الجزء  السادس والعشرون

 

سورة الأحقاف

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

حم ( 1 ) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 2 ) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ( 3 ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 4 ) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ( 5 )

( حم * تَنـزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ) ، يعني يوم القيامة, وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض, وهو إشارة إلى فنائهما, ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا ) خوفوا به في القرآن من البعث والحساب, ( مُعْرِضُونَ ) .

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) أي بكتاب جاءكم من الله قبل القرآن فيه بيان ما تقولون, ( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) قال الكلبي: أي بقية من علم يؤثر عن الأولين, أي يسند إليهم. قال مجاهد وعكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء. وقال قتادة: خاصة من علم. وأصل الكلمة من الأثر وهو الرواية, يقال: أثرت الحديث أثرًا وأثارة, ومنه قيل للخبر: أثر. ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) .

( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ ) يعني الأصنام لا تجيب عابديها إلى شيء يسألونها, ( إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) أبدًا ما دامت الدنيا, ( وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ) لأنها جماد لا تسمع ولا تفهم.

 

وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ( 6 ) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 7 ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 8 ) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 9 )

( وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ) جاحدين, بيانه قوله: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ( القصص- 63 ) .

( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) يسمون القرآن سحرًا.

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ) محمد من قبل نفسه, فقال الله عز وجل: ( قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) لا تقدرون أن تردوا عني عذابه إن عذبني على افترائي, فكيف أفتري على الله من أجلكم, ( هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ) تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه إنه سحر. ( كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) أن القرآن جاء من عنده, ( وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) في تأخير العذاب عنكم, قال الزجاج: هذا دعاء لهم إلى التوبة, معناه: إن الله عز وجل غفور لمن تاب منكم رحيم به.

( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ) أي بديعًا, مثل: نصف ونصيف, وجمع البدع أبداع, لست بأول مرسل, قد بعث قبلي كثير من الأنبياء, فكيف تنكرون نبوتي. ( وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) اختلف العلماء في معنى هذه الآية:

فقال بعضهم: معناه ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة, فلما نـزلت هذه الآية فرح المشركون, فقالوا: واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحد, وما له علينا من مزية وفضل, ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به, فأنـزل الله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ , ( الفتح- 2 ) فقالت الصحابة: هنيئًا لك يا نبي الله قد علمنا ما يفعل بك, فماذا يفعل بنا؟ فأنـزل الله تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ الآية , ( الفتح- 5 ) وأنـزل: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا ( الأحزاب- 47 ) فبين الله تعالى ما يفعل به وبهم. وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة, قالوا: إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه [ وإنما أخبر بغفران ذنبه ] عام الحديبية, فنسخ ذلك .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي, أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران, أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار, حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن الزهري, عن خارجة بن زيد قال: كانت أم العلاء الأنصارية تقول: لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكنتهم, قالت [ فطار لنا ] عثمان بن مظعون في السكنى, فمرض فمرضناه, ثم توفي فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدخل فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي قد أكرمك الله, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « وما يدريك أن الله قد أكرمه » ؟ فقلت: لا والله لا أدري, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أما هو فقد أتاه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم » قالت: فوالله لا أزكي بعده أحدًا أبدًا, قالت: ثم رأيت لعثمان بعد في النوم عينًا تجري فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: « ذاك عمله » .

وقال جماعة: قوله « وما أدري ما يفعل بي ولا بكم » في الدنيا, أما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة, وأن من كذبه فهو في النار, ثم اختلفوا فيه:

قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم وهو بمكة أرضا ذات سباخ ونخل رفعت له, يهاجر إليها, فقال له أصحابه متى تهاجر إلى الأرض التي أريت؟ فسكت, فأنـزل الله تعالى هذه الآية: « وما أدري ما يفعل بي ولا بكم » , أأترك في مكاني أم أخرج وإياكم إلى الأرض التي رفعت لي ؟.

وقال بعضهم: « وما أدري ما يفعل بي ولا بكم » إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدنيا, بأن أقيم معكم في مكانكم أم أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي, أم أقتل كما قتل الأنبياء, من قبلي وأنتم أيها المصدقون لا أدري تخرجون معي أم تتركون, أم ماذا يفعل بكم, [ وأنتم ] أيها المكذبون, أترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم, أم أي شيء يفعل بكم, مما فعل بالأمم المكذبة؟.

ثم أخبر الله عز وجل أنه يظهر دينه على الأديان, فقال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ , ( الصف- 9 ) وقال في أمته: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( الأنفال- 33 ) , فأخبر الله ما يصنع به وبأمته, هذا قول السدي.

( إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ ) أي ما أتبع إلا القرآن, ولا أبتدع من عندي شيئًا, ( وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 10 )

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ ) معناه: أخبروني ماذا تقولون, ( إِنْ كَانَ ) يعني القرآن, ( مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ) أيها المشركون, ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) المثل: صلة, يعني: عليه, أي على أنه من عند الله ( فَآمَنَ ) يعني الشاهد, ( وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) عن الإيمان به, وجواب قوله: « إن كان من عند الله » محذوف, على تقدير: أليس قد ظلمتم؟ يدل على هذا المحذوف قوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) وقال الحسن: جوابه: فمن أضل منكم, كما قال في سورة السجدة.

واختلفوا في هذا الشاهد, قال قتادة والضحاك: هو عبد الله بن سلام, شهد على نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وآمن به, واستكبر اليهود فلم يؤمنوا.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا عبد الله بن منير سمع عبد الله بن بكير, حدثنا حميد, عن أنس قال: « سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينـزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفًا, قال: جبريل؟ قال: نعم, قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة, فقرأ هذه الآية: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَـزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( البقرة- 97 ) , فأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب, وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت, وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نـزع الولد, وإذا سبق ماء المرأة نـزعت, قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله, [ يا رسول الله ] إن اليهود قوم بهت, وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني, فجاءت اليهود فقال: أي رجل عبد الله فيكم؟ قالوا خيرنا وابن خيرنا, وسيدنا وابن سيدنا, قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك, فخرج عبد الله, فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, فقالوا: شرنا وابن شرنا, فانتقصوه, قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا عبد الله بن يوسف قال: سمعت مالكًا يحدث عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله, عن عامر بن سعد بن أبي وقاص, عن أبيه قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام, وفيه نـزلت هذه الآية: « وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله » . قال: لا أدري قال مالك الآية أو في الحديث .

وقال الآخرون: الشاهد هو موسى بن عمران .

وقال الشعبي: قال مسروق في هذه الآية: والله ما نـزلت في عبد الله بن سلام لأن ال حم نـزلت بمكة, وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة, ونـزلت هذه الآية في محاجة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه, ومثل القرآن التوراة فشهد موسى على التوراة ومحمد صلى الله عليه وسلم على الفرقان, وكل واحد يصدق الآخر .

وقيل: هو نبي من بني إسرائيل فآمن واستكبرتم فلم تؤمنوا ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ( 11 ) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ( 12 ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 13 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 14 )

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) من اليهود, ( لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ ) [ دين محمد صلى الله عليه وسلم ] ( خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ) يعني عبد الله بن سلام وأصحابه.

وقال قتادة: نـزلت في مشركي مكة, قالوا: لو كان ما يدعونا إليه محمد خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان .

وقال الكلبي: الذين كفروا: أسد وغطفان, قالوا للذين آمنوا يعني: جهينة ومزينة: لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقنا إليه رعاء البهم .

قال الله تعالى: ( وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ) يعني بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان ( فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ) كما قالوا أساطير الأولين.

( وَمِنْ قَبْلِهِ ) أي ومن قبل القرآن, ( كِتَابُ مُوسَى ) يعني التوراة, ( إِمَامًا ) يقتدى به, ( وَرَحْمَةً ) من الله لمن آمن به, ونُصِبَا على الحال عن الكسائي, وقال أبو عبيدة: فيه إضمار, أي جعلناه إمامًا ورحمة, وفي الكلام محذوف, تقديره: وتقدمه كتاب موسى إمامًا ولم يهتدوا به, كما قال في الآية الأولى: « وإذ لم يهتدوا به » .

( وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ ) أي القرآن مصدق للكتب التي قبله, ( لِسَانًا عَرَبِيًّا ) نصب على الحال, وقيل بلسان عربي, ( لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) يعني مشركي مكة, قرأ أهل الحجاز والشام ويعقوب: « لتنذر » بالتاء على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم, وقرأ الآخرون بالياء يعني الكتاب, ( وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ) « وبشرى » في محل الرفع, أي هذا كتاب مصدق وبشرى.

( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .

 

وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 15 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( 16 ) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 17 )

قوله عز وجل: ( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ) قرأ أهل الكوفة: « إحسانا » [ كقوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ( البقرة- 83 ) ] ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ) يريد شدة الطلق. قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو « كرها » بفتح الكاف فيهما, وقرأ الآخرون بضمهما. ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ) فطامه, وقرأ يعقوب: « وفصله » بغير ألف, ( ثَلاثُونَ شَهْرًا ) يريد أقل مدة الحمل, وهي ستة أشهر, وأكثر مدة الرضاع أربعة وعشرون شهرًا.

وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا, وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرًا ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) نهاية قوته, وغاية شبابه واستوائه, وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة, فذلك قوله: ( وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) .

وقال السدي والضحاك: نـزلت في سعد بن أبي وقاص, وقد مضت القصة .

وقال الآخرون: نـزلت في أبي بكر الصديق وأبيه أبي قحافة عثمان بن عمرو, وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو.

قال علي بن أبي طالب: الآية نـزلت في أبي بكر, أسلم أبواه جميعًا, ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره, أوصاه الله بهما, ولزم ذلك من بعده .

وكان أبو بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة, والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة, في تجارة إلى الشام, فلما بلغ أربعين سنة ونبئ النبي صلى الله عليه وسلم آمن به ودعا ربه فـ ( قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي ) ألهمني, ( أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ) بالهداية والإيمان, ( وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ) قال ابن عباس: وأجابه الله عز وجل, فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله ولم يرد شيئًا من الخير إلا أعانه الله عليه, ودعا أيضًا فقال: ( وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) فأجابه الله, فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعًا, فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعًا, فأدرك أبو قحافة النبي صلى الله عليه وسلم, وابنه أبو بكر وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عبد الرحمن أبو عتيق كلهم أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم, ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة . قوله: ( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .

( أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ) يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا, وكلها حسن, و « الأحسن » بمعنى الحسن, فيثيبهم عليها, ( وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ) فلا نعاقبهم عليها, قرأ حمزة والكسائي وحفص « نتقبل » « ونتجاوز » بالنون, « أحسنَ » نصب, وقرأ الآخرون بالياء, وضمها « أحسنُ » رفع. ( فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ) مع أصحاب الجنة, ( وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) وهو قوله عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ( التوبة- 72 ) .

( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ ) إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث, ( أُفٍّ لَكُمَا ) وهي كلمة كراهية, ( أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) من قبري حيًا, ( وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ) فلم يبعث منهم أحد, ( وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ ) يستصرخان ويستغيثان الله عليه, ويقولان له: ( وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا ) ما هذا الذي تدعواني إليه, ( إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) قال ابن عباس والسدي, ومجاهد: نـزلت في عبد الله .

وقيل: في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه, كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام وهو يأبى, ويقول: أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون .

وأنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون هذا في عبد الرحمن بن أبي بكر .

والصحيح أنها نـزلت في كافر عاق لوالديه, قاله الحسن وقتادة.

وقال الزجاج: قول من قال إنها نـزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه, يبطله قوله:

أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( 18 ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 19 )

( أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) الآية, أعلم الله تعالى أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب, وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المسلمين فلا يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب.

ومعنى « أولئك الذين حق عليهم القول » : وجب عليهم العذاب, ( فِي أُمَمٍ ) [ مع أمم ] ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ) .

( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد من سبق إلى الإسلام, فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو بساعة. وقال مقاتل: ولكلٍّ فضائلُ بأعمالهم فيوفيهم الله جزاء أعمالهم.

وقيل: « ولكل » : يعني ولكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين « درجات » منازل ومراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم, فيجازيهم عليها.

قال ابن زيد في هذه الآية: درج أهل النار تذهب سفلا ودرج أهل الجنة تذهب علوًا .

( وَلِيُوَفِّيَهُمْ ) قرأ ابن كثير, وأهل البصرة, وعاصم: بالياء, وقرأ الباقون بالنون. ( أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ( 20 )

( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) فيقال لهم: ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ) قرأ ابن كثير, وابن عامر, وأبو جعفر, ويعقوب: « أأذهبتم » , بالاستفهام ويهمز ابن عامر همزتين, والآخرون بلا استفهام على الخبر, وكلاهما فصيحان, لأن العرب تستفهم بالتوبيخ, وترك الاستفهام فتقول: أذهبت ففعلت كذا؟ ( وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ) يقول: أذهبتم طيباتكم يعني اللذات وتمتعتم بها؟ ( فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ) أي العذاب الذي فيه ذل وخزي, ( بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) [ تتكبرون ] ( فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) فلما وبخ الله الكافرين بالتمتع بالطيبات في الدنيا آثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة.

وروينا عن عمر قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثر الرمال بجنبه, فقلت: يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله, فقال: « أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا » .

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني, أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي, أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب, حدثنا أبو عيسى الترمذي, ثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد يحدث, عن الأسود بن يزيد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي, أخبرنا أبو الحسين بن بشران, أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار, حدثنا أحمد بن المنصور الرمادي, حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارًا وما هو إلا الماء والتمر, غير أن جزى الله نساءً من الأنصار خيرًا, كن ربما أهدين لنا شيئًا من اللبن .

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني, أخبرنا أبو القاسم الخزاعي, أخبرنا الهيثم بن كليب, حدثنا أبو عيسى الترمذي, حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي, حدثنا ثابت بن يزيد, عن هلال بن خباب عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويًا, وأهله لا يجدون عشاءً, وكان أكثر خبزهم خبز الشعير .

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني, أخبرنا أبو القاسم الخزاعي, أخبرنا الهيثم بن كليب, حدثنا أبو عيسى, حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن, حدثنا روح بن أسلم, حدثنا أبو حاتم البصري, حدثنا حماد بن سلمة, أخبرنا ثابت, عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لقد أخفت في الله وما يخاف أحد, ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين ليلة ويوم ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, [ حدثنا محمد بن إسماعيل ] حدثنا يوسف بن عيسى, حدثنا ابن فضيل, عن أبيه, عن أبي حازم, عن أبي هريرة أنه قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصُّفَّة ما منهم رجل عليه رداء, إما إزار وإما كساء, قد ربطوا في أعناقهم, فمنها ما يبلغ نصف الساقين, ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني, حدثنا أبو طاهر محمد بن الحارث, حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي, أخبرنا عبد الله بن محمود, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, حدثنا عبد الله بن مبارك, عن شعبة بن الحجاج, عن سعد بن إبراهيم, [ عن أبيه إبراهيم ] أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائمًا, فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفن في بردة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه, وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه, قال: وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني, فلم يوجد ما يكفن فيه إلا بردة, ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط, أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا, ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام .

وقال جابر بن عبد الله: رأى عمر بن الخطاب لحمًا معلقًا في يدي, فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيت لحمًا فاشتريته, فقال عمر: أو كلما اشتهيت شيئًا يا جابر اشتريت, أما تخاف هذه الآية: « أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا » .

 

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 21 ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 22 )

قوله عز وجل: ( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ ) يعني هودًا عليه السلام, ( إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال ابن عباس: « الأحقاف » : واد بين عمان ومهرة.

وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له: « مهرة » وإليها تنسب الإبل المهرية, وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم, وكانوا من قبيلة إرم.

قال قتادة: ذكر لنا أن عادًا كانوا أحياء باليمن, وكانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: « الشحر » . و « الأحقاف » جمع حقف, وهي المستطيل المعوج من الرمال. قال ابن زيد: هي ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلا قال الكسائي: هي ما استدار من الرمل.

( وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ ) مضت الرسل, ( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) أي من قبل هود, ( وَمِنْ خَلْفِهِ ) إلى قومهم, ( أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) .

( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا ) [ لتصرفنا ] ( عَنْ آلِهَتِنَا ) أي عن عبادتها, ( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ) [ من العذاب ] ( إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) أن العذاب نازل بنا.

قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( 23 ) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 24 ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( 25 )

( قَالَ ) هود, ( إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ ) وهو يعلم متى يأتيكم العذاب ( وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ ) من الوحي, ( وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ) .

( فَلَمَّا رَأَوْهُ ) يعني ما يوعدون به من العذاب, ( عَارِضًا ) سحابًا يعرض أي يبدو في ناحية من السماء ثم يطبق السماء, ( مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ) فخرجت عليهم سحابة سوداء من واد لهم يقال له: « المغيث » وكانوا قد حبس عنهم المطر, فلما رأوها استبشروا, ( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ) يقول الله تعالى: ( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) فجعلت الريح تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة.

( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ ) مرت به من رجال عاد وأموالها, [ ( بِأَمْرِ رَبِّهَا ) ] فأول ما عرفوا أنها عذاب رأوا ما كان خارجًا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض, فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح فقلعت أبوابهم وصرعتهم, وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال, فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام, لهم أنين, ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم في البحر.

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي, أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفراييني, أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ, أخبرنا يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرنا عمرو بن الحارث, أخبرنا النضر. حدثه عن سليمان بن يسار, عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه بياض لهواته, وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرف ذلك في وجهه, فقلت: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا, رجاء أن يكون فيه المطر, وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية, فقال: « يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب, قد عذب قوم بالريح, وقد رأى قوم العذاب فقالوا: » هذا عارض ممطرنا « , الآية . »

( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ ) قرأ عاصم, وحمزة, ويعقوب: « يرى » بضم الياء « مساكنهم » برفع النون يعني: لا يرى شيء إلا مساكنهم, وقرأ الآخرون بالتاء وفتحها, « مساكنهم » نصب يعني لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم لأن السكان والأنعام بادت بالريح, فلم يبق إلا هود ومن آمن معه. ( كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) .

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 26 ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 27 ) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 28 )

( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ) يعني فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطول العمر وكثرة المال.

قال المبرد: « ما » في قوله « فيما » بمنـزلة الذي, و « إن » بمنـزلة ما, وتقديره: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه. ( وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) .

( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ ) يا أهل مكة, ( مِنَ الْقُرَى ) كحجر ثمود وأرض سدوم ونحوهما, ( وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ ) الحجج والبينات, ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) عن كفرهم فلم يرجعوا, فأهلكناهم, يخوف مشركي مكة.

( فَلَوْلا ) فهلا ( نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً ) يعني الأوثان, اتخذوها آلهة يتقربون بها إلى الله عز وجل, « القربان » : كل ما يتقرب به إلى الله عز وجل, وجمعه: « قرابين » , كالرهبان والرهابين.

( بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ) قال مقاتل: بل ضلت الآلهة عنهم فلم تنفعهم عند نـزول العذاب بهم, ( وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ ) أي كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقربهم إلى الله عز وجل وتشفع لهم, ( وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) يكذبون أنها آلهة.

 

قوله عز وجل: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ( 29 )

( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) الآية, قال المفسرون: لما مات أبو طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه, فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد, عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف إلى نفر من ثقيف, وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم, وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل, ومسعود, وحبيب بنو [ عمرو بن ] عمير, وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح, فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام, والقيام معه على من خالفه من قومه.

فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة, إن كان الله أرسلك, وقال الآخر: ما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله ما أكلمك كلمة أبدًا, لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام, ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك.

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم, وقد يئس من خير ثقيف, وقال لهم: إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عليّ [ سري ] ، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه فيزيدهم عليه ذلك, فلم يفعلوا, وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس, وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة, وهما فيه فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه, فعمد إلى ظل حبلة من عنب, فجلس فيه, وابنا ربيعة ينظران إليه, ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف, ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة التي من بني جمح, فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك؟

فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي, وقلة حيلتي, وهواني على الناس, أنت أرحم الراحمين, أنت رب المستضعفين, وأنت ربي, إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري؟, إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي, ولكن عافيتك هي أوسع لي, أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات, وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينـزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك, لك العتبى حتى ترضى, ولا حول ولا قوة إلا بك » .

فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلامًا لهما نصرانيًا يقال له: عداس, فقالا له: خذ قطفًا من العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل, فقل له يأكل منه, ففعل ذلك عداس, ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال: بسم الله, ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ قال: أنا نصراني, وأنا رجل من أهل نينوى, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي كان نبيًا وأنا نبي فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل رأسه ويديه وقدميه.

قال: فيقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك, فلما جاءهم عداس قالا له: ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل, لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي, فقالا ويحك يا عداس لا يصرفك عن دينك فإن دينك خير من دينه.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف, حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين اليمن, فاستمعوا له, فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين, قد آمنوا وأجابوا لما سمعوا, فقص الله خبرهم عليه, فقال: « وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا مسدد, حدثنا أبو عوانة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ, وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء, فأرسلت عليهم الشهب, فرجعت الشياطين إلى قومهم, فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء, وأرسلت علينا الشهب, قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث, فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها, فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء, فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة, عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر, فلما سمعوا القرآن استمعوا له, فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء, فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ( الجن: 1- 2 ) , فأنـزل الله على نبيه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ( الجن- 1 ) وإنما أوحى إليه قول الجن .

وروي: أنهم لما رجعوا بالشهب بعث إبليس سراياه لتعرف الخبر, وكان أول بعثٍ بعثَ ركبًا من أهل نصيبين, وهم أشراف الجن وساداتهم, فبعثهم إلى تهامة.

وقال أبو حمزة [ الثمالي ] : بلغنا أنهم من الشيصبان وهم أكثر الجن عددًا, وهم عامة جنود إبليس, فلما رجعوا قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا .

وقال جماعة: بل أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن, فصرف إليه نفرًا من الجن من أهل نينوى, وجمعهم له, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة, فأيكم يتبعني؟ فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا, ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا, فاتَّبَعَهُ عبد الله بن مسعود, قال عبد الله: ولم يحضر معه أحد غيري, فانطلقنا حتى إذا كنا على مكة دخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعبًا يقال له: شعب الحجون, وخط لي خطًا ثم أمرني أن أجلس فيه, وقال: لا تخرج منه حتى أعود إليك، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن, فجعلت أرى أمثال النسور تهوي, وسمعت لغطًا شديدًا حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم, وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه, حتى ما أسمع صوته, ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين, ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر, فانطلق إليَّ وقال: أنمت؟ فقلت: لا والله يا رسول الله, وقد هممت مرارًا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك, تقول: اجلسوا, قال: لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم, ثم قال: هل رأيت شيئًا؟ قلت نعم يا رسول الله رأيت رجالا سودًا مستثفري ثياب بيض, قال: أولئك جن نصيبين سألوني المتاع - والمتاع الزاد- فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة.

قال: فقالوا: يا رسول الله تقذرها الناس, فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث.

قال: فقلت: يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم؟ قال: إنهم لا يجدون عظمًا إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل, ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت, قال فقلت: يا رسول الله سمعت لغطًا شديدًا؟ فقال: إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليَّ فقضيت بينهم بالحق, قال: ثم تبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاني, فقال: هل معك ماء؟ قلت: يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر, فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ وقال: « تمرة طيبة وماء طهور » .

قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخًا شمطًا من الزُّطِّ فأفزعوه حين رآهم, فقال: اظهروا, فقيل له: إن هؤلاء قوم من الزط, فقال: ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يريد الجن.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغفار بن محمد, حدثنا محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود وهو ابن أبي هند, عن عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة, ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب, فقلنا: استطير أو اغتيل, قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء, قال فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك, فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن.

قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.

قال وسألوه الزاد, فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن » . .

ورواه مسلم عن عليّ بن حجر, حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, عن داود بهذا الإسناد إلى قوله: « وآثار نيرانهم » .

قال الشعبي: وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة إلى آخر الحديث من قول الشعبي مفصلا من حديث عبد الله.

قوله عز وجل: ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) اختلفوا في عدد ذلك النفر, فقال ابن عباس: كانوا سبعة من جن نصيبين, فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم. وقال آخرون: كانوا تسعة . وروى عاصم عن زر بن حبيش: كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن. ( فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ) قالوا: صه .

وروي في الحديث: « أن الجن ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء, وصنف حيات وكلاب, وصنف يحلون ويظعنون » .

فلما حضروه قال بعضهم لبعض: أنصتوا واسكتوا لنستمع إلى قراءته, فلا يحول بيننا وبين الاستماع شيء, فأنصتوا واستمعوا القرآن حتى كاد يقع بعضهم على بعض من شدة حرصهم.

( فَلَمَّا قُضِي ) فرغ من تلاوته, ( وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ ) انصرفوا إليهم, ( مُنْذِرِينَ ) مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ( 30 ) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 31 )

( قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنـزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) قال عطاء: كان دينهم اليهودية, لذلك قالوا: إنا سمعنا كتابًا أنـزل من بعد موسى .

( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ ) يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم , ( وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) « من » صلة, أي ذنوبكم, ( وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: فاستجاب لهم من قومهم نحو من سبعين رجلا من الجن, فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقوه في البطحاء, فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم ، وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثًا إلى الجن والإنس جميعًا.

قال مقاتل: لم يبعث قبله نبي إلى الإنس والجن جميعًا .

واختلف العلماء في حكم مؤمني الجن فقال قوم: ليس لهم ثواب إلا نجاتهم من النار, وتأولوا قوله: « يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم » , وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه.

وحكى سفيان عن ليث قال: الجن ثوابهم أن يجاروا من النار, ثم يقال لهم: كونوا ترابًا, وهذا مثل البهائم.

وعن أبي الزناد قال: إذا قضي بين الناس قيل لمؤمني الجن: عودوا ترابًا, فيعودون ترابًا, فعند ذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ( النبأ- 40 ) .

وقال الآخرون: يكون لهم الثواب في الإحسان كما يكون عليهم العقاب في الإساءة كالإنس, وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى.

وقال جرير عن الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون.

وذكر النقاش في « تفسيره » حديث أنهم يدخلون الجنة. فقيل: هل يصيبون من نعيمها؟ قال: يلهمهم الله تسبيحه وذكره, فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة. وقال أرطاة بن المنذر: سألت ضمرة بن حبيب: هل للجن ثواب؟ قال: نعم, وقرأ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ( الرحمن- 74 ) , قال: فالإنسيات للإنس والجنيات للجن.

وقال عمر بن عبد العزيز: إن مؤمني الجن حول الجنة, في ربض ورحاب, وليسوا فيها.

وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 32 ) .

( وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ ) لا يعجز الله فيفوته, ( وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ ) أنصار يمنعونه من الله, ( أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 33 ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 34 ) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( 35 )

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ) لم يعجز عن إبداعهن, ( بِقَادِرٍ ) هكذا قراءة العامة, واختلفوا في وجه دخول الباء فيه, فقال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة للتأكيد, كقوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ .

وقال الكسائي, والفراء: العرب تدخل الباء في الاستفهام مع الجحد, فتقول: ما أظنك بقائم.

وقرأ يعقوب: « يقدر » بالياء على الفعل, واختار أبو عبيدة قراءة العامة لأنها في قراءة عبد الله قادر بغير باء.

( عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) فيقال لهم, ( أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ ) أي فيقال لهم: ( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) .

( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) قال ابن عباس: ذوو الحزم. وقال الضحاك: ذوو الجد والصبر.

واختلفوا فيهم, فقال ابن زيد: كل الرسل كانوا أولي عزم, لم يبعث الله نبيًا إلا كان ذا عزم وحزم, ورأي وكمال عقل, وإنما أدخلت « من » للتجنيس لا للتبعيض, كما يقال: اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز.

وقال بعضهم: الأنبياء كلهم أولو عزم إلا يونس بن متى, لعجلة كانت منه, ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ ؟ .

وقال قوم: هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام, وهم ثمانية عشر, لقوله تعالى بعد ذكرهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ( الأنعام- 90 ) .

وقال الكلبي: هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشفة مع أعداء الدين.

وقيل: هم ستة: نوح, وهود, وصالح, ولوط, وشعيب, وموسى, عليهم السلام, وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء.

وقال مقاتل: هم ستة: نوح, صبر على أذى قومه, وإبراهيم, صبر على النار, وإسحاق صبر على الذبح, ويعقوب، صبر على فقد ولده وذهاب بصره, ويوسف, صبر على البئر والسجن, وأيوب, صبر على الضر.

وقال ابن عباس وقتادة: هم نوح, وإبراهيم, وموسى, وعيسى, أصحاب الشرائع, فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم خمسة.

قلت: ذكرهم الله على التخصيص في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ( الأحزاب- 7 ) , وفي قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ( الشورى- 13 ) .

أخبرنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبيد الله الفارسي, حدثنا أبو ذر محمد بن إبراهيم سبط الصالحاني, أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ الحافظ, أخبرنا عبدالرحمن بن أبي حاتم, أخبرنا محمد بن الحجاج, أخبرنا السري بن حيان, أخبرنا عباد بن عباد, حدثنا مجالد بن سعيد, عن الشعبي, عن مسروق قال: قالت عائشة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد, يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها, والصبر على مجهودها, ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم, وقال: » فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل « وإني والله لا بد لي من طاعته, والله لأصبرن كما صبروا, وأجهدن كما جهدوا, ولا قوة إلا بالله » .

قوله تعالى: ( وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ) أي ولا تستعجل العذاب لهم, فإنه نازل بهم لا محالة, كأنه ضجر بعض الضجر فأحب أن ينـزل العذاب بمن أبى منهم, فأمر بالصبر وترك الاستعجال.

ثم أخبر عن قرب العذاب فقال:

( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ ) من العذاب في الآخرة, ( لَمْ يَلْبَثُوا ) [ في الدنيا ] ( إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ) أي إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار, لأن ما مضى وإن كان طويلا كأن لم يكن.

ثم قال: ( بَلاغٌ ) أي هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من الله إليكم, والبلاغ بمعنى التبليغ, ( فَهَلْ يُهْلَكُ ) بالعذاب إذا نـزل ( إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ) الخارجون من أمر الله.

قال الزجاج: تأويله: لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون, ولهذا قال قوم: ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية.

 

سورة محمد

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 1 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ( 2 ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ( 3 )

( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ) أبطلها فلم يقبلها [ وأراد بالأعمال ما فعلوا من إطعام الطعام وصلة الأرحام ] قال الضحاك: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم, وجعل الدائرة عليهم .

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نـزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) قال سفيان الثوري: يعني لم يخالفوه في شيء ( وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: « الذين كفروا وصدوا » : مشركو مكة, « والذين آمنوا وعملوا الصالحات » : الأنصار. ( كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ) حالهم, قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: عصمهم أيام حياتهم, يعني أن هذا الإصلاح يعود إلى إصلاح أعمالهم حتى لا يعصوا.

( ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ ) الشيطان, ( وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ) يعني القرآن ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ) أشكالهم, قال الزجاج: كذلك يبين الله أمثال حسنات المؤمنين, وإضلال أعمال الكافرين.

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 4 )

( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ ) نصب على الإغراء, أي فاضربوا رقابهم يعني أعناقهم. ( حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ ) بالغتم في القتل وقهرتموهم, ( فَشُدُّوا الْوَثَاقَ ) يعني في الأسر حتى لا يفلتوا منكم, والأسر يكون بعد المبالغة في القتل, كما قال: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ( الأنفال- 67 ) , ( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) يعني: بعد أن تأسروهم فإما أن تمنوا عليهم مَنًّا بإطلاقهم من غير عوض, وإما أن تفادوهم فداء.

واختلف العلماء في حكم هذه الآية, فقال قوم: هي منسوخة بقوله: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ( الأنفال- 57 ) , وبقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ( التوبة- 5 ) . وإلى هذا القول ذهب قتادة والضحاك والسدي وابن جريج, وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي, قالوا: لا يجوز المن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء.

وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة, والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم أو يسترقهم أو يمن عليهم, فيطلقهم بلا عوض أو يفاديهم بالمال, أو بأسارى المسلمين، وإليه ذهب ابن عمر, وبه قال الحسن, وعطاء, وأكثر الصحابة والعلماء, وهو قول الثوري, والشافعي, وأحمد وإسحاق.

قال ابن عباس: لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنـزل الله عز وجل في الأسارى: « فإما منا بعد وإما فداء » .

وهذا هو الأصح والاختيار, لأنه عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده:

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, حدثنا محمد بن يوسف, [ حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا عبد الله بن يوسف ] حدثنا الليث, حدثنا سعيد بن أبي سعيد سمع أبا هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد, فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال, فربطوه بسارية [ من سواري ] . المسجد, فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم, وإن تنعم تنعم على شاكر, وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت, حتى كان الغد, فقال له: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر, [ وإن تقتل تقتل ذا دم, وإن كنت تريد المال سل تعط ] فتركه حتى كان بعد الغد, فقال له: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك, فقال: « أطلقوا ثمامة » , فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل, ثم دخل المسجد, فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك, فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ, والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك, فأصبح دينك أحب الدين إليّ, والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ, وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة, فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر, فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا ولكن أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب, أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال, حدثنا أبو العباس الأصم, أخبرنا الربيع, أخبرنا الشافعي, أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي, عن أيوب, عن أبي قلابة, عن أبي المهلب, عن عمران بن حصين قال: أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل فأوثقوه, وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف.

قوله عز وجل: ( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) أي أثقالها وأحمالها, يعني حتى تضع أهل الحرب السلاح, فيمسكوا عن الحرب.

وأصل « الوزر » : ما يحتمل الإنسان, فسمى الأسلحة أوزارًا لأنها تحمل.

وقيل: « الحرب » هم المحاربون, كالشرب والركب.

وقيل: « الأوزار » الآثام, ومعناه حتى يضع المحاربون آثامها, بأن يتوبوا من كفرهم فيؤمنوا بالله ورسوله.

وقيل: حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا, ومعنى الآية: أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام, ويكون الدين كله لله فلا يكون بعده جهاد ولا قتال, وذلك عند نـزول عيسى بن مريم عليهما السلام, وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: « الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال » .

وقال الكلبي: حتى يسلموا أو يسالموا.

وقال الفراء: حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم.

( ذَلِك ) الذي ذكرت وبينت من حكم الكفار, ( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ ) فأهلكهم وكفاكم أمرهم بغير قتال, ( وَلَكِن ) أمركم بالقتال, ( لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب ومن قتل من الكافرين إلى العذاب, ( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) قرأ أهل البصرة وحفص: « قتلوا » بضم القاف وكسر التاء خفيف, يعني الشهداء, وقرأ الآخرون: « قاتلوا » بالألف من المقاتلة, وهم المجاهدون, ( فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ) قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نـزلت يوم أحد, وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل.

سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ( 5 ) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ( 6 )

( سَيَهْدِيهِم ) أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور, وفي الآخرة إلى الدرجات, ( وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ) يرضي خصماءهم ويقبل أعمالهم.

( وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ) أي بَيَّن لهم منازلهم في الجنة حتى يهتدوا إلى مساكنهم لا يخطؤون ولا يستدلون عليها أحدًا كأنهم سكانها منذ خلقوا, فيكون المؤمن أهدى إلى درجته, وزوجته وخدمه منه إلى منـزله وأهله في الدنيا, هذا قول أكثر المفسرين.

وروى عطاء عن ابن عباس: « عرفها لهم » أي طيبها لهم, من العَرْف, وهو الريح الطيبة, وطعام معرف أي: مطيَّب.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ( 7 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 8 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( 9 ) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ( 10 ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ( 11 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ ) أي دينه ورسوله, ( يَنْصُرْكُمْ ) على عدوكم, ( وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) عند القتال.

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ ) قال ابن عباس: بُعْدًا لهم. وقال أبو العالية: سقوطًا لهم. وقال الضحاك: خيبة لهم. وقال ابن زيد: شقاءً لهم. قال الفراء: هو نصب على المصدر, على سبيل الدعاء. وقيل: في الدنيا العثرة, وفي الآخرة التردي في النار. ويقال للعاثر: تعسًا إذا لم يريدوا قيامه, وضده لعًا إذا أرادوا قيامه , ( وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ) لأنها كانت في طاعة الشيطان.

( ذَلِكَ ) التعس والإضلال, ( بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) .

ثم خوف الكفار فقال: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) أي أهلكهم, ( وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ) إن لم يؤمنوا, يتوعد مشركي مكة.

( ذَلِكَ ) الذي ذكرت, ( بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ) وليهم وناصرهم, ( وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ) لا ناصر لهم. ثم ذكر مآل الفريقين فقال:

 

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ( 12 )

( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ) في الدنيا, ( وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ ) ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم, وهم لاهون ساهون عما في غد, قيل: المؤمن في الدنيا يتزود, والمنافق يتزين, والكافر يتمتع, ( وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ) .

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ( 13 ) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ( 14 ) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ( 15 )

( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ) أي أخرجك أهلها, قال ابن عباس: كم رجال هم أشد من أهل مكة؟ يدل عليه قوله: ( أَهْلَكْنَاهُمْ ) ولم يقل: أهلكناها, ( فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ) قال ابن عباس: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: « أنت أحبُّ بلاد الله إلى الله وأحبُّ بلاد الله إليّ ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك » فأنـزل الله هذه الآية .

( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) يقين من دينه, محمد والمؤمنون, ( كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) يعني عبادة الأوثان, وهم أبو جهل والمشركون.

( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) أي صفتها, ( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) آجن متغير منتن, قرأ ابن كثير « آسن » بالقصر, والآخرون بالمد, وهما لغتان يقال: أسن الماء يأسن أسنًا, وأجن يأجن, أسونًا وأجونًا, إذا تَغَّير, ( وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ ) [ لذيذة ] ، ( لِلشَّارِبِينَ ) لم تدنسها الأرجل ولم تدنسها الأيدي, ( وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ) .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغافر بن محمد, أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, أخبرنا أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعلي بن مسهر, عن عبيد الله بن عمر, عن خبيب بن عبد الرحمن, عن حفص بن عاصم, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة » .

قال كعب الأحبار: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة, ونهر الفرات نهر لبنهم, ونهر مصر نهر خمرهم, ونهر سيحان نهر عسلهم, وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر.

( وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ ) أي من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار, ( وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا ) شديد الحر تسعر عليهم جهنم منذ خلقت إذا أدني منهم شوى وجوههم ووقعت فروة رؤوسهم فإذا شربوه, ( فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) فخرجت من أدبارهم, والأمعاء جميع ما في البطن من الحوايا واحدها معي.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ( 16 ) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ( 17 ) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ( 18 )

( وَمِنْهُم ) يعني من هؤلاء الكفار, ( مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) وهم المنافقون, يستمعون قولك فلا يعونه ولا يفهمونه, تهاونًا به وتغافلا ( حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ) يعني فإذا خرجوا من عندك, ( قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) من الصحابة: ( مَاذَا قَالَ ) محمد, ( آنِفًا ) ؟ يعني الآن, هو من الائتناف ويقال: ائتنفت الأمر أي ابتدأته وأنف الشيء أوله.

قال مقاتل: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين, فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود استهزاء: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال ابن عباس: وقد سئلت فيمن سئل.

( أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) فلم يؤمنوا, ( وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) في الكفر والنفاق.

( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا ) يعني المؤمنين, ( زَادَهُم ) ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم, ( هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) وفقهم للعمل بما أمرهم به, وهو التقوى, قال سعيد بن جبير: وآتاهم ثواب تقواهم. ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً )

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي, أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت, حدثنا أبو إسحاق الهاشمي, حدثنا الحسين بن الحسن, حدثنا ابن المبارك, أخبرنا معمر بن راشد, عمن سمع المقبري يحدث عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغيًا, أو فقرًا منسيًا, أو مرضًا مفسدًا, أو هرمًا مُفَنِّدًا, أو موتًا مجهزًا, أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر, أو الساعة والساعة أدهى وأمر » .

قوله عز وجل: ( فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) أي أماراتها وعلاماتها, واحدها: شرط, وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا أحمد بن المقدام, حدثنا فضل بن سليمان, حدثنا أبو حازم, حدثنا سهل بن سعد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا, بالوسطى والتي تلي الإبهام: « بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا حفص بن عمر الحوضي, حدثنا هشام, عن قتادة, عن أنس قال: لأحدثنكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثنكم به أحد غيري, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم, ويكثر الجهل, ويكثر الزنا, ويكثر شرب الخمر, ويقل الرجال ويكثر النساء, حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا محمد بن سنان, حدثنا فليح, حدثني هلال بن علي, عن عطاء بن يسار, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث, فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه, قال: « أين السائل عن الساعة؟ » قال: ها أنا يا رسول الله, قال: « إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة » . قال: كيف إضاعتها؟ قال: « إذا وُسِدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة » .

قوله عز وجل: ( فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ) فمن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة؟ نظيره: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ( الفجر- 23 ) .

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ( 19 )

قوله عز وجل: ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ) قيل: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره, وقيل: معناه فاثبت عليه. وقال الحسين بن الفضل: فازدد علمًا على علمك. وقال أبو العالية وابن عيينة: هو متصل بما قبله معناه: إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا ملجأ ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله. وقيل: فاعلم أنه لا إله إلا الله, أن الممالك تبطل عند قيامها, فلا ملك ولا حكم لأحد إلا لله, ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) أمر بالاستغفار مع أنه مغفور له لتستنَّ به أمته.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور السمعاني, أخبرنا أبو جعفر الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا حماد بن زيد, عن ثابت, عن أبي بردة, عن الأغر المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنه ليغان على قلبي, وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة » .

قوله عز وجل: ( وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم, ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ) قال ابن عباس والضحاك: « متقلبكم » متصرفكم [ ومنتشركم في أعمالكم في الدنيا, « ومثواكم » مصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار.

وقال مقاتل وابن جرير: « متقلبكم » منصرفكم ] لأشغالكم بالنهار, « ومثواكم » مأواكم إلى مضاجعكم بالليل.

وقال عكرمة: « متقلبكم » من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات. « ومثواكم » مقامكم في الأرض.

وقال ابن كيسان: « متقلبكم » من ظهر إلى بطن, « ومثواكم » مقامكم في القبور.

والمعنى: أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها.

 

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ( 20 ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ( 21 )

( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ) حرصًا منهم على الجهاد: ( لَوْلا نـزلَتْ سُورَةٌ ) تأمرنا بالجهاد, ( فَإِذَا أُنـزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ) قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة, وهي أشد القرآن على المنافقين, ( رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) يعني المنافقين, ( يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ) شزرًا بتحديق شديد, كراهية منهم للجهاد وجبنًا عن لقاء العدو, ( نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) كما ينظر الشاخص بصره عند الموت, ( فَأَوْلَى لَهُمْ ) وعيد وتهديد, ومعنى قولهم في التهديد: « أولى لك » أي: وَلِيَك وقاربك ما تكره.

ثم قال: ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) وهذا ابتداء محذوف الخبر, تقديره: طاعة, وقول معروف أمثل, أي لو أطاعوا وقالوا قولا معروفًا كان أمثل وأحسن.

وقيل: مجازه: يقول هؤلاء المنافقون قبل نـزول السورة المحكمة: طاعة, رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة أو منا طاعة, « وقول معروف » : حسن.

وقيل: هو متصل بما قبله, واللام في قوله: « لهم » بمعنى الباء, مجازه: فأولى بهم طاعة الله ورسوله, وقول معروف بالإجابة, أي لو أطاعوا كانت الطاعة والإجابة أولى بهم, وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء.

( فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ ) أي جد الأمر ولزم فرض القتال وصار الأمر معزومًا, ( فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ ) في إظهار الإيمان والطاعة, ( لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) وقيل: جواب « إذا » محذوف تقديره فإذا عزم الأمر نكلوا وكذبوا فيما وعدوا ولو صدقوا الله لكان خيرًا لهم.

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ( 22 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( 23 ) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( 24 ) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ( 25 )

( فَهَلْ عَسَيْتُمْ ) فلعلكم, ( إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه, ( أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ ) تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية فتفسدوا في الأرض بالمعصية والبغي وسفك الدماء, وترجعوا إلى الفرقة بعد ما جمعكم الله بالإسلام. ( وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) قرأ يعقوب: « وتقطعوا » بفتح التاء خفيف, والآخرون بالتشديد و « تقطعوا » من التقطيع, على التكثير, لأجل الأرحام, قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام, وقطعوا الأرحام, وعصوا الرحمن؟ وقال بعضهم: هو من الولاية. وقال المسيب بن شريك والفراء: يقول فهل عسيتم إن وليتم أمر الناس أن تفسدوا في الأرض بالظلم, نـزلت في بني أمية وبني هاشم ، يدل عليه قراءة علي بن أبي طالب « توليتم » بضم التاء والواو وكسر اللام, يقول: إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة وعاونتموهم.

( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ) عن الحق.

( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) فلا تفهم مواعظ القرآن وأحكامه, و « أم » بمعنى « بل » .

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أنبأني عقيل بن محمد, أخبرنا المعافى بن زكريا, أخبرنا محمد بن جرير, حدثنا بشر, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها » فقال شاب من أهل اليمن: بل على قلوب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها, فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي فاستعان به.

( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ ) رجعوا كفارًا, ( مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوه ووجدوا نعته في كتابهم.

وقال ابن عباس, والضحاك, والسدي: هم المنافقون .

( الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ ) زين لهم القبيح, ( وَأَمْلَى لَهُمْ ) قرأ أهل البصرة بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على ما لم يسم فاعله, وقرأ مجاهد بإرسال الياء على وجه الخبر من الله عز وجل عن نفسه أنه يفعل ذلك, وتروى هذه القراءة عن يعقوب, وقرأ الآخرون: « وأملى لهم » بفتح الألف, أي: وأملى الشيطان لهم, مد لهم في الأمل.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ( 26 ) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ( 27 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( 28 ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ( 29 )

( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ) يعني المنافقين أو اليهود, ( قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نـزلَ اللَّهُ ) وهم المشركون, ( سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ ) في التعاون على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم والقعود عن الجهاد, وكانوا يقولونه سرًا فأخبر الله تعالى عنهم, ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ) قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر: بكسر الهمزة, على المصدر, والباقون بفتحها على جمع السر.

( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ ) الضرب, ( بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ ) قال ابن عباس: بما كتموا من التوراة وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم, ( وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ ) كرهوا ما فيه رضوان الله, وهو الطاعة والإيمان. ( فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) .

( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) يعني المنافقين , ( أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ) لن يظهر أحقادهم على المؤمنين فيبديها حتى يعرفوا نفاقهم, واحدها: « ضغن » , قال ابن عباس: حسدهم.

 

وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ( 30 )

( وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ ) أي لأعلمناكهم وعرفناكهم, ( فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ) بعلامتهم, قال الزجاج: المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة تعرفهم بها.

قال أنس: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نـزول هذه الآية شيء من المنافقين, كان يعرفهم بسيماهم .

( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) في معناه ومقصده.

« واللحن » : وجهان صواب وخطأ, فالفعل من الصواب: لَحِنَ يَلْحَنُ لَحْنًا فهو لَحِنٌ إذا فطن للشيء, ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: « ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض » .

والفعل من الخطأ لَحَنَ يَلْحَنُ لَحْنًا فهو لاحِنٌ. والأصل فيه: إزالة الكلام عن جهته.

والمعنى: إنك تعرفهم فيما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم, فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه بقوله, ويستدل بفحوى كلامه على فساد دخيلته.

( وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) .

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ( 31 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ( 32 )

( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ) ولنعاملنكم معاملة المختبر بأن نأمركم بالجهاد والقتال, ( حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ) أي: علم الوجود, يريد: حتى يتبين المجاهد والصابر على دينه من غيره, ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) أي نظهرها ونكشفها بإباء من يأبى القتال, ولا يصبر على الجهاد.

وقرأ أبو بكر عن عاصم: « وليبلونكم حتى يعلم » , ويبلو بالياء فيهن, لقوله تعالى: [ « والله يعلم أعمالكم » , وقرأ الآخرون بالنون فيهن, لقوله تعالى ] وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ , وقرأ يعقوب: « ونبلوا » ساكنة الواو, ردًا على قوله: « ولنبلونكم » وقرأ الآخرون بالفتح ردا على قوله: « حتى نعلم » .

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ) إنما يضرون أنفسهم, ( وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ) فلا يرون لها ثوابًا في الآخرة, قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم المطعمون يوم بدر, نظيرها قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ( الأنفال- 36 ) الآية.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ( 33 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ( 34 ) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ( 35 ) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ( 36 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) قال عطاء: بالشك والنفاق, وقال الكلبي: بالرياء والسمعة. وقال الحسن: بالمعاصي والكبائر.

وقال أبو العالية: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل, فنـزلت هذه الآية فخافوا الكبائر بعده أن تحبط الأعمال.

وقال مقاتل: لا تمنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبطلوا أعمالكم, نـزلت في بني أسد, وسنذكره في سورة الحجرات إن شاء الله تعالى.

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) قيل: هم أصحاب القليب. وحكمها عام.

( فَلا تَهِنُوا ) لا تضعفوا ( وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ) أي لا تدعوا إلى الصلح ابتداء, منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح, وأمرهم بحربهم حتى يسلموا, ( وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ ) الغالبون, قال الكلبي: آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات, ( وَاللَّهُ مَعَكُمْ ) بالعون والنصرة, ( وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) لن ينقصكم شيئًا من ثواب أعمالكم, يقال: وتره يتره وترًا وَتِرَةً: إذا نقص حقه, قال ابن عباس, وقتادة, ومقاتل، والضحاك: لن يظلمكم أعمالكم الصالحة بل يؤتيكم أجورها. ثم حض على طلب الآخرة فقال:

( إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) باطل وغرور, ( وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا ) الفواحش, ( يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ) جزاء أعمالكم في الآخرة, ( وَلا يَسْأَلْكُمْ ) ربكم, ( أَمْوَالَكُمْ ) لإيتاء الأجر بل يأمركم بالإيمان والطاعة ليثيبكم عليها الجنة, نظيره قوله: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ( الذاريات- 57 ) , وقيل: لا يسألكم محمد أموالكم, نظيره: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ( الفرقان- 57 ) .

وقيل: معنى الآية: لا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلها في الصدقات, إنما يسألانكم غيضًا من فيض, ربع العشر فطيبوا بها نفسًا. وإلى هذا القول ذهب ابن عيينة, يدل عليه سياق الآية:

إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ( 37 ) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ( 38 )

( إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ ) أي يجهدكم ويلحف عليكم بمسألة جميعها, يقال: أحفى فلان فلانا إذا جهده, وألحف عليه بالمسألة.

( تَبْخَلُوا ) بها فلا تعطوها.

( وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ) بغضكم وعداوتكم, قال قتادة: علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأضغان. ( هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) يعني إخراج ما فرض الله عليكم, ( فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ) بما فرض عليه من الزكاة, ( وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ ) عن صدقاتكم وطاعتكم, ( وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ) إليه وإلى ما عنده من الخير. ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) بل يكونوا أمثل منكم وأطوع لله منكم.

قال الكلبي: هم كندة والنخع, وقال الحسن: هم العجم, وقال عكرمة: فارس والروم.

أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نصر الكوفاني, أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر, حدثنا إسحاق النجيبي المصري المعروف بابن النحاس, أخبرنا أبو الطيب الحسن بن محمد الرياش, حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, حدثنا مسلم بن خالد, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: « وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم » , قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال: « هذا وقومه, ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس » .

 

سورة الفتح

مدنية

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ( 1 )

بسم الله الرحمن الرحيم

( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا )

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي, أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي, أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي, أخبرنا أبو مصعب, عن مالك, عن زيد بن أسلم, عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسأله عمر عن شيء فلم يجبه, ثم سأله فلم يجبه, ثم سأله فلم يجبه, فقال عمر: ثكلتك أمك يا عمر نـزرتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات, كل ذلك لا يجيبك, قال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس, وخشيت أن ينـزل فيّ قرآن, فما لبثت أن سمعت صارخًا يصرخ بي, فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه, فقال: « لقد أنـزلت عليّ الليلة سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس, ثم قرأ: » إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر « . »

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي, أخبرنا أبو عمر بكر بن محمد المزني, حدثنا أبو بكر محمد بن عبدالله حفيد العباس بن حمزة, حدثنا الحسين بن الفضل البجلي, حدثنا عفان, حدثنا همام, حدثنا قتادة, حدثنا أنس قال: نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: « إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا » إلى آخر الآية, مرجعه من الحديبية وأصحابه مخالطهم الحزن والكآبة, فقال: « نـزلت عليّ آية هي أحب إلي من الدنيا جميعًا » , فلما تلاها نبي الله صلى الله عليه وسلم قال رجل من القوم: هنيئًا مريئًا لك قد بَيَّن الله لك ما يفعل بك, فماذا يفعل بنا؟ فأنـزل الله الآية التي بعدها: « ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار » , حتى ختم الآية. اختلفوا في هذا الفتح: روي عن أبي جعفر الرازي عن قتادة عن أنس: أنه فتح مكة, وقال مجاهد: فتح خيبر .

والأكثرون على أنه صلح الحديبية.

ومعنى الفتح فتح المنغلق, والصلح مع المشركين بالحديبية كان متعذرًا حتى فتحه الله عز وجل. ورواه شعبة عن قتادة عن أنس: « إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا » , قال: الحديبية.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا عبيدالله بن موسى, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة, وقد كان فتح مكة فتحًا, ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان, يوم الحديبية كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة, والحديبية بئر, فنـزحناها فلم نترك فيها قطرة, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها, ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد, ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا .

وقال الشعبي في قوله: « إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا » , قال: فتح الحديبية, غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وأُطْعِموا نخل خيبر, وبلغ الهدي محله, وظهرت الروم على فارس, ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس.

قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية, وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم, أسلم في ثلاث سنين خلق كثير, وكثر بهم سواد الإسلام .

قوله عز وجل: « إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا » , أي قضينا لك قضاء بَيِّنًا. وقال الضحاك: إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا بغير قتال, وكان الصلح من الفتح.

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( 2 )

قيل: اللام في قوله: ( لِيَغْفِرَ ) لام كي, معناه: إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح.

وقال الحسين بن الفضل: هو مردود إلى قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( محمد- 19 ) « لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ » و لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ الآية.

وقال محمد بن جرير: هو راجع إلى قوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ( النصر: 1- 3 ) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك في الجاهلية قبل الرسالة, وما تأخر إلى وقت نـزول هذه السورة .

وقيل: ( وَمَا تَأَخَّرَ ) مما يكون, وهذا على طريقة من يجوز الصغائر على الأنبياء .

وقال سفيان الثوري: ( مَا تَقَدَّمَ ) مما عملت في الجاهلية, ( وَمَا تَأَخَّرَ ) كل شيء لم تعمله, ويذكر مثل ذلك على طريق التأكيد, كما يقال: أعطى من رآه ومن لم يره, وضرب من لقيه ومن لم يلقه.

وقال عطاء الخراساني: ( مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ) يعني ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك, ( وَمَا تَأَخَّرَ ) ذنوب أمتك بدعوتك.

( وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ) بالنبوة والحكمة, ( وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) أي يثبتك عليه, والمعنى ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى الصراط المستقيم وهو الإسلام. وقيل: ويهديك أي يهدي بك.

وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ( 3 ) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 4 )

( وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ) غالبًا. وقيل: معزًا.

( هُوَ الَّذِي أَنـزلَ السَّكِينَةَ ) الطمأنينة والوقار, ( فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) لئلا تنـزعج نفوسهم لما يرد عليهم. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة, ( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ) .

قال ابن عباس: بعث الله رسوله بشهادة أن لا إله إلا الله, فلما صدقوه زادهم الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الحج ثم الجهاد, حتى أكمل لهم دينهم ، فكلما أمروا بشيء فصدقوه ازدادوا تصديقًا إلى تصديقهم.

وقال الضحاك: يقينًا مع يقينهم.

قال الكلبي: هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحق.

( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) .

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ( 5 ) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( 6 ) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 7 ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( 8 ) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ( 9 )

( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ) وقد ذكرنا عن أنس أن الصحابة قالوا لما نـزل « ليغفر لك الله » : هنيئًا مريئًا فما يفعل بنا فنـزل: « ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات » الآية.

( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ) أهل النفاق بالمدينة وأهل الشرك بمكة, ( الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ) أن لن ينصر محمدًا والمؤمنين, ( عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ) بالعذاب والهلاك, ( وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) .

( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ ) أي تعينوه وتنصروه, ( وَتُوَقِّرُوهُ ) تعظموه وتفخموه هذه الكنايات راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وها هنا وقف, ( وَتُسَبِّحُوهُ ) أي تسبحوا الله يريد تصلوا له, ( بُكْرَةً وَأَصِيلا ) بالغداة والعشي, قرأ ابن كثير, وأبو عمرو: « وليؤمنوا, ويعزروه, ويوقروه, ويسبحوه » بالياء فيهن لقوله: في « قلوب المؤمنين » , وقرأ الآخرون بالتاء فيهن.

 

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( 10 )

( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ ) يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا, ( إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ) لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا حاتم بن إسماعيل, عن يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغافر بن محمد, أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, عن مسلم بن الحجاج, حدثنا يحيى بن يحيى, حدثنا يزيد بن زريع, عن خالد, عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج, عن معقل بن يسار, قال: لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس, وأنا رافع غصنًا من أغصانها عن رأسه, ونحن أربع عشرة مائة, قال: لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر .

قال أبو عيسى: معنى الحديثين صحيح بايعه جماعة على الموت, أي لا نـزال نقاتل بين يديك ما لم نقتل, وبايعه آخرون, وقالوا: لا نفر .

( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم.

وقال السدي: كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبايعونه, ويد الله فوق أيديهم في المبايعة.

قال الكلبي: نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة .

( فَمَنْ نَكَثَ ) نقض البيعة, ( فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ) عليه وباله, ( وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ ) ثبت على البيعة, ( فَسَيُؤْتِيهِ ) قرأ أهل العراق « فسيؤتيه » بالياء, وقرأ الآخرون بالنون, ( أَجْرًا عَظِيمًا ) وهو الجنة.

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 11 )

( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ ) قال ابن عباس, ومجاهد: يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة, وأشجع وأسلم, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرًا استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرًا من قريش أن يعرضوا له بحرب, أو يصدوه عن البيت, فأحرم بالعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنه لا يريد حربًا, فتثاقل عنه كثير من الأعراب وتخلفوا واعتلوا بالشغل, فأنـزل الله تعالى فيهم : « سيقول لك المخلفون من الأعراب » يعني الذين خلفهم الله عز وجل عن صحبتك, إذا انصرفت إليهم فعاتبهم على التخلف.

( شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا ) يعني النساء والذراري, أي لم يكن لنا من يخلفنا فيهم ( فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ) تخلفنا عنك, فكذبهم الله عز وجل في اعتذارهم, فقال:

( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) من أمر الاستغفار, فإنهم لا يبالون استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم أو لا.

( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا ) [ سوءًا ] ، ( أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ) قرأ حمزة والكسائي: « ضرا » بضم الضاد, وقرأ الآخرون بفتحها لأنه قابله بالنفع والنفع ضد الضر, وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم يدفع عنهم الضر, ويعجل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم, فأخبرهم أنه: إن أراد بهم شيئًا من ذلك لم يقدر أحد على دفعه. ( بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) .

بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ( 12 ) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ( 13 ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 14 )

( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا ) أي ظننتم أن العدو يستأصلهم فلا يرجعون, ( وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ ) زين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم, ( وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ ) وذلك أنهم قالوا: إن محمدًا وأصحابه أكلة رأس, فلا يرجعون, فأين تذهبون معه, انتظروا ما يكون من أمرهم. ( وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ) هلكى لا تصلحون لخير.

( وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) .

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا ( 15 )

( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ ) يعني هؤلاء الذين تخلفوا عن الحديبية, ( إِذَا انْطَلَقْتُمْ ) سرتم وذهبتم [ أيها المؤمنون ] ، ( إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ) يعني غنائم خيبر, ( ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ) إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها, وذلك أنهم لما انصرفوا من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر وجعل غنائمها لمن شهد الحديبية خاصة عوضًا عن غنائم أهل مكة إذا انصرفوا عنهم على صلح ولم يصيبوا منهم شيئًا.

قال الله تعالى: ( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ) قرأ حمزة والكسائي: « كلم الله » بغير ألف جمع كلمة, وقرأ الآخرون: « كلام الله » , يريدون أن يغيروا مواعيد الله تعالى لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة.

وقال مقاتل: يعني أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يسير منهم أحد.

وقال ابن زيد: هو قول الله عز وجل: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا ( التوبة- 83 ) , والأول أصوب, وعليه عامة أهل التأويل.

( قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا ) إلى خيبر, ( كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ) أي من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب, ( فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ) أي يمنعكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم, ( بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ ) لا يعلمون عن الله ما لهم وعليهم من الدين, ( إِلا قَلِيلا ) منهم وهو من صدق الله والرسول.

 

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 16 )

( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) قال ابن عباس, ومجاهد, [ وعطاء ] : هم أهل فارس. وقال كعب: هم الروم ، وقال الحسن: فارس والروم . وقال سعيد بن جبير: هوازن وثقيف . وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين . وقال الزهري, ومقاتل, وجماعة: هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. .

قال رافع بن خديج: كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة, فعلمنا أنهم هم .

وقال ابن جريج: دعاهم عمر رضي الله عنه إلى قتال فارس.

وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد.

( تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا ) يعني الجنة, ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا ) [ تعرضوا ] ( كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) عام الحديبية, ( يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) وهو النار, فلما نـزلت هذه الآية قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟.

لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ( 17 )

فأنـزل الله تعالى : ( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ ) [ يعني في التخلف عن الجهاد ] ، ( وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ) قرأ أهل المدينة والشام « ندخله » و « نعذبه » بالنون فيهما, وقرأ الآخرون بالياء لقوله: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ ) .

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ( 18 )

( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) بالحديبية على أن يناجزوا قريشًا ولا يفروا, ( تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) وكانت سمرة ، قال سعيد بن المسيب: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة, قال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها .

وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة, فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هاهنا، وبعضهم: هاهنا, فلما كثر اختلافهم قال: سيروا, قد ذهبت الشجرة .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: « أنتم خير أهل الأرض » , وكنا ألفًا وأربع مائة, ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغافر بن محمد, أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, عن مسلم بن الحجاج, حدثنا محمد بن حاتم, حدثنا حجاج, عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرًا يسأل: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة فبايعناه, وعمر آخذ بيده تحت الشجرة, وهي سمرة, فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره .

وروى سالم عن جابر قال: كنا خمس عشرة مائة .

وقال عبد الله بن أبي أوفى: كان أصحاب الشجرة ألفًا وثلثمائة, وكانت أسلم ثُمْنَ المهاجرين .

وكان سبب هذه البيعة- على ما ذكره محمد بن إسحاق عن أهل العلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أبي أمية الخزاعي حين نـزل الحديبية, فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على جمل له, يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له, فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله فمنعته الأحابيش, فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة, فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشًا على نفسي, وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني, وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها, ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني: عثمان بن عفان, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان, فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب, وإنما جاء زائرًا لهذا البيت معظمًا لحرمته, فخرج عثمان إلى مكة, فلقيه أبان بن سعد بن العاص حين دخل مكة, أو قبل أن يدخلها, فنـزل عن دابته وحمله بين يديه, ثم أردفه وأجاره حتى بَلَّغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال عظماء قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به, قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاحتبسته قريش عندها, فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا نبرح حتى نناجز القوم » , ودعا الناس إلى البيعة, فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة.

وكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت, قال بكر بن الأشج: بايعوه على الموت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بل على ما استطعتم » .

وقال جابر بن عبد الله ومعقل بن يسار: لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أنْ لا نفر, فكان أول من بايع بيعة الرضوان رجلا من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب, ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا جد بن قيس أخو بني سلمة, قال جابر: لكأني أنظر إليه لاصقًا بإبط ناقته مستترًا بها من الناس, ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذُكر من أمر عثمان باطل .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه, حدثنا علي بن أحمد بن نضرويه, حدثنا أبو عمران موسى بن سهل بن عبد الحميد الجوني, حدثنا محمد بن رمح, حدثنا الليث بن سعد, عن أبي الزبير, عن جابر, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة » .

قوله عز وجل: ( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) من الصدق والوفاء, ( فَأَنـزلَ السَّكِينَةَ ) الطمأنينة والرضا, ( عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) يعني فتح خيبر.

وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 19 ) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( 20 )

( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا ) من أموال يهود خيبر, وكانت خيبر ذات عقار وأموال, فاقتسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ( وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) .

( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ) وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة, ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) يعني خيبر, ( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصد خيبر وحاصر أهلها همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة, فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم, وقيل: كف أيدي الناس عنكم يعني أهل مكة بالصلح, ( وَلِتَكُونَ ) كفهم وسلامتكم, ( آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) على صدقك ويعلموا أن الله هو المتولي حياطتهم وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم, ( وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) يثبتكم على الإسلام ويزيدكم بصيرة ويقينًا بصلح الحديبية, وفتح خيبر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم ثم خرج في بقية المحرم سنة سبع إلى خيبر.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا إسماعيل بن جعفر, عن حميد, عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا غَزَا بِنَا قومًا لم يكن يغير بنا حتى يصبح وينظر, فإن سمع أذانًا كف عنهم, وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم قال: فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانًا ركب وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم النبي صلى الله عليه وسلم: قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم, فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد- والله- محمد والخميس, فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الله أكبر, الله أكبر خربت خيبر, إنا إذا نـزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين » .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغافر بن محمد, أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي, أخبرنا أبو علي الحنفي عبيد الله بن عبد المجيد, حدثنا عكرمة بن عمار, حدثنا إياس بن سلمة, حدثني أبي قال:... خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم:

تاللـــهِ لـولا اللـهُ مـا اهتدينـا ولا تصدَّقنـــــا ولا صَلَّينــــا

ونحـنُ عـن فَضْلِـكَ مـا اسـتَغْنَيْنَا فثبّـــتِ الأقـــدامَ إنْ لاقينـــا

[ وأنـزلَنْ سكينةً علينا ]

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من هذا؟ » فقال: أنا عامر, قال: « غفر لك ربك » , قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد, قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له: يا نبي الله لولا متعتنا بعامر, قال: فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:

قـد عَلِمَتْ [ خَيْبَرُ ] أنِّــي مَــرْحَبُ شَــاكي السِّــلاحِ بَطَـلٌ مُجَـرِّبُ

إذَا الحروبُ أَقْبَلتْ تَلَهَّبُ

قال: وبرز له عمي عامر, فقال:

قَــدْ عَلِمَــتْ خَـيْبَرُ أَنِّـي عَـامِرُ شَــاكِي السِّــلاحِ بَطَــلٌ مُغَـامِرُ

قال: فاختلفا ضربتين, فوقع سيف مرحب في ترس عامر وذهب عامر يسفل له, فرجع سيفه [ على نفسه ] فقطع أكحله, وكانت فيها نفسه. قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: بَطَل عملُ عامر قتل نفسه, قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي, فقلت: يا رسول الله بطل عمل عامر قتل نفسه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قال ذلك » ؟ قلت: ناس من أصحابك, قال: « كذب من قال ذلك, بل له أجره مرتين » , ثم أرسلني إلى عليٍّ رضي الله عنه- وهو أرمد- فقال: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله, قال: فأتيت عليًّا رضي الله عنه فجئت به أقوده وهو أرمد, حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في عينيه فبرأ, وأعطاه الراية, وخرج مرحب فقال:

قــد عَلِمَـتْ خـيبرُ أنـي مَرْحَـبُ شــاكي الســلاحِ بطـلٌ مجـرّبُ

إذا الحروب أقبلت تَلَهَّبُ

فقال عليٌّ رضي الله عنه:

أنــا الـذي سَـمَّتني أُمّـي حَـيْدَرَهْ كــليثِ غابــاتٍ [ كريهِ المَنْظَــرَهْ ]

أُوْفِيْهم بالصَّاع كَيْلَ السَّنْدَرَهْ

قال: فضرب رأس مرحب فقتله, ثم كان الفتح على يديه .

وروى حديث خيبر جماعة: سهل بن سعد, وأنس, وأبو هريرة, يزيدون وينقصون, وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس, فأخذ أبو بكر رضي الله عنه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم نهض فقاتل قتالا شديدًا, ثم رجع فأخذها عمر رضي الله عنه فقاتل قتالا شديدًا, هو أشد من القتال الأول, ثم رجع, فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: « لأعطين الراية غدًا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه » , فدعا علي بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال: « امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك » , فأتى مدينة خيبر, فخرج مرحب, صاحب الحصن, وعليه مغفر وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه, وهو يرتجز, فبرز إليه عليٌّ فضربه فَقَدَّ الحجر والمغفر وفلق رأسه حتى أخذ السيف في الأضراس, ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر, يرتجز فخرج إليه الزبير بن العوام, فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: أيقتل ابني يا رسول الله؟ قال: « بل ابنك يقتله إن شاء الله » , ثم التقيا فقتله الزبير, ثم لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح الحصون, ويقتل المقاتلة ويسبي الذرية, ويحوز الأموال.

قال محمد بن إسحاق: وكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم, وعنده قتل محمود بن سلمة, ألقت عليه اليهود حجرًا فقتله, ثم فتح العموص, حصن ابن أبي الحقيق, فأصاب منها سبايا, منهم صفية بنت حيي بن أخطب, جاء بلال بها وبأخرى معها, فمر بهما على قتلى من قتلى يهود, فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها, فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أعزبوا عني هذه الشيطانة » , وأمر بصفية فحيزت خلفه, وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطفاها لنفسه, وقال رسول الله لبلال, لما رأى من تلك اليهودية ما رأى: « أنـزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمرُّ بامرأتين على قتلى رجالهما » , وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمرًا وقع في حجرها, فعرضت رؤياها على زوجها, فقال: ما هذا إلا أنك تتمنين مَلِكَ الحجاز محمدًا, فلطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وبها أثر منها فسألها ما هو؟ فأخبرته هذا الخبر, وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجها كنانة بن الربيع, وكان عنده كنـز بني النضير فسأله, فجحده أن يكون يعلم مكانه, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من اليهود فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد رأيت كنانة يطوف بهذه الخربة كل غداة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك أنقتلك؟ قال: نعم؟ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت, فأخرج منها بعض كنـزهم, ثم سأله ما بقي فأبى أن يؤديه, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده, فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه, ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية, حدثنا عبد العزيز بن صهيب, عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر, فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس, فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم, وركب أبو طلحة, وأنا رديف أبي طلحة, فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم, ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم, فلما دخل القرية قال: « الله أكبر خربت خيبر, إنا إذا نـزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين » , قالها ثلاثًا, وخرج القوم إلى أعمالهم, فقالوا: محمد قال عبد العزيز, وقال بعض أصحابنا: والخميس يعني: الجيش قال: فأصبناها عنوة, فجمع السبي فجاء دحية فقال: يا نبي الله [ أعطني جارية من السبي, قال: اذهب فخذ جارية فأخذ صفية بنت حيي, فجاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله ] أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير, لا تصلح إلا لك, قال: « ادعوه بها » , فجاء بها, فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: « خذ جارية من السبي غيرها » , قال: فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها, فقال له ثابت: يا أبا حمزة ما أصدقها؟ قال: نفسها, أعتقها وتزوجها, حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم, فأهدتها له من الليل, فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروسًا, فقال: من كان عنده شيء فليجىء به, وبسط نطعًا فجعل الرجل يجيء بالتمر وجعل الآخر يجيء بالسمن, قال: وأحسبه قد ذكر السويق, قال: فحاسوا حيسًا فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا عبد الواحد الشيباني قال: سمعت ابن أبي أوفى يقول: أصابتنا مجاعة ليالي خيبر, فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها, فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم اكفئوا القدور ولا تطعموا من لحوم الحمر شيئًا, قال عبد الله: فقلنا إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم لأنها لم تخمس, وقال آخرون: حرمها البتة, وسألت سعيد بن جبير فقال: حرمها البتة.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغافر بن محمد, أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي, أخبرنا خالد بن الحارث, حدثنا شعبة, عن هشام بن زيد, عن أنس أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة, فأكل منها, فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسألها عن ذلك, فقالت: أردت لأقتلك, قال: « ما كان الله ليسلطكِ على ذلك, أو قال: عليَّ » ، قال: قالوا ألا نقتلها؟ قال: لا قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال محمد بن إسماعيل: قال يونس, عن الزهري قال عروة, قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: « يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر, فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا محمد بن بشار, أخبرنا حرمي, أخبرنا شعبة قال: أخبرني عمارة, عن عكرمة, عن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا أحمد بن المقدام, حدثنا فضيل بن سليمان, حدثنا موسى بن عقبة, أخبرني نافع, عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل خيبر أراد أن يخرج اليهود منها, وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين, فسأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتركهم على أن يكفوا العمل ولهم نصف الثمر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نقرُّكم على ذلك ما شئنا » . فأقروا حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء .

قال محمد بن إسحاق: فلما سمع أهل فدك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم ويحقن لهم دماءهم, ويخلوا له الأموال, ففعل. ثم إن أهل خيبر سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم الأموال على النصف, ففعل على أنا إذا شئنا أخرجناكم, فصالحه أهل فدك على مثل ذلك, فكانت خيبر للمسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم, لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.

فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصليَّة, وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع, فأكثرت فيها السم, وسممت سائر الشاة, ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, تناول الذراع فأخذها فلاك منها مضغة فلم يسغها, ومعه بشر بن البراء بن معرور, وقد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأما بشر فأساغها, وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها, ثم قال: « إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم » , ثم دعا بها فاعترفت, فقال: « ما حملك على ذلك؟ » قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك, فقلت: إن كان ملكًا استرحت منه, وإن كان نبيًا فسيخبر, فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل.

قال: ودخلت أم بشر بن البراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعوده في مرضه الذي توفي فيه, فقال: « يا أم بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري » ، وكان المسلمون يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا مع ما أكرمه الله من النبوة.

وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( 21 ) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 22 ) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ( 23 )

قوله عز وجل: ( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا ) أي وعدكم الله فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها, ( قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ) حتى يفتحها لكم كأنه حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى تأخذوها, قال ابن عباس: علم الله أنه يفتحها لكم.

واختلفوا فيها, فقال ابن عباس, والحسن ومقاتل: هي فارس والروم, وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم, بل كانوا خولا لهم حتى قدروا عليها بالإسلام.

وقال الضحاك وابن زيد: هي خيبر, وعدها الله نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصيبها, ولم يكونوا يرجونها.

وقال قتادة: هي مكة. وقال عكرمة: حنين. وقال مجاهد: ما فتحوا حتى اليوم.

( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) .

( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) يعني: أسد, وغطفان, وأهل خيبر, ( لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ) [ لانهزموا ] ، ( ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) .

( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ) أي كسنة الله في نصر أوليائه وقهر أعدائه, ( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ) .

 

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( 24 )

قوله عز وجل: ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) قرأ أبو عمرو بالياء, وقرأ الآخرون بالتاء, واختلفوا في هؤلاء:

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أخبرنا عبد الغافر بن محمد, أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثنا عمرو بن محمد الناقد, حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس بن مالك رضي الله عنهم: أن ثمانين رجلا من أهل مكة, هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غدر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فأخذهم سلمًا فاستحياهم, فأنـزل الله عز وجل هذه الآية: « وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم » .

قال عبد الله بن مغفل المزني: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن, وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره, وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح, فخرج علينا ثلاثون شابًا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا, فدعا عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: « جئتم في عهد؟ أو هل جعل لكم أحد أمانًا؟ » فقالوا: اللهم لا فخلَّى سبيلهم ، [ فأنـزل الله عز وجل هذه الآية ] .

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 25 )

قوله عز وجل: ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) الآية. روى الزهري, عن عروة بن الزبير, عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه, يريدون زيارة البيت, لا يريد قتالا وساق معه سبعين بدنة, والناس سبعمائة رجل, وكانت كل بدنة عن عشرة نفر, فلما أتى ذا الحليفة قَلَّدَ الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة, وبعث عينًا له من خزاعة يخبره عن قريش, وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط قريبًا من عُسْفان, أتاه عينه الخزاعي وقال: إن قريشًا قد جمعوا لك جموعًا, وقد جمعوا لك الأحابيش, وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أشيروا عليّ أيها الناس, أترون أن أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين, وإن نجوا تكن عنقًا قطعها الله؟ أو ترون أن نؤم البيت فمن صَدَّنا عنه قاتلناه؟ » .

فقال أبو بكر: يا رسول الله إنما خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حربًا, فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه.

فقال: « امضوا على اسم الله » ، فنفروا, قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة, فخذوا ذات اليمين » , فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرًا لقريش, وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته, فقال الناس: حلٍّ حلٍّ, فألحت, فقالوا: « خلأت القصواء, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق, ولكن حبسها حابس الفيل » , ثم قال: « والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياه » , ثم زجرها فوثبت.

قال: فعدل عنهم حتى نـزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضًا, فلم يلبث الناس أن نـزحوه, وشكا الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم العطش, فنـزع سهمًا من كنانته وأعطاه رجلا من أصحابه يقال له ناجية بن عمير, وهو سائق بدن النبي صلى الله عليه وسلم, فنـزل في البئر فغرزه في جوفه, فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه, فبينما هم كذلك إذ جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة, فقال: إني تركت كعب بن لؤي نـزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل, وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنا لم نجئ لقتال أحد, ولكنا جئنا معتمرين, وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم, فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس, فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا, وإلا فقد جُمُّوا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي, أو لينفذن الله أمره » .

فقال بديل: سأبلغهم ما تقول, فانطلق حتى أتى قريشًا, قال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل, وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا, قال: فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء, وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول.

قال: سمعته يقول كذا وكذا, فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى, قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى, قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ, فلما بلحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى, قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته, قالوا: ائته. فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوًا من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى, فإني والله لأرى وجوهًا وأشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك.

فقال له أبو بكر الصديق: امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه؟.

فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر, فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.

قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم, وكلما كلمه أخذ بلحيته, والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر, فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف, وقال: أَخِّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة, فقال: أي غُدَر ألست أسعى في غدرتك.

وكان المغيرة صحب قومًا في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أما الإسلام فأقبل, وأما المال فلست منه في شيء » .

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, قال: فوالله- ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم, فدلك بها وجهه وجلده, وإذا أمرهم ابتدروا أمره, وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه, وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده, وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له, فرجع عروة إلى أصحابه, فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي, والله إن رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا, والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم, فدلك بها وجهه وجلده, وإذا أمرهم ابتدروا أمره, وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه, وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده, وما يحدون إليه النظرة تعظيمًا له, وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته, فقالوا: ائته, فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن, فابعثوها له » , فبعثت له واستقبله الناس يلبون, فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت؟

فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت, فما أرى أن يصدوا عن البيت.

ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش, فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه, فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس, رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظامًا لما رأى فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صد الهدي في قلائده, وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله, فقالوا له: اجلس إنما أنت رجل أعرابي لا علم لك, فغضب الحليس عند ذلك, فقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم, ولا على هذا عاقدناكم, أن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظمًا له, والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له, أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد, فقالوا له: مه, كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به.

فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص, فقال: دعوني آته, فقالوا: ائته, فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا مكرز وهو رجل فاجر, فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم, فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو, وقال عكرمة: فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: قد سهل لكم من أمركم.

قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو, فقال: هات نكتب بيننا وبينكم كتابًا, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.

فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو, ولكن اكتب باسمك اللهم, كما كنت تكتب.

فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: « اكتب باسمك اللهم, ثم قال: اكتب: هذا ما قضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم » .

فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك, ولكن اكتب: محمد بن عبد الله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني, اكتب يا علي: محمد بن عبد الله.

قال الزهري: وذلك لقوله: لا يسألون خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها, فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو, واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين, يأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وعلى أن تخلوا بيننا وبين البيت, فنطوف به, فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب إنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل, فكتب, فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا, فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟.

وروى أبو إسحاق عن البراء قصة الصلح وفيه قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئًا ولكن أنت محمد بن عبد الله, قال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله, ثم قال لعليّ رضي الله عنه: امح رسول الله, قال: لا والله لا أمحوك أبدًا, قال: « فأرنيه » , فأراه إياه, فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده, وفي روايته: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن أن يكتب, فكتب: هذا ما قضى محمد بن عبد الله.

قال البراء: صالح على ثلاثة أشياء: على أن من أتاه من المشركين رده إليهم, ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه, وعلى أن يدخلها من قابل, ويقيم بها ثلاثة أيام, ولا يدخلها إلا بِجُلُبّانِ السلاح السيف والقوس ونحوه.

وروى ثابت عن أنس: أن قريشًا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطوا: أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم, ومن جاءكم منا رددتموه علينا, فقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: « نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله, ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا » .

رجعنا إلى حديث الزهري قال: فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو, يرسف في قيوده قد انفلت وخرج من أسفل مكة, حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين, فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ, فقال النبي: إنا لم نقض الكتاب بعد, قال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدًا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فَأَجِرْه لي, فقال: فما أنا بمجيره لك, قال: بلى فافعل, قال: ما أنا بفاعل, ثم جعل سهيل يجره ليرده إلى قريش, قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلمًا ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذب عذابًا شديدًا في الله.

وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا جندل احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا, إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقدًا وصلحًا, وإنا لا نغدر, فوثب عمر يمشي إلى جنب أبي جندل, ويقول: اصبر فإنما هم المشركون ودم أحدهم كدم كلب, ويدني قائم السيف منه, قال عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه فضن الرجل بأبيه.

وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح, لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما رأوا ذلك دخل الناسَ أمرٌ عظيمٌ حتى كادوا يهلكون, وزادهم أمر أبي جندل شرًّا إلى ما بهم.

قال عمر: [ والله ] ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ.

قال الزهري في حديثه عن عروة عن [ مروان ] والمسور, ورواه أبو وائل عن سهل بن حنيف قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم, فقلت: ألست نبي الله حقًا؟ قال: بلى, قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى, قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى, قلت: فلم نعطي الدَّنِيَّةَ في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري, قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى, أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا قال: فإنك آتيه ومطوف به, قال: فأتيت أبا بكر, فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقًا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى, قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله ليس يعصي ربه وهو ناصره, فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق, قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى, أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا قال: فإنك آتيه ومطوف به.

قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.

قال: فلما فرغ من قضية الكتاب, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا, ثم احلقوا, قال: فوالله ما قام رجل منهم, حتى قال ذلك ثلاث مرات, فلما لم يقم منهم أحد, قام فدخل على أم سلمة, فذكر لها ما لقي من الناس, فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك, فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك, نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا, وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم أن يقتل بعضًا غمّا.

قال ابن عمر وابن عباس: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله المحلقين, قالوا: والمقصرين؟ قال: يرحم الله المحلقين, قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: والمقصرين, قالوا: يا رسول الله فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: لأنهم لم يشكوا. قال ابن عمر: وذلك لأنه تربص قوم وقالوا لعلنا نطوف بالبيت.

قال ابن عباس: وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ المشركين بذلك.

وقال الزهري في حديثه: ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنـزل الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ , حتى بلغ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ( الممتحنة- 10 ) , فطلق عمر رضي الله عنه يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك, فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان, والأخرى صفوان بن أمية, قال: فنهاهم أن يردوا النساء وأمر برد الصداق.

قال: ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, فجاءه أبو بصير عتبة بن أسيد, رجل من قريش وهو مسلم, وكان ممن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثا في طلبه رجلا من بني عامر بن لؤي, ومعه مولى لهم, فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالا العهد الذي جعلت لنا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت, ولا يصح في ديننا الغدر, وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا, ثم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة, فنـزلوا يأكلون من تمر لهم, فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيدًا, فاستله الآخر, فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت به, فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه, فأخذوه وعلاه به فضربه حتى برد, وفرَّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرًا, فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم, قال: ويلك مالك؟ قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول, فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحًا السيف حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا نبي الله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل أمه مِسْعَر حرب, لو كان معه أحد, فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم, فخرج حتى أتى سيف البحر, وبلغ المسلمين الذين كانوا حبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد, فخرج عصابة منهم إليه, وانفلت أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير, حتى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلا فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم, فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم, فمن أتاه فهو آمن, فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم, فقدموا عليه بالمدينة, فأنـزل الله تعالى: « وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا » حتى بلغ « حمية الجاهلية » , وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله صلى الله عليه وسلم, ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم, وحالوا بينه وبين البيت .

قال الله عز وجل: ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) يعني كفار مكة, ( وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أن تطوفوا به, ( وَالْهَدْيَ ) أي: وصدوا الهدي, وهي البدن التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت سبعين بدنة, ( مَعْكُوفًا ) محبوسًا, يقال: عكفته عكفا إذا حبسته وعكوفًا لازم, كما يقال: رجع رجعًا ورجوعًا, ( أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) منحره وحيث يحل نحره يعني الحرم, ( وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ ) يعني المستضعفين بمكة, ( لَمْ تَعْلَمُوهُمْ ) لم تعرفوهم, ( أَنْ تَطَئوهم ) بالقتل وتوقعوا بهم, ( فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) قال ابن زيد: معرة إثم. وقال ابن إسحاق: غرم الدية.

وقيل: الكفارة لأن الله عز وجل أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدية, فقال: فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ( النساء- 92 ) .

وقيل: هو أن المشركين يعيبونكم ويقولون قتلوا أهل دينهم, والمعرة: المشقة, يقول: لولا أن تطؤوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم فيلزمكم بهم كفارة أو يلحقكم سبة. وجواب لولا محذوف, تقديره: لأذن لكم في دخولها ولكنه حال بينكم وبين ذلك.

( لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ) فاللام في « ليدخل » متعلق بمحذوف دل عليه معنى الكلام, يعني: حال بينكم وبين ذلك ليدخل الله في رحمته في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح قبل أن تدخلوها, ( لَوْ تَزَيَّلُوا ) لو تميزوا يعني المؤمنين من الكفار, ( لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) بالسبي والقتل بأيديكم.

وقال بعض أهل العلم: « لعذبنا » جواب لكلامين أحدهما: « لولا رجال » , والثاني: « لو تزيلوا » , ثم قال: ( لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ) يعني المؤمنين والمؤمنات.

وقوله: ( فِي رَحْمَتِهِ ) أي جنته. وقال قتادة في هذه الآية: إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة.

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 26 )

( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ ) حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت, ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم, وأنكروا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم, والحمية: الأنفة, يقال: فلان ذو حمية إذا كان ذا غضب وأنفة.

قال مقاتل: قال أهل مكة: قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا, [ فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا ] على رغم أنفنا, واللات والعزى لا يدخلونها علينا, فهذه « حمية الجاهلية » , التي دخلت قلوبهم.

( فَأَنـزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) حتى لم يدخلهم ما دخلهم من الحمية فيعصوا الله في قتالهم, ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال ابن عباس, ومجاهد, والضحاك, وقتادة, وعكرمة, والسدي, وابن زيد, وأكثر المفسرين: كلمة التقوى « لا إله إلا الله » .

وروي عن أبيّ بن كعب مرفوعًا.

وقال عليٌّ وابن عمر: « كلمة التقوى » لا إله إلا الله والله أكبر .

وقال عطاء بن أبي رباح: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .

وقال عطاء الخراساني: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله .

وقال الزهري: هي بسم الله الرحمن الرحيم .

( وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا ) من كفار مكة, ( وَأَهْلَهَا ) أي وكانوا أهلها في علم الله, لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الخير, ( وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) .

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ( 27 )

( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أري في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين, ويحلقون رؤوسهم ويقصرون, فأخبر بذلك أصحابه, ففرحوا وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك, فلما انصرفوا ولم يدخلوا شق عليهم, فأنـزل الله هذه الآية .

وروي عن مجمع بن جارية الأنصاري: قال شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, [ فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر, فقال بعضهم: ما بال الناس؟ فقالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فخرجنا نوجف, فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم ] واقفًا على راحلته عند كراع الغميم, فلما اجتمع إليه الناس قرأ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا , فقال عمر: أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: « نعم والذي نفسي بيده » .

ففيه دليل على أن المراد بالفتح صلح الحديبية, وتحقق الرؤيا كان في العام المقبل, فقال جل ذكره:

« لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق » , أخبر أن الرؤية التي أراه إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام صدق وحق.

قوله: ( لَتَدْخُلُنَّ ) يعني وقال: لتدخلن. وقال ابن كيسان: « لتدخلن » من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه, فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك, وإنما استثنى مع علمه بدخولها بإخبار الله تعالى, تأدبًا بآداب الله, حيث قال له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ( الكهف- 23 ) .

وقال أبو عبيدة: « إن » بمعنى إذ, مجازه: إذ شاء الله, كقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

وقال الحسين بن الفضل: يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول, لأن بين الرؤيا وتصديقها سنة, ومات في تلك السنة ناس فمجاز الآية: لتدخلن المسجد الحرام كلكم إن شاء الله.

وقيل الاستثناء واقع على الأمن لا على الدخول, لأن الدخول لم يكن فيه شك, كقول النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المقبرة: « وإنا إن شاء الله بكم لاحقون » ، فالاستثناء راجع إلى اللحوق لا إلى الموت.

( مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ ) كلها, ( وَمُقَصِّرِينَ ) بأخذ بعض شعورها, ( لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا ) أن الصلاح كان في الصلح وتأخير الدخول, وهو قوله تعالى: وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ الآية ( الفتح- 25 ) . ( فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ ) أي من قبل دخولكم المسجد الحرام, ( فَتْحًا قَرِيبًا ) وهو صلح الحديبية عند الأكثرين, وقيل: فتح خيبر.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( 28 )

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) على أنك نبي صادق فيما تخبر.

 

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( 29 )

( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ) تم الكلام هاهنا, قاله ابن عباس, شهد له بالرسالة, ثم قال مبتدئًا: ( وَالَّذِينَ مَعَهُ ) فالواو فيه للاستئناف, أي: والذين معه من المؤمنين, ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) غلاظ عليهم كالأسد على فريسته لا تأخذهم فيهم رأفة, ( رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) متعاطفون متوادون بعضهم لبعض, كالولد مع الوالد, كما قال: « أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين » : ( المائدة- 54 ) : ( تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا ) أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها, ( يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ ) أن يدخلهم الجنة, ( وَرِضْوَانًا ) أن يرضى عنهم, ( سِيمَاهُمْ ) أي علامتهم, ( فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) اختلفوا في هذه السيما: فقال قوم: هو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة يعرفون به أنهم سجدوا في الدنيا, وهو رواية عطية العوفي عن ابن عباس, قال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس: استنارت وجوههم من كثرة ما صلوا. وقال شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر.

وقال آخرون: هو السمت الحسن والخشوع والتواضع. وهو رواية الوالبي عن ابن عباس قال: ليس بالذي ترون لكنه سيماء الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه. وهو قول مجاهد, والمعنى: أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به.

وقال الضحاك: هو صفرة الوجه من السهر.

وقال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى.

قال عكرمة وسعيد بن جبير: هو أثر التراب على الجباه.

قال أبو العالية: إنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب.

وقال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس .

( ذَلِكَ ) الذي ذكرت, ( مَثَلُهُمْ ) صفتهم ( فِي التَّوْرَاةِ ) هاهنا تم الكلام, ثم ذكر نعتهم في الإنجيل, فقال: ( وَمَثَلُهُمْ ) صفتهم, ( فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) قرأ ابن كثير, وابن عامر: « شطأه » بفتح الطاء, وقرأ الآخرون بسكونها, وهما لغتان كالنهر والنهر, وأراد أفراخه, يقال: أشطأ الزرع فهو مشطىء, إذا أفرخ, قال مقاتل: هو نبت واحد, فإذا خرج ما بعده فهو شطؤه.

وقال السدي: هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى.

قوله: ( فَآزَرَهُ ) قرأ ابن عامر: « فأزره » بالقصر والباقون بالمد, أي: قواه وأعانه وشد أزره, ( فَاسْتَغْلَظَ ) غلظ ذلك الزرع, ( فَاسْتَوَى ) أي تم وتلاحق نباته وقام, ( عَلَى سُوقِهِ ) أصوله, ( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ) أعجب ذلك زراعه.

هذا مثل ضربه الله عز وجل لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل [ أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون.

قال قتادة: مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنجيل ] مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .

وقيل: « الزرع » محمد صلى الله عليه وسلم, و « الشطء » : أصحابه والمؤمنون.

وروي عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال: « محمد رسول الله والذين معه » : أبو بكر الصديق رضي الله عنه, « أشداء على الكفار » عمر بن الخطاب رضي الله عنه, « رحماء بينهم » عثمان بن عفان رضي الله عنه, « تراهم ركعًا سجدًا » علي بن أبي طالب رضي الله عنه, « يبتغون فضلا من الله » بقية العشرة المبشرين بالجنة.

وقيل: « كمثل زرع » محمد, « أخرج شطأه » أبو بكر « فآزره » عمر « فاستغلظ » عثمان, للإسلام « فاستوى على سوقه » علي بن أبي طالب استقام الإسلام بسيفه, « يعجب الزراع » قال: هم المؤمنون.

( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) قول عمر لأهل مكة بعدما أسلم: لا تعبدوا الله سرًا بعد اليوم:

حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد الشجاعي السرخسي إملاء, أخبرنا أبو بكر عبد الله بن أحمد القفال, حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد الفضل السمرقندي, حدثنا شيخي أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي, حدثنا أبو رجاء قتيبة بن سعيد, حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي, عن عبد الرحمن بن حميد, عن أبيه, عن عبد الرحمن بن عوف: أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: « أبو بكر في الجنة, وعمر في الجنة, وعثمان في الجنة, وعلي في الجنة, وطلحة في الجنة, والزبير في الجنة, وعبد الرحمن بن عوف في الجنة, وسعد بن أبي وقاص في الجنة, وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة » .

حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي, أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن قاسم حدثنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي, حدثنا أحمد بن هاشم الأنطاكي, حدثنا قطبة بن العلاء, حدثنا سفيان الثوري, عن خالد الخذاء, عن أبي قلابة, عن أنس بن مالك, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أرحم أمتي أبو بكر, وأشدهم في أمر الله عمر, وأصدقهم حياء عثمان, وأفرضهم زيد, وأقرؤهم أبيّ, وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل, ولكل أمة أمين, وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح » .

ورواه معمر عن قتادة مرسلا وفيه: « وأقضاهم علي » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا معلى بن أسد, حدثنا عبد العزيز المختار قال خالد الحذاء, حدثنا عن أبي عثمان قال حدثني عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة, فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها, قلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب فعدَّ رجالا فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم .

أخبرنا أبو منصور عبد الملك وأبو الفتح نصر, ابنا علي بن أحمد بن منصور ومحمد بن الحسين بن شاذويه الطوسي بها قالا حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب, أخبرنا الحسن بن محمد بن أحمد بن كيسان النحوي, حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك الأسدي, حدثنا إبراهيم بن إسماعيل هو ابن يحيى بن سلمة بن كهيل, حدثنا أبي عن أبيه عن سلمة عن أبي الزعراء عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي: أبي بكر وعمر, واهتدوا بهدي عمار, وتمسكوا بعهد عبد الله بن مسعود » .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي, أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران, أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار, حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن أبي حازم, عن سهل بن سعد أن أُحُدًا ارتج وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعثمان, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اثبت أحد ما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد » .

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي, أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت, حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي, حدثنا أبو سعيد الأشج, أخبرنا وكيع, حدثنا الأعمش, عن عدي بن ثابت, عن زر بن حبيش, عن عليّ قال: عهد إليّ النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبك إلا مؤمن, ولا يبغضك إلا منافق .

حدثنا أبو المظفر التميمي, أخبرنا عبد الرحمن بن عثمان, أخبرنا خيثمة بن سليمان, حدثنا محمد بن عيسى بن حيان المدائني, حدثنا محمد بن الفضل بن عطية, عن عبد الله بن مسلم عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة » .

قوله عز وجل: ( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) أي إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظًا للكافرين.

قال مالك بن أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية .

أخبرنا أبو الطيب طاهر بن محمد بن العلاء البغوي, حدثنا أبو معمر الفضل بن إسماعيل بن إبراهيم الإسماعيلي, أخبرنا جدي أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي, أخبرني الهيثم بن خلف الدوري, حدثنا المفضل بن غسان بن المفضل العلائي, حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد, حدثنا عبيدة بن أبي رابطة عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الله الله في أصحابي, الله الله في أصحابي, الله الله في أصحابي, لا تتخذوهم غرضًا بعدي, فمن أحبهم فبحبي أحبهم, ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم, ومن آذاهم فقد آذاني, ومن آذاني فقد آذى الله, ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه » .

حدثنا أبو المظفر بن محمد بن أحمد بن حامد التميمي, أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم, أخبرنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان, حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي القصار بالكوفة, أخبرنا وكيع بن الجراح, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تسبوا أصحابي, فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الزعفراني, حدثنا أبو محمد عبد الله بن عروة, حدثنا محمد بن الحسين بن محمد بن إشكاب, حدثنا شبابة بن سوَّار, حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي خباب عن أبي سليم الهمداني, عن أبيه, عن عليٍّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنْ سرك أن تكون من أهل الجنة فإن قومًا يتنحلون حبك يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم, نبزهم الرافضة, فإن أدركتهم فجاهدهم فإنهم مشركون » ، في إسناد هذا الحديث نظر.

قول الله عز وجل: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ ) قال ابن جرير: يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع, وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة, وردَّ الهاء والميم على معنى الشطء لا على لفظه, ولذلك لم يقل: « منه » , ( مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) يعني الجنة.

 

سورة الحجرات

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 1 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قرأ يعقوب: « لا تقدموا » بفتح التاء والدال, من التقدم أي لا تتقدموا, وقرأ الآخرون بضم التاء وكسر الدال, من التقديم, وهو لازم بمعنى التقدم, [ قال أبو عبيدة ] : تقول العرب: لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب, أي لا تعجل بالأمر والنهي دونه, والمعنى: بين اليدين الأمام. والقدام: أي لا تقدموا بين يدي أمرهما ونهيهما. واختلفوا في معناه: روى الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى, وهو قول الحسن, أي لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم, وذلك أن ناسًا ذبحوا قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم, فأمرهم أن يعيدوا الذبح .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا محمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا شعبة, عن يزيد, عن الشعبي, عن البراء قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر, قال: « إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي, ثم نرجع فننحر, فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا, ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء » .

وروى مسروق عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك ، أي: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا إبراهيم بن موسى, حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم عن ابن أبي مليكة, أن عبد الله بن الزبير أخبرهم, أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال أبو بكر: أَمِّرِ القعقاع معبد بن زرارة, قال عمر: بل أَمِّرِ الأقرع بن حابس, قال أبو بكر: ما أردتَ إلا خِلافي, قال عمر: ما أردتُ خلافك, فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما, فنـزلت في ذلك: « يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله » حتى انقضت .

ورواه نافع عن ابن أبي مليكة, قال فنـزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي » إلى قوله: « أجر عظيم » , وزاد: قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه, ولم يذكر عن أبيه, يعني أبا بكرٍ .

وقال قتادة: نـزلت الآية في ناس كانوا يقولون: لو أُنـزل في كذا, أو صُنع في كذا وكذا, فكره الله ذلك .

وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه .

وقال الضحاك: يعني في القتال وشرائع الدين لا تقضوا أمرًا دون الله ورسوله.

( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) في تضييع حقه ومخالفة أمره, ( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ) لأقوالكم, ( عَلِيمٌ ) بأفعالكم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ( 2 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَه بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده, ولا ينادونه كما ينادي بعضهم بعضًا, ( أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ) لئلا تحبط حسناتكم. وقيل: مخافة أن تحبط حسناتكم, ( وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة, عن ثابت البناني, عن أنس بن مالك قال: لما نـزلت هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي » الآية, جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم, فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى؟ فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى, قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال ثابت: أنـزلت هذه الآية, ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنا من أهل النار, فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بل هو من أهل الجنة » .

وروي أنه لما نـزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي, فمر به عاصم بن عدي فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: هذه الآية أتخوف أن تكون نـزلت فيّ, وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي, وأن أكون من أهل النار, فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وغلب ثابتًا البكاءُ, فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ سلول, فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبَّة بمسمار, وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخبره خبره فقال له: اذهب فادعه, فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده, فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس, فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك, فقال: اكسر الضبة فكسرها, فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: أنا صَيِّتٌ وأتخوف أن تكون هذه الآية نـزلت فيّ, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تعيش حميدًا وتقتل شهيدًا وتدخل الجنة؟ فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله, ولا أرفع صوتي أبدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنـزل الله: ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ) .

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( 3 )

( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ) الآية .

قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا, فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب, رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار وانهزمت طائفة منهم, فقال: أفٍ لهؤلاء, ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا, ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع, فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له: اعلم أن فلانًا رجل من المسلمين نـزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر عند فرس يسير في طِوَلِهِ, وقد وضع على درعي بُرْمَة, فأت خالد بن الوليد وأخبره حتى يسترد درعي, وأت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له: إن عليّ دَيْنًا حتى يقضى, وفلان من رقيقي عتيق, فأخبر الرجل خالدًا فوجد درعه والفرس على ما وصفه له, فاسترد الدرع, وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته .

قال مالك بن أنس: لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه.

قال أبو هريرة وابن عباس: لما نـزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار .

وقال ابن الزبير: لما نـزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته, فأنـزل الله تعالى: « إن الذين يغضون أصواتهم » ، يخفضون ( أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ) إجلالا له, ( أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّه قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ) اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصه, ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ )

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 4 )

( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) قرأ العامة بضم الجيم, وقرأ أبو جعفر بفتح الجيم, وهما لغتان, وهي جمع الحُجَر, والحُجَرُ جمع الحُجْرَةِ فهي جمع الجمع.

قال ابن عباس: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى بني العنبر وأَمَّرَ عليهم عيينة بن حصن الفزاري, فلما علموا أنه توجه نحوهم هربوا وتركوا عيالهم, فسباهم عيينة بن حصن وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري, فقدموا وقت الظهيرة, ووافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا في أهله, فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون, وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم [ حجرة, فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ، فجعلوا ينادون: يا محمد اخرج إلينا, حتى أيقظوه من نومه, فخرج إليهم فقالوا: يا محمد فَادِنَا عيالنا, فنـزل جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو, وهو على دينكم؟ فقالوا: نعم, فقال سبرة: أنا لا أحكم بينهم إلا وعمي شاهد, وهو الأعور بن بشامة, فرضوا به, فقال الأعور: أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد رضيت, ففادى نصفهم وأعتق نصفهم, فأنـزل الله تعالى: « إن الذين يُنَادُونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون » , وصفهم بالجهل وقلة العقل .

 

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 5 )

( وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) قال مقاتل: لكان خيرًا لهم لأنك كنت تعتقهم جميعًا وتطلقهم بلا فداء, ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وقال قتادة: نـزلت في ناس من أعراب بني تميم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب .

ويروى ذلك عن جابر قال: جاءت بنو تميم فنادوا على الباب: اخرج إلينا يا محمد, فإن مَدْحَنا زين, وَذَمَّنا شين, فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين, فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشعرائنا وخطبائنا لنشاعرك ونفاخرك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت, ولكن هاتوا » , فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس, وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم: « قم فأجبه » , فأجابه, وقام شاعرهم فذكر أبياتًا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: « أجبه » فأجابه. فقام الأقرع بن حابس, فقال: إن محمدًا لَمُؤْتًى له والله ما أدري هذا الأمر, تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « ما يضرك ما كان قبل هذا » ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم, وقد كان تخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنه, فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم, وأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنـزل فيهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ الآيات الأربع إلى قوله: « غفور رحيم » .

وقال زيد بن أرقم: جاء ناس من العرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبيًا فنحن أسعد الناس به, وإن يكن ملكًا نعش في جنابه, فجاؤوا فجعلوا ينادونه, يا محمد يا محمد, فأنـزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم والله غفور رحيم « . »

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( 6 )

قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) الآية, نـزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط, بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقًا, وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية, فلما سمع به القوم تلقوه تعظيمًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي, فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهَمَّ أن يغزوهم, فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلناه من حق الله عز وجل, فبدا له الرجوع, فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا, وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله, فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه, وقال له: انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم, وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار, ففعل ذلك خالد, ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء, فأخذ منهم صدقاتهم, ولم ير منهم إلا الطاعة والخير, فانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر, فأنـزل الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ ) يعني الوليد بن عقبة ( بِنَبَإٍ ) بخبر, ( فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا ) كي لا تصيبوا بالقتل والقتال, ( قَوْمًا ) برآء, ( بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) من إصابتكم بالخطأ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( 7 )

( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ) فاتقوا الله أن تقولوا باطلا أو تكذبوه, فإن الله يخبره ويعرفه أحوالكم فتفتضحوا, ( لَوْ يُطِيعُكُمْ ) أي الرسول, ( فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ ) مما تخبرونه به فيحكم برأيكم, ( لَعَنِتُّمْ ) لأثمتم وهلكتم, والعنت: الإثم والهلاك. ( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ ) فجعله أحب الأديان إليكم, ( وَزَيَّنَهُ ) حسنه, ( فِي قُلُوبِكُمْ ) حتى اخترتموه, وتطيعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ ) قال ابن عباس: يريد الكذب, ( وَالْعِصْيَانَ ) جميع معاصي الله. ثم عاد من الخطاب إلى الخبر, وقال: ( أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) المهتدون.

فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 8 ) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 9 )

( فَضْلا ) أي كان هذا فضلا ( مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

قوله عز وجل: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) الآية.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا مسدد, حدثنا معتمر قال: سمعت أبي يقول: إن أنسًا قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي, فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حمارًا وانطلق المسلمون يمشون معه, وهي أرض سبخة, فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إليك عني, والله لقد آذاني نتن حمارك, فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله أطيب ريحًا منك, فغضب لعبد الله رجل من قومه فتشاتما, فغضب لكل واحد منهما أصحابه, فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال, فبلغنا أنها نـزلت: « وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما » .

ويروى أنها لما نـزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض.

وقال قتادة: نـزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة في حق بينهما, فقال أحدهما للآخر: لآخذن حقي منك عنوة, لكثرة عشيرته, وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه, فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال, ولم يكن قتال بالسيوف .

وقال سفيان عن السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد تحت رجل, وكان بينها وبين زوجها شيء فرقى بها إلى عُلية وحبسها, فبلغ ذلك قومها فجاؤوا, وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال, فأنـزل الله عز وجل: « وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما » بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه لهما وعليهما ( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا ) تعدت إحداهما, ( عَلَى الأخْرَى ) وأبت الإجابة إلى حكم كتاب الله, ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ ) ترجع, ( إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) في كتابه, ( فَإِنْ فَاءَتْ ) رجعت إلى الحق, ( فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ) بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله, ( وَأَقْسِطُوا ) اعدلوا, ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 10 )

( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) في الدين والولاية, ( فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) إذا اختلفا واقتتلا قرأ يعقوب « بين إخوتكم » بالتاء على الجمع, ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره, ( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) .

[ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ] ، أخبرنا أبو محمد الحسين بن أحمد المخلدي, أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج, حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا الليث, عن عقيل, عن الزهري, عن سالم, عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه, من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته, ومن فَرَّجَ عن مسلم كُرْبَةً فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة, ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة » .

وفي هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان, لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين, يدل عليه ما روي عن الحارث الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل- وهو القدوة- في قتال أهل البغي, عن أهل الجمل وصفين: أمشركون هم؟ فقال: لا من الشرك فروا, فقيل: أمنافقون هم؟ فقال: لا إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا .

والباغي في الشرع هو الخارج على الإمام العدل, فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة الإمام العدل بتأويل محتمل, ونصبوا إمامًا فالحكم فيهم أن يبعث الإمام إليهم ويدعوهم إلى طاعته, فإن أظهروا مظلمة أزالها عنهم, وإن لم يذكروا مظلمة, وأصروا على بغيهم, قاتلهم الإمام حتى يفيئوا إلى طاعته, ثم الحكم في قتالهم أن لا يُتَّبع مُدْبِرُهُم ولا يقتل أسيرهم, ولا يذفف على جريحهم, نادى منادي عليّ رضي الله عنه يوم الجمل: ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح .وأُتي عليٌ رضي الله عنه يوم صفين بأسير فقال له: لا أقتلك صبرًا إني أخاف الله رب العالمين. وما أتلفت إحدى الطائفتين على الأخرى في حال القتال من نفس أو مال فلا ضمان عليه.

قال ابن شهاب: كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول, وأُتلف فيها أموال كثيرة, ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم, وجرى الحكم عليهم, فما علمتُه اقتص من أحد ولا أغرم مالا أتلفه.

أما من لم يجتمع فيهم هذه الشرائط الثلاث بأن كانوا جماعة قليلين لا منعة لهم, أو لم يكن لهم تأويل, أو لم ينصبوا إماما فلا يتعرض لهم إن لم ينصبوا قتالا ولم يتعرضوا للمسلمين, فإن فعلوا فهم كقطاع الطريق.

روي أن عليًّا رضي الله عنه سمع رجلا يقول في ناحية المسجد: لا حكم إلا لله تعالى, فقال عليٌّ: كلمة حق أريد بها باطل, لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله, ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا, ولا نبدؤكم بقتال .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 11 )

وقوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ ) الآية, قال ابن عباس: نـزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه كان في أذنه وقر, فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه, فيسمع ما يقول, فأقبل ذات يوم وقد فاتته [ ركعة من صلاة الفجر ] ، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم, فضن كل رجل بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد, فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلسًا يجلس فيه قام قائمًا كما هو, فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخطى رقاب الناس, ويقول: تفسحوا تفسحوا, فجعلوا يتفسحون له حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل, فقال له: تفسح, فقال الرجل: قد أصبت مجلسًا فاجلس, فجلس ثابت خلفه مغضبًا, فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل, فقال: من هذا؟ قال: أنا فلان, فقال ثابت: ابن فلانة, وذكر أُمًّا له كان يعير بها في الجاهلية, فنكَّسَ الرجل رأسه واستحيا, فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

وقال الضحاك: نـزلت في وفد بني تميم الذين ذكرناهم, كانوا يستهزؤون بفقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثل عمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة, لما رأوا من رثاثة حالهم, فأنـزل الله تعالى في الذين آمنوا منهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ) أي رجال من رجال. و « القوم » : اسم يجمع الرجال والنساء, وقد يختص بجمع الرجال, ( عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ) .

روي عن أنس أنها نـزلت في نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عيرن أم سلمة بالقصر .

وعن عكرمة عن ابن عباس: أنها نـزلت في صفية بنت حيي بن أخطب, قال لها النساء: يهودية بنت يهوديين . ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) أي لا يعب بعضكم بعضًا, ولا يطعن بعضكم على بعض, ( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ) التنابز: التفاعل من النبز, وهو اللقب, وهو أن يدعى الإنسان بغير ما سمي به.

قال عكرمة: هو قول الرجل للرجل: يا فاسق يا منافق يا كافر.

وقال الحسن: كان اليهودي والنصراني يسلم, فيقال له بعد إسلامه يا يهودي يا نصراني, فنهوا عن ذلك .

قال عطاء: هو أن تقول لأخيك: يا كلب يا حمار يا خنـزير.

وروي عن ابن عباس قال: « التنابز بالألقاب » : أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف عن عمله.

( بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوق بَعْدَ الإيمَانِ ) . أي بئس الاسم أن يقول: يا يهودي أو يا فاسق بعد ما آمن وتاب, وقيل معناه: إن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق, وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان, فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا اسم الفسوق, ( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ ) من ذلك, ( فَأُولَئِكَ هُم الظَّالِمُونَ )

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ( 12 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ) قيل: نـزلت الآية في رجلين اغتابا رفيقهما, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما, ويتقدم لهما إلى المنـزل فيهيئ لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب, فضمَّ سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره, فتقدم سلمان إلى المنـزل فغلبته عيناه فنام فلم يهيئ لهما شيئًا, فلما قدما قالا له: ما صنعت شيئًا؟ قال: لا غلبتني عيناي, قالا له: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعامًا, فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعامًا, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق إلى أسامة بن زيد, وقل له: إن كان عنده فضل من طعام وإدام فليعطك, وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رحله, فأتاه فقال: ما عندي شيء, فرجع سلمان إليهما وأخبرهما, فقالا كان عند أسامة طعامٌ ولكن بخل, فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئًا, فلما رجع قالا لو بعثناك إلى بئر سميحة لغار ماؤها, ثم انطلقا يتجسسان, هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: « مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما » , قالا والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحمًا, قال: بل ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة, فأنـزل الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ) ، وأراد: أن يُظَنَّ بأهل الخير سوءًا ( إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) قال سفيان الثوري: الظن ظنان: أحدهما إثم, وهو أن تظن وتتكلم به, والآخر ليس بإثم وهو أن تظن ولا تتكلم.

( وَلا تَجَسَّسُوا ) التجسس: هو البحث عن عيوب الناس, نهى الله تعالى عن البحث عن المستور من أمور الناس وتتبع عوراتهم حتى لا يظهر على ما ستره الله منها.

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي, أخبرنا زاهر بن أحمد, أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي, أخبرنا أبو مصعب عن مالك, عن أبي الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث, ولا تجسسوا, ولا تنافسوا, ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا, ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا »

أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد بن علي بن الحسن الطوسي بها, أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفراييني, أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي, أخبرنا عبد الله بن ناحية, حدثنا يحيى بن أكثم, أخبرنا الفضل بن موسى الشيباني, عن الحسين بن واقد, عن أوفى ابن دلهم, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يا معشر من آمن بلسانه ولم يفضِ الإيمان إلى قلبه, لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من تتبع عورات المسلمين, يتتبع الله عورته, ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله » .

قال: ونظر ابن عمر يومًا إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك, والمؤمن أعظم عند الله حرمة منك .

وقال زيد بن وهب: قيل لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرًا, فقال: إنا قد نهينا عن التجسس, فإن يظهر لنا شيء نأخذه به ( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) يقول: لا يتناول بعضكم بعضًا بظهر الغيب بما يسوءه مما هو فيه.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي, أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني, أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري, حدثنا أحمد بن علي الكشميهني, حدثنا علي بن حجر, حدثنا إسماعيل بن جعفر, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: ذِكْرُكَ أخاك بما يكره, قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته » .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة, أخبرنا أبو الطاهر الحارثي, أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي, أخبرنا عبد الله بن محمود, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, أخبرنا عبد الله بن المبارك, عن المثنى بن الصباح, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فقالوا: لا يأكل حتى يُطعم, ولا يرحل حتى يُرحّل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اغتبتموه » فقالوا: إنما حَدَّثْنَا بما فيه, قال: « حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه » .

قوله عز وجل: ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ) قال مجاهد: لما قيل لهم ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ) قالوا: لا قيل: ( فَكَرِهْتُمُوهُ ) أي فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبًا.

قال الزجاج: تأويله: إن ذِكْرَكَ من لم يحضرك بسوء بمنـزلة أكل لحم أخيك, وهو ميت لا يحس بذلك.

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرني ابن فنجويه, حدثنا ابن أبي شيبة, حدثنا الفريابي, حدثنا محمد بن المصفى, حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج, حدثني صفوان بن عمرو, حدثنا راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير, عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لما عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم ولحومهم, فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم » .

قال ميمون بن سِياه : بينا أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول: كُلْ, قلت: يا عبد الله ولم آكل؟ قال: بما اغتبت عبد فلان, فقلت: والله ما ذكرت فيه خيرًا ولا شرًّا, قال: لكنك استمعت ورضيت به, فكان ميمون لا يغتاب أحدًا ولا يدع أحدًا يغتاب عنده أحدًا .

( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( 13 )

( يَا أَيُّهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ) الآية. قال ابن عباس: نـزلت في ثابت بن قيس, وقوله للرجل الذي لم يفسح له: ابن فلانة, يعيره بأمه, قال النبي صلى الله عليه وسلم: من الذاكر فلانة؟ فقال ثابت: أنا يا رسول الله, فقال: انظر في وجوه القوم فنظر فقال: ما رأيت يا ثابت؟ قال: رأيت أبيض وأحمر وأسود, قال: فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى, فنـزلت في ثابت هذه الآية, وفي الذي لم يتفسح: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا ( المجادلة- 11 ) .

وقال مقاتل: لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا حتى علا ظهر الكعبة وأذن, فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم, وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنًا, وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئًا يعيره. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئًا أخاف أن يخبرَ به رب السماء, فأتى جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالوا, فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا فأنـزل الله تعالى هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء فقال:

( يَا أَيُّهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ) يعني آدم وحواء أي إنكم متساوون في النسب. ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا ) جمع شعب بفتح الشين, وهي رؤوس القبائل مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج, سموا شعوبًا لتشعبهم واجتماعهم, كشعب أغصان الشجر, والشعب من الأضداد يقال: شَعَبَ, أي: جمع, وشعب أي: فرق. ( وَقَبَائِلَ ) وهي دون الشعوب, واحدتها قبيلة وهي كبكر من ربيعة وتميم من مضر, ودون القبائل العمائر, واحدتها عمارة, بفتح العين, وهم كشيبان من بكر, ودارم من تميم, ودون العمائر البطون, واحدتها بطن, وهم كبني غالب ولؤي من قريش ودون البطون الأفخاذ واحدتها فخذ، وهم كبني هاشم وأمية من بني لؤي, ثم الفصائل, والعشائر واحدتها فصيلة وعشيرة, وليس بعد العشيرة حي يوصف به.

وقيل: الشعوب من العجم, والقبائل من العرب, والأسباط من بني إسرائيل.

وقال أبو روق: « الشعوب » الذين لا يعتزون إلى أحد, بل ينتسبون إلى المدائن والقرى, « والقبائل » : العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم.

( لِتَعَارَفُوا ) ليعرف بعضكم بعضًا في قرب النسب وبعده, لا ليتفاخروا. ثم أخبر أن أرفعهم منـزلة عند الله أتقاهم فقال:

( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) قال قتادة في هذه الآية: إن أكرم الكرم التقوى, وألأم اللؤم الفجور.

أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي, أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه, أخبرنا إبراهيم بن خزيم الشاشي, حدثنا عبد بن حميد, حدثنا يونس بن محمد, حدثنا سلام بن أبي مطيع, عن قتادة, عن الحسن, عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الحسب المال, والكرم التقوى » .

وقال ابن عباس: كرم الدنيا الغنى, وكرم الآخرة التقوى.

أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم, أنا عبد الله بن أحمد بن حمويه, أخبرنا إبراهيم بن خزيم, حدثنا عبد بن حميد, أخبرنا الضحاك بن مخلد, عن موسى بن عبيدة, عن عبد الله بن دينار, عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه, فلما خرج لم يجد مَنَاخًا, فنـزل على أيدي الرجال, ثم قام فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه, وقال: « الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها [ بآبائها ] ، الناس رجلان بَرٌّ تقي كريم على الله, وفاجر شقيٌّ هين على الله » ثم تلا « يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى » , ثم قال: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم « . »

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا محمد هو ابن سلام حدثنا عبدة عن عبيد الله, عن سعيد بن أبي سعيد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم, قالوا: ليس عن هذا نسألك, قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله. قالوا: ليس عن هذا نسألك, قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم, قال: « فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا » .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغافر بن محمد, أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا عمرو الناقد, حدثنا كثير بن هشام, حدثنا جعفر بن برقان, عن يزيد بن الأصم, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم, ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم »

قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 14 )

قوله عز وجل: ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا ) الآية, نـزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة جدبة فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر, فأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها, وجئناك بالأثقال والعيال والذراري, ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان, يمنون على النبي صلى الله عليه وسلم, ويريدون الصدقة, ويقولون: أعطنا, فأنـزل الله فيهم هذه الآية .

وقال السدي: نـزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح, وهم أعراب جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار, كانوا يقولون: آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم, فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا, فأنـزل الله عز وجل « قالت الأعراب آمنا » صدقنا.

( قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسبي, ( وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَان فِي قُلُوبِكُمْ ) فأخبر أن حقيقة الإيمان التصديق بالقلب, وأن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيمانا دون التصديق بالقلب والإخلاص.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا محمد بن غُرَيْرٍ الزهري, حدثنا يعقوب بن إبراهيم, عن أبيه, عن صالح, عن ابن شهاب, أخبرني عامر بن سعد, عن أبيه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطًا وأنا جالس فيهم, قال: فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رجلا لم يعطه وهو أعجبهم إليّ, فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فساررته ] ، فقلت: مالك عن فلان؟ والله إني لأراه مؤمنًا, قال: أو مسلمًا, قال: فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه, فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنًا؟ قال: أو مسلمًا, قال: « إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يُكَبّ في النار على وجهه » .

فالإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة, يقال: أسلم الرجل إذا دخل في السلم كما يقال: أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء, وأصاف إذا دخل في الصيف, وأربع إذا دخل في الربيع, فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان, والأبدان والجنان, كقوله عز وجل لإبراهيم عليه السلام: أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( البقرة- 131 ) , ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب, وذلك قوله: ( وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) .

( وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) ظاهرًا وباطنًا سرًا وعلانية. قال ابن عباس تخلصوا الإيمان, ( لا يَلِتْكُمْ ) قرأ أبو عمرو « يالتكم » بالألف لقوله تعالى: وَمَا أَلَتْنَاهُمْ ( الطور- 21 ) والآخرون بغير ألف, وهما لغتان, معناهما: لا ينقصكم, يقال: ألت يَألِت ألتًا ولات يليت ليتًا إذا نقص, ( مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ) أي لا ينقص من ثواب أعمالكم شيئا, ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( 15 ) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 16 ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 17 ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 18 )

ثم بين حقيقة الإيمان, فقال: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ) لم يشكوا في دينهم, ( وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُم الصَّادِقُونَ ) في إيمانهم.

فلما نـزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون بالله إنهم مؤمنون صادقون, وعرف الله غير ذلك منهم, فأنـزل الله عز وجل:

( قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ ) ، والتعليم هاهنا بمعنى الإعلام, ولذلك قال: « بدينكم » وأدخل الباء فيه, يقول: أتخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه, ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) لا يحتاج إلى إخباركم.

( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ) أي بإسلامكم, ( بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ ) وفي مصحف عبد الله « إذ هداكم للإيمان » ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) إنكم مؤمنون.

( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) قرأ ابن كثير « يعملون » بالياء, وقرأ الآخرون بالتاء.

 

سورة ق

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ( 1 )

( ق ) [ قال ابن عباس: هو قسم, وقيل: ] هو اسم للسورة, وقيل هو اسم من أسماء القرآن.

وقال القرظي : هو مفتاح اسمه « القدير » , و « القادر » و « القاهر » و « القريب » و « القابض » .

وقال عكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء, منه خضرة السماء والسماء مقبية عليه, وعليه كتفاها ، ويقال هو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة .

وقيل: معناه قضي الأمر, أو قضي ما هو كائن, كما قالوا في حم .

( وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) الشريف الكريم على الله, الكثير الخير.

واختلفوا في جواب القسم, فقال أهل الكوفة: جوابه: بَلْ عَجِبُوا , وقيل: جوابه محذوف, مجازه: والقرآن المجيد لتبعثن. وقيل: جوابه قوله: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ . وقيل: قَدْ عَلِمْنَا وجوابات القسم سبعة: « إنَّ » الشديدة كقوله: وَالْفَجْرِ - إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( الفجر- 1- 14 ) , و « ما » النفي كقوله: وَالضُّحَى - مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ( الضحى- 1- 3 ) , و « اللام » المفتوحة كقوله: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر- 92 ) و « إنْ » الخفيفة كقوله تعالى: إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( الشعراء - 97 ) و « لا » كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ( النحل- 38 ) , و « قد » كقوله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا - قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ( الشمس- 1- 9 ) .

بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ( 2 ) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ( 3 ) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ( 4 ) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ( 5 )

و « بل » كقوله: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ - بَلْ عَجِبُوا .

( أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ ) مخوّف, ( مِنْهُمْ ) يعرفون نسبه وصدقه وأمانته, ( فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) غريب.

( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ) نبعث, ترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه, ( ذَلِكَ رَجْعٌ ) أي رد إلى الحياة ( بَعِيدٌ ) وغير كائن, أي: يبعد أن نبعث بعد الموت.

قال الله عز وجل: ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ ) أي تأكل من لحومهم ودمائهم وعظامهم لا يعزب عن علمه شيء. قال السدي: هو الموت, يقول: قد علمنا من يموت منهم ومن يبقى, ( وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) [ محفوظ من الشياطين ومن أن يدرس ويتغير وهو اللوح المحفوظ, وقيل: حفيظ ] أي: حافظ لعدتهم وأسمائهم.

( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ ) بالقرآن, ( لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) مختلط, قال سعيد بن جبير ومجاهد: ملتبس. قال قتادة في هذه الآية: مَنْ تَرَكَ الحقَّ مرج عليه أمره والتبسَ عليه دينُهُ. وقال الحسن: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرُهُم. وذكر الزجَّاج معنى اختلاط أمرهم, فقال: هو أنهم يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم, مرة شاعر, ومرة ساحر, ومرة مُعَلَّم, ويقولون للقرآن مرة سحر, ومرة رَجَز, ومرة مفترى, فكان أمرهم مختلطًا ملتبسًا عليهم.

أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ( 6 ) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( 7 ) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ( 8 ) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ( 9 ) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ( 10 ) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ( 11 )

ثم دلهم على قدرته, فقال: ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا ) بغير عمد , ( وَزَيَّنَّاهَا ) بالكواكب, ( وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) شقوق وفتوق وصدوع, واحدها فرج.

( وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا ) بسطناها على وجه الماء, ( وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ) جبالا ثوابت, ( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) حسن كريم يُبهَجُ به, أي: يسر.

( تَبْصِرَةً ) [ أي جعلنا ذلك تبصرة ] ( وَذِكْرَى ) أي تبصيرًا وتذكيرًا, ( لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) أي: ليبصر به ويتذكر به.

( وَنـزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا ) كثير الخير وفيه حياة كل شيء, وهو المطر, ( فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) يعني البر والشعير وسائر الحبوب التي تحصد, فأضاف الحب إلى الحصيد, وهما واحد لاختلاف اللفظين, كما يقال: مسجد الجامع وربيع الأول. وقيل: « وحب الحصيد » أي: وحب النبت [ الحصيد ] .

( وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ) قال مجاهد وعكرمة وقتادة: طوالا يقال: بسقت [ النخلة ] بُسوقًا إذا طالت. وقال سعيد بن جبير: مستويات. ( لَهَا طَلْعٌ ) ثمر وحمل, سمي بذلك لأنه يطلع, والطلع أول ما يظهر قبل أن ينشق ( نَضِيدٌ ) متراكب متراكم منضود بعضه على بعض في أكمامه, فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد.

( رِزْقًا لِلْعِبَادِ ) أي جعلناها رزقًا للعباد, ( وَأَحْيَيْنَا بِهِ ) أي بالمطر, ( بَلْدَةً مَيْتًا ) أنبتنا فيها الكلأ ( كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ) من القبور.

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ( 12 ) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ( 13 ) وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ( 14 ) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ( 15 )

قوله عز وجل: ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ ) وهو تبع الحميري, واسمه أسعد أبو كرب, قال قتادة: ذم الله تعالى قوم تبع ولم يذمه, ذكرنا قصته في سورة الدخان .

( كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ ) أي: كل من هؤلاء المذكورين كذب الرسل, ( فَحَقَّ وَعِيدِ ) وجب لهم عذابي. ثم أنـزل جوابًا لقولهم ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ :

( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ ) يعني: أعجزنا حين خلقناهم أولا [ فنعيا ] بالإعادة. وهذا تقرير لهم لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث, ويقال لكل من عجز عن شيء: عيي به. ( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ ) أي: في شك, ( مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) وهو البعث.

 

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( 16 ) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ( 17 )

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) يحدث به قلبه ولا يخفى علينا سرائره وضمائره, ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ) أعلم به, ( مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) لأن أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضًا, ولا يحجب علم الله شيء, و « حبل الوريد » : عرق العنق, وهو عرق بين الحلقوم والعلباوين, يتفرق في البدن, والحبل هو الوريد, فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين.

( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ ) أي: يتلقى ويأخذ الملكان الموكلان بالإنسان عمله ومنطقه يحفظانه ويكتبانه, ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ ) أي أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله, فالذي عن اليمين يكتب الحسنات, والذي عن الشمال يكتب السيئات. ( قَعِيدٌ ) أي: قاعد, ولم يقل: قعيدان, لأنه أراد: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد, فاكتفى بأحدهما عن الآخر, هذا قول أهل البصرة. وقال أهل الكوفة: أراد: قعودًا, كالرسول فجعل للاثنين والجمع, كما قال الله تعالى في الاثنين: فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء- 16 ) , وقيل: أراد بالقعيد الملازم الذي لا يبرح, لا القاعد الذي هو ضد القائم. وقال مجاهد: القعيد الرصيد.

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( 18 ) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( 19 )

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ) ما يتكلم من كلام فيلفظه أي: يرميه من فيه , ( إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ) حافظ, ( عَتِيدٌ ) حاضر أينما كان. قال الحسن: إن الملائكة يجتنبون الإنسان على حالين: عند غائطه وعند جماعه.

وقال مجاهد: يكتبان عليه حتى أنينه في مرضه . وقال عكرمة: لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر فيه .

وقال الضحاك: مجلسهما تحت الضرس على الحنك, ومثله عن الحسن, وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا الحسين بن محمد الدينوري, حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان, حدثنا الفضل بن العباس بن مهران, حدثنا طالوت، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا جعفر بن الزبير عن القاسم بن محمد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل, وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات, فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرًا؛ وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر » .

( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ) غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله, ( بِالْحَقِّ ) أي بحقيقة الموت, وقيل: بالحق من أمر الآخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعيان. وقيل: بما يؤول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة. ويقال لمن جاءته سكرة الموت: ( ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) تميل, قال الحسن: تهرب وقال ابن عباس: تكره, وأصل الحيد الميل, يقال: حدتُ عن الشيء أحِيدُ حَيْدًا ومَحِيْدًا: إذا ملتُ عنه.

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ( 20 ) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( 21 ) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ( 22 ) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ( 23 ) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ( 24 )

( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) يعني نفخة البعث, ( ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) أي: ذلك اليوم يوم الوعيد الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه. قال مقاتل: يعني بالوعيد العذاب, أي: يوم وقوع الوعيد.

( وَجَاءَتْ ) ذلك اليوم , ( كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ ) يسوقها إلى المحشر ( وَشَهِيدٌ ) يشهد عليها بما عملت, قال الضحاك: السائق من الملائكة, والشاهد من أنفسهم الأيدي والأرجل, وهي رواية العوفي عن ابن عباس . وقال الآخرون: هما جميعًا من الملائكة, فيقول الله:

( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ) . ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ) اليوم في الدنيا, ( فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ) الذي كان في الدنيا على قلبك وسمعك وبصرك, ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) نافذ تبصر ما كنت تنكر في الدنيا. وروي عن مجاهد قال: يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك.

( وَقَالَ قَرِينُهُ ) الملك الموكل به , ( هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ) مُعَدٌّ محضر, وقيل: « ما » بمعنى ( من ) , قال مجاهد: يقول هذا الذي وكلتني به من ابن آدم حاضر عندي قد أحضرته وأحضرت ديوان أعماله, فيقول الله عز وجل لقرينه:

( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ) هذا خطاب للواحد بلفظ التثنية على عادة العرب, تقول: ويحك ويلك ارحلاها وازجراها وخذاها وأطلقاها, للواحد, قال الفراء : وأصل ذلك أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه وسفره اثنان, فجرى كلام الواحد على صاحبيه, ومنه قولهم في الشعر للواحد: خليليَّ. وقال الزجَّاج: هذا أمر للسائق والشهيد, وقيل: للمتلقيين.

( كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) عاص معرض عن الحق. قال عكرمة ومجاهد: مجانب للحق معاند لله.

مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ( 25 ) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ( 26 ) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ( 27 ) قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ( 28 ) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 29 ) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ( 30 )

( مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ) أي للزكاة المفروضة وكل حق وجب في ماله, ( مُعْتَدٍ ) ظالم لا يقر بتوحيد الله, ( مُرِيبٍ ) شاك في التوحيد, ومعناه: داخل في الريب.

( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ) وهو النار.

( قَالَ قَرِينُهُ ) يعني الشيطان الذي قُيِّضَ لهذا الكافر: ( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ) ما أضللته وما أغويته, ( وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) عن الحق فيتبرأ عنه شيطانه, قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل: « قال قرينه » يعني: الملك , قال سعيد بن جبير: يقول الكافر يا رب إن الملك زاد عليّ في الكتابة, فيقول الملك « ربنا ما أطغيته » , يعني ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل ، ولكن كان في ضلال بعيد, طويل لا يرجع عنه إلى الحق.

( قَالَ ) فيقول الله ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) في القرآن وأنذرتكم وحذرتكم على لسان الرسول, وقضيت عليكم ما أنا قاض.

( مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) لا تبديل لقولي, وهو قوله: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( السجدة- 13 ) , وقال قوم: معنى قوله: « ما يبدل القول لدي » أي: لا يكذب عندي, ولا يغير القول عن وجهه لأني أعلم الغيب. وهذا قول الكلبي, واختيار الفراء ، لأنه قال: « ما يبدل القول لدي » ولم يقل ما يبدل قولي.

( وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ) فأعاقبهم بغير جرم.

( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ ) قرأ نافع وأبو بكر « يقول » بالياء, أي: يقول الله, لقوله: « قال لا تختصموا » , وقرأ الآخرون بالنون, ( هَلِ امْتَلأتِ ) وذلك لما سبق لها من وعده إياها أنه يملؤها من الجنة والناس, وهذا السؤال من الله عز وجل لتصديق خبره وتحقيق وعده, ( وَتَقُولُ ) جهنم , ( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) قيل: معناه قد امتلأت ولم يبق فيّ موضع لم يمتلىء, فهو استفهام إنكار, هذا قول عطاء ومجاهد ومقاتل بن سليمان. وقيل: هذا استفهام بمعنى الاستزادة , وهو قول ابن عباس في رواية أبي صالح, وعلى هذا يكون السؤال بقوله: « هل امتلأت » , قبل دخول جميع أهلها فيها , وروي عن ابن عباس: أن الله تعالى سبقت كلمته لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( السجدة- 13 ) , فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها شيء, فتقول: ألست قد أقسمت لتملأني؟ فيضع قدمه عليها, ثم يقول: هل امتلأت؟ فتقول: قط قط قد امتلأت فليس فيّ مزيد .

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي, أخبرنا [ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ] حدثنا أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن أيوب الطوسي, أخبرنا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي, حدثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني, حدثنا شيبان بن عبد الرحمن, عن قتادة, عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تزال جهنم تقول هل من مزيد, حتى يضع رب العزة فيها قدمه, فتقول قط قط وعزتك, ويزوي بعضها إلى بعض, ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقًا فيسكنه فضول الجنة » .

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ( 31 ) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ( 32 )

( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ ) قُرِّبت وأُدْنِيَت , ( لِلْمُتَّقِينَ ) الشرك , ( غَيْرَ بَعِيدٍ ) ينظرون إليها قبل أن يدخلوها.

( هَذَا مَا تُوعَدُونَ ) قرأ ابن كثير بالياء والآخرون بالتاء, يقال لهم: هذا الذي ترونه ما توعدون على ألسنة الأنبياء عليهم السلام, ( لِكُلِّ أَوَّابٍ ) رجاع إلى الطاعة عن المعاصي, قال سعيد بن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقال الشعبي ومجاهد: الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها. وقال الضحاك: هو التواب. وقال ابن عباس وعطاء: المسبح, من قوله: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ( سبأ- 10 ) وقال قتادة: المصلي. ( حَفِيظٍ ) قال ابن عباس: الحافظ لأمر الله, وعنه أيضًا: هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها. قال قتادة حفيظ لما استودعه الله من حقه. قال الضحاك: الحافظ على نفسه المتعهد لها. قال الشعبي: المراقب. قال سهل بن عبد الله: المحافظ على الطاعات والأوامر.

مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ( 33 ) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ( 34 ) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( 35 )

( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ) محل « من » جر على نعت الأواب. ومعنى الآية: من خاف الرحمن وأطاعه بالغيب ولم يره. وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد. قال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب. ( وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) مخلص مقبل إلى طاعة الله .

( ادْخُلُوهَا ) [ أي: يقال لأهل هذه الصفة: ادخلوها ] أي ادخلوا الجنة ( بِسَلامٍ ) بسلامة من العذاب والهموم. وقيل بسلام من الله وملائكته عليهم. وقيل: بسلامة من زوال النعم, ( ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) .

( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا ) , وذلك أنهم يسألون الله تعالى حتى تنتهي مسألتهم فيعطون ما شاؤوا, ثم يزيدهم الله من عنده ما لم يسألوه, وهو قوله: ( وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) , يعني الزيادة لهم في النعيم ما لم يخطر ببالهم. وقال جابر وأنس: هو النظر إلى وجه الله الكريم.

 

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ( 36 ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( 37 )

قوله عز وجل: ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ) , ضربوا وساروا وتقلبوا وطافوا, وأصله من النقب, وهو الطريق كأنهم سلكوا كل طريق, ( هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) فلم يجدوا محيصًا من أمر الله. وقيل: « هل من محيص » مفر من الموت؟ فلم يجدوا [ منه مفرًا, وهذا إنذار ] لأهل مكة وأنهم على مثل سبيلهم لا يجدون مفرًا عن الموت يموتون, فيصيرون إلى عذاب الله.

( إِنَّ فِي ذَلِكَ ) , فيما ذكرت من العبر وإهلاك القرى, ( لَذِكْرَى ) , تذكرة وعظة, ( لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) قال ابن عباس: أي عقل. قال الفراء : هذا جائز في العربية, تقول: ما لك قلب, وما قلبك معك, أي ما عقلك معك, وقيل: له قلب حاضر مع الله. ( أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ) , استمع القرآن, واستمع ما يقال له, لا يحدث نفسه بغيره, تقول العرب: ألق إليّ سمعك, أي استمع, ( وَهُوَ شَهِيدٌ ) , أي حاضر القلب ليس بغافل ولا ساه.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ( 38 ) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( 39 ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( 40 )

قوله عز وجل: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ) , إعياء وتعب.

نـزلت في اليهود حيث قالوا: يا محمد أخبرنا بما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة؟ فقال: « خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين, والجبال يوم الثلاثاء, والمدائن والأنهار والأقوات يوم الأربعاء, والسموات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات من يوم الجمعة, وخلق في أول الثلاث الساعات الآجال, وفي الثانية الآفة, وفي الثالثة آدم » , قالوا: صدقت إن أتممت, قال: وما ذاك؟ قالوا: ثم استراح يوم السبت, واستلقى على العرش, فأنـزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم .

( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) , من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد, وهذا قبل الأمر بقتالهم, ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) , أي: صلِّ حمدًا لله, ( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) , يعني: صلاة الصبح, ( وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ) , يعني: صلاة العصر. وروي عن ابن عباس قال: « قبل الغروب » الظهر والعصر.

( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) , يعني: صلاة المغرب والعشاء. وقال مجاهد: « ومن الليل » أي: صلاة الليل أي وقت صلي. ( وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) قرأ أهل الحجاز وحمزة « وإدبار السجود » بكسر الهمزة, مصدر أدبر إدبارًا, وقرأ الآخرون بفتحها على جمع الدبر.

قال عمر بن الخطاب, وعلي بن أبي طالب, والحسن, والشعبي, والنخعي, والأوزاعي: « أدبار السجود » الركعتان بعد صلاة المغرب, وأدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر. وهي رواية العوفي عن ابن عباس . وروي عنه مرفوعًا ، هذا قول أكثر المفسرين.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان, أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبد الجبار الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا أبو أيوب الدمشقي, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشدَّ مُعَاهدةً منه على الركعتين أمام الصبح .

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي, أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي, حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي, حدثنا أبو عيسى الترمذي, حدثنا صالح بن عبد الله, حدثنا أبو عوانة عن قتادة, عن زرارة بن أبي أوْفَى, عن سعيد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها » .

أخبرنا أبو عثمان الضبي, أخبرنا أبو محمد الجراحي, أخبرنا أبو العباس المحبوبي, حدثنا أبو عيسى الترمذي, حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا بدل بن المحبر, حدثنا عبد الملك بن معدان عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما أحصى ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل [ صلاة الفجر ] : بقل يا أيها الكافرون, وقل هو الله أحد .

قال مجاهد: « وأدبار السجود » هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات.

أخبرنا أبو الحسين طاهر بن الحسين الروقي الطوسي بها, أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن أيوب, أخبرنا مسدد, حدثنا خالد هو ابن عبد الله, حدثنا سهيل عن أبي عبيد عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سَبَّحَ في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين, وكَبَّر الله ثلاثًا وثلاثين, وحَمِدَ الله ثلاثًا وثلاثين, فذلك تسعة وتسعون, ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر » .

أخبرنا عبدالواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا إسحاق, أخبرنا يزيد، أخبرنا ورقاء عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم, قال: كيف ذاك؟ قالوا: صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا, وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال, قال: « أفلا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم, ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله: تسبحون في دبر كل صلاة عشرًا, وتحمدون عشرًا, وتكبرون عشرًا » .

قوله عز وجل: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ( 41 ) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ( 42 )

( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ ) , أي: واستمع يا محمد صيحة القيامة والنشور يوم ينادي المنادي, قال مقاتل: يعني إسرافيل ينادي بالحشر يا أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة, إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء ( مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ) من صخرة بيت المقدس, وهي وسط الأرض. قال الكلبي: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.

( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ) , وهي الصيحة الأخيرة, ( ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) , من القبور .

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ( 43 ) يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( 44 ) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ( 45 )

( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ) جمع سريع, أي: يخرجون سراعًا, ( ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا ) ، جمع علينا ( يَسِيرٌ ) .

( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ) , يعني: كفار مكة في تكذيبك, ( وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) , بمسلط تجبرهم على الإسلام إنما بعثت مُذَكِّرًا, ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ) أي: ما أوعدت به من عصاني من العذاب.

قال ابن عباس: قالوا: يا رسول الله لو خوفتنا, فنـزلت ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ) .

 

سورة الذاريات

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ( 1 ) فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ( 2 ) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ( 3 ) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ( 4 ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( 5 ) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ( 6 )

( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) يعني: الرياح التي تذرو التراب ذروًا, يقال: ذَرَت الريحُ الترابَ وأَذْرَت.

( فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ) يعني: السحاب تحمل ثقلا من الماء.

( فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ) هي السفن تجري في الماء جريًا سهلا.

( فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ) هي الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أُمروا به, أقسم بهذه الأشياء لما فيها من الدلالة على صنعه وقدرته.

ثم ذكر المقسَمَ عليه فقال: ( إِنَّما تُوعَدُونَ ) من الثواب والعقاب, ( لَصَادِقٌ ) .

( وَإِنَّ الدِّينَ ) [ الحساب والجزاء ] ( لَوَاقِعٌ ) لكائن. ثم ابتدأ قسمًا آخر فقال:

 

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ( 7 )

( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قال ابن عباس وقتادة وعكرمة: ذات الخلق الحسن المستوي, يقال للنسَّاج إذا نسج الثوب فأجاد: ما أحسن حبكه! قال سعيد بن جبير: ذات الزينة. قال الحسن: حبكت بالنجوم. قال مجاهد: هي المتقنة البنيان. وقال مقاتل والكلبي والضحاك: ذات الطرائق كحبك الماء إذا ضربته الريح, وحبك الرمل والشعر الجعد, ولكنها لا ترى لبعدها من الناس, وهي جمع حباك وحبيكة, وجواب القسم قوله:

إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ( 8 ) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ( 9 ) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ( 10 ) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ( 11 ) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ( 12 ) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( 13 ) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( 14 )

( إِنَّكُمْ ) أي: يا أهل مكة, ( لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ) في القرآن وفي محمد صلى الله عليه وسلم, تقولون في القرآن: سحر وكهانة وأساطير الأولين, وفي محمد صلى الله عليه وسلم: ساحر وشاعر ومجنون. وقيل: « لفي قول مختلف » أي: مصدق ومكذب.

( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) يصرف عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه, يعني: من حرمه الله الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن. وقيل « عن » بمعنى: من أجل, أي يصرف من أجل هذا القول المختلف أو بسببه عن الإيمان من صرف. وذلك أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان فيقولون: إنه ساحر وكاهن ومجنون, فيصرفونه عن الإيمان, وهذا معنى قول مجاهد.

( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) لعن الكذابون, يقال: تخرص على فلان الباطل, وهم المقتسمون الذين اقتسموا عِقَاب مكة, واقتسموا القول في النبي صلى الله عليه وسلم ليصرفوا الناس عن دين الإسلام. وقال مجاهد: هم الكهنة.

( الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ) غفلة وعمى وجهالة, ( سَاهُونَ ) لاهُون غافلون عن أمر الآخرة, والسهو: الغفلة عن الشيء, وهو ذهاب القلب عنه.

( يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) يقولون: يا محمد متى يوم الجزاء, يعني: يوم القيامة تكذيبًا واستهزاء.

قال الله عز وجل: ( يَوْمَ هُمْ ) أي يكون هذا الجزاء في يوم هم, ( عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) أي: يعذبون ويحرقون بها كما يفتن الذهب بالنار. وقيل: « على » بمعنى الباء أي بالنار, وتقول لهم خزنة النار: ( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ) .

( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ) عذابكم, ( هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) في الدنيا تكذيبًا به.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 15 ) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ( 16 ) كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ( 17 ) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( 18 )

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ ) أعطاهم, ( رَبُّهُمْ ) من الخير والكرامة, ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ ) قبل دخولهم الجنة, ( مُحْسِنِينَ ) في الدنيا.

( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) والهجوع النوم بالليل دون النهار, « وما » صلة, والمعنى: كانوا يهجعون قليلا من الليل, أي يصلون أكثر الليل.

وقيل: معناه كان الليل الذي ينامون فيه كله قليلا وهذا معنى قول سعيد بن جبير عن ابن عباس, يعني: كانوا قلَّ ليلة تمر بهم إلا صَلَّوا فيها شيئًا, إما من أولها أو من أوسطها. قال أنس بن مالك: كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء . وقال محمد بن علي: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة . قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: قل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها . قال مجاهد: كانوا لا ينامون كل الليل .

ووقف بعضهم على قوله: « قليلا » أي: كانوا من الناس قليلا ثم ابتدأ: « من الليل ما يهجعون » , وجعله جحدًا أي: لا ينامون بالليل البتة, بل يقومون للصلاة والعبادة, وهو قول الضحاك ومقاتل. ( وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) قال الحسن: لا ينامون من الليل إلا أقله, وربما نشطوا فمدوا إلى السحر, ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار . وقال الكلبي ومجاهد ومقاتل: وبالأسحار يصلون, وذلك أن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد المخلدي, أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج, حدثنا قتيبة, حدثنا يعقوب بن عبدالرحمن, عن سهيل بن أبي صالح, عن أبيه, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ينـزل الله إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول: أنا الملك أنا الملك, من الذي يدعوني فأستجيب له؟ من الذي يسألني فأعطيه؟ من الذي يستغفرني فأغفر له؟ » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان, حدثنا سليمان بن أبي مسلم عن طاوس سمع ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد, قال: « اللهم لك الحمد أنت قَيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهن, [ ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن, ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن ] ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق, ولقاؤك حق, وقولك حق, والجنة حق والنار حق, والنبيون حق, ومحمد صلى الله عليه وسلم حق, والساعة حق, اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت, وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت, فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت, أنت المقدم وأنت المؤخر, لا إله إلا أنت ولا إله غيرك » . قال سفيان: وزاد عبد الكريم أبو أمية: « ولا حول ولا قوة إلا بالله » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا صدقة, أخبرنا الوليد عن الأوزاعي, حدثني عمير بن هانىء, حدثني جنادة بن أبي أمية, حدثني عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, ثم قال: اللهم اغفر لي, أو دعا استجيب له, فإن توضأ وصلى قبلت صلاته » .

وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( 19 )

قوله عز وجل: ( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) السائل: الذي يسأل الناس, والمحروم: الذي ليس له في الغنائم سهم, ولا يجري عليه من الفيء شيء, هذا قول ابن عباس وسعيد بن المسيب, قالا [ المحروم الذي ] ليس له في الإسلام سهم, ومعناه في اللغة: الذي منع الخير والعطاء.

وقال قتادة والزهري: « المحروم » المتعفف الذي لا يسأل.

وقال زيد بن أسلم: هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته. وهو قول محمد بن كعب القرظي, قال: المحروم صاحب الجائحة ثم قرأ: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( الواقعة- 66- 67 ) .

وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ( 20 ) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ( 21 ) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( 22 ) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ( 23 )

( وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ ) عبر, ( لِلْمُوقِنِينَ ) إذا ساروا فيها من الجبال والبحار والأشجار والثمار وأنواع النبات. ( وَفِي أَنْفُسِكُمْ ) آيات, إذ كانت نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظمًا إلى أن نفخ فيها الروح.

وقال عطاء عن ابن عباس: يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع.

وقال ابن الزبير: يريد سبيل الغائط والبول يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من سبيلين.

( أَفَلا تُبْصِرُونَ ) [ قال مقاتل ] أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث.

( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ) قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: يعني المطر الذي هو سبب الأرزاق, ( وَمَا تُوعَدُونَ ) قال عطاء: من الثواب والعقاب. وقال مجاهد: من الخير والشر. وقال الضحاك: وما توعدون من الجنة والنار, ثم أقسم بنفسه فقال:

( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) أي: ما ذكرت من أمر الرزق لحق, ( مِثْلَ ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: « مثل » برفع اللام بدلا من « الحق » , وقرأ الآخرون بالنصب أي كمثل, ( مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) فتقولون: لا إله إلا الله. وقيل: شبه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق نطق الآدمي, كما تقول: إنه لحق كما أنت ها هنا, وإنه لحق كما أنك تتكلم, والمعنى: إنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة. قال بعض الحكماء: يعني: كما أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له, ولا يقدر أن يأكل رزق غيره.

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( 24 ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ( 25 ) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( 26 ) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ( 27 ) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ( 28 ) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ( 29 )

قوله عز وجل: ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ) , ذكرنا عددهم في سورة هود ( الْمُكْرَمِينَ ) , [ قيل: سماهم مكرمين ] لأنهم كانوا ملائكة كرامًا عند الله, وقد قال الله تعالى في وصفهم: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ( الأنبياء - 26 ) وقيل: لأنهم كانوا ضيف إبراهيم وكان إبراهيم أكرم الخليقة, وضيف الكرام مكرمون.

وقيل: لأن إبراهيم عليه السلام أكرمهم بتعجيل قراهم, والقيام بنفسه عليهم بطلاقة الوجه.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: خدمته إياهم بنفسه.

وروي عن ابن عباس: سَمَّاهم مكرمين لأنهم جاؤوا غير مدعوين. وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه » .

( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) , أي: غرباء لا نعرفكم, قال ابن عباس: قال في نفسه هؤلاء قوم لا نعرفهم. وقيل: إنما أنكر أمرهم لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض.

( فَرَاغَ ) , فعدل ومال , ( إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ) , مشوي.

( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ) , ليأكلوا فلم يأكلوا , ( قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ) , أي: صيحة, قيل: لم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان , وإنما هو كقول القائل: أقبل يشتمني, بمعنى أخذ في شتمي, أي أخذت تُوَلْوِلُ كما قال: قَالَتْ يَا وَيْلَتَى , ( هود- 72 ) , ( فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) , قال ابن عباس: لطمت وجهها. وقال الآخرون: جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجبًا, كعادة النساء إذا أنكرن شيئًا, وأصل الصك: ضرب الشيء بالشيء العريض.

( وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ) , مجازه: أتلد عجوز عقيم؟ وكانت سارة لم تلد قبل ذلك.

قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( 30 )

( قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ) , أي كما قلنا لك قال ربك إنك ستلدين غلامًا, ( إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) .

( قَالَ ) [ يعني إبراهيم ]