الجزء  الثالث والعشرون

 

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ( 28 ) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ( 29 )

فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل لهم النقمة، فأمر جبريل عليه السلام فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم، فذلك قوله عز وجل: ( وَمَا أَنـزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ ) يعني: الملائكة، ( وَمَا كُنَّا مُنـزلِينَ ) وما كنا نفعل هذا، بل الأمر في إهلاكهم كان أيسر مما يظنون.

وقيل: معناه « وما أنـزلنا على قومه من بعده » أي: على قوم حبيب النجار من بعد قتله من جند، وما كنا ننـزلهم على الأمم إذا أهلكناهم، كالطوفان والصاعقة والريح. ثم بين عقوبتهم فقال تعالى: ( إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً ) , [ وقرأ أبو جعفر: صيحة واحدة ] بالرفع، جعل الكون بمعنى الوقوع.

قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة، ثم صاح بهم صيحة واحدة ( فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ) ميتون.

يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 30 ) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ( 31 ) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( 32 ) وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ( 33 )

( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ) قال عكرمة: يعني يا حسرتهم على أنفسهم، والحسرة: شدة الندامة، وفيه قولان: أحدهما: يقول الله تعالى: يا حسرة وندامة وكآبة على العباد يوم القيامة حين لم يؤمنوا بالرسل.

والآخر: أنه من قول الهالكين. قال أبو العالية: لما عاينوا العذاب قالوا: يا حسرة أي: ندامة على العباد، يعني: على الرسل الثلاثة حيث لم يؤمنوا بهم، فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم.

قال الأزهري: الحسرة لا تدعى، ودعاؤها تنبيه المخاطبين. وقيل العرب تقول: يا حسرتي! ويا عجبًا! على طريق المبالغة، والنداء عندهم بمعنى التنبيه، فكأنه يقول: أيها العجب هذا وقتك؟ وأيتها الحسرة هذا أوانك؟

حقيقة المعنى: أن هذا زمان الحسرة والتعجب. ثم بين سبب الحسرة والندامة، فقال: ( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) .

( أَلَمْ يَرَوْا ) ألم يخبروا، يعني: أهل مكة ( كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ) والقرن: أهل كل عصر، سموا بذلك لاقترانهم في الوجود ( أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ) أي: لا يعودون إلى الدنيا فلا يعتبرون بهم.

( وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ ) قرأ عاصم وحمزة: « لما » بالتشديد هاهنا وفي الزخرف والطارق، ووافق ابن عامر إلا في الزخرف، ووافق أبو جعفر في الطارق، وقرأ الآخرون بالتخفيف. فمن شدد جعل « إن » بمعنى الجحد، و « لما » بمعنى إلا تقديره: وما كل إلا جميع، ومن خفف جعل « إن » للتحقيق و « ما » صلة مجازه: وكل جميع ( لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) .

( وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ) بالمطر ( وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا ) يعني الحنطة والشعير وما أشبههما ( فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ) أي: من الحب.

وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ( 34 ) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ ( 35 ) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ( 36 ) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ( 37 ) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 38 )

( وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ ) بساتين، ( مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا ) في الأرض، ( مِنَ الْعُيُونِ ) .

( لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ) أي: من الثمر الحاصل بالماء ( وَمَا عَمِلَتْه ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: « عملت » بغير هاء، وقرأ الآخرون « عملته » بالهاء أي: يأكلون من الذي عملته ( أَيْدِيهِم ) الزرع والغرس فالهاء عائدة إلى « ما » التي بمعنى الذي. وقيل: « ما » للنفي في قوله « ما عملته » أي: وجدوها معمولة ولم تعملها أيديهم ولا صنع لهم فيها وهذا معنى قول الضحاك ومقاتل.

وقيل: أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يد خلق مثل دجلة والفرات والنيل ونحوها.

( أَفَلا يَشْكُرُونَ ) نعمة الله .

( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا ) أي: الأصناف ( مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ ) الثمار والحبوب ( وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ) يعني: الذكور والإناث ( وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ) مما خلق من الأشياء من دواب البر والبحر.

( وَآيَةٌ لَهُمُ ) تدل على قدرتنا، ( اللَّيْلُ نَسْلَخُ ) ننـزع ونكشط ( مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ) داخلون في الظلمة، ومعناه: نذهب النهار ونجيء بالليل، وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها ُ فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليلُ فتظهر الظلمة.

( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ) أي: إلى مستقر لها، أي: إلى انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وقيام الساعة.

وقيل: إنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها، ثم ترجع فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزه.

وقيل: مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « مستقرها تحت العرش » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثتا الحميدي، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ) قال: « مستقرها تحت العرش » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا الحميدي، أخبرنا وكيع، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: « أتدري أين تذهب » ؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: « فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى: ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) . »

وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس: « والشمس تجري لا مستقر لها » وهي قراءة ابن مسعود أي: لا قرار لها ولا وقوف فهي جارية أبدا ( ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) .

وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ( 39 ) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( 40 )

( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ) أي: قدرنا له منازل قرأ ابن كثير ونافع، وأهل البصرة: « القمر » برفع الراء لقوله: « وآية لهم الليل نسلخ منه النهار » وقرأ الآخرون بالنصب لقوله: « قدرناه » أي: قدرنا القمر ( مَنَازِل ) وقد ذكرنا أسامي المنازل في سورة يونس فإذا صار القمر إلى آخر المنازل دق فذلك قوله: ( حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) والعرجون: [ عود العذق ] الذي عليه الشماريخ، فإذا قدم وعتق يبس وتقوس واصفر فشبه القمر في دقته وصفرته في آخر المنازل به. ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) أي: لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه، ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه، وهو قوله تعالى: ( وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) أي: هما يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته.

وقيل: لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر، لا تطلع الشمس بالليل ولا يطلع القمر بالنهار وله ضوء، فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد منهما صاحبه قامت القيامة.

وقيل: « لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر » أي: لا تجتمع معه في فلك واحد، « ولا الليل سابق النهار » أي: لا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل.

( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) يجرون.

 

وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( 41 ) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ( 42 ) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ( 43 ) إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ( 44 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 45 )

( وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ) قرأ أهل المدينة والشام، ويعقوب: « ذرياتهم » جمع وقرأ الآخرون: « ذريتهم » على التوحيد، فمن جمع كسر التاء، ومن لم يجمع نصبها، والمراد بالذرية: الآباء والأجداد، واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد ( فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) أي: المملوء، وأراد سفينة نوح عليه السلام، وهؤلاء من نسل من حمل مع نوح، وكانوا في أصلابهم. ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قيل: أراد به السفن الصغار التي عملت بعد سفينة نوح على هيئتها.

وقيل: أراد به السفن التي تجري في الأنهار فهي في الأنهار كالفلك الكبار في البحار، وهذا قول قتادة، والضحاك وغيرهما.

وروي عن ابن عباس أنه قال: « وخلقنا لهم من مثله ما يركبون » يعني: الإبل، فالإبل في البر كالسفن في البحر. ( وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ ) أي: لا مغيث ( لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ) ينجون من الغرق. وقال ابن عباس: ولا أحد ينقذهم من عذابي.

( إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) إلى انقضاء آجالهم يعني إلا أن يرحمهم ويمتعهم إلى آجالهم.

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ ) قال ابن عباس: « ما بين أيديكم » يعني الآخرة، فاعملوا لها، « وما خلفكم » يعني الدنيا، فاحذروها، ولا تغتروا بها.

وقيل: « ما بين أيديكم » وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم، « وما خلفكم » عذاب الآخرة، وهو قول قتادة ومقاتل.

( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) والجواب محذوف تقديره: إذا قيل لهم هذا أعرضوا عنه دليله ما بعده:

وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( 46 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 47 ) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 48 ) مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ( 49 )

( وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ ) أي: دلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ( إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ) .

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ) أعطاكم الله ( قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ ) أنرزق ( مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ ) وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أنفقوا على المساكين مما زعمتم من أموالكم أنه لله، وهو ما جعلوا لله من حروثهم وأنعامهم، قالوا: أنطعم أنرزق من لو يشاء الله رزقه، ثم لم يرزقه مع قدرته عليه، فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا مما يتمسك به البخلاء، يقولون: لا نعطي من حرمه الله. وهذا الذي يزعمون باطل؛ لأن الله أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء، فمنع الدنيا من الفقير لا بخلا وأمر الغني بالإنفاق لا حاجة إلى ماله، ولكن ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له في مال الغني، ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله وحكمه في خلقه ( إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) يقول الكفار للمؤمنين: ما أنتم إلا في خطأ بين في اتباعكم محمدا صلى الله عليه وسلم وترك ما نحن عليه.

( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ ) أي: القيامة والبعث ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) .

قال الله تعالى: ( مَا يَنْظُرُونَ ) أي: ما ينتظرون ( إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً ) قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى ( تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) يعني: يختصمون في أمر الدنيا من البيع والشراء، ويتكلمون في المجالس والأسواق.

قرأ حمزة: « يخصمون » بسكون الخاء وتخفيف الصاد، أي: يغلب بعضهم بعضا بالخصام، وقرأ الآخرون بتشديد الصاد، أي: يختصمون. أدغمت التاء في الصاد، ثم ابن كثير ويعقوب وورش يفتحون الخاء بنقل حركة التاء المدغمة إليها، ويجزمها أبو جعفر وقالون ويروم فتحة الخاء أبو عمرو، وقرأ الباقون بكسر الخاء.

وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمها » .

فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ( 50 ) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ( 51 ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ( 52 ) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( 53 )

قوله عز وجل ( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ) أي: لا يقدرون على الإيصاء. قال مقاتل: عجلوا عن الوصية فماتوا ( وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) ينقلبون، والمعنى أن الساعة لا تمهلهم لشيء. ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) وهي النفخة الأخيرة نفخة البعث، وبين النفختين أربعون سنة ( فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ ) يعني: القبور واحدها: جدث ( إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) يخرجون من القبور أحياء، ومنه قيل للولد: نسل لخروجه من بطن أمه.

( قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) قال أبي بن كعب، وابن عباس، وقتادة: إنما يقولون هذا لأن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة دعوا بالويل .

وقال أهل المعاني: إن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنوم، فقالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ ثم قالوا: ( هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) [ أقروا حين لم ينفعهم الإقرار. وقيل: قالت الملائكة لهم: « هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون » ] .

قال مجاهد: يقول الكفار: « من بعثنا من مرقدنا » ؟ فيقول المؤمنون: « هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون » . ( إِنْ كَانَتْ ) ما كانت ( إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً ) يعني: النفخة الآخرة ( فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) .

فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 54 )

( فاليومَ لا تُظلمُ نفسٌ شيئًا ولا تُجزونَ إلا ما كنتم تعملون ) .

 

إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ( 55 ) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ( 56 ) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ( 57 ) سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ( 58 )

( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو « في شغل » ، بسكون الغين، والباقون بضمها، وهما لغتان مثل السُّحْت والسُّحُت.

واختلفوا في معنى الشغل، قال ابن عباس: في افتضاض الأبكار ، وقال وكيع بن الجراح: في السماع.

وقال الكلبي: في شغل عن أهل النار وعما هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم.

وقال الحسن: شغلوا بما في الجنة من النعيم عما فيه أهل النار من العذاب.

وقال ابن كيسان: في زيارة بعضهم بعضا. وقيل: في ضيافة الله تعالى .

( فَاكِهُون ) قرأ أبو جعفر: « فكهون » حيث كان، وافقه حفص في المطففين؛ وهما لغتان مثل: الحاذر والحذر أي: ناعمون. قال: مجاهد والضحاك: معجبون بما هم فيه. وعن ابن عباس قال: فرحون.

( هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ ) أي: حلائلهم ( فِي ظِلالٍ ) قرأ حمزة والكسائي: « ظلل » بضم الظاء من غير ألف جمع ظله وقرأ العامة: « في ظلال » بالألف وكسر الظاء على جمع ظل ( عَلَى الأرَائِكِ ) يعني السرر في الحجال ، واحدتها: أريكة . قال ثعلب: لا تكون أريكة حتى يكون عليها حجلة ( مُتَّكِئُون ) ذوو اتكاء.

( لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ) يتمنون ويشتهون.

( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) أي: يسلم الله عليهم قولا أي: يقول الله لهم قولا.

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن، حدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى الملحمي الأصفهاني، أخبرنا الحسن بن أبي علي الزعفراني، أخبرنا ابن أبي الشوارب، أخبرنا أبو عاصم العباداني، أخبرنا الفضل الرقاشي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله: سلام قولا من رب رحيم فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم » .

وقيل: تسلم عليهم الملائكة من ربهم.

قال مقاتل: تدخل الملائكة على أهل الجنة من كل باب يقولون: سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم.

وقيل: يعطيهم السلامة، يقول: اسلموا السلامة الأبدية.

وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ( 59 ) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 60 ) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 61 ) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ( 62 )

( وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) قال مقاتل: اعتزلوا اليوم من الصالحين. قال أبو العالية: تميزوا. وقال السدي: كونوا على حدة. وقال الزجاج: انفردوا عن المؤمنين. قال الضحاك: إن لكل كافر في النار بيتًا يدخل ذلك البيت ويردم بابه بالنار فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى ولا يرى .

( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ ) ألم آمركم يا بني آدم ( أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ) أي: لا تطيعوا الشيطان في معصية الله ( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ظاهر العداوة.

( وَأَنِ اعْبُدُونِي ) أطيعوني ووحدوني ( هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) .

( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا ) قرأ أهل المدينة، وعاصم: « جبلا » بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وقرأ يعقوب: « جبلا » بضم الجيم والباء وتشديد اللام، وقرأ ابن عامر، وأبو عمرو بضم الجيم ساكنة الباء خفيفة، وقرأ الآخرون بضم الجيم والباء خفيفة، وكلها لغات، ومعناها: الخلق والجماعة أي: خلقا كثيرًا ( أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس، ويقال لهم لما دنوا من النار:

هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 63 ) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 64 ) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 65 )

( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) بها في الدنيا ( اصْلَوْهَا ) ادخلوها ( الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) هذا حين ينكر الكفار كفرهم وتكذيبهم الرسل، فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو الحسن محمد بن عمرو بن حفصويه السرخسي، سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، أخبرنا أبو يزيد حاتم بن محبوب، أخبرنا عبد الجبار بن العلاء، أخبرنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: « هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحاب » ؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: « فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة » ؟ قالوا: لا قال: « فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤية أحدهما » ، قال: « فيلقى العبد فيقول: أي عبدي ألم أكرمك؟ ألم أسودك ألم أزوجك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك تترأس وتتربع؟ قال: بلى يا رب قال: فظننت أنك ملاقي؟ قال: لا قال: فاليوم أنساك كما نسيتني، قال: فيلقى الثاني فيقول: ألم أكرمك، ألم أسودك، ألم أزوجك، ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك تترأس وتتربع؟- وقال غيره عن سفيان: ترأس وتربع في الموضعين- قال: فيقول: بلى يا رب، فيقول: ظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا يا رب قال: فاليوم أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول؟ ما أنت؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع قال: فيقال له: ألم نبعث عليك شاهدنا؟ قال: فيتفكر في نفسه من الذي يشهد عليَّ فيختم على فيه ويقال لفخذه: انطقي قال: فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل وذلك المنافق وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي سخط الله عليه » .

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن بهز بن حكيم بن معاوية، عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إنكم تدعون فيفدم على أفواهكم بالفدام فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكفه »

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أخبرنا مسلم بن الحجاج، أخبرنا أبو بكر بن أبي النضر، حدثني هاشم بن القاسم، أخبرنا عبد الله الأشجعي، عن سفيان الثوري، عن عبيد المكتب، عن فضيل، عن الشعبي، عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: « هل تدرون مم أضحك » ؟ قال: قلنا الله ورسوله أعلم، قال: « من مخاطبة العبد ربه » يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: فيقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجير على نفسي إلا شاهدا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا لَكُنَّ وسحقًا فعنكن كنت أناضل « »

وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ( 66 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ( 67 )

قوله عز وجل: ( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ) [ أي: أذهبنا أعينهم ] الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق، وهو معنى الطمس كما قال الله عز وجل: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ( البقرة - 20 ) يقول: كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة ( فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ) فتبادروا إلى الطريق ( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) فكيف يبصرون [ وقد أعمينا أعينهم؟ يعني: لو نشاء لأضللناهم عن الهدى، وتركناهم عميا يترددون، فكيف يبصرون ] الطريق حينئذ؟ هذا قول الحسن والسدي، وقال ابن عباس، وقتادة، ومقاتل، وعطاء: معناه لو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم فأعميناهم عن غيهم، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم ( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) ولم أفعل ذلك بهم؟

( وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ) يعني: مكانهم: يريد: لو نشاء لجعلناهم قردة وخنازير في منازلهم، وقيل: لو نشاء لجعلناهم حجارة، وهم قعود في منازلهم لا أرواح لهم. ( فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ) إلى ما كانوا عليه، وقيل: لا يقدرون على ذهاب ولا رجوع.

وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ( 68 ) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ( 69 )

( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ) قرأ عاصم وحمزة: « ننكسه » بالتشديد، وقرأ الآخرون بفتح النون الأولى وضم الكاف مخففا، أي: نرده إلى أرذل العمر شبه الصبي في أول الخلق.

وقيل: « ننكسه في الخلق » أي: نضعف جوارحه بعد قوتها ونردها إلى نقصانها بعد زيادتها. ( أَفَلا يَعْقِلُونَ ) فيعتبروا ويعلموا أن الذي قدر على تصريف أحوال الإنسان يقدر على البعث بعد الموت.

قوله تعالى: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) قال الكلبي: إن كفار مكة قالوا: إن محمدًا شاعر، وما يقوله شعر، فأنـزل الله تكذيبًا لهم: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) أي: ما يتسهل له ذلك، وما كان يتزن له بيت من شعر، حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسرًا .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسين بن محمد الثقفي، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيًا

فقال أبو بكر: يا رسول الله إنما قال الشاعر:

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا

[ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيًا ] ، فقال أبو بكر وعمر: أشهد أنك رسول الله، يقول الله تعالى: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ )

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم البغوي، أخبرنا علي بن الجعد، حدثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه قال: قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة.

قالت: وربما قال:

ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّدِ

وقال معمر عن قتادة: بلغني أن عائشة سئلت: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان الشعر أبغض الحديث إليه، قالت: ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بني قيس طرفة:

سـتبدي لـك الأيـام مـا كنت جاهلا ويــأتيك بالأخبـار مـن لـم تـزود

فجعل يقول: « ويأتيك من لم تزود بالأخبار » فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هكذا يا رسول الله، فقال: « إني لست بشاعر ولا ينبغي لي » .

( إِنْ هُوَ ) يعني: القرآن ( إِلا ذِكْرٌ ) موعظة ( وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) فيه الفرائض والحدود والأحكام.

لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 70 )

( لِيُنْذِر ) قرأ أهل المدينة والشام ويعقوب « لتنذر » بالتاء وكذلك في الأحقاف، [ وافق ابن كثير في الأحقاف ] أي: لتنذر يا محمد، وقرأ الآخرون بالياء أي لينذر القرآن ( مَنْ كَانَ حَيًّا ) يعني: مؤمنا حي القلب؛ لأن الكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر ( وَيَحِقَّ الْقَوْلُ ) ويجب حجة العذاب ( عَلَى الْكَافِرِينَ ) .

 

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ( 71 ) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ( 72 )

قوله عز وجل: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ) تولينا خلقه بإبداعنا من غير إعانة أحد ( أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) ضابطون قاهرون، أي: لم يخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها، بل هي مسخرة لهم.

وهي قوله: ( وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ) سخرناها لهم ( فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ ) أي: ما يركبون وهي الإبل ( وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ) من لحمانها.

وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ ( 73 ) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ( 74 ) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ( 75 ) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 76 ) أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ( 77 )

( وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ) من أصوافها وأوبارها وأشعارها ونسلها ( وَمَشَارِب ) من ألبانها ( أَفَلا يَشْكُرُونَ ) رب هذه النعم.

( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ) يعني: لتمنعهم من عذاب الله، ولا يكون ذلك قط.

( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ) قال ابن عباس: لا تقدر الأصنام على نصرهم ومنعهم من العذاب. ( وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) أي: الكفار جند للأصنام يغضبون لها ويحضرونها في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيرا، ولا تستطيع لهم نصرا. وقيل: هذا في الآخرة، يؤتى بكل معبود من دون الله تعالى ومعه أتباعه الذين عبدوه كأنهم جند محضرون في النار.

( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ) يعني: قول كفار مكة في تكذيبك ( إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ) في ضمائرهم من التكذيب ( وَمَا يُعْلِنُونَ ) من عبادة الأصنام أو ما يعلنون بألسنتهم من الأذى.

قوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ ) جدل بالباطل ( مُبِين ) بين الخصومة، يعني: إنه مخلوق من نطفة ثم يخاصم فكيف لا يتفكر في بدء خلقه حتى يدع الخصومة.

نـزلت في أبي بن خلف الجمحي خاصم النبي صلى الله عليه وسلم في إنكار البعث، وأتاه بعظم قد بلي ففتته بيده، وقال: أترى يحيى الله هذا بعد ما رَمَّ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « نعم ويبعثك ويدخلك النار » فأنـزل الله هذه الآيات .

وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ( 78 ) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ( 79 ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ( 80 ) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ( 81 ) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 82 )

( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ) بدء أمره، ثم ( قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) بالية، ولم يقل رميمة؛ لأنه معدول عن فاعلة، وكل ما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفًا عن أخواته ، كقوله: وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ( مريم - 28 ) ، أسقط الهاء لأنها كانت مصروفة عن باغية.

( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا ) خلقها ، ( أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .

( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا ) قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لأحدهما: المرخ وللأخرى: العفار، فمن أراد منهم النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار بإذن الله عز وجل .

تقول العرب: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار، وقال الحكماء: في كل شجر نار إلا العناب. ( فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) أي: تقدحون وتوقدون النار من ذلك الشجر، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان، فقال:

( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِر ) قرأ يعقوب: « يقدر » بالياء على الفعل ( عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى ) أي: قل: بلى، هو قادر على ذلك ( وَهُوَ الْخَلاقُ ) [ يخلق خلقا بعد خلق ] ، ( الْعَلِيم ) بجميع ما خلق.

فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 83 )

( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو الطاهر الزيادي، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، حدثنا علي بن الحسين الدرابجردي، حدثنا عبد الله بن عثمان، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان - وليس بالنهدي - عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اقرؤوا على موتاكم سورة يس » ورواه محمد بن العلاء عن ابن المبارك، وقال: عن أبي عثمان وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل بن يسار.

 

سورة الصافات

 

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ( 1 ) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ( 2 )

( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) قال ابن عباس, والحسن, وقتادة: هم الملائكة في السماء يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة.

أخبرنا عمر بن عبد العزيز القاشاني, أخبرنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي, أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي, حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث, حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي, حدثنا زهير قال: سألت سليمان الأعمش عن حديث جابر بن سمرة في الصفوف المقدمة فحدثنا عن المسيب بن رافع عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم » ؟ قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: « يتمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف » .

وقيل: هم الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد.

وقيل: هي الطيور ، دليله قوله تعالى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ( النور - 41 ) .

قوله تعالى ( فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ) يعني: الملائكة تزجر السحاب وتسوقه, وقال قتادة: هي زواجر القرآن تنهى وتزجر عن القبائح.

فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ( 3 ) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ( 4 ) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ( 5 ) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ( 6 )

( فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ) هم الملائكة يتلون ذكر الله عز وجل. وقيل: هم جماعة قراء القرآن وهذا كله قسم أقسم الله تعالى به, وموضع القسم قوله:

( إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ) وقيل: فيه إضمار, أي: ورب الصافات والزاجرات والتاليات, وذلك أن كفار مكة قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ؟ فأقسم الله بهؤلاء: « إن إلهكم لواحد » .

( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ) أي: مطالع الشمس [ قيل: أراد به المشارق والمغارب, كما قال في موضع آخر: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ( المعارج- 40 ) ]

فإن قيل: قد قال في موضع: بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ , وقال في موضع: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( الرحمن - 17 ) وقال في موضع: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( المزمل - 9 ) , فكيف وجه التوفيق بين هذه الآيات؟

قيل: أما قوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ , أراد به الجهة, فالمشرق جهة والمغرب جهة.

وقوله: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ أراد: مشرق الشتاء ومشرق الصيف, وأراد بالمغربين: مغرب الشتاء ومغرب الصيف.

وقوله: بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ أراد الله تعالى أنه خلق للشمس ثلاثمائة وستين كوة في المشرق, وثلاثمائة وستين كوة في المغرب, على عدد أيام السنة, تطلع الشمس كل يوم من كوة منها, وتغرب في كوة منها, لا ترجع إلى الكوة التي تطلع منها إلى ذلك اليوم من العام المقبل, فهي المشارق والمغارب, وقيل: كل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه الشمس فهو مغرب, كأنه أراد رب جميع ما أشرقت عليه الشمس وغربت.

( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ )

قرأ عاصم, برواية أبي بكر: « بزينة » منونة « الكواكب » نصب, أي: بتزييننا الكواكب, وقرأ حمزة, وحفص: « بزينة » منونة, « الكواكب » خفضا على البدل, أي: بزينة بالكواكب, أي: زيناها بالكواكب. وقرأ الآخرون: « بزينة الكواكب » , بلا تنوين على الإضافة.

قال ابن عباس: بضوء الكواكب.

وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ( 7 ) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ( 8 ) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ( 9 ) إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ( 10 ) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ( 11 )

( وَحِفْظًا ) أي: وحفظناها حفظا ( مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ) متمرد يرمون بها. ( لا يَسْمَعُونَ ) قرأ حمزة, والكسائي, وحفص: « يسمعون » بتشديد السين والميم, أي: لا يتسمعون, فأدغمت التاء في السين, وقرأ الآخرون بسكون السين خفيف الميم, ( إِلَى الْمَلإ الأعْلَى ) أي: إلى الكتبة من الملائكة.

و « الملأ الأعلى » هم الملائكة لأنهم في السماء, ومعناه: أنهم لا يستطيعون الاستماع إلى الملأ الأعلى, ( وَيُقْذَفُونَ ) يرمون, ( مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ) من آفاق السماء بالشهب.

( دُحُورًا ) يبعدونهم عن مجالس الملائكة, يقال: دحره دحرا ودحورا, إذا طرده وأبعده, ( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ )

دائم, قال مقاتل: دائم إلى النفخة الأولى, لأنهم يحرقون ويتخبلون.

( إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ) اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقة, ( فَأَتْبَعَهُ ) لحقه, ( شِهَابٌ ثَاقِبٌ )

كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقتله, أو يحرقه أو يخبله, وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعا في السلامة ونيل المراد, كراكب البحر، قال عطاء: سمي النجم الذي يرمى به الشياطين ثاقبا لأنه يثقبهم .

( فَاسْتَفْتِهِم ) أي: سلهم, يعني: أهل مكة, ( أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا ) يعني: من السموات والأرض والجبال, وهذا استفهام بمعنى التقرير, أي: هذه الأشياء أشد خلقا كما قال: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر - 57 ) وقال: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ( النازعات - 27 ) .

وقيل: « أم من خلقنا » يعني: من الأمم الخالية, لأن « من » يذكر فيمن يعقل, يقول: إن هؤلاء ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم, وقد أهلكناهم بذنوبهم فما الذي يؤمن هؤلاء من العذاب؟ ثم ذكر خلق الإنسان, فقال:

( إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) يعني: جيد حر لاصق يعلق باليد, ومعناه اللازم, أبدل الميم باء كأنه يلزم اليد. وقال مجاهد والضحاك: منتن.

بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ( 12 ) وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ( 13 ) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ( 14 ) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 15 )

( بَلْ عَجِبْتَ ) قرأ حمزة, والكسائي: بضم التاء, وهي قراءة ابن مسعود, وابن عباس والعجب من الله عز وجل ليس كالتعجب من الآدميين, كما قال: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ( التوبة - 79 ) , وقال عز وجل: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ( التوبة - 67 ) , فالعجب من الآدميين: إنكاره وتعظيمه, والعجب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار والذم, وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما جاء في الحديث: « عجب ربكم من شاب ليست له صبوة » .

وجاء في الحديث: « عجب ربكم من سؤالكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم »

وسئل الجنيد عن هذه الآية, فقال: إن الله لا يعجب من شيء, ولكن الله وافق رسوله لما عجب رسوله فقال: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ( الرعد - 5 ) أي: هو كما تقوله.

وقرأ الآخرون بفتح التاء على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم: أي: عجبت من تكذيبهم إياك, ( وَيَسْخَرُونَ ) من تعجبك.

قال قتادة: عجب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن حين أنـزل وضلال بني آدم ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به, فلما سمع المشركون القرآن سخروا منه ولم يؤمنوا به, فعجب من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم, فقال الله تعالى: « بل عجبت ويسخرون » .

( وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ) أي: إذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون.

( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً ) قال ابن عباس ومقاتل: يعني انشقاق القمر ( يَسْتَسْخِرُونَ ) يسخرون ويستهزءون, وقيل: يستدعي بعضهم عن بعض السخرية .

( وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) [ يعني سحر بين ] .

أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( 16 ) أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ ( 17 ) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ( 18 ) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ( 19 ) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ( 20 ) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 21 ) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ( 22 ) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ( 23 ) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ( 24 )

( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ )

( أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ ) أي: وآباؤنا الأولون.

( قُلْ نَعَمْ ) تبعثون, ( وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ) صاغرون, والدخور أشد الصغار.

( فَإِنَّمَا هِيَ ) أي: قصة البعث أو القيامة, ( زَجْرَةٌ ) أي: صيحة, ( وَاحِدَة ) يعني: نفخة البعث, ( فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ) أحياء.

( وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ) أي: يوم الحساب ويوم الجزاء.

( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ ) يوم القضاء, وقيل: يوم الفصل بين المحسن والمسيء, ( الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) .

( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا ) أي: أشركوا, اجمعوهم إلى الموقف للحساب والجزاء, ( وَأَزْوَاجَهُم ) أشباههم وأتباعهم وأمثالهم.

قال قتادة والكلبي: كل من عمل مثل عملهم, فأهل الخمر مع أهل الخمر, وأهل الزنا مع أهل الزنا.

وقال الضحاك ومقاتل: قرناءهم من الشياطين, كل كافر مع شيطانه في سلسلة. وقال الحسن: وأزواجهم المشركات.

( وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * من دُونِ الله ) في الدنيا, يعني: الأوثان والطواغيت. وقال: مقاتل: يعني إبليس وجنوده, واحتج بقوله: أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ( يس - 60 ) .

( فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ) قال ابن عباس: دلوهم إلى طريق النار. وقال ابن كيسان: قدموهم. والعرب تسمي السابق هاديا.

( وَقِفُوهُمْ ) احبسوهم, يقال: وقفته وقفا فوقف وقوفا.

قال المفسرون: لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط لأن السؤال عند الصراط, فقيل: وقفوهم ( إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ) قال ابن عباس: عن جميع أقوالهم وأفعالهم.

وروي عنه عن: لا إله إلا الله.

وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربعة أشياء: عن شبابه فيما أبلاه, وعن عمره فيما أفناه, وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه, وعن علمه ماذا عمل به » .

 

مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ( 25 ) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ( 26 ) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 27 ) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ( 28 ) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 29 )

( مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ) أي: لا تتناصرون، يقال لهم توبيخًا: ما لكم لا ينصر بعضكم بعضًا, يقول لهم خزنة النار, هذا جواب لأبي جهل حين قال يوم بدر: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ( القمر - 44 ) .

فقال الله تعالى: ( بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) قال ابن عباس: خاضعون. وقال الحسن: منقادون, يقال: استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع له, والمعنى: هم اليوم أذلاء منقادون لا حيلة لهم.

( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) أي: الرؤساء والأتباع ( يتساءلون ) يتخاصمون.

( قَالُوا ) أي: الأتباع للرؤساء, ( إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ) أي: من قبل الدين فتضلوننا عنه [ وتروننا أن الدين ما تضلوننا به ] قاله الضحاك. وقال مجاهد: عن الصراط الحق, واليمين عبارة عن الدين والحق, كما أخبر الله تعالى عن إبليس: ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ( الأعراف - 17 ) فمن أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق.

وقال بعضهم: كان الرؤساء يحلفون لهم أن ما يدعونهم إليه هو الحق, فمعنى قوله: « تأتوننا عن اليمين » أي: من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها فوثقنا بها.

وقيل: « عن اليمين » أي: عن القوة والقدرة, كقوله: لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( الحاقة - 45 ) , والمفسرون على القول الأول.

( قَالُوا ) يعني: الرؤساء للأتباع, ( بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) لم تكونوا على الحق فنضلكم عنه, أي: إنما الكفر من قبلكم.

وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ( 30 ) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ( 31 ) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ( 32 ) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ( 33 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ( 34 ) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ( 35 ) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ( 36 ) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ( 37 ) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ ( 38 ) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 39 ) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 40 ) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ( 41 )

( وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) من قوة وقدرة فنقهركم على متابعتنا, ( بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ) ضالين.

( فَحَقَّ ) وجب, ( عَلَيْنَا ) جميعا, ( قَوْلُ رَبِّنَا ) يعني: كلمة العذاب, وهي قوله: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( السجدة - 13 ) ( إِنَّا لَذَائِقُونَ ) العذاب, أي: أن الضال والمضل جميعا في النار.

( فَأَغْوَيْنَاكُم ) فأضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا عليه ( إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ) ضالين. قال الله عز وجل: ( فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ) الرؤساء والأتباع.

( إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) قال ابن عباس: الذين جعلوا لله شركاء.

( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) يتكبرون عن كلمة التوحيد, ويمتنعون منها. ( وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ) يعنون النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الله عز وجل ردا عليهم: ( بَلْ جَاءَ ) محمد, ( بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ) أي: أنه أتى بما أتى به المرسلون قبله.

( إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) في الدنيا من الشرك.

( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الموحدين.

( أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ ) يعني: بكرة وعشيا [ كما قال: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ( مريم - 62 ) ] .

فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ( 42 ) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 43 ) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ( 44 ) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ( 45 ) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ( 46 ) لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ( 47 ) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ( 48 ) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ( 49 )

( فَوَاكِهُ ) جمع الفاكهة, وهي الثمار كلها رطبها ويابسها, وهي كل طعام يؤكل للتلذذ لا للقوت, ( وَهُمْ مُكْرَمُونَ ) بثواب الله.

( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) لا يرى بعضهم قفا بعض.

( يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ ) إناء فيه شراب ولا يكون كأسا حتى يكون فيه شراب, وإلا فهو إناء, ( مِنْ مَعِينٍ ) خمر جارية في الأنهار ظاهرة تراها العيون.

( بَيْضَاءَ ) قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضًا من اللبن, ( لَذَّة ) أي: لذيذة, ( لِلشَّارِبِينَ ) .

( لا فِيهَا غَوْلٌ ) قال الشعبي: لا تغتال عقولهم فتذهب بها. قال الكلبي: إثم. وقال قتادة: وجع البطن. وقال الحسن: صداع.

وقال أهل المعاني: « الغول » فساد يلحق في خفاء, يقال: اغتاله اغتيالا إذا أفسد عليه أمره في خفية، وخمرة الدنيا يحصل منها أنواع من الفساد منها السكر وذهاب العقل, ووجع البطن, والصداع, والقيء, والبول, ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة.

( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنـزفُونَ ) قرأ حمزة والكسائي: « ينـزفون » بكسر الزاي, وافقهما عاصم في الواقعة, وقرأ الآخرون بفتح الزاي فيهما, فمن فتح الزاي فمعناه: لا يغلبهم على عقولهم ولا يسكرون يقال: نـزف الرجل فهو منـزوف ونـزيف, إذا سكر, ومن كسر الزاي فمعناه: لا ينفد شرابهم, يقال: أنـزف الرجل فهو منـزوف, إذا فنيت خمره.

( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) حابسات الأعين غاضات الجفون, قصرن أعينهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم, ( عِينٌ ) أي: حسان الأعين, يقال: رجل أعين وامرأة عيناء ونساء عين.

( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ ) [ جمع البيضة ] ( مَكْنُونٌ ) مصون مستور, وإنما ذكر « المكنون والبيض » جمع لأنه رده إلى اللفظ.

قال الحسن: شبههن ببيض النعامة تكنها بالريش من الريح والغبار, فلونها أبيض في صفرة. ويقال: هذا أحسن ألوان النساء أن تكون المرأة بيضاء مشربة صفرة, والعرب تشبهها ببيضة النعامة.

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 50 ) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ( 51 )

( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) يعني: أهل الجنة في الجنة يسأل بعضهم بعضا عن حاله في الدنيا.

( قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ) يعني: من أهل الجنة: ( إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ) في الدنيا ينكر البعث.

قال مجاهد: كان شيطانًا. وقال الآخرون: كان من الإنس . وقال مقاتل: كانا أخوين. وقال الباقون: كانا شريكين أحدهما كافر اسمه قطروس, والآخر مؤمن اسمه يهوذا, وهما اللذان قص الله تعالى خبرهما في سورة الكهف في قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ ( الكهف - 32 ) .

 

يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ( 52 ) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ( 53 ) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ( 54 ) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ( 55 ) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ( 56 ) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( 57 ) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ( 58 ) إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( 59 )

( يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ) بالبعث.

( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ) مجزيون ومحاسبون وهذا استفهام إنكار.

( قَالَ ) الله تعالى لأهل الجنة: ( هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ) إلى النار، وقيل: يقول المؤمن لإخوانه من أهل الجنة: هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف منـزلة أخي, فيقول أهل الجنة: أنت أعرف به منا.

( فَاطَّلَع ) قال ابن عباس: إن في الجنة كوًى ينظر أهلها منها إلى النار فاطلع هذا المؤمن, ( فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) فرأى قرينه في وسط النار, وإنما سمي وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه.

( قَالَ ) له: ( تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ) والله لقد كدت أن تهلكني, قال مقاتل: والله لقد كدت أن تغويني, ومن أغوى إنسانا فقد أهلكه.

( وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي ) رحمته وإنعامه عليَّ بالإسلام, ( لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) معك في النار.

( أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِين * إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى ) في الدنيا ( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) قال بعضهم: يقول هذا أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت: أفما نحن بميتين؟ فتقول لهم الملائكة: لا.

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 60 ) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ( 61 ) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ( 62 ) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ( 63 ) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ( 64 ) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ( 65 ) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ( 66 )

فيقولون ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) وقيل: إنما يقولونه على جهة الحديث بنعمة الله عليهم في أنهم لا يموتون ولا يعذبون. وقيل: يقوله المؤمن لقرينه على جهة التوبيخ بما كان ينكره .

قال الله تعالى: ( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ) أي: لمثل هذا المنـزل ولمثل هذا النعيم الذي ذكره من قوله: أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ إلى « فليعمل العاملون » .

( أَذَلِكَ ) أي: ذلك الذي ذكر لأهل الجنة, ( خَيْرٌ نـزلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ) التي هي نـزل أهل النار, والزقوم: ثمرة شجرة خبيثة مرة كريهة الطعم, يكره أهل النار على تناولها, فهم يتزقمونه على أشد كراهية, ومنه قولهم: تزقم الطعام إذا تناوله على كره ومشقة.

( إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ) الكافرين وذلك أنهم قالوا: كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر؟ وقال ابن الزبعري لصناديد قريش: إن محمدًا يخوفنا بالزقوم, والزقوم بلسان بربر: الزبد والتمر, فأدخلهم أبو جهل بيته وقال: يا جارية زقمينا, فأتتهم بالزبد والتمر, فقال: تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد .

فقال الله تعالى: ( إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ) قعر النار, قال الحسن: أصلها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.

( طَلْعُهَا ) ثمرها سمي طلعا لطلوعه, ( كَأَنَّهُ رُؤوسُ الشَّيَاطِينِ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الشياطين بأعيانهم شبه بها لقبحها, لأن الناس إذا وصفوا شيئًا بغاية القبح قالوا: كأنه شيطان, وإن كانت الشياطين لا ترى لأن قبح صورتها متصور في النفس, وهذا معنى قول ابن عباس والقرظي, وقال بعضهم: أراد بالشياطين الحيات, والعرب تسمي الحية القبيحة المنظر شيطانًا.

وقيل: هي شجرة قبيحة مرة منتنة تكون في البادية, تسميها العرب رؤوس الشياطين.

( فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ) والملء: حشو الوعاء لا يحتمل الزيادة عليه.

ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ( 67 ) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ ( 68 ) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ( 69 ) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ( 70 ) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ ( 71 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ( 72 ) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ( 73 ) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 74 ) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ( 75 ) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( 76 )

( ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا ) خلطًا ومزاجًا ( مِنْ حَمِيمٍ ) من ماء حار شديد الحرارة, يقال: لهم إذا أكلوا الزقوم: اشربوا عليه الحميم, فيشوب الحميم في بطونهم الزقوم فيصير شوبا لهم.

( ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ ) بعد شرب الحميم, [ ( لإلَى الْجَحِيمِ ) وذلك أنهم يوردون الحميم ] لشربه وهو خارج من الحميم كما تورد الإبل الماء, ثم يردون إلى الجحيم, دل عليه قوله تعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ( الرحمن - 44 ) وقرأ ابن مسعود: ( ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم ) .

( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ) وجدوا, ( آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ) . ( فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ) يسرعون, قال الكلبي: يعملون مثل أعمالهم.

( وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ ) من الأمم الخالية.

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) الكافرين أي: كان عاقبتهم العذاب.

( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الموحدين نجوا من العذاب.

قوله عز وجل: ( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ ) دعا ربه على قومه فقال: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ( القمر - 10 ) ( فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ) نحن, يعني: أجبنا دعاءه وأهلكنا قومه.

( وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) [ الغم العظيم ] الذي لحق قومه وهو الغرق.

 

وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ( 77 )

( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) وأراد أن الناس كلهم من نسل نوح.

روى الضحاك عن ابن عباس قال: لما خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم .

قال سعيد بن المسيب: كان ولد نوح ثلاثة: سام وحام ويافث, فسام أبو العرب وفارس والروم, وحام أبو السودان, ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك .

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ( 78 ) سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ( 79 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 80 ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 81 ) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ( 82 ) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ( 83 ) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( 84 ) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ( 85 ) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ( 86 ) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 87 ) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ( 88 ) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ( 89 )

( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) أي: أبقينا له ثناءً حسنًا وذكرًا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة.

( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) [ أي: سلام عليه منا في العالمين ] وقيل: أي تركنا عليه في الآخرين أن يصلى عليه إلى يوم القيامة.

( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في العالمين. ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ) [ يعني الكفار ] .

قوله تعالى ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ ) [ أي: أهل دينه وسنته ] . ( لإبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) مخلص من الشرك والشك.

( إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ) استفهام توبيخ.

( أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ) يعني: أتأفكون إفكًا وهو أسوأ الكذب وتعبدون آلهة سوى الله.

( فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) - إذ لقيتموه وقد عبدتم غيره - أنه يصنع بكم.

( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) قال ابن عباس: كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه, وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة, وكان لهم من الغد عيد ومجمع, وكانوا يدخلون على أصنامهم [ ويقربون لهم القرابين ] , ويصنعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم - زعموا - للتبرك عليه فإذا انصرفوا من عيدهم أكلوه, فقالوا لإبراهيم: ألا تخرج غدا معنا إلى عيدنا؟ فنظر إلى النجوم فقال: إني سقيم, قال ابن عباس: مطعون, وكانوا يفرون من الطاعون فرارًا عظيمًا. قال الحسن: مريض. وقال مقاتل: وجع. وقال الضحاك: سأسقم.

فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ( 90 ) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ( 91 ) مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ( 92 ) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ( 93 ) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ( 94 ) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ( 95 ) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ( 96 ) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ( 97 ) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ ( 98 )

( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ) إلى عيدهم, فدخل إبراهيم على الأصنام فكسرها. كما قال الله تعالى: ( فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ ) مال إليها ميلة في خفية, ولا يقال: « راغ » حتى يكون صاحبه مخفيًا لذهابه ومجيئه, ( فَقَال ) استهزاء بها: ( أَلا تَأْكُلُونَ ) يعني: الطعام الذي بين أيديكم.

( مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ) مال عليهم, ( ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ) أي: كان يضربهم بيده اليمنى لأنها أقوى على العمل من الشمال. وقيل: باليمين أي: بالقوة. وقيل: أراد به القسم الذي سبق منه وهو قوله: وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ( الأنبياء- 57 ) .

( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ ) يعني: إلى إبراهيم ( يَزِفُّونَ ) يسرعون, وذلك أنهم أخبروا بصنيع إبراهيم بآلهتهم فأسرعوا إليه ليأخذوه.

قرأ الأعمش وحمزة: « يزفون » بضم الياء وقرأ الآخرون بفتحها, وهما لغتان. وقيل: بضم الياء, أي: يحملون دوابهم على الجد والإسراع.

( قَالَ ) لهم إبراهيم على وجه الحجاج: ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) يعني: ما تنحتون بأيديكم.

( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) بأيديكم من الأصنام, وفيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.

( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) معظم النار, قال مقاتل: بنوا له حائطًا من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعًا, وعرضه عشرون ذراعًا, وملؤوه من الحطب وأوقدوا فيه النار وطرحوه فيها.

( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا ) شرًا وهو أن يحرقوه, ( فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ ) أي: المقهورين حيث سلَّم الله تعالى إبراهيم ورد كيدهم.

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ( 99 ) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ( 100 ) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ( 101 ) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ( 102 )

( وَقَالَ ) يعني: إبراهيم ( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ) أي: مهاجر إلى ربي، والمعنى: أهجر دار الكفر وأذهب إلى مرضاة ربي, قاله بعد الخروج من النار, كما قال: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ( العنكبوت - 26 ) , ( سَيَهْدِينِ ) إلى حيث أمرني بالمصير إليه, وهو الشام.

قال مقاتل: فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال: ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) يعني: هب لي ولدا صالحا من الصالحين.

( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) قيل: غلام في صغره, حليم في كبره, ففيه بشارة أنه ابن وأنه يعيش فينتهي في السن حتى يوصف بالحلم.

( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) قال ابن عباس وقتادة: يعني المشي معه إلى الجبل. وقال مجاهد عن ابن عباس: لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم والمعنى: بلغ أن يتصرف معه ويعينه في عمله. قال الكلبي: يعني العمل لله تعالى, وهو قول الحسن ومقاتل بن حيان وابن زيد, قالوا: هو العبادة لله تعالى.

واختلفوا في سنه, قيل: كان ابن ثلاث عشرة سنة. وقيل: كان ابن سبع سنين.

( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) واختلف العلماء من المسلمين في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم بذبحه بعد اتفاق أهل الكتابين على أنه إسحاق, فقال قوم: هو إسحاق وإليه ذهب من الصحابة: عمر, وعلي, وابن مسعود, وابن عباس, ومن التابعين وأتباعهم: كعب الأحبار, وسعيد بن جبير, وقتادة, ومسروق, وعكرمة, وعطاء, ومقاتل, والزهري, والسدي, وهي رواية عكرمة وسعيد بن جبير [ عن ابن عباس, وقالوا: كانت هذه القصة بالشام ] .

وروي عن سعيد بن جبير قال: أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام ، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى, فلما أمره الله تعالى بذبح الكبش, ذبحه وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة وطويت له الأودية والجبال.

وقال آخرون: هو إسماعيل, وإليه ذهب عبد الله بن عمر, وهو قول سعيد بن المسيب, والشعبي, والحسن البصري, ومجاهد, والربيع بن أنس, ومحمد بن كعب القرظي, والكلبي, وهي رواية عطاء بن أبي رباح, ويوسف بن ماهك عن ابن عباس, قال: المفدى إسماعيل.

وكلا القولين يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن ذهب إلى أن الذبيح إسحاق احتج من القرآن بقوله: ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) ( الصافات- 101 ) أمره بذبح من بشره به, وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى إسحاق, كما قال في سورة هود: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ ( هود- 71 ) .

ومن ذهب إلى أنه إسماعيل احتج بأن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق بعد الفراغ من قصة المذبوح فقال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ( الصافات- 112 ) دل على أن المذبوح غيره, وأيضًا قال الله تعالى في سورة هود: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ( هود- 71 ) فكما بشره بإسحاق بشره بابنه يعقوب, فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة منه.

قال القرظي: سأل عمر بن عبد العزيز رجلا كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل, ثم قال: يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك, ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله تعالى بذبحه, ويزعمون أنه إسحاق.

ومن الدليل عليه: أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج.

قال الشعبي: رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة.

وعن ابن عباس قال: والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وأن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة, قد وحش, يعني يبس.

قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال: يا صميع أين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة؟ إنما كان إسماعيل بمكة, وهو الذي بنى البيت مع أبيه.

وأما قصة الذبح قال السدي: لما دعا إبراهيم فقال: رب هب لي من الصالحين, وبشر به, قال: هو إذًا لله ذبيح, فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له: أوف بنذرك, هذا هو السبب في أمر الله تعالى إياه بذبح ابنه, فقال عند ذلك, لإسحاق: انطلق فقرب قربانًا لله تعالى فأخذ سكينًا وحبلا وانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال, فقال له الغلام: يا أبت أين قربانك؟ فقال: « يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر » .

وقال محمد بن إسحاق: كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة, ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام, حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي, وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته, أمر في المنام أن يذبحه, وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا, فلما أصبح روي في نفسه أي: فكر من الصباح إلى الرواح, أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى في المنام ثانيًا, فلما أصبح عرف أن ذلك من الله عز وجل, فمن ثم سمي يوم عرفة.

قال مقاتل: رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متواليات, فلما تيقن ذلك أخبر به ابنه, فقال: « يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى » .

قرأ حمزة والكسائي: « ترى » بضم التاء وكسر الراء - ماذا تشير, وإنما أمره ليعلم صبره على أمر الله تعالى, وعزيمته على طاعته.

وقرأ العامة بفتح التاء والراء إلا أبا عمرو فإنه يميل الراء.

قال له ابنه: ( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ) وقال ابن إسحاق وغيره: فلما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه: يا بني خذ الحبل والمدية ننطلق إلى هذا الشعب نحتطب, فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما أمر, ( قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) .

 

فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ( 103 )

( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) انقادا وخضعا لأمر الله تعالى, قال قتادة: أسلم إبراهيم ابنه وأسلم الابن نفسه, ( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) أي: صرعه على الأرض. قال ابن عباس: أضجعه على جبينه على الأرض والجبهة بين الجبينين, قالوا: فقال له ابنه الذي أراد ذبحه: يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب, واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء فينقص أجري وتراه أمي فتحزن, واشحذ شفرتك, وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون عليَّ فإن الموت شديد, وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني, وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل, فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني, فقال له إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ففعل إبراهيم ما أمر به ابنه, ثم أقبل عليه فقبله وقد ربطه وهو يبكي [ والابن أيضًا يبكي ] ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تحك السكين.

ويروى أنه كان يجر الشفرة في حلقه فلا تقطع, فشحذها مرتين أو ثلاثة بالحجر, كل ذلك لا تستطيع.

قال السدي: ضرب الله تعالى صفحة من نحاس على حلقه قالوا: فقال الابن عند ذلك: يا أبت كبني لوجهي على جبيني فإنك إذا نظرت في وجهي رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله تعالى, وإني لا أنظر إلى الشفرة فأجزع, ففعل ذلك إبراهيم ثم وضع الشفرة على قفاه فانقلبت السكين ونودي: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.

وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار وابن إسحاق عن رجاله قال: لما رأى إبراهيم ذبح ابنه قال الشيطان: لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن منهم أحدًا أبدًا, فتمثل له الشيطان رجلا وأتى أم الغلام, فقال لها: هل تدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: ذهب به يحتطبان من هذا الشعب, قال: لا والله ما ذهب به إلا ليذبحه, قالت: كلا هو أرحم به وأشد حبا له من ذلك, قال: إنه يزعم أن الله قد أمره بذلك, قالت: فإن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه, فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن وهو يمشي على إثر أبيه, فقال له: يا غلام هل تدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: نحتطب لأهلنا من هذا الشعب, قال: والله ما يريد إلا أن يذبحك, قال: ولم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك, قال: فليفعل ما أمره به ربه فسمعًا وطاعة, فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم عليه السلام فقال له: أين تريد أيها الشيخ؟ قال: أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه, قال: والله إني لا أرى الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك هذا, فعرفه إبراهيم عليه السلام, فقال: إليك عني يا عدو الله فوالله لأمضين لأمر ربي, فرجع إبليس بغيظه لم يصب من إبراهيم وآله شيئًا مما أراد, قد امتنعوا منه بعون الله تعالى.

وروى أبو الطفيل عن ابن عباس: أن إبراهيم لما أمر بذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم, ثم ذهب إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب, ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب, ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب, ثم مضى إبراهيم لأمر الله عز وجل .

قال الله عز وجل: « فلما أسلما وتله للجبين »

وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ( 104 ) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 105 ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ( 106 ) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( 107 )

( وَنَادَيْنَاهُ ) الواو في « وناديناه » مقحمة صلة, مجازه: ناديناه كقوله: وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ ( يوسف- 15 ) أي: أوحينا إليه, فنودي من الجبل: ( أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) , تم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال: ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) والمعنى: إنا كما عفونا إبراهيم عن ذبح ولده نجزي من أحسن في طاعتنا, قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه.

( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) الاختيار الظاهر حيث اختبره بذبح ابنه. وقال مقاتل: البلاء هاهنا: النعمة, وهي أن فدي ابنه بالكبش.

فإن قيل: كيف قال: صدقت الرؤيا, وكان قد رأى الذبح ولم يذبح؟.

قيل: جعله مصدقًا لأنه قد أتى بما أمكنه, والمطلوب إسلامهما لأمر الله تعالى وقد فعلا.

وقيل: [ كان قد ] رأى في النوم معاجلة الذبح ولم ير إراقة الدم, وقد فعل في اليقظة ما رأى في النوم, فلذلك قال له: « قد صدقت الرؤيا » .

( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) فنظر إبراهيم فإذا هو بجبريل ومعه كبش أملح أقرن, فقال: هذا فداء لابنك فاذبحه دونه, فكبر جبريل, وكبر الكبش, وكبر ابنه, فأخذ إبراهيم الكبش فأتى به المنحر من منى فذبحه.

قال أكثر المفسرين: كان ذلك الكبش رعى في الجنة أربعين خريفًا .

وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قربه ابن آدم هابيل .

قال سعيد بن جبير: حق له أن يكون عظيمًا. قال مجاهد: سماه عظيمًا لأنه متقبل . وقال الحسين بن الفضل: لأنه كان من عند الله. وقيل: عظيم في الشخص. وقيل: في الثواب.

وقال الحسن: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير .

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ( 108 ) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ( 109 ) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 110 ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 111 ) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ( 112 ) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ( 113 ) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ( 114 ) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( 115 ) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ( 116 ) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ( 117 ) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 118 ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ ( 119 ) سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ( 120 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 121 ) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 122 )

( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) أي: تركنا له في الآخرين ثناءً حسنًا.

( سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) فمن جعل الذبيح إسماعيل قال: بشره بعد هذه القصة بإسحاق نبيًا جزاء لطاعته, ومن جعل الذبيح إسحاق قال: بشر إبراهيم بنبوة إسحاق. رواه عكرمة عن ابن عباس. قال: بشر به مرتين حين ولد وحين نبئ.

( وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ ) يعني: على إبراهيم في أولاده, ( وعلى إسحاق ) بكون أكثر الأنبياء من نسله, ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ ) أي: مؤمن, ( وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) أي: كافر, ( مُبِينٌ ) ظاهر.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) أنعمنا عليهما بالنبوة.

( وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا ) بني إسرائيل, ( مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) أي: الغم العظيم وهو الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم. وقيل: من الغرق.

( وَنَصَرْنَاهُم ) يعني: موسى وهارون وقومهما, ( فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ) على القبط. ( وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ) أي: المستنير وهو التوراة.

( وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) .

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 123 )

قوله تعالى: ( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) روي عن عبد الله بن مسعود قال: إلياس هو إدريس. وفي مصحفه: وإن إدريس لمن المرسلين. وهذا قول عكرمة.

وقال الآخرون: هو نبي من أنبياء بني إسرائيل.

قال ابن عباس: هو ابن عم اليسع.

قال محمد بن إسحاق: هو إلياس بن بشر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.

وقال أيضا محمد بن إسحاق, والعلماء من أصحاب الأخبار: لما قبض الله عز وجل حزقيل النبي صلى الله عليه وسلم, عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشرك, ونصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله, فبعث الله عز وجل إليهم إلياس نبيًا وكانت الأنبياء من بني إسرائيل يبعثون بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة, وبنو إسرائيل كانوا متفرقين في أرض الشام, وكان سبب ذلك أن يوشع بن نون لما فتح الشام بوأها بني إسرائيل وقسمها بينهم, فأحل سبطا منهم ببعلبك ونواحيها, وهم السبط الذين كان منهم إلياس فبعثه الله تعالى إليهم نبيًا, وعليهم يومئذ ملك يقال له: آجب قد أضل قومه وأجبرهم على عبادة الأصنام, وكان يعبد هو وقومه صنمًا يقال له: بعل, وكان طوله عشرين ذراعًا وله أربعة وجوه, فجعل إلياس يدعوهم إلى الله عز وجل وهم لا يسمعون منه شيئًا إلا ما كان من أمر الملك فإنه صدقه وآمن به فكان إلياس يقوم أمره ويسدده ويرشده, وكان لآجب الملك هذا امرأة يقال لها: أزبيل وكان يستخلفها على رعيته إذا غاب عنهم في غزاة أو غيرها, وكانت تبرز للناس وتقضي بين الناس, وكانت قتالة للأنبياء, يقال: هي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام, وكان لها كاتب رجل مؤمن حكيم يكتم إيمانه, وكان قد خلص من يدها ثلثمائة نبي كانت تريد قتل كل واحد منهم إذا بعث سوى الذين قتلتهم, وكانت في نفسها غير محصنة, وكانت قد تزوجت سبعة من ملوك بني إسرائيل, وقتلت كلهم بالاغتيال وكانت معمرة يقال أنها ولدت سبعين ولدًا وكان لآجب هذا جار رجل صالح يقال له مزدكي, وكانت له جنينة يعيش منها, ويقبل على عمارتها ومرمتها وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته, وكانا يشرفان على تلك الجنينة يتنـزهان فيها ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها, وكان آجب الملك يحسن جوار صاحبها مزدكي, ويحسن إليه, وامرأته أزبيل تحسده لأجل تلك الجنينة, وتحتال أن تغصبها منه لما تسمع الناس يكثرون ذكرها ويتعجبون من حسنها, وتحتال أن تقتله والملك ينهاها عن ذلك ولا تجد عليه سبيلا ثم إنه اتفق خروج الملك إلى سفر بعيد وطالت غيبته فاغتنمت امرأته أزبيل ذلك فجمعت جمعًا من الناس وأمرتهم أن يشهدوا على مزدكي أنه سب زوجها آجب فأجابوها إليه, وكان في حكمهم في ذلك الزمان القتل على من سب الملك إذا قامت عليه البينة, فأحضرت مزدكي وقالت له: بلغني أنك شتمت الملك فأنكر مزدكي, فأحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور, فأمرت بقتله وأخذت جنينته, فغضب الله عليهم للعبد الصالح, فلما قدم الملك من سفره أخبرته الخبر, فقال لها: ما أصبت ولا أرانا نفلح بعده, فقد جاورنا منذ زمان فأحسنا جواره وكففنا عنه الأذى لوجوب حقه علينا, فختمت أمره بأسوأ الجوار, فقالت: إنما غضبت لك وحكمت بحكمك, فقال لها: أو ما كان يسعه حلمك فتحفظين له جواره؟ قالت: قد كان ما كان, فبعث الله تعالى إلياس إلى آجب الملك وقومه, وأمره أن يخبرهم أن الله تعالى قد غضب لوليه حين قتلوه ظلمًا, وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ولم يردا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما, يعني آجب وامرأته, في جوف الجنينة, ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى تتعرى عظامهما من لحومهما, ولا يتمتعان بها إلا قليلا قال: فجاء إلياس وأخبره بما أوحى الله تعالى إليه في أمره وأمر امرأته ورد الجنينة, فلما سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ثم قال له: يا إلياس والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلا وما أرى فلانًا وفلانًا - سمى ملوكًا منهم قد عبدوا الأوثان - إلا على مثل ما نحن عليه يأكلون ويتمتعون مملكين ما ينقص من دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل, وما نرى لنا عليهم من فضل، قال: وهَمَّ الملك بتعذيب إلياس وقتله, فلما أحس إلياس بالشر [ والمكر به ] رفضه وخرج عنه, فلحق بشواهق الجبال, وعاد الملك إلى عبادة بعل, وارتقى إلياس إلى أصعب جبل وأشمخه فدخل مغارة فيه.

ويقال: إنه بقي سبع سنين شريدًا خائفًا يأوي إلى الشعاب والكهوف يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم في طلبه قد وضعوا عليه العيون والله يستره, فلما مضى سبع سنين أذن الله في إظهاره عليهم وشفاء غيظه منهم, فأمرض الله عز وجل ابنًا لآجب وكان أحب ولده إليه وأشبههم به, فأدنف حتى يئس منه, فدعا صنمه بعلا - وكانوا قد فتنوا ببعل وعظموه حتى جعلوا له أربعمائة سادن - فوكلوهم به وجعلوهم أنبياءه ، وكان الشيطان يدخل في جوف الصنم فيتكلم, والأربعمائة يصغون بآذانهم إلى ما يقول الشيطان ويوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيبثونها للناس, فيعملون بها ويسمونهم أنبياء.

فلما اشتد مرض ابن الملك طلب إليهم الملك أن يتشفعوا إلى بعل, ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء فدعوه فلم يجبهم, ومنع الله الشيطان فلم يمكنه الولوج في جوفه, وهم مجتهدون في التضرع إليه, فلما طال عليهم ذلك قالوا لآجب: إن في ناحية الشام آلهة أخرى فابعث إليها أنبياءك فلعلها تشفع لك إلى إلهك بعل, فإنه غضبان عليك, ولولا غضبه عليك لأجابك, قال آجب: ومن أجل ماذا غضب عليَّ وأنا أطيعه؟ قالوا: من أجل أنك لم تقتل إلياس وفرطت فيه حتى نجا سليمًا وهو كافر بإلهك, قال آجب: وكيف لي أن أقتل إلياس وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابني, وليس لإلياس مطلب ولا يعرف له موضع فيقصد, فلو عوفي ابني لفرغت لطلبه حتى أجده فأقتله فأرضي إلهي, ثم إنه بعث أنبياءه الأربعمائة إلى الآلهة التي بالشام يسألونها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفي ابنه, فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه إلياس أوحى الله تعالى إلى إلياس عليه السلام أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويكلمهم, وقال له: لا تخف فإني سأصرف عنك شرهم وألقي الرعب في قلوبهم, فنـزل إلياس من الجبل, فلما لقيهم استوقفهم, فلما وقفوا قال لهم: إن الله تعالى أرسلني إليكم وإلى من ورائكم فاسمعوا أيها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم فارجعوا إليه, وقولوا له: إن الله تعالى يقول لك: ألست تعلم يا آجب إني أنا الله لا إله إلا أنا إله بني إسرائيل الذي خلقهم, ورزقهم وأحياهم وأماتهم، فجهلك وقلة علمك حملك على أن تشرك بي, وتطلب الشفاء لابنك من غيري ممن لا يملكون لأنفسهم شيئًا إلا ما شئت, إني حلفت باسمي لأغيظنك في ابنك ولأميتنه في فوره هذا حتى تعلم أن أحدًا لا يملك له شيئًا دوني.

فلما قال لهم هذا رجعوا وقد ملئوا منه رعبًا, فلما صاروا إلى الملك أخبروه بأن إلياس قد انحط عليهم, وهو رجل نحيف طوال قد نحل وتمعط شعره وتقشر جلده, عليه جبة من شعر وعباءة قد خللها على صدره بخلال فاستوقفنا فلما صار معنا قذف له في قلوبنا الهيبة والرعب فانقطعت ألسنتنا ونحن في هذا العدد الكثير فلم نقدر على أن نكلمه ونراجعه حتى رجعنا إليك, وقصوا عليه كلام إلياس, فقال آجب: لا ننتفع بالحياة ما كان إلياس حيًا وما يطاق إلا بالمكر والخديعة, فقيض له خمسين رجلا من قومه ذوي القوة والبأس, وعهد إليهم عهده, وأمرهم بالاحتيال له والاغتيال به وأن يطمعوه في أنهم قد آمنوا به, هم ومن وراءهم [ ليستنهم إليهم ] ويغتر بهم فيمكنهم من نفسه فيأتون به ملكهم, فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذي فيه إلياس, ثم تفرقوا فيه ينادونه بأعلى أصواتهم, ويقولون: يا نبي الله ابرز لنا وامنن علينا بنفسك, فإنا قد آمنا بك وصدقناك, وملكنا آجب وجميع قومنا, وأنت آمن على نفسك، وجميع بني إسرائيل يقرؤون عليك السلام ويقولون: قد بلغتنا رسالتك وعرفنا ما قلت, [ فآمنا بك وأجبناك إلى ما دعوتنا فهلم إلينا وأقم بين أظهرنا واحكم فينا ] فإنا ننقاد لما أمرتنا, وننتهي عما نهيتنا وليس يسعك أن تتخلف عنا مع إيماننا وطاعتنا, فارجع إلينا. وكل هذا منهم مماكرة وخديعة.

فلما سمع إلياس مقالتهم وقعت في قلبه وطمع في إيمانهم, وخاف الله إن هو لم يظهر لهم, فألهمه الله التوقف والدعاء, فقال: اللهم إن كانوا صادقين فيما يقولون فأذن لي في البروز إليهم, وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم, فما استتم قوله حتى حصبوا بالنار من فوقهم, فاحترقوا أجمعين, قال: وبلغ آجب الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء, واحتال ثانيًا في أمر إلياس, وقيض له فئة أخرى مثل عدد أولئك أقوى منهم وأمكن من الحيلة والرأي, فأقبلوا, أي: حتى توقلوا, أي: صعدوا قلل تلك الجبال متفرقين, وجعلوا ينادون يا نبي الله إنا نعوذ بالله وبك من غضب الله وسطواته, إنا لسنا كالذين أتوك قبلنا وإن أولئك فرقة نافقوا فصاروا إليك ليكيدوا بك في غير رأينا, ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤنتهم, فالآن قد كفاك ربك أمرهم وأهلكهم وانتقم لنا ولك منهم, فلما سمع إلياس مقالتهم دعا الله بدعوته الأولى فأمطر عليهم النار, فاحترقوا عن آخرهم, وفي كل ذلك ابن الملك في البلاء الشديد من وجعه, فلما سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيًا ازداد غضبًا على غضب, وأراد أن يخرج في طلب إلياس بنفسه, إلا أنه شغله عن ذلك مرض ابنه, فلم يمكنه فوجه نحو إلياس المؤمن الذي هو كاتب امرأته رجاء أن يأنس به إلياس فينـزل معه, وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءًا, وإنما أظهر له لما اطلع عليه من إيمانه, وكان الملك مع اطلاعه على إيمانه مغضيًا عليه لما هو عليه من الكفاية والأمانة وسداد الرأي, فلما وجهه نحوه أرسل معه فئة من أصحابه, وأوعز إلى الفئة - دون الكاتب - أن يوثقوا إلياس ويأتوا به إن أراد التخلف عنهم, وإن جاء مع الكاتب واثقًا به لم يروعوه, ثم أظهر مع الكاتب الإنابة وقال له: قد آن لي أن أتوب وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا والبلاء الذي فيه ابني, وقد عرفت أن ذلك بدعوة إلياس, ولست آمن أن يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته, فانطلق إليه وأخبره أنا قد تبنا وأنبنا, وأنه لا يصلحنا في توبتنا, وما نريد من رضاء ربنا وخلع أصنامنا إلا أن يكون إلياس بين أظهرنا, يأمرنا وينهانا, ويخبرنا بما يرضي ربنا, وأمر قومه فاعتزلوا الأصنام, وقال له: أخبر إلياس أنا قد خلعنا آلهتنا التي كنا نعبد, وأرجينا أمرها حتى ينـزل إلياس فيكون هو الذي يحرقها ويهلكها, وكان ذلك مكرًا من الملك.

فانطلق الكاتب والفئة حتى علا الجبل الذي فيه إلياس ثم ناداه, فعرف إلياس صوته, فتاقت نفسه إليه وكان مشتاقًا إلى لقائه فأوحى الله تعالى إليه أن ابرز إلى أخيك الصالح فالقه, وجدد العهد به فبرز إليه وسلم عليه وصافحه, وقال له: ما الخبر؟ فقال المؤمن: إنه قد بعثني إليك هذا الجبار الطاغية وقومه, ثم قص عليه ما قالوا ثم قال له: وإني لخائف إن رجعت إليه ولست معي أن يقتلني فمرني بما شئت أفعله, إن شئت انقطعت إليك وكنت معك وتركته, وإن شئت جاهدته معك وإن شئت ترسلني إليه بما تحب فأبلغه رسالتك, وإن شئت دعوت ربك يجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا, فأوحى الله تعالى إلى إلياس أن كل شيء جاءك منهم مكر وكذب ليظفروا بك, وإن آجب إن أخبرته رسله أنك قد لقيت هذا الرجل ولم يأت بك اتهمه وعرف أنه قد داهن في أمرك, فلم يأمن أن يقتله, فانطلق معه فإني سأشغل عنكما آجب فأضاعف على ابنه البلاء, حتى لا يكون له همٌّ غيره, ثم أميته على شر حال, فإذا مات فارجع عنه, قال فانطلق معهم حتى قدموا على آجب, فلما قدموا شدد الله تعالى الوجع على ابنه وأخذ الموت يكظمه, فشغل الله تعالى بذلك آجب وأصحابه عن إلياس, فرجع إلياس سالمًا إلى مكانه, فلما مات ابن آجب وفرغوا من أمره وقل جزعه انتبه لإلياس, وسأل عنه الكاتب الذي جاء به, فقال: ليس لي به علم شغلني عنه موت ابنك والجزع عليه, ولم أكن أحسبك إلا قد استوثقت منه, فانصرف عنه آجب وتركه لما فيه من الحزن على ابنه.

فلما طال الأمر على إلياس ملَّ السكون في الجبال واشتاق إلى الناس نـزل من الجبل فانطلق حتى نـزل بامرأة من بني إسرائيل, وهي أم يونس بن متى ذي النون استخفى عندها ستة أشهر ويونس بن متى يومئذ مولود يرضع, فكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها, ثم إن إلياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال, فأحب اللحوق بالجبال فخرج وعاد إلى مكانه, فجزعت أم يونس لفراقه فأوحشها فقده, ثم لم تلبث إلا يسيرًا حتى مات ابنها يونس حين فطمته, فعظمت مصيبتها فخرجت في طلب إلياس, فلم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه, فوجدته وقالت له: إني قد فجعت بعدك لموت ابني فعظمت فيه مصيبتي واشتد لفقده بلائي, وليس لي ولد غيره, فارحمني وادع لي ربك جل جلاله ليحيي لي ابني وإني قد تركته مسجى لم أدفنه, وقد أخفيت مكانه، فقال لها إلياس: ليس هذا مما أمرت به, وإنما أنا عبد مأمور أعمل بما يأمرني ربي, فجزعت المرأة وتضرعت فأعطف الله تعالى قلب إلياس لها, فقال لها: متى مات ابنك؟ قالت: منذ سبعة أيام فانطلق إلياس معها وسار سبعة أيام أخرى حتى انتهى إلى منـزلها, فوجد ابنها ميتًا له أربعة عشر يومًا, فتوضأ وصلى ودعا, فأحيا الله تعالى يونس بن متى, فلما عاش وجلس وثب إلياس وتركه وعاد إلى موضعه.

فلما طال عصيان قومه ضاق بذلك إلياس ذرعًا فأوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود: يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه؟ ألست أميني على وحيي وحجتي في أرضي وصفوتي من خلقي؟ فسلني أعطك, فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم, قال: تميتني وتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملوني, فأوحى الله تعالى إليه: يا إلياس ما هذا باليوم الذي أعري عنك الأرض وأهلها, وإنما قوامها وصلاحها بك وبأشباهك, وإن كنتم قليلا ولكن سلني فأعطك, فقال إلياس: إن لم تمتني فأعطني ثأري من بني إسرائيل, قال الله تعالى: فأي شيء تريد أن أعطيك؟ قال تمكنني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشر عليهم سحابة إلا بدعوتي, ولا تمطر عليهم سبع سنين قطرة إلا بشفاعتي, فإنهم لا يذلهم إلا ذلك, قال الله تعالى: يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك, وإن كانوا ظالمين, قال: فست سنين, قال: أنا أرحم بخلقي من ذلك, قال: فخمس سنين, قال: أنا أرحم بخلقي من ذلك ولكني أعطيك ثأرك ثلاث سنين, أجعل خزائن المطر بيدك, قال إلياس: فبأي شيء أعيش؟ قال: أسخر لك جيشًا من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف والأرض التي لم تقحط, قال إلياس: قد رضيت, قال: فأمسك الله تعالى عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر وجهد الناس جهدًا شديدًا, وإلياس على حالته مستخف من قومه, يوضع له الرزق حيث ما كان, وقد عرف ذلك قومه وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في بيت قالوا: لقد دخل إلياس هذا المكان, وطلبوه ولقي من أهل ذلك المنـزل شرًا.

قال ابن عباس: أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط, فمر إلياس بعجوز فقال لها: هل عندك طعام؟ قالت: نعم شيء من دقيق وزيت قليل, قال: فدعا بهما ودعا فيه بالبركة ومسه حتى ملأ جرابها دقيقًا, وملأ خوابيها زيتًا, فلما رأوا ذلك عندها قالوا: من أين لك هذا؟ قالت: مر بي رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بوصفه فعرفوه, فقالوا: ذلك إلياس, فطلبوه فوجدوه فهرب منهم, ثم إنه أوى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب, به ضر فآوته وأخفت أمره, فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به, واتبع اليسع إلياس فآمن به وصدقه ولزمه, وكان يذهب حيث ما ذهب وكان إلياس قد أسن فكبر واليسع شاب, ثم إن الله تعالى أوحى إلى إلياس: أنك قد أهلكت كثيرًا من الخلق ممن لم يعص من البهائم والدواب والطير والهوام بحبس المطر, فيزعمون - والله أعلم - أن إلياس قال: يا رب دعني أكن أنا الذي أدعوا لهم وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء, لعلهم أن يرجعوا وينـزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك, فقيل له: نعم، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل, فقال: إنكم قد هلكتم جوعًا وجهدًا, وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر بخطاياكم, وإنكم على باطل فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم, فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون, وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل, فنـزعتم ودعوت الله تعالى ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء, قالوا: أنصفت فخرجوا بأوثانهم فدعوها, فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء, ثم قالوا لإلياس: إنا قد هلكنا فادع الله تعالى لنا, فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج, فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون, فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر فأغاثهم, وأحييت بلادهم, فلما كشف الله تعالى عنهم الضر نقضوا العهد, ولم ينـزعوا عن كفرهم وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه, فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه عز وجل أن يريحه منهم, فقيل له فيما يزعمون: انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه, فخرج إلياس ومعه اليسع حتى إذا كانا بالموضع الذي أمر أقبل فرس من نار, وقيل: لونه كلون النار, حتى وقف بين يديه, فوثب عليه إلياس, فانطلق به الفرس فناداه اليسع: يا إلياس, ما تأمرني؟ فقذف إليه إلياس بكسائه من الجو الأعلى, فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل, فكان ذلك آخر العهد به, فرفع الله تعالى إلياس من بين أظهرهم, وقطع عنه لذة المطعم والمشرب, وكساه الريش فكان إنسيًا ملكيًا أرضيًا سماويًا, وسلط الله تعالى على آجب الملك وقومه عدوًا لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى رهقهم, فقتل آجب وامرأته أزبيل في بستان مزدكي, فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما, ونبأ الله تعالى اليسع وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل, وأوحى الله تعالى إليه وأيده, فآمنت به بنو إسرائيل فكانوا يعظمونه, وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع. .

وروى السري بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي رواد, قال: الخضر وإلياس يصومان شهر رمضان ببيت المقدس, ويوافيان الموسم في كل عام.

وقيل: إن إلياس موكل بالفيافي, والخضر موكل بالبحار فذلك قوله تعالى: « وإن إلياس لمن المرسلين » .

إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ( 124 ) أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ( 125 ) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ( 126 )

( إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ ) أتعبدون ( بَعْلا ) وهو اسم صنم لهم كانوا يعبدونه, ولذلك سميت مدينتهم بعلبك, قال مجاهد وعكرمة وقتادة: « البعل » : الرب بلغة أهل اليمن.

( وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) فلا تعبدونه.

( اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) قرأ حمزة, والكسائي, وحفص, ويعقوب: « الله ربكم ورب » بنصب الهاء والباءين على البدل, وقرأ الآخرون برفعهن على الاستئناف.

 

فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( 127 ) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 128 )

( فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) في النار.

( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) من قومه فإنهم نجوا من العذاب.

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ( 129 ) سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ( 130 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 131 ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 132 ) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 133 ) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ( 134 ) إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ( 135 ) ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ ( 136 ) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ( 137 ) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 138 ) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 139 )

( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) قرأ نافع وابن عامر: « آل ياسين » بفتح الهمزة مشبعة, وكسر اللام مقطوعة, لأنها في المصحف مفصولة, [ وقرأ الآخرون بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة ]

فمن قرأ « آل يس » مقطوعة, قيل: أراد آل محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا القول بعيد لأنه لم يسبق له ذكر. وقيل: أراد آل إلياس.

والقراءة المعروفة بالوصل, واختلفوا فيه, فقد قيل: إلياسين لغة في إلياس, مثل: إسماعيل وإسماعين, وميكائيل وميكائين.

وقال الفراء: هو جمع أراد إلياس وأتباعه من المؤمنين, فيكون بمنـزلة الأشعرين والأعجمين بالتخفيف, وفي حرف عبد الله بن مسعود: سلام على إدراسين يعني: إدريس وأتباعه, لأنه يقرأ: وإن إدريس لمن المرسلين .

( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ) أي: الباقين في العذاب.

( ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ ) والتدمير: الإهلاك.

( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ ) على آثارهم ومنازلهم, ( مُصْبِحِينَ ) وقت الصباح.

( وَبِاللَّيْلِ ) يريد: تمرون بالنهار وبالليل عليهم إذا ذهبتم إلى أسفاركم ورجعتم, ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) فتعتبرون بهم.

قوله تعالى: ( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) من جملة رسل الله.

إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( 140 ) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ( 141 ) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ( 142 ) فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ( 143 ) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 144 ) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ( 145 )

( إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) يعني: هرب.

قال ابن عباس رضي الله عنهما, ووهب: كان يونس وعد قومه العذاب, فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمشور منهم, فقصد البحر فركب السفينة, فاحتبست السفينة فقال الملاحون: هاهنا عبد آبق من سيده, فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس, فاقترعوا ثلاثًا فوقعت على يونس, فقال يونس: أنا الآبق, وزج نفسه في الماء.

وروي في القصة: أنه لما وصل إلى البحر كانت معه امرأته وابنان له, فجاء مركب فأراد أن يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها, فحال الموج بينه وبين المركب ومر المركب, ثم جاءت موجة أخرى وأخذت ابنه الأكبر وجاء ذئب فأخذ الابن الأصغر, فبقي فريدًا, فجاء مركب آخر فركبه فقعد ناحية من القوم, فلما مرت السفينة في البحر ركدت, فاقترعوا, وقد ذكرنا القصة في سورة يونس .

فذلك قوله عز وجل: ( فَسَاهَمَ ) فقارع, والمساهمة: إلقاء السهام على جهة القرعة, ( فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) المقروعين.

( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ) ابتلعه, ( وَهُوَ مُلِيمٌ ) آت بما يلام عليه.

( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) من الذاكرين لله قبل ذلك, وكان كثير الذكر, وقال ابن عباس: من المصلين. وقال وهب: من العابدين. وقال الحسن: ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملا صالحًا. وقال الضحاك: شكر الله تعالى له طاعته القديمة.

وقيل: « فلولا أنه كان من المسبحين » في بطن الحوت. قال سعيد بن جبير: يعني قوله: لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ( الأنبياء- 87 ) .

( لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) لصار بطن الحوت له قبرًا إلى يوم القيامة.

( فَنَبَذْنَاهُ ) طرحناه, ( بِالْعَرَاءِ ) يعني: على وجه الأرض, قال السدي: بالساحل, والعراء: الأرض الخالية عن الشجر والنبات ( وَهُوَ سَقِيمٌ ) عليل كالفرخ الممعط. وقيل: كان قد بلى لحمه ورق عظمه ولم يبق له قوة.

واختلفوا في مدة لبثه في بطن الحوت, فقال مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام. وقال عطاء: سبعة أيام. وقال الضحاك: عشرين يومًا. وقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يومًا. وقال الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية .

وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ( 146 ) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( 147 )

( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ ) أي: له, وقيل: عنده ( شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) يعني: القرع, على قول جميع المفسرين.

وقال الحسن ومقاتل: كل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض ليس له ساق ولا يبقى على الشتاء نحو القرع والقثاء والبطيخ فهو يقطين.

قال مقاتل بن حيان: فكان يونس يستظل بالشجرة, وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشية حتى اشتد لحمه ونبت شعره وقوي, فنام نومة فاستيقظ وقد يبست الشجرة فحزن حزنًا شديدًا وأصابه أذى الشمس فجعل يبكي, فبعث الله تعالى إليه جبريل وقال: أتحزن على شجرة ولا تحزن على مائة ألف من أمتك وقد أسلموا وتابوا.

فإن قيل: قال هاهنا: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ , وقال في موضع آخر: لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ ( القلم - 49 ) فهذا يدل على أنه لم ينبذ؟

قيل: لَوْلا هناك يرجع إلى الذم, معناه: لولا نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم, ولكن تداركه النعمة فنبذ, وهو غير مذموم.

قوله عز وجل: ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ ) قال قتادة: أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل قبل أن يصيبه ما أصابه, وقوله: « وأرسلناه » أي: وقد أرسلناه, وقيل: كان إرساله بعد خروجه من بطن الحوت إليهم, وقيل: إلى قوم آخرين. ( أَوْ يَزِيدُونَ ) قال ابن عباس: معناه: ويزيدون « أو » بمعنى الواو, كقوله: عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ( المرسلات - 6 ) , وقال مقاتل والكلبي: معناه بل يزيدون.

وقال الزجاج: « أو » هاهنا على أصله, ومعناه: أو يزيدون على تقديركم وظنكم, كالرجل يرى قومًا فيقول: هؤلاء ألف أو يزيدون, فالشك على تقدير المخلوقين, والأكثرون على أن معناه: ويزيدون.

واختلفوا في مبلغ تلك الزيادة فقال ابن عباس, ومقاتل: كانوا عشرين ألفًا, ورواه أبيُّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال الحسن: بضعًا وثلاثين ألفًا.

وقال سعيد بن جبير: سبعين ألفًا

فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ( 148 ) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ( 149 ) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ( 150 ) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ( 151 ) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 152 ) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ( 153 )

( فَآمَنُوا ) يعني: الذين أرسل إليهم يونس بعد معاينة العذاب, ( فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) إلى انقضاء آجالهم.

قوله تعالى: ( فَاسْتَفْتِهِم ) فاسأل يا محمد أهل مكة وهو سؤال توبيخ, ( أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) وذلك أن جهينة وبني سلمة بن عبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله يقول: جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين.

( أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا ) معناه: أخلقنا الملائكة إناثًا, ( وَهُمْ شَاهِدُونَ ) حاضرون خلقنا إياهم, نظيره قوله: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ( الزخرف - 19 ) .

( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ ) من كذبهم, ( لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) .

( أَصْطَفَى ) قرأ أبو جعفر: « لكاذبون * اصطفى » موصولا على الخبر عن قول المشركين, وعند الوقف يبتدئ: « اصطفى » بكسر الألف, وقراءة العامة بقطع الألف, لأنها ألف استفهام دخلت على ألف الوصل, فحذفت ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوحة مقطوعة, مثل: استكبر ونحوها, ( أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ) .

 

مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( 154 ) أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 155 ) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ( 156 )

( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) لله بالبنات ولكم بالبنين.

( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أفلا تتعظون.

( أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ) برهان بين على أن لله ولدًا.

فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 157 ) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( 158 ) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 159 ) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 160 ) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ( 161 ) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ( 162 ) إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( 163 ) وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ( 164 )

( فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ ) الذي لكم فيه حجة ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) في قولكم.

( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ) قال مجاهد وقتادة: أراد بالجنة: الملائكة, سموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار.

وقال ابن عباس: حي من الملائكة يقال لهم الجن, ومنهم إبليس, قالوا: هم بنات الله.

وقال الكلبي: قالوا - لعنهم الله - بل تزوج من الجن فخرج منها الملائكة تعالى الله عن ذلك, وقد كان زعم بعض قريش أن الملائكة بنات الله تعالى الله, فقال أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم, قالوا: سروات الجن .

وقال الحسن: معنى النسب أنهم أشركوا الشياطين في عبادة الله, ( وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُم ) يعني قائلي هذا القول ( لَمُحْضَرُونَ ) في النار, ثم نـزه نفسه عما قالوا فقال:

( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) هذا استثناء من المحضرين, أي: أنهم لا يحضرون.

قوله عز وجل: ( فَإِنَّكُمْ ) يقول لأهل مكة: ( وَمَا تَعْبُدُونَ ) من الأصنام.

( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) على ما تعبدون, ( بِفَاتِنِينَ ) بمضلين أحدًا.

( إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ) إلا من قدر الله أنه سيدخل النار, أي: سبق له في علم الله الشقاوة.

قوله عز وجل: ( وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ) يقول جبرائيل للنبي صلى الله عليه وسلم وما منا معشر الملائكة إلا له مقام معلوم, أي: ما منا ملك إلا له مقام معلوم في السموات يعبد الله فيه.

قال ابن عباس: ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يسبح.

وروينا عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أطت السماء, وحق لها أن تئط, والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله »

قال السدي: إلا له مقام معلوم في القربة والمشاهدة.

وقال أبو بكر الوراق: إلا له مقام معلوم يعبد الله عليه, كالخوف والرجاء والمحبة والرضا.

وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ( 165 ) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ( 166 ) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ( 167 ) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ ( 168 ) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 169 ) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 170 ) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ( 171 ) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ( 172 ) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( 173 )

( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) قال قتادة: هم الملائكة صفوا أقدامهم. وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء للعبادة كصفوف الناس في الأرض.

( وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) أي: المصلون المنـزهون الله عن السوء, يخبر جبريل عليه السلام [ النبي صلى الله عليه وسلم ] أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح, وأنهم ليسوا بمعبودين, كما زعمت الكفار, ثم أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال:

( وَإِنْ كَانُوا ) وقد كانوا يعني: أهل مكة, ( لَيَقُولُونَ ) لام التأكيد.

( لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ ) أي: كتابًا مثل كتاب الأولين.

( لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ ) أي: فلما أتاهم ذلك الكتاب كفروا به, ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) هذا تهديد لهم.

( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ) وهي قوله: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ( المجادلة - 21 ) .

( إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) أي: حزب الله لهم الغلبة بالحجة والنصرة في العاقبة.

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ( 174 ) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( 175 ) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( 176 ) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ( 177 ) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ( 178 ) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( 179 ) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 180 ) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ( 181 ) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 182 )

( فَتَوَلّ ) أعرض ( عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ) قال ابن عباس: يعني الموت. وقال مجاهد: يوم بدر. وقال السدي: حتى نأمرك بالقتال. وقيل: إلى أن يأتيهم عذاب الله, قال مقاتل بن حيان: نسختها آية القتال .

( وَأَبْصِرْهُمْ ) إذا نـزل بهم العذاب ( فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) ذلك فقالوا: متى هذا العذاب؟

قال الله عز وجل: ( أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نـزلَ ) يعني: العذاب ( بِسَاحَتِهِمْ ) قال مقاتل: بحضرتهم. وقيل: بفنائهم. قال الفراء : العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم, ( فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ) فبئس صباح الكافرين الذين أنذروا بالعذاب.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي, أخبرنا زاهر بن أحمد, أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي, أخبرنا أبو مصعب, أخبرنا مالك, عن حميد الطويل, عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى خيبر, أتاها ليلا وكان إذا جاء قومًا بليل لم يغز حتى يصبح, قال: فلما أصبح خرجت يهود خيبر بمساحيها ومكاتلها, فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد, والله, محمد والخميس, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الله أكبر خربت خيبر, إنا إذا نـزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين » .

ثم كرر ما ذكرنا تأكيدًا لوعيد العذاب فقال:

( وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ ) العذاب إذا نـزل بهم, ( فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) . ثم نـزه نفسه فقال:

( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّة ) الغلبة والقوة, ( عَمَّا يَصِفُونَ ) من اتخاذ الصاحبة والأولاد.

( وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ) الذين بلغوا عن الله التوحيد والشرائع.

( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) على هلاك الأعداء ونصرة الأنبياء عليهم السلام.

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرني ابن فنجويه, أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا إبراهيم بن سهلويه, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا وكيع, عن ثابت بن أبي صفية, عن أصبغ بن نباتة, عن علي قال: « من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة, فليكن آخر كلامه من مجلسه: سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين »

 

سورة ص

 

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ( 1 ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ( 2 )

( ص ) قيل: هو قسم, وقيل: اسم السورة كما ذكرنا في سائر حروف التهجي في أوائل السور.

وقال محمد بن كعب القرظي: « ص » مفتاح اسم الصمد, وصادق الوعد .

وقال الضحاك: معناه صدق الله .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: صدق محمد صلى الله عليه وسلم.

( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) أي ذي البيان, قاله ابن عباس ومقاتل. وقال الضحاك: ذي الشرف, دليله قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف- 44 ) , وهو قسم.

واختلفوا في جواب القسم, قيل: جوابه قد تقدم, وهو قوله « ص » أقسم الله تعالى بالقرآن أن محمدًا قد صدق.

وقال الفراء: « ص » معناها: وجب وحق, وهو جواب قوله: « والقرآن » كما تقول: نـزل والله .

وقيل: جواب القسم محذوف تقديره: والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقول الكفار, ودل على هذا المحذوف قوله تعالى: ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) .

قال قتادة: موضع القسم قوله: ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) كما قال: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا ( ق 1- 2 ) .

وقيل: فيه تقديم وتأخير, تقديره: بل الذين كفروا, ( فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) والقرآن ذي الذكر.

وقال الأخفش: جوابه قوله [ تعالى: إن كل إلا كذب الرسل « ( ص- 14 ) , كقوله: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا ( الشعراء- 97 ) وقوله: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ - إِنْ كُلُّ نَفْسٍ ( الطارق- 1 : 4 ) . »

وقيل: ] جوابه قوله: « إن هذا لرزقنا » ( ص- 54 ) .

وقال الكسائي: قوله: « إن ذلك لحق تخاصم أهل النار » ( ص- 64 ) , وهذا ضعيف لأنه تخلل بين هذا القسم وبين هذا الجواب أقاصيص وأخبار كثيرة.

وقال القتيـبي: بل لتدارك كلام ونفي آخر, ومجاز الآية: إن الله أقسم بـ ص والقرآن ذي الذكر أن الذين كفروا من أهل مكة في عزة حمية جاهلية وتكبر عن الحق وشقاق وخلاف وعداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم.

وقال مجاهد: « في عزة » معازِّين .

كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ( 3 )

( كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ) يعني: من الأمم الخالية, ( فَنَادَوْا ) استغاثوا عند نـزول العذاب وحلول النقمة, ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قوة ولا فرار « والمناص » مصدر ناص ينوص, وهو الفوت, والتأخر، يقال: ناص ينوص إذا تأخر, وباص يبوص إذا تقدم, و « لات » بمعنى ليس بلغة أهل اليمن .

وقال النحويون: هي « لا » زيدت فيها التاء, كقولهم: رب وربت وثم وثمت, وأصلها هاء وصلت بلا فقالوا: « لاة » كما قالوا: ثمه, فجعلوها في الوصل تاء, والوقف عليها بالتاء عند الزجاج, وعند الكسائي بالهاء: ولاة. ذهب جماعة إلى أن التاء زيدت في « حين » والوقف على « ولا » ثم يبتدئ: « تحين » , وهو اختيار أبي عبيدة, وقال: كذلك وجدت في مصحف عثمان, وهذا كقول أبي وجزة السعدي:

العـاطفون تحيـن ما من عاطف والمطمعـون زمـان مـا مـن مطعم

وفي حديث ابن عمر, وسأله رجل عن عثمان, فذكر مناقبه ثم قال: اذهب بها تلان إلى أصحابك, يريد: الآن.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب, قال بعضهم لبعض: مناص, أي: اهربوا وخذوا حذركم, فلما أنـزل الله بهم العذاب ببدر قالوا: مناص, فأنـزل الله تعالى: « ولات حين مناص » [ أي ليس ] حين هذا القول.

وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( 4 ) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( 5 )

( وَعَجِبُوا ) يعني: الكفار الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله: « بل الذين كفروا » ( أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) يعني: رسولا من أنفسهم ينذرهم ( وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) .

( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ) وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم, فشق ذلك على قريش, وفرح به المؤمنون, فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش, وهم الصناديد والأشراف, وكانوا خمسة وعشرين رجلا أكبرهم سنًا الوليد بن المغيرة, قال لهم: امشوا إلى أبي طالب, فأتوا أبا طالب, وقالوا له: أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء, وإنا قد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك, فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه, فقال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء, فلا تمل كل الميل على قومك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وماذا يسألوني؟ قالوا: ارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ فقال أبو جهل: لله أبوك لنعطيكها وعشرًا أمثالها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا لا إله إلا الله, [ فنفروا ] من ذلك وقاموا, وقالوا: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ كيف يسع الخلق كلهم إله واحد؟

( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) أي: عجيب, والعجب والعجاب واحد, كقولهم: رجل كريم وكرام, وكبير وكبار, وطويل وطوال, وعريض وعراض.

وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ( 6 ) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ( 7 ) أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ( 8 ) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ( 9 )

( وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ) أي: انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب, يقول بعضهم لبعض: امشوا واصبروا على آلهتكم, أي: اثبتوا على عبادة آلهتكم ( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) أي لأمر يراد بنا, وذلك أن عمر لما أسلم وحصل للمسلمين قوة بمكانه قالوا: إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لشيء يراد بنا.

وقيل: يراد بأهل الأرض, وقيل: يراد بمحمد أن يملك علينا.

( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا ) أي بهذا الذي يقوله محمد من التوحيد, ( فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما, والكلبي, ومقاتل: يعنون النصرانية, لأنها آخر الملل وهم لا يوحدون, بل يقولون ثالث ثلاثة.

وقال مجاهد وقتادة: يعنون ملة قريش ودينهم الذي هم عليه.

( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) كذب وافتعال.

( أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ) القرآن ( مِنْ بَيْنِنَا ) وليس بأكبرنا ولا أشرفنا, يقوله أهل مكة. قال الله عز وجل:

( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي ) أي وحيي وما أنـزلت, ( بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ) ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول.

( أَمْ عِنْدَهُمْ ) أعندهم, ( خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ) أي: نعمة ربك يعني: مفاتيح النبوة يعطونها من شاؤوا, نظيره: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ( الزخرف - 32 ) أي: نبوة ربك, ( الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) [ العزيز في ملكه, الوهاب ] وهب النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم.

أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ ( 10 ) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ ( 11 ) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ ( 12 )

( أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) أي: ليس لهم ذلك, ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) أي: إن ادعوا شيئًا من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء, وليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون, قال مجاهد وقتادة: أراد بالأسباب: أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء, وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سببه, وهذا أمر توبيخ وتعجيز.

( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ ) أي: هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند هنالك, و « ما » صلة, ( مَهْزُومٌ ) مغلوب, ( مِنَ الأحْزَابِ ) أي: من جملة الأجناد, يعني: قريشًا.

قال قتادة: أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين, فقال: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( القمر- 45 ) فجاء تأويلها يوم بدر ، و « هنالك » إشارة إلى بدر ومصارعهم, « من الأحزاب » أي: من جملة الأحزاب, أي: هم من القرون الماضية الذين تحزبوا وتجمعوا على الأنبياء بالتكذيب, فقهروا وأهلكوا. ثم قال معزيًا لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ ) قال ابن عباس, ومحمد بن كعب: ذو البناء المحكم, وقيل: أراد ذو الملك الشديد الثابت.

وقال القتيـبي: تقول العرب: هم في عز ثابت الأوتاد, يريدون أنه دائم شديد.

وقال الأسود بن يعفر: ولقــد غنوا فيها بأنـعم عيشـة فـي ظـل ملك ثـابت الأوتـاد

فأصل هذا أن بيوتهم كانت تثبت بالأوتاد.

وقال الضحاك: ذو القوة والبطش. وقال عطية: ذو الجنود والجموع الكثيرة, يعني: أنهم كانوا يقوون أمره, ويشدون ملكه, كما يقوي الوتد الشيء, وسميت الأجناد أوتادًا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها في أسفارهم, وهو رواية عطية عن ابن عباس.

وقال الكلبي ومقاتل: « الأوتاد » جمع الوتد, وكانت له أوتاد يعذب الناس عليها, وكان إذا غضب على أحد مده مستلقيًا بين أربعة أوتاد, وشد كل يد ورجل منه إلى سارية, ويتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتى يموت.

وقال مجاهد, ومقاتل بن حيان: كان يمد الرجل مستلقيًا على الأرض, يشد يديه ورجليه ورأسه على الأرض بالأوتاد.

وقال السدي: كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيات .

وقال قتادة وعطاء: كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب عليها بين يديه .

وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُولَئِكَ الأَحْزَابُ ( 13 ) إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ( 14 ) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ( 15 )

( وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ أُولَئِكَ الأحْزَابُ ) الذين تحزبوا على الأنبياء, فأعلم أن مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب.

( إِنْ كُلُّ ) ما كل, ( إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ) وجب عليهم ونـزل بهم عذابي. ( وَمَا يَنْظُرُ ) ينتظر ( هَؤُلاءِ ) يعني: كفار مكة, ( إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً ) وهي نفخة الصور, ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) قرأ حمزة, والكسائي: « فواق » بضم الفاء, وقرأ الآخرون بفتحها وهما لغتان, فالفتح لغة قريش, والضم لغة تميم.

قال ابن عباس وقتادة: من رجوع, أي: ما يرد ذلك الصوت فيكون له رجوع.

وقال مجاهد: نظرة. وقال الضحاك: مثنوية, أي صرف ورد.

والمعنى: أن تلك الصيحة التي هي ميعاد عذابهم إذا جاءت لم ترد ولم تصرف.

وفرق بعضهم بين الفتح والضم, فقال الفراء, وأبو عبيدة: الفتح بمعنى الراحة والإفاقة, كالجواب من الإجابة, ذهبا بها إلى إفاقة المريض من علته, والفواق بالضم ما بين الحلبتين, وهو أن تحلب الناقة ثم تترك ساعة حتى يجتمع اللبن, فما بين الحلبتين فواق, أي أن العذاب لا يمهلهم بذلك القدر .

وقيل: هما أيضًا مستعارتان من الرجوع, لأن اللبن يعود إلى الضرع بين الحلبتين, وإفاقة المريض: رجوعه إلى الصحة.

وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ( 16 )

( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) قال سعيد بن جبير [ عن ابن عباس ] : يعني كتابنا, و « القط » الصحيفة التي أحصت كل شيء.

قال الكلبي: لما نـزلت في الحاقة: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( الحاقة - 19 ) , وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ( الحاقة- 25 ) قالوا استهزاء: عجل لنا كتابنا في الدنيا قبل يوم الحساب. [ وقال سعيد بن جبير ] : يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول.

وقال الحسن, وقتادة, ومجاهد, والسدي: يعني عقوبتنا ونصيبنا من العذاب.

[ وقال عطاء: قاله ] النضر بن الحارث, وهو قوله: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ( الأنفال: 32 ) .

وعن مجاهد قال: « قطنا » حسابنا, ويقال لكتاب الحساب قط.

وقال أبو عبيدة والكسائي: « القط » : الكتاب بالجوائز .

 

اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 17 )

قال الله تعالى: ( اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) [ أي على ما يقوله ] الكفار من تكذيبك ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ ) قال ابن عباس: أي القوة في العبادة.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور السمعاني, أخبرنا أبو جعفر الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا أبو نعيم, حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عمرو بن أوس, عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أحب الصيام إلى الله صيام داود, وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود, كان يصوم يومًا ويفطر يومًا, وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه, وينام سدسه » .

وقيل: ذو القوة في الملك.

( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) رجاع إلى الله عز وجل بالتوبة عن كل ما يكره, قال ابن عباس: مطيع. قال سعيد بن جبير: مسبح بلغة الحبش.

إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ( 18 ) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ( 19 ) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ( 20 )

( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ ) كما قال: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ ( الأنبياء- 79 ) ( يُسَبِّحْنَ ) بتسبيحه, ( بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) قال الكلبي: غدوة وعشية. والإشراق: هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوؤها وفسره ابن عباس: بصلاة الضحى.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرني ابن فنجويه, حدثنا ابن أبي شيبة, حدثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم, حدثنا الحجاج بن نصير, أخبرنا أبو بكر الهذلي, عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس في قوله: « بالعشي والإشراق » قال: كنت أمر بهذه الآية لا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ, ثم صلى الضحى, فقال: « يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق » .

قوله عز وجل: ( وَالطَّيْرَ ) أي: وسخرنا له الطير, ( مَحْشُورَةً ) مجموعة إليه تسبح معه, ( كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) مطيع رجاع إلى طاعته بالتسبيح, وقيل: أواب معه أي مسبح.

( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ) أي: قويناه بالحرس والجنود, قال ابن عباس: كان أشد ملوك الأرض سلطانًا, كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا عبد الله بن حامد, أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن, حدثنا داود بن سليمان, حدثنا محمد بن حميد, حدثنا محمد بن الفضل, حدثنا داود بن أبي الفرات, عن علي بن أحمد, عن عكرمة, عن ابن عباس أن رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود - عليه السلام - أن هذا غصبني بقرًا, فسأله داود فجحد, فقال للآخر: البينة؟ فلم يكن له بينة, فقال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما, فأوحى الله إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه, فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت, فأوحى إليه مرة أخرى فلم يفعل, فأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة, فأرسل داود إليه فقال: إن الله أوحى إلي أن أقتلك, فقال: تقتلني بغير بينة؟ قال داود: نعم والله لأنفذن أمر الله فيك, فلما عرف الرجل أنه قاتله, قال: لا تعجل حتى أخبرك, إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته, فلذلك أخذت, فأمر به داود فقتل, فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود, واشتد به ملكه فذلك قوله عز وجل: « وشددنا ملكه » .

( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ ) يعني: النبوة والإصابة في الأمور, ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال ابن عباس: بيان الكلام.

وقال ابن مسعود, والحسن, والكلبي, ومقاتل: علم الحكم والتبصر في القضاء.

وقال علي بن أبي طالب: هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر, لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به.

ويروى ذلك عن أبيّ بن كعب قال: « فصل الخطاب » : الشهود والأيمان . وهو قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح.

وروي عن الشعبي: أن فصل الخطاب: هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه: « أما بعد » إذا أراد الشروع في كلام آخر, وأول [ من قاله داود عليه السلام.

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ( 21 )

قوله عز وجل: ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) هذه الآية من قصة امتحان داود عليه السلام, واختلف العلماء بأخبار الأنبياء عليهم السلام في سببه:

فقال قوم: سبب ذلك أنه عليه السلام تمنى يومًا من الأيام منـزلة إبراهيم وإسحاق ويعقوب, وسأل ربه أن يمتحنه كما امتحنهم, ويعطيه من الفضل مثل ما أعطاهم.

فروى السدي, والكلبي, ومقاتل: عن أشياخهم قد دخل حديث بعضهم في بعض, قالوا: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام يومًا يقضي فيه بين الناس, ويومًا يخلو فيه لعبادة ربه, ويوما لنسائه وأشغاله, وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب, فقال: يا رب أرى الخير كله وقد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي, فأوحى الله إليه: أنهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها, ابتلي إبراهيم بنمرود وبذبح ابنه, وابتلي إسحاق بالذبح وبذهاب بصره, وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف, فقال: رب لو ابتليتني بمثل ما ابتليتهم صبرت أيضًا. فأوحى الله إليه إنك مبتلى في شهر كذا وفي يوم كذا فاحترس, فلما كان ذلك اليوم الذي وعده الله دخل داود محرابه وأغلق بابه, وجعل يصلي ويقرأ الزبور, فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن - وقيل: كان جناحاها من الدر والزبرجد - فوقعت بين رجليه فأعجبه حسنها, فمد يده ليأخذها ويريها بني إسرائيل فينظروا إلى قدرة الله تعالى, فلما قصد أخذها طارت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها, فامتد إليها ليأخذها, فتنحت, فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة, فذهب ليأخذها, فطارت من الكوة, فنظر داود أين تقع فيبعث من يصيدها, فأبصر امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل, هذا قول الكلبي.

وقال السدي: رآها تغتسل على سطح لها فرأى امرأة من أجمل النساء خلقًا, فعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة فأبصرت ظله فنقضت شعرها فغطى بدنها, فزاده ذلك إعجابًا بها فسأل عنها, فقيل هي تيشايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا, وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود.

وذكر بعضهم أنه أحب أن يقتل أوريا ويتزوج امرأته, فكان ذنبه هذا القدر.

وذكر بعضهم أنه كتب داود إلى ابن أخته أيوب أن أبعث أوريا إلى موضع كذا, وقدمه قبل التابوت, وكان من قدم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد, فبعثه وقدمه ففتح له, فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أيضًا أن يبعثه إلى عدو كذا وكذا, فبعثه ففتح له, فكتب إلى داود بذلك فكتب له أيضًا أن يبعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأسًا, فبعثه فقتل في المرة الثالثة, فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود, فهي أم سليمان عليهما السلام .

وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كان ذلك ذنب داود أنه التمس من الرجل أن ينـزل له عن امرأته.

قال أهل التفسير: كان ذلك مباحًا لهم غير أن الله تعالى لم يرض له ذلك لأنه كان ذا رغبة في الدنيا, وازديادًا للنساء, وقد أغناه الله عنها بما أعطاه من غيرها.

وروي عن الحسن في سبب امتحان داود عليه السلام: أنه كان قد جزأ الدهر أجزاء, يومًا لنسائه, ويومًا للعبادة, ويومًا للقضاء بين بني إسرائيل, ويومًا لبني إسرائيل, يذاكرهم ويذاكرونه ويبكيهم ويبكونه, فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروه فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبًا, فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك .

وقيل: إنهم ذكروا فتنة النساء فأضمر داود في نفسه أنه إن ابتلي اعتصم, فلما كان يوم عبادته أغلق أبوابه وأمر أن لا يدخل عليه أحد, وأكب على التوراة فبينما هو يقرأ إذ دخلت عليه حمامة من ذهب كما ذكرنا, قال: وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه, فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا إذا سار إليه قتل, ففعل فأصيب فتزوج أمرأته.

قالوا: فلما دخل داود بامرأة أوريا لم يلبث إلا يسيرًا حتى بعث الله إليه ملكين في صورة رجلين في يوم عبادته, فطلبا أن يدخلا عليه, فمنعهما الحرس فتسورا المحراب عليه, فما شعر وهو يصلي إلا وهما بين يديه جالسين, يقال: كانا جبريل وميكائيل, فذلك قوله عز وجل: ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ) خبر الخصم, ( إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) صعدوا وعلوا, يقال: تسورت الحائط والسور إذا علوته, وإنما جمع الفعل وهما اثنان لأن الخصم اسم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث, ومعنى الجمع في الاثنين موجود, لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء هذا كما قال الله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم - 4 ) .

إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ( 22 ) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ( 23 )

( إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُم ) خاف منهما حين هجما عليه في محرابه بغير إذنه, فقال: ما أدخلكما عليّ, ( قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ ) [ أي نحن خصمان ] ( بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) جئناك لتقضي بيننا, فإن قيل: كيف قالا « بغى بعضنا على بعض » وهما ملكان لا يبغيان؟ قيل: معناه: أرأيت خصمين بغى أحدهما على الآخر, وهذا من معاريض الكلام لا على تحقيق البغي من أحدهما.

( فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ) أي لا تجر, يقال: شط الرجل شططًا وأشط إشطاطًا إذا جار في حكمه, ومعناه مجاوزة الحد, وأصل الكلمة من شطت الدار وأشطت, إذا بعدت ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) أرشدنا إلى طريق الصواب والعدل, فقال داود لهما: تكلما.

فقال أحدهما: ( إِنَّ هَذَا أَخِي ) أي: على ديني وطريقتي, ( لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ) [ يعني: امرأة ] ( وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ) أي امرأة واحدة, والعرب تكني بالنعجة عن المرأة ، قال الحسين بن الفضل: هذا تعريض للتنبيه والتفهيم, لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي فهو كقولهم: ضرب زيد عمرًا, أو اشترى بكر دارًا, ولا ضرب هنالك ولا شراء.

( فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا ) قال ابن عباس: اعطنيها. قال مجاهد: انـزل لي عنها. وحقيقته: ضمها إليّ فاجعلني كافلها, وهو الذي يعولها وينفق عليها, والمعنى: طلقها لأتزوجها, .

( وَعَزَّنِي ) وغلبني ( فِي الْخِطَابِ ) أي: في القول. وقيل: قهرني لقوة ملكه. قال الضحاك: يقول إن تكلم كان أفصح مني, وإن حارب كان أبطش مني.

وحقيقة المعنى: أن الغلبة كانت له لضعفي في يده, وإن كان الحق معي وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود حيث كان لداود تسع وتسعون امرأة ولأوريا امرأة واحدة فضمها إلى نسائه.

قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ( 24 )

( قَالَ ) داود ( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ) أي: بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه.

فإن قيل: كيف قال لقد ظلمك ولم يكن سمع قول صاحبه؟

قيل: معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك, وقيل: قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول.

( وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ ) الشركاء, ( لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) يظلم بعضهم بعضًا, ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) فإنهم لا يظلمون أحدًا. ( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) أي: قليل هم, و « ما » صلة يعني: الصالحين الذين لا يظلمون قليل.

قالوا: فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك وصعد إلى السماء, فعلم داود أن الله تعالى ابتلاه, وذلك قوله:

( وَظَنَّ دَاوُدُ ) أيقن وعلم, ( أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) إنما ابتليناه.

وقال السدي بإسناده: أن أحدهما لما قال: « هذا أخي » الآية, قال داود للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي تسعًا وتسعين نعجة ولأخي نعجة واحدة وأنا أريد أن آخذها منه فأكمل نعاجي مائة, قال: وهو كاره, إذًا لا ندعك وإن رمت ذلك ضربت منك هذا وهذا وهذا, يعني: طرف الأنف وأصله والجبهة, فقال: يا داود أنت أحق بذلك حيث لم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة ولك تسع وتسعون امرأة, فلم تزل تعرضه للقتل حتى قتل وتزوجت امرأته, فنظر داود فلم ير أحدًا فعرف ما وقع فيه .

وقال القائلون بتنـزيه الأنبياء في هذه القصة: إن ذنب داود إنما كان أنه تمنى أن تكون امرأة أوريا حلالا له, فاتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه, فلما بلغ قتله داود لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده إذا هلك, ثم تزوج امرأته, فعاتبه الله على ذلك, لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله.

وقيل: كان ذنب داود أن أوريا كان خطب تلك المرأة ووطن نفسه عليها, فلما غاب في غزاته خطبها داود فتزوجت منه لجلالته, فاغتم لذلك أوريا, فعاتبه الله على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسع وتسعون امرأة.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي قال: ومما يصدق ما ذكرنا عن المتقدمين ما أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه أن المعافى بن زكريا القاضي ببغداد أخبره عن محمد بن جرير الطبري, قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى الصيرفي, أخبرنا ابن وهب, أخبرني ابن لهيعة, عن أبي صخر, عن يزيد الرقاشي, عن أنس بن مالك رضي الله عنه سمعه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن داود النبي - عليه السلام- حين نظر إلى المرأة فهمَّ أن يُجمع على بني إسرائيل وأوصى صاحب البعث, فقال إذا حضر العدو فقرب فلانًا بين يدي التابوت, وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به وبمن قدم بين يدي التابوت, فلم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة, ونـزل الملكان يقصان عليه قصته, ففطن داود فسجد ومكث أربعين ليلة ساجدًا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبينه وهو يقول في سجوده: رب زل داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب, رب إن لم ترحم ضعف داود, ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثًا في الخلق من بعده, فجاءه جبريل من بعد أربعين ليلة فقال: يا داود إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به, فقال داود: إن الرب قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به, وقد عرفت أن الله عدل لا يميل, فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة, فقال: يا رب دمي الذي عند داود, فقال جبريل: ما سألت ربك عن ذلك وإن شئت لأفعلن, فقال: نعم, فعرج جبريل وسجد داود, فمكث ما شاء الله ثم نـزل جبريل, فقال: سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه, فقال: قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة, فيقول له: هب لي دمك الذي عند داود, فيقول: هو لك يا رب, فيقول: إن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضًا عنه .

وروي عن ابن عباس, وعن كعب الأحبار, ووهب بن منبه قالوا جميعًا: إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه, فتحولا في صورتيهما فعرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه, وعلم داود إنما عني به فخر ساجدًا أربعين يومًا, لا يرفع رأسه إلا لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة, ثم يعود ساجدًا تمام أربعين يومًا, لا يأكل ولا يشرب, وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل, ويسأله التوبة, وكان من دعائه في سجوده: سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء, سبحان خالق النور, سبحان الحائل بين القلوب, سبحان خالق النور, إلهي أنت خليت بيني وبين عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نـزلت بي, سبحان خالق النور, إلهي أنت خلقتني وكان من سابق علمك ما أنا إليه صائر, سبحان خالق النور, إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء, فيقال: هذا داود الخاطئ, سبحان خالق النور, إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة, وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي, [ سبحان خالق النور ] إلهي بأي قدم أمشي أمامك وأقوم بين يديك يوم تزول أقدام الخاطئين, سبحان خالق النور, إلهي من أين يطلب العبد المغفرة إلا من عند سيده؟ سبحان خالق النور, إلهي أنا الذي لا أطيق حر شمسك, فكيف أطيق حر نارك؟ سبحان خالق النور, إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك، فكيف أطيق سوط جهنم؟ سبحان خالق النور, إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب, سبحان خالق النور, إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري, سبحان خالق النور, إلهي برحمتك اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواي, سبحان خالق النور, إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني, سبحان خالق النور, فررت إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين, ولا تخزني يوم الدين, سبحان خالق النور.

وقال مجاهد: مكث أربعين يومًا ساجدًا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينه حتى غطى رأسه, فنودي: يا داود أجائع فتطعم؟ أو ظمآن فتسقى؟ أو عار فتكسى؟ فأجيب في غير ما طلب, قال: فنحب نحبة هاج لها العود فاحترق من حر جوفه, ثم أنـزل الله له التوبة والمغفرة.

قال وهب: إن داود أتاه نداء: إني قد غفرت لك, قال: يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدًا؟ قال: اذهب إلى قبر أوريا فناده, فأنا أسمعه نداءك فتحلل منه, قال: فانطلق وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره, ثم نادى يا أوريا فقال: لبيك من هذا الذي قطع عني لذتي وأيقظني؟ قال: أنا داود, قال: ما جاء بك يا نبي الله, قال: أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك, قال: وما كان منك إليّ؟ قال: عرضتك للقتل: قال: عرضتني للجنة فأنت في حل, فأوحى الله إليه: يا داود ألم تعلم أني حكم عدل لا أقضي بالعنت, ألا أعلمته أنك قد تزوجت امرأته؟ قال: فرجع إليه فناداه فأجابه فقال: من هذا الذي قطع عليّ لذتي؟ قال: أنا داود, قال: يا نبي الله أليس قد عفوت عنك؟ قال: نعم ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وقد تزوجتها, قال: فسكت ولم يجبه, ودعاه فلم يجبه, وعاوده فلم يجبه, فقام على قبره وجعل التراب على رأسه, ثم نادى: الويل لداود ثم الويل الطويل لداود, سبحان خالق النور, والويل لداود إذا نصبت الموازين بالقسط, سبحان خالق النور, الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ بذقنه فيدفع إلى المظلوم, سبحان خالق النور, الويل ثم الويل الطويل له حين يسحب عل وجهه مع الخاطئين إلى النار, سبحان خالق النور, فأتاه نداء من السماء: يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك, قال: يا رب كيف وصاحبي لم يعف عني؟ قال: يا داود أعطيه من الثواب يوم القيامة ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه, فأقول له: رضي عبدي؟ فيقول: يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي؟ فأقول: هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي, قال: يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي . فذلك قوله تعالى:

( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا ) أي ساجدًا, عبر بالركوع عن السجود, لأن كل واحد فيه انحناء.

قال الحسين بن الفضل: سألني عبد الله بن طاهر عن قوله: « وخر راكعا » هل يقال للراكع: خر؟ قلت: لا ومعناه, فخر بعدما كان راكعًا, أي: سجد ( وَأَنَابَ ) أي: رجع وتاب.

فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( 25 )

( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) يعني: ذلك الذنب, ( وَإِنَّ لَهُ ) بعد المغفرة ( عِنْدَنَا ) يوم القيامة, ( لَزُلْفَى ) لقربة ومكانة, ( وَحُسْنُ مَآبٍ ) أي: حسن مرجع ومنقلب.

وقال وهب بن منبه : إن داود لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا يرقأ دمعه ليلا ولا نهارًا, وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة, فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام: يوم للقضاء بين بني إسرائيل, ويوم لنسائه, ويوم يسبح في الفيافي والجبال والسواحل, ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب, فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه, فيساعدونه على ذلك, فإذا كان يوم نياحته يخرج في الفيافي فيرفع صوته بالمزامير فيبكي ويبكي معه [ الشجر والرمال والطير والوحوش حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار, ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير فيبكي ويبكي معه ] الجبال والحجارة والدواب والطير, حتى تسيل من بكائهم الأودية, ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحيتان ودواب البحر وطير الماء والسباع, فإذا أمسى رجع, فإذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه أن اليوم يوم نوح داود على نفسه فليحضر من يساعده, فيدخل الدار التي فيها المحاريب, فيبسط له ثلاثة فرش مسوح حشوها ليف, فيجلس عليها ويجيء أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي, فيجلسون في تلك المحاريب ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح على نفسه, ويرفع الرهبان معه أصواتهم, فلا يزال يبكي حتى تغرق الفرش من دموعه, ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب, فيجيء ابنه سليمان فيحمله فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه, ثم يمسح بها وجهه, ويقول: يا رب اغفر لي ما ترى, فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدنيا لعدله.

وقال وهب: ما رفع داود رأسه حتى قال له الملك: أول أمرك ذنب وآخره معصية, ارفع رأسك فرفع رأسه فمكث حياته لا يشرب ماء إلا مزجه بدموعه, ولا يأكل طعامًا إلا بله بدموعه.

وذكر الأوزاعي مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن مثل عيني داود كقربتين تنطفان ماء, ولقد خدت الدموع في وجهه كخديد الماء في الأرض » .

قال وهب: لما تاب الله على داود قال: يا رب غفرت لي فكيف لي أن لا أنسى خطيئتي فأستغفر منها وللخاطئين إلى يوم القيامة؟ قال: فوسم الله خطيئته في يده اليمنى, فما رفع فيها طعامًا ولا شرابًا إلا بكى إذا رآها, وما قام خطيبًا في الناس إلا بسط راحته فاستقبل الناس ليروا وسم خطيئته, وكان يبدأ إذا دعا فاستغفر للخاطئين قبل نفسه.

وقال قتادة عن الحسن: كان داود بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين, يقول: تعالوا إلى داود الخاطئ فلا يشرب شرابًا إلا مزجه بدموع عينيه, وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة فلا يزال يبكي عليه حتى يبتل بدموع عينيه, وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل ويقول: هذا أكل الخاطئين, قال: وكان داود قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر, فلما كان من خطيئته ما كان, صام الدهر كله وقام الليل كله.

وقال ثابت: كان داود إذ ذكر عقاب الله تخلعت أوصاله, فلا يشدها إلا الأسر, وإذا ذكر رحمة الله تراجعت.

وفي القصة: أن الوحوش والطير كانت تستمع إلى قراءته, فلما فعل ما فعل كانت لا تصغي إلى قراءته, فروي أنها قالت: يا داود ذهبت خطيئتك بحلاوة صوتك .

وأخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا سليمان بن حرب وأبو النعمان قالا حدثنا حماد بن زيد, عن أيوب, عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « سجدة ص ليست من عزائم السجود, وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها » .

وأخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا محمد بن عبد الله, حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي, عن العوام قال: سألت مجاهدًا عن سجدة ص فقال: سألت ابن عباس من أين سجدت؟ قال: أوما تقرأ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إلى أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ( الأنعام: 84 - 90 ) وكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به, فسجدها داود, فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي, أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي, حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي, حدثنا أبو عيسى الترمذي, حدثنا قتيبة، حدثنا محمد بن زيد بن خنيس, حدثنا الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال: قال لي ابن جريج: أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة, فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي, فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجرًا, وضع عني بها وزرًا, واجعلها لي عندك ذخرًا, وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. قال الحسن: قال ابن جريج: قال لي جدك: قال ابن عباس: فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سجد, فسمعته وهو يقول [ مثل ذلك ] ما أخبره الرجل عن قول الشجرة » .

يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ( 26 )

قوله تعالى: ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ ) تدبر أمور العباد بأمرنا, ( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) بالعدل, ( وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) أي بأن تركوا الإيمان بيوم الحساب. وقال الزجاج: بتركهم العمل لذلك اليوم.

وقال عكرمة والسدي: في الآية تقديم وتأخير, تقديره: لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا, أي: تركوا القضاء بالعدل.

 

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ( 27 ) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( 28 )

( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ) قال ابن عباس: لا لثواب ولا لعقاب. ( ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) يعني: أهل مكة هم الذين ظنوا أنهما خلقا لغير شيء, وأنه لا بعث ولا حساب ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) .

( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ ) قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين إنا نعطى في الآخرة من الخير ما يعطون, فنـزلت هذه الآية ( أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) [ أي المؤمنين كالكفار ] وقيل: أراد بالمتقين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, أي: لا نجعل ذلك.

كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ( 29 ) وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 30 ) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ( 31 )

( كِتَابٌ أَنـزلْنَاهُ إِلَيْكَ ) أي: هذا الكتاب أنـزلناه إليك, ( مُبَارَكٌ ) كثير خيره ونفعه, ( لِيَدَّبَّرُوا ) أي: ليتدبروا, ( آيَاتِه ) وليتفكروا فيها, قرأ أبو جعفر « لتدبروا » بتاء واحدة وتخفيف الدال, قال الحسن: تدبر آياته: اتباعه ( وَلِيَتَذَكَّرَ ) ليتعظ, ( أُولُو الألْبَابِ ) .

قوله عز وجل: ( وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) .

قال الكلبي: غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين, فأصاب منهم ألف فرس.

وقال مقاتل: ورث من أبيه داود ألف فرس .

وقال عوف عن الحسن: بلغني أنها كانت خيلا أخرجت من البحر لها أجنحة .

[ قالوا: ] فصلى سليمان الصلاة الأولى, وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه, فعرضت عليه تسعمائة, فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت, وفاتته الصلاة, ولم يعلم بذلك فاغتم لذلك هيبة لله, فقال: ردوها عليّ, فردوها عليه, فأقبل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف تقربا إلى الله عز وجل, وطلبًا لمرضاته, حيث اشتغل بها عن طاعته, وكان ذلك مباحًا له وإن كان حرامًا علينا, كما أبيح لنا ذبح بهيمة الأنعام, وبقي منها مائة فرس، فما بقي في أيدي الناس اليوم من الخيل يقال من نسل تلك المائة.

قال الحسن: فلما عقر الخيل أبدله الله عز وجل خيرًا منها وأسرع, وهي الريح تجري بأمره كيف يشاء.

[ وقال إبراهيم التيمي: كانت عشرين فرسًا. وعن عكرمة: كانت عشرين ألف فرس, لها أجنحة ] .

قال الله تعالى: ( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) و « الصافنات » : هي الخيل القائمة على ثلاث قوائم وأقامت واحدة على طرف الحافر من يد أو رجل, يقال: صفن الفرس يصفن صفونًا: إذا قام على ثلاثة قوائم, وقلب أحد حوافره. وقيل: الصافن في اللغة القائم. وجاء في الحديث: « من سره أن يقوم له الرجال صفونًا فليتبوأ مقعده من النار » . أي قيامًا والجياد: الخيار السراع, واحدها جواد.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الخيل السوابق.

فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ( 32 ) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ ( 33 )

( فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ) أي: آثرت حب الخير, وأراد بالخير الخيل, والعرب تعاقب بين الراء واللام, فتقول: ختلت الرجل وخترته, أي: خدعته, وسميت الخيل خيرًا لأنه معقود بنواصيها الخير, الأجر والمغنم ، قال مقاتل: حب الخير يعني: المال, فهي الخيل التي عرضت عليه. ( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) يعني: عن الصلاة وهي صلاة العصر ( حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) أي: توارت الشمس بالحجاب استترت بما يحجبها عن الأبصار, يقال: الحاجب جبل دون قاف, بمسيرة سنة, والشمس تغرب من ورائه.

( رُدُّوهَا عَلَيَّ ) أي: ردوا الخيل عليّ, فردوها, ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ ) قال أبو عبيدة: طفق يفعل, مثل: ما زال يفعل, والمراد بالمسح: القطع, فجعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف, هذا قول ابن عباس, والحسن, وقتادة, ومقاتل, وأكثر المفسرين وكان ذلك مباحًا له, لأن نبي الله لم يكن يقدم على محرم, ولم يكن يتوب عن ذنب بذنب آخر.

وقال محمد بن إسحاق: لم يعنفه الله على عقر الخيل إذا كان ذلك أسفًا على ما فاته من فريضة ربه عز وجل.

وقال بعضهم: إنه ذبحها ذبحًا وتصدق بلحومها, وكان الذبح على ذلك الوجه مباحًا في شريعته .

وقال قوم: معناه أنه حبسها في سبيل الله, وكوى سوقها وأعناقها بكي الصدقة .

وقال الزهري, وابن كيسان: إنه كان يمسح سوقها وأعناقها بيده, يكشف الغبار عنها حُبًّا لها وشفقة عليها, وهذا قول ضعيف والمشهور هو الأول.

وحكي عن عليّ أنه قال في معنى قوله: « ردوها عليّ » يقول سليمان بأمر الله عز وجل للملائكة الموكلين بالشمس: « ردوها عليّ » يعني: الشمس, فردوها عليه حتى صلى العصر في وقتها, وذلك أنه كان يعرض عليه الخيل لجهاد عدو, حتى توارت بالحجاب.

وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ( 34 )

قوله عز وجل: ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ) اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه.

وكان سبب ذلك ما ذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه قال: سمع سليمان عليه السلام بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون, بها ملك عظيم الشأن, لم يكن للناس إليه سبيلا لمكانه في البحر, وكان الله قد آتى سليمان في ملكه سلطانًا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر, إنما يركب إليه الريح, فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء, حتى نـزل بها بجنوده من الجن والإنس, فقتل ملكها واستولى واستفاء وسبى ما فيها, وأصاب فيما أصاب بنتًا لذلك الملك, يقال لها: جرادة, لم ير مثلها حسنًا وجمالا فاصطفاها لنفسه, ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه, وأحبها حبًا لم يحبه شيئًا من نسائه, وكانت على منـزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها, فشق ذلك على سليمان فقال لها: ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب, والدمع الذي لا يرقأ؟ قالت: إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك, قال سليمان: فقد أبدلك الله به مُلكًا هو أعظم من ملكه, وسلطانا هو أعظم من سلطانه, وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله, قالت: إن ذلك كذلك, ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن, فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشيًا لرجوت أن يذهب ذلك حزني, وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي, فأمر سليمان الشياطين, فقال: مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئًا, فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه, فعمدت إليه حين صنعوه فأزرته وقمصته وعممته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبس, ثم كان إذا خرج سليمان [ من دارها ] تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له, ويسجدن له كما كانت تصنع به في ملكه, وتروح كل عشية بمثل ذلك وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحًا, وبلغ ذلك آصف بن برخيا, وكان صديقًا, وكان لا يرد عن أبواب سليمان, أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل, حاضرًا كان سليمان أو غائبًا, فأتاه فقال: يا نبي الله كبر سني, ورق عظمي, ونفد عمري, وقد حان مني الذهاب, فقد أحببت أن أقوم مقامًا قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله وأثني عليهم بعلمي فيهم, وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم, فقال: افعل, فجمع له سليمان الناس, فقام فيهم خطيبًا فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى, فأثنى على كل نبي بما فيه, فذكر ما فضله الله حتى انتهى إلى سليمان, فقال: ما أحلمك في صغرك, وأورعك في صغرك, وأفضلك في صغرك, وأحكم أمرك في صغرك, وأبعدك من كل ما تكره في صغرك, ثم انصرف, فوجد سليمان عليه السلام في نفسه من ذلك حتى ملأه غضبًا, فلما دخل سليمان داره أرسل إليه, فقال: يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله, فأثنيت عليهم خيرًا في كل زمانهم, وعلى كل حال من أمرهم, فلما ذكرتني جعلت تثني عليّ بخير في صغري, وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري؟ فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ فقال: إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحًا في هوى امرأة, فقال: في داري؟ فقال: في دارك, قال: إنا لله وإنا إليه راجعون لقد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك, ثم رجع سليمان إلى داره وكسر ذلك الصنم, وعاقب تلك المرأة وولائدها, ثم أمر بثياب الطهرة فأتى بها وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار, ولا ينسجها إلا الأبكار, ولا يغسلها إلا الأبكار, لم تمسسها امرأة قد رأت الدم, فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده, فأمر برماد ففرش له, ثم أقبل تائبًا إلى الله عز وجل, حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذللا لله تعالى, وتضرعًا إليه يبكي ويدعو, ويستغفر مما كان في داره, فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى, ثم رجع إلى داره, وكانت له أم ولد يقال لها الأمينة, كان إذا دخل مذهبه أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر, وكان لا يمس خاتمه إلا وهو طاهر, وكان ملكه في خاتمه فوضعه يومًا عندها, ثم دخل مذهبه فأتاها الشيطان صاحب البحر, واسمه صخر, على صورة سليمان لا تنكر منه شيئًا, فقال: خاتمي أمينة! فناولته إياه, فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان, وعكفت عليه الطير والجن والإنس, وخرج سليمان فأتى الأمينة وقد غيرت حاله, وهيئته عند كل من رآه, فقال: يا أمينة خاتمي, قالت: من أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود, قالت: كذبت فقد جاء سليمان فأخذ خاتمه وهو جالس على سرير ملكه, فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته, فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول: أنا سليمان بن داود, فيحثون عليه التراب ويسبونه, ويقولون انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان, فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر, فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق فيعطونه كل يوم سمكتين, فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها, فمكث بذلك أربعين صباحًا عدة ما كان عبد الوثن في داره, فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين, فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم اختلاف حكم ابن داود ما رأيت؟ قالوا: نعم, قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن فهل أنكرتن منه في خاصة أمره ما أنكرناه في عامة أمر الناس وعلانيته, فدخل على نسائه, فقال: ويحكن هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن: أشده ما يدع منا امرأة في دمها ولا يغتسل من الجنابة, فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون إن هذا لهو البلاء المبين ثم خرج على بني إسرائيل فقال: ما في الخاصة أعظم مما في العامة, فلما مضى أربعون صباحًا طار الشيطان عن مجلسه, ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه, فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين, وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك, حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه وأعطاه السمكة التي أخذت الخاتم, فخرج سليمان بسمكتيه, فباع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة, ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه في جوفها, فأخذه فجعله في يده, ووقع ساجدًا, وعكفت عليه الطير والجن, وأقبل عليه الناس, وعرف الذي كان قد دخل عليه لما كان قد حدث في داره, فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه, وأمر الشياطين فقال: ائتوني بصخر فطلبته الشياطين حتى أخذته, فأتي به وجاؤوا له بصخرة فنقرها فأدخله فيها ثم شد عليه بأخرى, ثم أوثقها بالحديد والرصاص, ثم أمر به فقذف في البحر. هذا حديث وهب .

وقال الحسن: ما كان الله ليسلط الشيطان على نسائه.

وقال السدي: كان سبب فتنة سليمان أنه كان له مائة امرأة, وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة هي آثر نسائه وآمنهن عنده, وكان يأتمنها على خاتمه إذا أتى حاجته, فقالت له يومًا: إن أخي كان بينه وبين فلان خصومة, وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك, فقال: نعم, ولم يفعل فابتلي بقوله, فأعطاها خاتمه ودخل المخرج, فجاء الشيطان في صورته فأخذه وجلس على مجلس سليمان, وخرج سليمان عليه السلام فسألها خاتمه فقالت: ألم تأخذه؟ قال: لا وخرج مكانه ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يومًا, فأنكر الناس حكمه, فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم حتى دخلوا على نسائه, فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا, فإن كان سليمان فقد ذهب عقله, فبكى النساء عند ذلك فأقبلوا حتى أحدقوا به, ونشروا التوراة فقرؤوها فطار من بين أيديهم, حتى وقع على شرفه, والخاتم معه, ثم طار حتى ذهب إلى البحر, فوقع الخاتم منه في البحر, فابتلعه حوت, وأقبل سليمان حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع قد اشتد جوعه, فاستطعمه من صيده, وقال: إني أنا سليمان, فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه, فجعل يغسل دمه على شاطئ البحر, فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه, وأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم, فشق بطونهما وجعل يغسلهما, فوجد خاتمه في بطن إحداهما, فلبسه فرد الله عليه ملكه وبهاءه.

وحامت عليه الطير فعرف القوم أنه سليمان, فقاموا يعتذرون مما صنعوا, فقال: ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم, هذا أمر كائن لا بد منه, ثم جاء حتى أتى مملكته وأمر حتى أتي بالشيطان الذي أخذ خاتمه وجعله في صندوق من حديد, وأطبق عليه بقفل, وختم عليه بخاتمه, وأمر به فألقي في البحر وهو حي كذلك حتى الساعة.

وفي بعض الروايات: أن سليمان لما افتتن سقط الخاتم من يده, وكان فيه ملكه فأعاده سليمان إلى يده فسقط فأيقن سليمان بالفتنة, فأتى آصف فقال لسليمان: إنك مفتون بذنبك, والخاتم لا يتماسك في يدك [ أربعة عشر يومًا ] ففر إلى الله تائبًا, فإني أقوم مقامك, وأسير بسيرتك إلى أن يتوب الله عليك, ففر سليمان هاربًا إلى ربه, وأخذ آصف الخاتم, فوضعه في أصبعه فثبت فهو الجسد الذي قال الله تعالى: « وألقينا على كرسيه جسدا » فأقام آصف في ملكه يسير بسيرته أربعة عشر يومًا إلى أن رد الله على سليمان ملكه, فجلس على كرسيه وأعاد الخاتم في يده فثبت .

وروي عن سعيد بن المسيب قال: احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام, فأوحى الله إليه احتجبت عن الناس ثلاثة أيام؟ فلم تنظر في أمور عبادي؟ فابتلاه الله عز وجل. فذكر حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه كما روينا.

وقيل: قال سليمان يومًا لأطوفن الليلة على نسائي كلهن, فتأتي كل واحدة بابن يجاهد في سبيل الله, ولم يستثن, فجامعهن فما خرج له منهن إلا شق مولود, فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه, فذلك قوله تعالى: « وألقينا على كرسيه جسدا » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب, حدثنا أبو الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « قال سليمان: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله, فقال له صاحبه: قل إن شاء الله, فلم يقل إن شاء الله, فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة, جاءت بشق رجل, وايم الله الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون »

وقال طاووس عن أبي هريرة: لأطوفن الليلة بمائة امرأة, قال له الملك: قل إن شاء الله, فلم يقل ونسي. وأشهر الأقاويل أن الجسد الذي ألقي على كرسيه هو صخر الجني ، فذلك قوله عز وجل: ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ) أي رجع إلى ملكه بعد أربعين يوما فلما رجع.

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ( 35 )

( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) قال مقاتل وابن كيسان: لا يكون لأحد من بعدي. قال عطاء بن أبي رباح: يريد هب لي ملكا لا تسلبنيه في آخر عمري, وتعطيه غيري كما استلبته في ما مضى من عمري.

( إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) قيل: سأل ذلك ليكون آية لنبوته, ودلالة على رسالته, ومعجزة.

وقيل: سأل ذلك ليكون علمًا على قبول توبته حيث أجاب الله دعاءه ورد إليه ملكه, وزاد فيه.

وقال مقاتل بن حيان: كان لسليمان ملكًا ولكنه أراد بقول: « لا ينبغي لأحد من بعدي » تسخير الرياح والطير والشياطين, بدليل ما بعده.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة, عن محمد بن زياد, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن عفريتًا من الجن تفلت البارحة ليقطع عليّ صلاتي, فأمكنني الله منه, فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد, حتى تنظروا إليه كلكم, فذكرت دعوة أخي سليمان » رب هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي « فرددته خاسئا » .

فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ( 36 ) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ( 37 ) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ( 38 ) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 39 )

قوله عز وجل: ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) لينة ليست بعاصفة, ( حَيْثُ أَصَابَ ) [ حيث أراد ] تقول العرب: أصاب الصواب [ فأخطأ الجواب, تريد أراد الصواب ] .

( وَالشَّيَاطِين ) أي: وسخرنا له الشياطين, ( كُلَّ بَنَّاءٍ ) يبنون له ما يشاء من محاريب وتماثيل, ( وَغَوَّاصٍ ) يستخرجون له اللآلئ من البحر, وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر.

( وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) مشدودين في القيود, أي: وسخرنا له آخرين, يعني: مردة الشياطين, سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد.

( هَذَا عَطَاؤُنَا ) [ أي قلنا له هذا عطاؤنا ] ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) المن: هو الإحسان إلى من لا يستثنيه, معناه: أعط من شئت وأمسك عمن شئت, بغيرِ حساب لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت.

قال الحسن: ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه تبعة, إلا سليمان فإنه أعطى أجر, وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة.

وقال مقاتل: هذا في أمر الشياطين, يعني: خل من شئت منهم, وأمسك من شئت في وثاقك, لا تبعة عليك فيما تتعاطاه.

وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( 40 ) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ( 41 ) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ( 42 )

( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ )

قوله عز وجل: ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) بمشقة وضر.

قرأ أبو جعفر: « بنصب » بضم النون والصاد, وقرأ يعقوب بفتحهما, وقرأ الآخرون بضم النون وسكون الصاد, ومعنى الكل واحد.

قال قتادة ومقاتل: بنصب في الجسد, وعذاب في المال وقد ذكرنا قصة أيوب ومدة بلائه في سورة الأنبياء عليهم السلام .

فلما انقضت مدة بلائه قيل له: ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ) اضرب برجلك الأرض ففعل فنبعت عين ماء, ( هَذَا مُغْتَسَلٌ ) فأمره الله أن يغتسل منها, ففعل فذهب كل داء كان بظاهره, ثم مشى أربعين خطوة, فركض الأرض برجله الأخرى, فنبعت عين أخرى, ماء عذب بارد, فشرب منه, فذهب كل داء كان بباطنه, فقوله: « هذا مغتسل بارد » يعني: الذي اغتسل منه, ( وَشَرَابٌ ) أراد الذي شرب منه.

 

وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ( 43 ) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 44 )

( وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) وهو ملء الكف من الشجر أو الحشيش, ( فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) في يمينك, وكان قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوط, فأمره الله أن يأخذ ضغثًا يشتمل على مائة عود صغار, ويضربها به ضربة واحدة, ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) .

وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ( 45 ) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ( 46 ) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ( 47 ) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ ( 48 ) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ( 49 )

( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا ) قرأ ابن كثير « عبدنا » على التوحيد, وقرأ الآخرون « عبادنا » بالجمع, ( إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي ) قال ابن عباس: أولي القوة في طاعة الله تعالى ( وَالأبْصَار ) في المعرفة بالله, أي: البصائر في الدين, قال قتادة ومجاهد: أعطوا قوة في العبادة, وبصرًا في الدين .

( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ ) اصطفيناهم ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قرأ أهل المدينة: « بخالصة » مضافًا, وقرأ الآخرون بالتنوين, فمن أضاف فمعناه: أخلصناهم بذكر الدار الآخرة, وأن يعملوا لها, والذكرى: بمعنى الذكر. قال مالك بن دينار: نـزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها, وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها.

وقال قتادة: كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله عز وجل.

وقال السدي: أخلصوا بخوف الآخرة.

وقيل: معناه أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة .

قال ابن زيد: ومن قرأ بالتنوين فمعناه: بخلة خالصة, وهي ذكرى الدار, فيكون « ذكرى » الدار بدلا عن الخالصة.

وقيل: « أخلصناهم » : جعلناهم مخلصين, بما أخبرنا عنهم من ذكر الآخرة.

( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ * هَذَا ذِكْرُ ) أي: هذا الذي يتلى عليكم ذكر, أي: شرف, وذكر جميل تذكرون به ( وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) .

جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ ( 50 ) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ( 51 ) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ( 52 ) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ( 53 ) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ( 54 ) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ( 55 ) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 56 ) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ( 57 )

( جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ ) أي أبوابها [ مفتحة لهم ] .

( مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ) مستويات الأسنان, بنات ثلاثة وثلاثين سنة, واحدها ترب. وعن مجاهد قال: متواخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن .

( هَذَا مَا تُوعَدُونَ ) قرأ ابن كثير: « يوعدون » بالياء هاهنا, وفي « ق » أي: ما يوعد المتقون, وافق أبو عمرو هاهنا, وقرأ الباقون بالتاء فيهما, أي: قل للمؤمنين: هذا ما توعدون, ( لِيَوْمِ الْحِسَابِ ) [ أي في يوم الحساب ] .

( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) فناء وانقطاع.

( هَذَا ) أي الأمر هذا ( وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ) للكافرين ( لَشَرَّ مَآبٍ ) مرجع .

( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ) يدخلونها ( فَبِئْسَ الْمِهَادُ ) .

( هَذَا ) أي هذا العذاب, ( فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال الفراء: أي هذا حميم وغساق فليذوقوه, والحميم: الماء الحار الذي انتهى حره.

« وغساق » : قرأ حمزة, والكسائي وحفص: « وغساق » حيث كان بالتشديد, وخففها الآخرون, فمن شدد جعله اسمًا على فَعَّال, نحو: الخباز والطباخ, ومن خفف جعله اسمًا على فعال نحو العذاب.

واختلفوا في معنى الغساق, قال ابن عباس: هو الزمهرير يحرقهم ببرده, كما تحرقهم النار بحرها.

وقال مقاتل ومجاهد: هو الذي انتهى برده.

وقيل: هو المنتن بلغة الترك.

وقال قتادة: هو ما يغسق أي: ما يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار, ولحومهم, وفروج الزناة, من قوله: غسقت عينه إذا انصبت, والغسقان الانصباب.

وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ( 58 ) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ( 59 ) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ( 60 )

( وَآخَرُ ) قرأ أهل البصرة: « وأُخر » بضم الألف على جمع أخرى , مثل: الكبرى والكبر, واختاره أبو عبيدة لأنه نعته بالجمع, فقال: أزواج, وقرأ الآخرون بفتح الهمزة مشبعة على الواحد, ( مِنْ شَكْلِهِ ) مثله أي: مثل الحميم والغساق, ( أَزْوَاجٌ ) أي: أصناف أخر من العذاب.

( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ) قال ابن عباس: « هذا » هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة هذا يعني: الأتباع, فوج: جماعة مقتحم معكم النار, أي: داخلوها كما أنتم دخلتموها: والفوج: القطيع من الناس وجمعه أفواج, والاقتحام الدخول في الشيء رميًا بنفسه فيه، قال الكلبي: إنهم يضربون بالمقامع حتى يوقعوا أنفسهم في النار, خوفًا من تلك المقامع, فقالت القادة: ( لا مَرْحَبًا بِهِمْ ) يعني: بالأتباع, ( إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ) أي: داخلوها كما صلينا.

( قَالُوا ) فقال الأتباع للقادة: ( بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ ) والمرحب, والرحب: السعة, تقول العرب: مرحبًا وأهلا وسهلا أي: أتيت رحبًا وسعة, وتقول: لا مرحبًا بك, أي: لا رحبت عليك الأرض. ( أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ) يقول الأتباع للقادة: أنتم بدأتم بالكفر قبلنا, وشرعتم وسننتموه لنا. وقيل: أنتم قدمتم هذا العذاب لنا, بدعائكم إيانا إلى الكفر, ( فَبِئْسَ الْقَرَارُ ) أي: فبئس دار القرار جهنم .

قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ( 61 )

( قَالُوا ) يعني: الأتباع ( رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا ) أي: شرعه وَسَنَّه لنا, ( فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ) أي: ضعف عليه العذاب في النار. قال ابن مسعود: يعني حيات وأفاعي.

 

وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ ( 62 ) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ( 63 ) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ( 64 ) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 65 )

( وَقَالُوا ) يعني صناديد قريش وهم في النار, ( مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ ) في الدنيا, ( مِنَ الأشْرَارِ ) يعنون فقراء المؤمنين: عمارًا, وخبابًا، وصهيبًا, وبلالا وسلمان رضي الله عنهم. ثم ذكروا أنهم كانوا يسخرون من هؤلاء, فقالوا:

( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا ) قرأ أهل البصرة, وحمزة, والكسائي: « من الأشرار اتخذناهم » وصل, ويكسرون الألف عند الابتداء, وقرأ الآخرون بقطع الألف وفتحها على الاستفهام .

قال أهل المعاني: القراءة الأولى أولى؛ لأنهم علموا أنهم اتخذوهم سخريًا فلا يستقيم الاستفهام, وتكون « أم » على هذه القراءة بمعنى « بل » ومن فتح الألف قال: هو على اللفظ لا على المعنى ليعادل « أم » في قوله ( أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) قال الفراء: هذا من الاستفهام الذي معناه التوبيخ والتعجب « أم زاغت » أي, مالت « عنهم الأبصار » ومجاز الآية: ما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخريًا لم يدخلوا معنا النار؟ أم دخلوها فزاغت عنهم أبصارنا, فلم نرهم حين دخلوها.

وقيل: أم هم في النار ولكن احتجبوا عن أبصارنا؟

وقال ابن كيسان: أم كانوا خيرا منًا ولكن نحن لا نعلم, فكانت أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهم شيئًا. ( إِنَّ ذَلِكَ ) الذي ذكرت ( لَحَقّ ) ثم بين فقال: ( تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) أي: تخاصم أهل النار في النار لحق.

( قُلْ ) يا محمد لمشركي مكة, ( إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ ) مخوف ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) .

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( 66 ) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ( 67 ) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ( 68 ) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( 69 ) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 70 )

( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) .

( قُلْ ) يا محمد, ( هُوَ ) يعني: القرآن, ( نَبَأٌ عَظِيمٌ ) قاله ابن عباس, ومجاهد, وقتادة, وقيل: يعني: القيامة كقوله: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( النبأ: 1 - 2 ) .

( أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى ) يعني: الملائكة, ( إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) يعني: في شأن آدم عليه السلام، حين قال الله تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ( البقرة: 30 ) .

( إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) قال الفراء: إن شئت جعلت « أنما » في موضع رفع, أي: ما يوحي إليّ إلا الإنذار, وإن شئت جعلت المعنى: ما يوحى إليّ إلا أني نذير مبين .

وقرأ أبو جعفر: « إنما » بكسر الألف, لأن الوحي قول.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أبو منصور السمعاني, حدثنا أبو جعفر الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر, قال مر بنا خالد بن اللجلاج, فدعاه مكحول فقال: يا إبراهيم حدثنا حديث عبد الرحمن بن عائش, قال: سمعت عبد الرحمن بن عائش الحضرمي يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « رأيت ربي عز وجل في أحسن صورة, فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم أي رب, مرتين, قال: فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي, فعلمت ما في السماء والأرض » قال: ثم تلا هذه الآية وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( الأنعام:75 ) ثم قال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: في الكفارات, قال: وما هن؟ قلت: المشي على الأقدام إلى الجماعات, والجلوس في المساجد خلف الصلوات, وإبلاغ الوضوء أماكنه في المكاره, قال: ومن يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير, ويكن من خطيئته كيوم ولدته أمه, ومن الدرجات إطعام الطعام, وبذل السلام, وأن يقوم بالليل والناس نيام, قال: قل اللهم إني أسألك الطيبات, وترك المنكرات, وحب المساكين, وأن تغفر لي, وترحمني, وتتوب عليّ, وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموهن, فوالذي نفس محمد بيده إنهن لحق « . »

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ( 71 ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( 72 ) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( 73 ) إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 74 ) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ( 75 ) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( 76 ) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ( 77 ) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ( 78 ) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 79 ) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ( 80 ) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( 81 )

قوله عز وجل: ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ) يعني: آدم عليه السلام.

( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ) أتممت خلقه, ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ ) . ألف استفهام دخلت على ألف الوصل ( أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ) المتكبرين. استفهام توبيخ وإنكار, يقول: أستكبرت بنفسك حتى أبيت السجود؟ أم كنت من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك منهم؟.

( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا ) أي: من الجنة, وقيل: من السماوات . وقال الحسن وأبو العالية: أي من الخلقة التي أنت فيها. قال الحسين بن الفضل: هذا تأويل صحيح لأن إبليس تجبر وافتخر بالخلقة, فغير الله خلقته, فاسود وقبح بعد حسنه, ( فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) مطرود.

( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) , وهو النفخة الأولى .

قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 82 ) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( 83 )

 

قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ( 84 ) لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ( 85 ) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ( 86 ) إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ( 87 ) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ( 88 )

قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ قرأ عاصم وحمزة ويعقوب: « فالحق » برفع القاف على الابتداء, وخبره محذوف تقديره: الحق مني, ونصب الثانية أي: وأنا أقول الحق, قاله مجاهد, وقرأ الآخرون بنصبهما, واختلفوا في وجههما, قيل: نصب الأولى على الإغراء كأنه قال: الزم الحق, والثاني بإيقاع القول عليه أي: أقول الحق. وقيل: الأول قسم, أي: فبالحق وهو الله عز وجل, فانتصب بنـزع [ الخافض, وهو ] حرف الصفة, وانتصاب الثاني بإيقاع القول عليه. وقيل: الثاني تكرار القسم, أقسم الله بنفسه.

( لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ ) على تبليغ الرسالة ( مِنْ أَجْرٍ ) جُعِلَ, ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) المتقولين القرآن من تلقاء نفسي, وكل من قال شيئًا من تلقاء نفسه فقد تكلف له.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا جرير, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق قال: دخلنا على عبد الله بن مسعود فقال: يا أيها الناس من علم شيئًا فليقل به, ومن لم يعلم فليقل الله أعلم, فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم, قال الله تعالى لنبيه: « قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين » .

قوله ( إِنْ هُوَ ) ما هو, يعني: القرآن ( إِلا ذِكْرٌ ) موعظة, ( لِلْعَالَمِينَ ) للخلق أجمعين.

( وَلَتَعْلَمُنَّ ) أنتم يا كفار مكة, ( نَبَأَه ) خبر صدقه, ( بَعْدَ حِينٍ ) قال ابن عباس وقتادة: بعد الموت. وقال عكرمة: يعني يوم القيامة. وقال الكلبي: من بقي علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا ومن مات علمه بعد موته. قال الحسن: ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين .

 

سورة الزمر

 

مكية إلا قوله قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ الآية .

بسم الله الرحمن الرحيم

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 ) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ( 2 ) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ( 3 )

( تَنـزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ ) [ أي: هذا تنـزيل الكتاب من الله. وقيل: تنـزيل الكتاب ] مبتدأ وخبره: ( مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) أي: تنـزيل الكتاب من الله لا من غيره.

( إِنَّا أَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) قال مقاتل: لم ننـزله باطلا لغير شيء, ( فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ) الطاعة.

( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) قال قتادة: شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: [ لا يستحق الدين الخالص إلا الله وقيل: الدين الخالص من الشرك هو لله ] .

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ ) أي: من دون الله, ( أَوْلِيَاء ) يعني: الأصنام, ( مَا نَعْبُدُهُمْ ) أي قالوا: ما نعبدهم, ( إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) وكذلك قرأ ابن مسعود, وابن عباس.

قال قتادة: وذلك أنهم إذا قيل لهم: من ربكم, ومن خلقكم, ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله, فيقال لهم: فما معنى عبادتكم الأوثان؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى, أي: قربى, وهو اسم أقيم في مقام المصدر: كأنه قال: إلا ليقربونا إلى الله تقريبًا ويشفعوا لنا عند الله, ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ) يوم القيامة ( فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) من أمر الدين ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) لا يرشد لدينه من كذب فقال: إن الآلهة تشفع وكفى باتخاذ الآلهة دونه كذبًا [ وكفرا ]

لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 4 ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( 5 )

( لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى ) لاختار, ( مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ) يعني: الملائكة, كما قال: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا ( الأنبياء - 17 ) ثم نـزه نفسه فقال: ( سُبْحَانَهُ ) تنـزيها له عن ذلك, وعما لا يليق بطهارته, ( هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) .

( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْل ) قال قتادة: يغشي هذا هذا, كما قال: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ( الأعراف- 54 ) وقيل: يدخل أحدهما على الآخر كما قال: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ( الحج- 61 ) .

وقال الحسن, والكلبي: ينقص من الليل فيزيد في النهار, وينقص من النهار فيزيد في الليل, فما نقص من الليل دخل في النهار, وما نقص من النهار دخل في الليل, ومنتهى النقصان تسع ساعات, ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة, وأصل التكوير اللف والجمع, ومنه: كور العمامة. ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) .

 

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( 6 )

( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) يعني: آدم, ( ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) يعني حواء, ( وَأَنـزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ) معنى الإنـزال هاهنا: الإحداث والإنشاء, كقوله تعالى: أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ ( الأعراف- 26 ) .

وقيل: إنه أنـزل الماء الذي هو سبب نبات القطن الذي يكون منه اللباس, وسبب النبات الذي تبقى به الأنعام.

وقيل: « وَأَنْـزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ » جعلها لكم نـزلا ورز قًا. ( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) أصناف, تفسيرها في سورة الأنعام ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) نطفة ثم علقة ثم مضغة, كما قال الله تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ( نوح- 14 ) ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال ابن عباس: ظلمة البطن, وظلمة الرحم, وظلمة المشيمة ( ذَلِكُمُ اللَّهُ ) الذي خلق هذه الأشياء, ( رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) عن طريق الحق بعد هذا البيان.

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 7 ) وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( 8 )

( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) قال ابن عباس والسدي: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر, وهم الذين قال الله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر- 42 ) فيكون عامًا في اللفظ خاصًا في المعنى, كقوله تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان- 6 ) يريد بعض العباد, وأجراه قوم على العموم, وقالوا: لا يرضى لأحد من عباده الكفر.

ومعنى الآية: لا يرضى لعباده أن يكفروا به. يروى ذلك عن قتادة, وهو قول السلف, قالوا: كفر الكافر غير مرضي لله عز وجل, وإن كان بإرادته. ( وَإِنْ تَشْكُرُوا ) تؤمنوا بربكم وتطيعوه, ( يَرْضَهُ لَكُمْ ) فيثيبكم عليه. قرأ أبو عمرو: « يرضه لكم » ساكنة الهاء, ويختلسها أهل المدينة وعاصم وحمزة, والباقون بالإشباع ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .

( وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ) راجعًا إليه مستغيثًا به, ( ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ ) أعطاه نعمة منه, ( نَسِي ) ترك ( مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ) أي: نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه, ( وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا ) يعني: الأوثان, ( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) ليزل عن دين الله.

( قُل ) لهذا الكافر: ( تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا ) في الدنيا إلى أجلك, ( إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) قيل: نـزلت في عتبة بن ربيعة, وقال مقاتل: [ نـزلت ] في أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي. وقيل: عام في كل كافر .

أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ( 9 )

( أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ ) قرأ ابن كثير ونافع وحمزة: « أمن » بتخفيف الميم, وقرأ الآخرون بتشديدها, فمن شدد فله وجهان:

أحدهما: أن تكون الميم في « أم » صلة, فيكون معنى الكلام استفهامًا وجوابه محذوفًا مجازه: أمن هو قانت كمن هو غير قانت؟ كقوله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ( الزمر- 22 ) يعني كمن لم يشرح صدره.

والوجه الآخر: أنه عطف على الاستفهام, مجازه: الذي جعل لله أندادًا خير أمن هو قانت؟ ومن قرأ بالتخفيف فهو ألف استفهام دخلت على من, معناه: أهذا كالذي جعل لله أندادًا؟

وقيل: الألف في « أمن » بمعنى حرف النداء, تقديره: يا من هو قانت, والعرب تنادي بالألف كما تنادي بالياء, فتقول: أبني فلان ويا بني فلان, فيكون معنى الآية: قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار, يا من هو قانت ( آنَاءَ اللَّيْلِ ) إنك من أهل الجنة, قاله ابن عباس.

وفي رواية عطاء: نـزلت في أبي بكر الصديق .

وقال الضحاك: نـزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .

وعن ابن عمر أنها نـزلت في عثمان .

وعن الكلبي أنها نـزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان.

والقانت: المقيم على الطاعة. قال ابن عمر: « القنوت » : قراءة القرآن وطول القيام, و « آناء الليل » : ساعاته, ( سَاجِدًا وَقَائِمًا ) يعني: في الصلاة, ( يَحْذَرُ الآخِرَةَ ) يخاف الآخرة, ( وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ) يعني: كمن لا يفعل شيئًا من ذلك, ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) قيل: « الذين يعلمون » عمار, و « الذين لا يعلمون » : أبو حذيفة المخزومي, ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ) .

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 10 )

( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) بطاعته واجتناب معصيته, ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ) أي: آمنوا وأحسنوا العمل, ( حَسَنَة ) يعني: الجنة, قاله مقاتل. وقال السدي: في هذه الدنيا حسنة يعني: الصحة والعافية, ( وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ) قال ابن عباس: يعني ارتحلوا من مكة. وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي.

وقيل: نـزلت في مهاجري الحبشة.

وقال سعيد بن جبير: من أمر بالمعاصي فليهرب. ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى.

وقيل: نـزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه, حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا .

قال علي رضي الله عنه: كل مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنًا إلا الصابرون, فإنه يحثى لهم حثيًا .

ويروى: « يؤتي بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان, ويصب عليهم الأجر صبًا بغير حساب » . قال الله تعالى: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل.

 

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ( 11 ) وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ( 12 ) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 13 ) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ( 14 ) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ( 15 ) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ( 16 ) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ( 17 )

( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ) مخلصًا له التوحيد لا أشرك به شيئًا.

( وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) من هذه الأمة.

( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ) وعبدت غيره, ( عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) وهذا حين دعي إلى دين آبائه.

( قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) أمر توبيخ وتهديد, كقوله: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ( فصلت- 40 ) ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ ) أزواجهم وخدمهم, ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قال ابن عباس: وذلك أن الله جعل لكل إنسان منـزلا في الجنة وأهلا فمن عمل بطاعة الله كان ذلك المنـزل والأهل له, ومن عمل بمعصية الله دخل النار, وكان ذلك المنـزل والأهل لغيره ممن عمل بطاعة الله . وقيل: خسران النفس بدخول النار, وخسران الأهل بأن يفرق بينه وبين أهله, ( أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) .

( لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ ) أطباق سرادقات من النار ودخانها, ( وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) فراش ومهاد من نار إلى أن ينتهي إلى القعر, وسمي الأسفل ظللا لأنها ظلل لمن تحتهم نظيرها قوله عز وجل: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ( الأعراف- 41 ) .

( ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ) .

( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ ) الأوثان ( أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ ) رجعوا إلى عبادة الله, ( لَهُمُ الْبُشْرَى ) في الدنيا والجنة في العقبى ( فَبَشِّرْ عِبَادِ ) .

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ ( 18 ) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ( 19 ) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ( 20 )

( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْل ) القرآن, ( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) قال السدي: أحسن ما يؤمرون فيعملون به. وقيل: هو أن الله تعالى ذكر في القرآن الانتصار من الظالم وذكر العفو, والعفو أحسن الأمرين. وقيل: ذكر العزائم والرخص فيتبعون الأحسن وهو العزائم. وقيل: يستمعون القرآن وغير القرآن فيتبعون القرآن.

وقال عطاء عن ابن عباس: آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان, وعبد الرحمن بن عوف, وطلحة, والزبير, وسعد بن أبي وقاص, وسعيد بن زيد, فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا, فنـزلت فيهم : « فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه » وكله حسن. ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ ) .

وقال ابن زيد: نـزلت « والذين اجتنبوا الطاغوت » الآيتان, في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله: زيد بن عمرو بن نفيل, وأبو ذر الغفاري, وسلمان الفارسي . والأحسن: قول لا إله إلا الله.

( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: من سبق في علم الله أنه من أهل النار. وقيل: كلمة العذاب [ قوله: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ , وقيل: ] قوله: « هؤلاء في النار ولا أبالي » . ( أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) أي: لا تقدر عليه. قال ابن عباس: يريد أبا لهب وولده.

( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ أي: منازل في الجنة رفيعة, وفوقها منازل أرفع منها, ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ) أي: وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعدًا لا يخلفه.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثني عبد العزيز بن عبد الله, حدثني مالك عن صفوان بن سليم, عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم » , قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم, قال: « بلى, والذي نفسي بيده, رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين » .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ( 21 )

قوله عز وجل: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ ) أدخل ذلك الماء, ( يَنَابِيعَ ) عيونًا وركايا ( فِي الأرْضِ ) قال الشعبي: كل ماء في الأرض فمن السماء نـزل, ( ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ ) أي: بالماء ( زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ) أحمر وأصفر وأخضر, ( ثُمَّ يَهِيجُ ) ييبس ( فَتَرَاه ) بعد خضرته ونضرته, ( مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ) فتاتًا متكسرًا, ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ) .

 

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 22 )

قوله عز وجل: ( أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) وسعه لقبول الحق, ( فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) ليس كمن أقسى الله قلبه.

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي, أخبرنا ابن فنجويه, حدثنا عبد الله بن محمد بن شيبة, حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن يزيد الموصلي ببغداد, حدثنا أبو فروة واسمه يزيد بن محمد, حدثني أبي عن أبيه, حدثنا زيد بن أبي أنيسة, عن عمرو بن مرة, عن عبد الله بن الحارث, عن عبد الله بن مسعود قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) قلنا: يا رسول الله كيف انشراح صدره؟ قال: « إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح » قلنا: يا رسول الله فما علامة ذلك؟ قال: « الإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والتأهب للموت قبل نـزول الموت » .

قوله عز وجل: ( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب, وما غضب الله عز وجل على قوم إلا نـزع منهم الرحمة .

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 23 )

قوله عز وجل: ( اللَّهُ نـزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ) يشبه بعضه بعضًا في الحسن, ويصدق بعضه بعضًا ليس فيه تناقض ولا اختلاف. ( مَثَانِيَ ) يثنى فيه ذكر الوعد والوعيد, والأمر والنهي, والأخبار والأحكام, ( تَقْشَعِر ) تضطرب وتشمئز, ( مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) والاقشعرار تغير في جلد الإنسان عند الوجل والخوف, وقيل: المراد من الجلود القلوب, أي: قلوب الذين يخشون ربهم, ( ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) أي: لذكر الله, أي: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله, وإذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم, كما قال الله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد- 28 ) .

وحقيقة المعنى: أن قلوبهم تقشعر من الخوف, وتلين عند الرجاء.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرني الحسين بن محمد, حدثنا موسى بن محمد بن علي, حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل, حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني, حدثنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن الهاد, عن محمد بن إبراهيم التيمي, عن أم كلثوم بنت العباس, عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها » .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرني الحسين بن محمد, حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان, حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري, حدثنا محمد بن معاوية, حدثنا الليث بن سعد, حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد بهذا الإسناد, وقال: « إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله حرمه الله على النار » .

قال قتادة: هذا نعت أولياء الله نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله, ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم, إنما ذلك في أهل البدع, وهو من الشيطان.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه, ثنا ابن شيبة, حدثنا حمدان بن داود, حدثنا سلمة بن شيبة, حدثنا خلف بن سلمة, حدثنا هشيم عن حصين عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم, قال فقلت لها: إن ناسًا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشيًا عليه, فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .

وبه عن [ سليمان بن ] سلمة ثنا يحيى بن يحيى, حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي أنا ابن عمر: مر برجل من أهل العراق ساقطًا فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط, قال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط!

وقال ابن عمر: إن الشيطان ليدخل في جوف أحدهم, ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

وذكر عن ابن سيرين: الذين يصرعون إذ قرئ عليهم القرآن؟ [ فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطًا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن ] من أوله إلى آخره, فإن رمى بنفسه فهو صادق .

( ذَلِكَ ) يعني: أحسن الحديث, ( هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) .

أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( 24 ) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ( 25 ) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 26 ) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 27 ) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 28 )

( أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ ) أي: شدته, ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قال مجاهد: يجر على وجهه في النار. وقال عطاء: يرمى به في النار منكوسًا فأول شيء منه تمسه النار وجهه. قال مقاتل: هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه, وفي عنقه صخرة مثل جبل عظيم من الكبريت, فتشتعل النار في الحجر, وهو معلق في عنقه فخرَّ ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها عن وجهه, للأغلال التي في عنقه ويده .

ومجاز الآية: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن هو آمن من العذاب؟

( وَقِيلَ ) يعني: تقول الخزنة, ( لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) أي: وباله.

( كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) من قبل كفار مكة كذبوا الرسل, ( فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) يعني: وهم آمنون غافلون من العذاب.

( فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ ) العذاب والهوان, ( فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) .

( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) يتعظون.

( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) نصب على الحال, ( غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) قال ابن عباس: غير مختلف. قال مجاهد: غير ذي لبس. قال السدي: غير مخلوق. ويروى ذلك عن مالك بن أنس, وحكي عن سفيان بن عيينة عن سبعين من التابعين أن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق ( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) الكفر والتكذيب به.

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 29 ) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ( 30 ) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ( 31 )

( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا ) قال الكسائي: نصب رجلا لأنه تفسير للمثل, ( فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ) متنازعون مختلفون سيئة أخلاقهم, يقال: رجل شكس شرس, إذا كان سيء الخلق, مخالفًا للناس, لا يرضى بالإنصاف, ( وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ ) قرأ أهل مكة والبصرة: « سالما » بالألف أي: خالصًا له لا شريك ولا منازع له فيه, [ وقرأ الآخرون: « سلما » بفتح اللام من غير ألف, وهو الذي لا ينازع فيه ] من قولهم: هو لك سلم, أي: مسلم لا منازع لك فيه. ( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا ) هذا مثل ضربه الله عز وجل للكافر الذي يعبد آلهة شتى, والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله الواحد, وهذا استفهام إنكار أي: لا يستويان, ثم قال: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) أي: لله الحمد كله دون غيره من المعبودين. ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ما يصيرون إليه والمراد بالأكثر الكل.

( إِنَّكَ مَيِّتٌ ) أي: ستموت, ( وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) أي: سيموتون, قال الفراء والكسائي: الميت - بالتشديد- من لم يمت وسيموت, الميت - بالتخفيف- من فارقه الروح, ولذلك لم يخفف هاهنا.

( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) قال ابن عباس: يعني: المحق والمبطل, والظالم والمظلوم.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا ابن فنجويه, حدثنا ابن مالك, حدثنا ابن حنبل, حدثني أبي, حدثنا ابن نمير, حدثنا محمد يعني ابن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب, عن عبد الله بن الزبير, عن الزبير بن العوام قال: لما نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون » قال الزبير: أي رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: « نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه » قال الزبير: والله إن الأمر لشديد .

وقال ابن عمر: عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية أنـزلت فينا وفي أهل الكتابين « ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون » قلنا: كيف نختصم وديننا وكتابنا واحد؟ حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف, فعرفت أنها نـزلت فينا .

وعن أبي سعيد الخدري في هذه الآية قال: كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا .

وعن إبراهيم قال: لما نـزلت: « ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون » قالوا: كيف نختصم ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان قالوا: هذه خصومتنا ?

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح, أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي, حدثنا علي بن الجعد, حدثنا ابن أبي ذئب, عن سعيد المقبري, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم, فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته, وإن لم يكن له أخذ من سيئاته فجعلت عليه » .

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي, أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني, أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري, حدثنا أحمد بن علي الكشمهيني, حدثنا علي بن حجر, حدثنا إسماعيل بن جعفر, عن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أتدرون من المفلس » ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع, قال: « إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة, وكان قد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا, فيقضي هذا من حسناته وهذا من حسناته, [ قال: فإن فنيت حسناته ] قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار » .