فنـزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنـزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشبَّ الغلام وتعلم العربية منهم, وأَنْفَسَهُم وأعجبهم حين شبَّ, فلما أدرك زوَّجوه امرأةً منهم. وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته ... ذكرنا تلك القصة في سورة البقرة .

قوله تعالى: ( رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ ) الأفئدة: جمع الفؤاد ( تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) تشتاق وتحنُّ إليهم.

قال السدي: معناه أمِلْ قلوبهم إلى هذا الموضع.

قال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس والروم والترك والهند.

وقال سعيد بن جبير: لحجَّت اليهود والنصارى والمجوس, ولكنه قال: « أفئدة من الناس » وهم المسلمون.

( وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) ما رزقت سكان القرى ذوات الماء, ( لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) .

رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ( 38 ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ( 39 ) .

( رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ) من أمورنا. وقال ابن عباس ومقاتل: من الوجد بإسماعيل وأمه حيث أسكنتهما بوادٍ غير ذي زرع. ( وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ ولا فِي السَّمَاءِ ) قيل: هذا صلة قول إبراهيم.

وقال الأكثرون: يقول الله عز وجل: ( وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ ولا فِي السَّمَاءِ ) .

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ ) أعطاني, ( إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) قال ابن عباس: وُلد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة, ووُلد إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.

وقال سعيد بن جبير: بُشِّر إبراهيم بإسحاق وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة .

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ( 40 ) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ( 41 ) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ( 42 ) .

( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصّلاةِ ) يعني: ممن يقيم الصلاة بأركانها ويحافظ عليها, ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) يعني: اجعل من ذريتي من يقيمون الصلاة.

( رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ) أي: عملي وعبادتي, سمّى العبادة دعاءً, وجاء في الحديث: « الدعاء مخ العبادة » .

وقيل: معناه: استجبْ دعائي.

( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ) فإن قيل: كيف استغفر لوالديه وهما غيرُ مؤمنين؟ قيل: قد قيل إن أمه أسلمت.

وقيل: أراد إن أسلما وتابا .

وقيل: قال ذلك قبل أن يتبين له أمر أبيه, وقد بيّن الله تعالى عذر خليله صلى الله عليه وسلم في استغفاره لأبيه في سورة التوبة .

( وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) أي: اغفر للمؤمنين كلهم, ( يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) أي: يبدو ويظهر. وقيل: أراد يوم يقوم الناس للحساب, فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهومًا.

قوله عز وجل: ( ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور, والآية لتسلية المظلوم وتهديد للظالم.

( إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ ) أي: لا تغمض من هول ما ترى في ذلك اليوم, وقيل: ترتفع وتزول عن أماكنها.

 

مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ( 43 ) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ( 44 )

( مُهْطِعِينَ ) قال قتادة: مسرعين.

قال سعيد بن جبير: الإهطاع النَّسَلان كعَدْوِ الذئب.

وقال مجاهد: مديمي النظر.

ومعنى « الإهطاع » : أنهم لا يلتفون يمينًا ولا شمالا ولا يعرفون مواطن أقدامهم.

( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ) أي: رافعي رؤوسهم.

قال القتيـبي: المُقْنِعُ: الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه .

وقال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء, لا ينظر أحدٌ إلى أحد.

( لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ) أي: لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر, وهي شاخصة قد شغلهم ما بين أيديهم.

( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) أي: خالية. قال قتادة: خرجت قلوبهم عن صدورهم, فصارت في حناجرهم, لا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها, فالأفئدة هواء لا شيء فيها, ومنه سمي ما بين السماء والأرض هواء لِخُلُوِّهِ.

وقيل:خالية لا تعي شيئا ولا تعقل من الخوف.

وقال الأخفش: جوفاء لا عقول لها, والعرب تسمي كل أجوف خاوٍ هواء.

وقال سعيد بن جبير: « وأفئدتهم هواء » أي: مترددة, تمور في أجوافهم, ليس لها مكان تستقرُّ فيه.

وحقيقة المعنى: أن القلوب زائلة عن أماكنها, والأبصار شاخصة من هول ذلك اليوم.

( وَأَنْذِرِ النَّاسَ ) خوفهم, ( يَوْمَ ) أي: بيوم, ( يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ) وهو يوم القيامة, ( فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) أشركوا, ( رَبَّنَا أَخِّرْنَا ) أمهلنا, ( إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) هذا سؤالهم الردّ إلى الدنيا, أي: ارجِعْنا إليها, ( نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ) فيجابون:

( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) حلفتم في دار الدنيا, ( مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ) عنها أي: لا تبعثون. وهو قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ( النحل - 38 ) .

وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ( 45 ) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ( 46 )

( وَسَكَنْتُمْ ) في الدنيا, ( فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) بالكفر والعصيان, قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. ( وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ) أي: عرفتم عقوبتنا إيّاهم, ( وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ ) أي: بيَّنا أن مثلكم كمثلهم.

( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ ) أي: جزاء مكرهم, ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ ) قرأ علي وابن مسعود: ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ ) بالدال, وقرأ العامة بالنون.

( لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) قرأ العامة لتزول بكسر اللام الأولى ونصب الثانية.

معناه: وما كان مكرهم.

قال الحسن: إن كان مكرهم لأضعف من أن تزول منه الجبال.

وقيل: معناه إن مكرهم لا يزيل أمر محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال.

وقرأ ابن جريج والكسائي: « لتزول » بفتح اللام الأولى ورفع الثانية, معناه: إن مكرهم وإن عظم حتى بلغ محلا يزيل الجبال لم يقدروا على إزالة أمر محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال قتادة: معناه وإن كان شركهم لتزول منه الجبال، وهو قوله تعالى: وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ( مريم - 90 : 91 )

ويُحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في معنى الآية أنها نـزلت في نمرود الجبَّار الذي حاجَّ إبراهيم في ربه, وذلك أنه قال: إن كان ما يقول إبراهيم حقًا فلا أنتهي حتى أصعد السماء فأعلم ما فيها, فعمد إلى أربعة أفرخ من النسور فربَّاها حتى شبت واتخذ تابوتًا, وجعل له بابًا من أعلى وبابًا من أسفل, وقعد نمرود مع رجل في التابوت, ونصب خشباتٍ في أطراف التابوت, وجعل على رؤوسها اللحم وربط التابوت بأرجل النسور, فَطِرْنَ وصعدن طمعًا في اللحم, حتى مضى يوم وأَبْعَدْنَ في الهواء, فقال نمرود لصاحبه: افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربناها, ففتح [ الباب ونظر ] فقال: إن السماء كهيئتها ثم قال: افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها؟ ففعل, فقال: أرى الأرض مثل اللجَّة والجبال مثل الدخان, فطارت النسور يوما آخر, وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران, فقال لصاحبه: افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها, وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة, فنودي: أيها الطاغية أين تريد؟

قال عكرمة: كان معه في التابوت غلام قد حمل معه القوس والنشَّاب فرمى بسهم فعاد إليه السهم متلطخًا بدم سمكة قذفت نفسها من بحر في الهواء قيل: طائر أصابها السهم- فقال: كفيت شغل إله السماء.

قال: ثم أمر نمرود صاحبه أن يصوِّب الخشبات وينكص اللحم, ففعل, فهبطت النسور بالتابوت, فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور, ففزعت وظنت أنه قد حَدَثَ حدثٌ من السماء, وأن الساعة قد قامت, فكادت تزول عن أماكنها, فذلك قوله تعالى: ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) .

فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( 47 ) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( 48 )

( فلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ) بالنصر لأوليائه وهلاك أعدائه, وفيه تقديم وتأخير, تقديره: ولا تحسبن الله مخلف رسله وعده, ( إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ) .

قوله عز وجل: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْض وَالسَّمَاوَاتُ ) .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغافر بن محمد, أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي, أخبرنا إبراهيم بن محمد بن يوسف, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدَّثنا خالد بن مخلد, عن محمد بن جعفر بن أبي كثير, حدثني أبو حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يُحشر الناسُ يوم القيامة على أرض بيضاء عفراءَ كقُرْصة النَّقيِّ ليس فيها عَلَمٌ لأحد » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أنبأنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا يحيى بن بكير, حدثنا الليث عن خالدٍ - هو ابن يزيد- عن سعيد بن أبي هلال, عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « تكون الأرض يوم القيامة خبزةً واحدة يتكفؤها الجبَّار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر, نـزلا لأهل الجنة » .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه في هذه الآية قال: تبدل الأرض بأرض كفضة بيضاء نقية لم يسفك فيها دم ولم تعمل فيها خطيئة .

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: تبدل الأرض من فضة والسماء من ذهب .

وقال محمد بن كعب وسعيد بن جبير: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه .

وقيل: معنى التبديل جعل السموات جنانًا وجعل الأرض نيرانًا.

وقيل: تبديل الأرض تغييرها من هيئة إلى هيئة, وهي تسيير جبالها, وطمّ أنهارها, وتسوية أوديتها وقطع أشجارها, وجعلها قاعًا صفصفًا, وتبديل السموات: تغيير حالها بتكوير شمسها, وخسوف قمرها وانتثار نجومها, وكونها مرة كالدهان, ومرة كالمهل.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغافر بن محمد, أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا علي بن مسهر, عن داود - وهو ابن أبي هند- عن الشعبي, عن مسروق, عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: « يوم تبدل الأرض غيرَ الأرض والسموات » فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: « على الصراط » .

وروي عن ثوبان أن حبرًا من اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؛ قال: « هم في الظلمة دون الجسر » .

وقوله تعالى: ( وَبَرَزُوا ) خرجوا من قبورهم, ( لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ( 49 )

( وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ ) مشدودين بعضهم ببعض, ( فِي الأصْفَادِ ) في القيود والأغلال, واحدها صَفَد, وكل من شددته شدًا وثيقًا فقد صفدته.

قال أبو عبيدة: صَفَدْتُ الرجل فهو مصفود, وصفَّدته بالتشديد فهو مصفَّد.

وقيل: يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة, بيانه قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ( الصافات - 22 ) , يعني: قرناءهم من الشياطين.

وقيل: معناه مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد والقيود, ومنه قيل للحبل: قرَن.

سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ( 50 )

( سَرَابِيلُهُمْ ) أي: قُمُصُهم, واحدها سربال. ( مِنْ قَطِرَانٍ ) هو الذي تهنأ به الإبل.

وقرأ عكرمة ويعقوب « منْ قطرآن » على كلمتين منونتين والقطر: النحاس, والصفر المذاب, والآن: الذي انتهى حرُّه, قال الله تعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ( الرحمن - 44 ) .

( وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) أي: تعلو.

لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 51 ) هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ( 52 )

( لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ) من خير وشر, ( إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) .

( هَذَا ) أي: هذا القرآن, ( بلاغٌ ) أي: تبليغ وعظة, ( لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا ) وليخوفوا, ( بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) أي: ليستدلوا بهذه الآيات على وحدانية الله تعالى: ( وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ) أي: ليتعظ أولو العقول.