الجزء  الثامن والعشرون

 

سورة المجادلة

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 1 )

( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ) الآية. نـزلت في خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت، وكانت حسنة الجسم وكان به لمم فأرادها فأبت، فقال لها: أنت عليَّ كظهر أمي، ثم ندم على ما قال. وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية. فقال لها: ما أظنك إلا قد حرمت عليَّ. فقالت: والله ما ذاك طلاق، وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعائشة رضي الله عنها تغسل شق رأسه - فقالت: يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات مال وأهل حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني، وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمتِ عليه، فقالت: يا رسول الله والذي أنـزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقًا وإنه أبو ولدي وأحب الناس إليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليه، فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي قد طالت صحبتي ونفضت له بطني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلا قد حرمت عليه، ولم أومر في شأنك بشيء، فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليه هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي وإن لي صِبْيَةً صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليَّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنـزل على لسان نبيك، وكان هذا أول ظهار في الإسلام.

فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر. فقالت: انظر في أمري جعلني الله فداءك يا نبي الله، فقالت عائشة: أقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نـزل عليه أخذه مثل السبات - فلما قضى الوحي قال لها: ادعي زوجك فدعته، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قد سمع الله قول التي تجادلك » الآيات .

قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها إن المرأة لتحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى علي بعضه إذ أنـزل الله: « قد سمع الله » الآيات .

ومعنى قوله: ( قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ ) تخاصمك وتحاورك وتراجعك في زوجها ( وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ) مراجعتكما الكلام ( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) سميع لما تناجيه وتتضرع إليه، بصير بمن يشكو إليه، ثم ذم الظهار فقال: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ

الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( 2 )

( الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِم ) قرأ عاصم: « يظاهرون » فيها بضم الياء وتخفيف الظاء وألف بعدها وكسر الهاء. وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي: بفتح الياء والهاء، وتشديد الظاء وألف بعده. وقرأ الآخرون بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء من غير ألف.

( مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ) أي ما اللواتي يجعلونهن من زوجاتهم كالأمهات بأمهات. وخفض التاء في « أمهاتهم » على خبر « ما » ومحله نصب كقوله: مَا هَذَا بَشَرًا ( يوسف - 31 ) المعنى: ليس هن بأمهاتهم ( إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ ) أي ما أمهاتهم ( إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ ) لا يعرف في شرع ( وَزُورًا ) كذبا ( وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) عفا عنهم وغفر لهم بإيجاب الكفارة عليهم.

وصورة الظهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي، أو أنت مني أو معي أو عندي كظهر أمي، وكذلك لو قال: أنت عليَّ كبطن أمي أو كرأس أمي أو كيد أمي أو قال بطنك أو رأسك أو يدك علي كظهر أمي أو شبَّه عضوًا منها بعضوٍ آخر من أعضاء أمّه فيكون ظهارًا.

وعند أبي حنيفة - رضي الله عنه - إن شبهها ببطن الأم أو فرجها أو فخذها يكون ظهارًا وإن شبهها بعضو آخر لا يكون ظهارًا. ولو قال أنت علي كأمي أو كروح أمي وأراد به الإعزاز والكرامة فلا يكون ظهارًا حتى يريده، ولو شبهها بجدته فقال: أنت علي كظهر جدتي يكون ظهارًا وكذلك لو شبهها بامرأة محرّمة عليه بالقرابة بأن قال: أنت علي كظهر أختي أو عمتي أو خالتي أو شبهها بامرأة محرمة عليه بالرضاع يكون ظهارًا - على الأصح من الأقاويل - .

وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 3 )

( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ثم حُكْم الظهارِ: أنه يحرم على الزوج وطؤها بعد الظهار ما لم يكفّر، والكفارة تجب بالعَوْدِ بعد الظهار. لقوله تعالى: « ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة » .

واختلف أهل العلم في « العَوْد » فقال أهل الظاهر: هو إعادة لفظ الظهار، وهو قول أبي العالية لقوله تعالى: « ثم يعودون لما قالوا » أي إلى ما قالوا [ أي أعادوه مرة أخرى ] . فإن لم يكرر اللفظ فلا كفارة عليه.

وذهب قوم إلى أن الكفارة تجب بنفس الظهار، والمراد من « العود » هو: العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من نفس الظهار، وهو قول مجاهد والثوري.

وقال قوم: المراد من « العود » الوطء وهو قول الحسن وقتادة وطاووس والزهري وقالوا: لا كفارة عليه ما لم يطأها. وقال قوم: هو العزم على الوطء، وهو قول مالك وأصحاب الرأي.

وذهب الشافعي إلى أن العود هو أن يمسكها عقيب الظهار زمانا يمكنه أن يفارقها فلم يفعل، فإن طلقها عقيب الظهار في الحال أو مات أحدهما في الوقت فلا كفارة عليه لأن العود للقول هو المخالفة. وفسر ابن عباس « العود » بالندم، فقال: يندمون فيرجعون إلى الألفة، ومعناه هذا.

قال الفراء يقال: عاد فلان لما قال، أي فيما قال، وفي نقض ما قال يعني: رجع عما قال.

وهذا يبين ما قال الشافعي وذلك أن قصده بالظهار التحريم، فإذا أمسكها على النكاح فقد خالف قوله ورجع عما قاله فتلزمه الكفارة، حتى قال: لو ظاهر عن امرأته الرجعية ينعقد ظهاره ولا كفارة عليه حتى يراجعها فإن راجعها صار عائدا ولزمته الكفارة.

قوله: ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) والمراد بـ « التّماس » : المجامعة، فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر، سواء أراد التكفير بالإعتاق أو بالصيام أو بالإطعام، وعند مالك إن أراد التكفير بالإطعام يجوز له الوطء قبله، لأن الله تعالى قيد العتق والصوم بما قبل المسيس وقال في الإطعام: « فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا » ولم يقل: من قبل أن يتماسا. وعند الآخرين: الإطلاق في الإطعام محمول على المقيَّد في العتق والصيام.

واختلفوا في تحريم ما سوى الوطء من المباشرات قبل التكفير، كالقُبْلة والتلذذ: فذهب أكثرهم إلى أنه لا يحرم سوى الوطء، وهو قول الحسن، وسفيان الثوري وأظهر قولي الشافعي كما أن الحيض يحرم الوطء دون سائر الاستمتاعات.

وذهب بعضهم إلى أنه يحرم، لأن اسم « التماس » يتناول الكل، ولو جامع المظاهر قبل التكفير يعصي الله تعالى، والكفارة في ذمته. ولا يجوز أن يعود ما لم يكفر، ولا يجب بالجماع كفارة أخرى. وقال بعض أهل العلم: إذا واقعها قبل التكفير عليه كفارتان.

وكفارة الظهار مرتبة يجب عليه عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين، فإن أفطر يوما متعمدًا أو نسي النية يجب عليه استئناف الشهرين، فإن عجز عن الصوم يجب عليه أن يطعم ستين مسكينا. وقد ذكرنا في سورة المائدة مقدار ما يطعم كل مسكين . ( ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ) تؤمرون به ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 4 )

( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ) يعني الرقبة ( فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) فإن كانت له رقبة إلا أنه محتاج إلى خدمته، أو له ثمن رقبة لكنه محتاج إليه لنفقته ونفقة عياله فله أن ينتقل إلى الصوم. وقال مالك والأوزاعي: يلزمه الإعتاق إذا كان واجدًا للرقبة أو ثمنها وإن كان محتاجًا إليه. وقال أبو حنيفة: إن كان واجدًا لعينِ الرقبة يجب عليه إعتاقها وإن كان محتاجًا إليها فأما إذا كان واجدًا لثمن الرقبة وهو محتاج إليه فله أن يصوم، فلو شرع المظاهر في صوم شهرين ثم جامع في خلال الشهر بالليل يعصي الله تعالى بتقديم الجماع على الكفارة، ولكن لا يجب عليه استئناف الشهرين، وعند أبي حنيفة يجب عليه استئناف الشهرين.

قوله عز وجل: ( فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) يعني المظاهر إذا لم يستطع الصوم لمرض أو كبر أو فرط شهوة ولا يصبر عن الجماع يجب عليه إطعام ستين مسكينًا.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري حدثنا أحمد بن علي الكشميهني حدثنا علي بن حُجْر، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن أبي حرملة، عن عطاء بن يسار أن خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت، فظاهر منها وكان به لمم، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أوسًا ظاهر مني وذكرت أن به لممًا فقالت: والذي بعثك بالحق ما جئتك إلا رحمة له إن له فيَّ منافع، فأنـزل القرآن فيهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مُرِيهِ فليعتِقْ رقبة، قالت: والذي بعثك بالحق ما عنده رقبة ولا ثمنها قال: مريه فليصم شهرين متتابعين، فقالت: والذي بعثك بالحق لو كلفته ثلاثة أيام ما استطاع، قال: مريه فليطعم ستين مسكينًا قالت: والذي بعثك بالحق ما يقدر عليه، قال: مريه فليذهب إلى فلان ابن فلان فقد أخبرني أن عنده شطر تمر صدقة، فليأخذه صدقة عليه ثم ليتصدق به على ستين مسكينا » .

وروى سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لم يصب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئًا فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينما هي تحدثني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن وقعت عليها فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: أنتَ بذاك، فقلت: أنا بذاك - قاله ثلاثا - قلت: أنا بذاك وها أنا ذَا فأمضِ في حكم الله، فإني صابر لذلك، قال: فأَعْتِقْ رقبةً. فضربت صفحةَ عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أملك غيرها قال: فصم شهرين متتابعين، فقلت: يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا من الصيام؟ قال: فأطعم ستين مسكينًا قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه [ وحشين ] ما لنا عشاء، قال: اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقًا ستين مسكينًا ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك. قال: فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي قال: فدفعوها إليه .

( ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) لتصدقوا ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل، ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) يعني ما وصف من الكفارات في الظهار ( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) قال ابن عباس: لمن جحده وكذب به.

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 5 ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 6 )

( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي يعادون الله ورسوله ويشاقون ويخالفون أمرهما ( كُبِتُوا ) أذلوا وأخزوا وأهلكوا ( كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنـزلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ ) حفظ الله أعمالهم ( وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )

 

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 7 ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 8 )

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُون ) قرأ أبو جعفر بالتاء، لتأنيث النجوى، وقرأ الآخرون بالياء لأجل الحائل ( مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ ) أي من سرار ثلاثة، يعني من المسارّة، أي: ما من شيء يناجي به الرجل صاحبيه ( إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ ) بالعلم.

وقيل: معناه ما يكون من متناجين ثلاثة يسارّ، بعضهم بعضًا إلا هو رابعهم بالعلم، يعلم نجواهم ( وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) قرأ يعقوب: « أكثرُ » بالرفع على محل الكلام قبل دخول « مِنْ » ( ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ) نـزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم، يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم، فيحزنون لذلك ويقولون ما نراهم إلا وقد بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قَتْلٌ أو موت أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلما طال ذلك عليهم وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنـزل الله « ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى » أي المناجاة ( ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها ( وَيَتَنَاجَوْن ) قرأ الأعمش وحمزة: « وينتجون » على وزن يفتعلون، وقرأ الآخرون « يتناجون » لقوله: إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهاهم عن النجوى فعصوه ( وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ) وذلك أن اليهود كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ( وَيَقُولُون ) السام عليك. « والسام » : الموت، وهم يوهمونه أنهم يقولون: السلام عليك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول: عليكم، فإذا خرجوا قالوا: ( فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ) يريدون: لو كان نبيا حقا لعذبنا الله بما نقول، قال الله عز وجل: ( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ )

أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أبو أيوب عن ابن أبي مليكة، عن عائشة: « أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: السام عليك قال: وعليكم، فقالت عائشة: السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش، قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيَّ » .

ثم إن الله تعالى: نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 9 ) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 10 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ) أي كفعل المنافقين واليهود وقال مقاتل أراد بقوله: « آمنوا » المنافقين أي آمنوا بلسانهم. قال عطاء: يريد الذين آمنوا بزعمهم قال لهم: لا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ( وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) ( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ ) أي من تزيين الشيطان ( لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) أي إنما يزين لهم ذلك ليحزن المؤمنين ( وَلَيْسَ ) التناجي ( بِضَارِّهِمْ شَيْئًا ) وقيل: ليس الشيطان بضارهم شيئا ( إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ )

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار أخبرنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري حدثنا عبد الرزاق أخبرنا مَعْمَر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 11 )

قوله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا ) الآية قال مقاتل بن حيان: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس منهم يومًا وقد سُبِقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم وسلموا عليه فردَّ عليهم، ثم سلموا على القوم فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فلم يفسحوا لهم فشقَّ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن حوله: قم يا فلان وأنت يا فلان، فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم فأنـزل الله هذه الآية .

وقال الكلبي: نـزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وقد ذكرنا في سورة الحجرات قصته . وقال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنوا بمجلسهم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض .

وقيل: كان ذلك يوم الجمعة، فأنـزل الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا ) أي توسعوا في المجلس، قرأ الحسن وعاصم: « في المجالس » لأن الكل جالس مجلسًا معناه: ليتفسحْ كل رجل في مجلسه. وقرأ الآخرون: « في المجلس » على التوحيد لأن المراد منه مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ( فَافْسَحُوا ) أَوْسِعُوا، يقال: فسح يفسح فسحًا: إذا وسع في المجلس ( يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ) يوسع الله لكم الجنة والمجالس فيها.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يقيمنَّ أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا » .

أخبرنا عبد الوهاب بن الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا »

وقال أبو العالية، والقرظي والحسن: هذا في مجالس الحرب ومقاعد القتال، كان الرجل يأتي القوم في الصف فيقول توسعوا فيأبون عليه لحرصهم على القتال ورغبتهم في الشهادة ( وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) قرأ أهل المدينة والشام وعاصم بضم الشين وقرأ الآخرون بكسرهما وهما لغتان أي ارتفعوا قيل: ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسِّعُوا لإخوانكم. وقال عكرمة والضحاك: كان رجال يتثاقلون عن الصلاة إذا نودي لها فأنـزل الله تعالى هذه الآية معناه: إذا نودي للصلاة فانهضوا لها

وقال مجاهد وأكثر المفسرين: معناه: إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة وإلى الجهاد وإلى مجالس كل خير وحق فقوموا لها ولا تقصروا .

( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِين آمَنُوا مِنْكُمْ ) بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وقيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم ( وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) من المؤمنين بفضل علمهم وسابقتهم « درجات » فأخبر الله عز وجل أن رسوله صلى الله عليه وسلم مصيب فيما أمر وأن أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا وأن النفر من أهل بدر مستحقون لما عوملوا من الإكرام.

( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) قال الحسن: قرأ ابن مسعود هذه الآية وقال: أيها الناس افهموا هذه الآية ولنرغبنَّكم في العلم، فإن الله تعالى يقول: « يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات » المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات.

[ أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي حدثنا الإمام أبو الطيب سهل بن محمد ابن سليمان ] حدثنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الهروي أخبرنا محمد بن يونس القرشي أخبرنا عبيد الله بن داود، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة، حدثني داود بن جميل عن كثير بن قيس قال: كنت جالسًا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاء رجل فقال: يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما كانت لك حاجة غيره؟ قال: لا قال: ولا جئتَ لتجارة؟ قال: لا قال: ولا جئت إلا رغبة فيه؟ قال: نعم قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم، وإن السموات والأرض والحوت في الماء لتدعو له، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو علي الحسين بن أحمد بن إبراهيم السراج، أخبرنا الحسن ابن يعقوب العدل، حدثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء، حدثنا جعفر بن عون أخبرنا عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه، قال: « كلا المجلسين على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلِّمون الجاهل، فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلمًا ثم جلس فيهم » .

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 12 )

قوله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) أمام مناجاتكم، قال ابن عباس: وذلك أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثروا حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف على نبيه ويثبطهم ويردعهم عن ذلك فأمرهم أن يقدموا صدقةً على المناجاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم .

وقال مقاتل بن حيان: نـزلت في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره النبي صلى الله عليه وسلم طول جلوسهم ومناجاتهم، فلما رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئًا وأما أهل الميسرة فضنوا واشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنـزلت الرخصة .

قال مجاهد: نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجِهِ إلا علي رضي الله عنهُ تصدق بدينار وناجاهُ ثم نـزلت الرخصة فكان علي رضي الله عنه يقول: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي وهي آية المناجاة

وروي عن علي رضي الله عنه قال: لما نـزلت هذه الآية دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما ترى دينارًا؟ قلت: لا يطيقونهُ قال: فكم؟ قلت: حبة أو شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنـزلت: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ قال علي رضي الله تعالى عنه: فبي قد خفف الله عن هذه الأمة .

( ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ ) يعني: تقديم الصدقة على المناجاة ( وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يعني الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به معفو عنهم.

أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 13 ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 14 ) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 15 )

( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا ) قال ابن عباس: أبخلتم؟ والمعنى: أخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم ( بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ) ما أمرتم به ( وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) تجاوز عنكم ولم يعاقبكم بترك الصدقة، وقيل « الواو » صلة مجازه: فإن لم تفعلوا تاب الله عليكم ونسخ الصدقة [ قال مقاتل بن حيان : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ ] وقال الكلبي: ما كانت إلا ساعة من نهار.

( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) المفروضة ( وَآتُوا الزَّكَاةَ ) الواجبة ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) نـزلت في المنافقين تولوا اليهود وناصحوهم ونقلوا أسرار المؤمنين إليهم . وأراد بقوله: « غضب الله عليهم » اليهود ( مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) يعني المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاء، ولا من اليهود والكافرين، كما قال: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ( النساء - 143 ) ( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) قال السدي ومقاتل: نـزلت في عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجره إذ قال: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين فقال النبي صلى الله عليه وسلم « علام تشتمني أنت وأصحابك » ؟ فحلف بالله ما فعل وجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فأنـزل الله عز وجل هذه الآيات، فقال: « ويحلفون على الكذب وهم يعلمون » أنهم كَذَبَة .

( أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُواْ يَعمَلُونَ )

اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 16 ) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 17 ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( 18 ) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 19 ) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ( 20 ) كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 21 )

( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ ) الكاذبة ( جُنَّة ) يستجنُّون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم ( فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) صدوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ أموالهم ( فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ( لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ ) يوم القيامة ( أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ ) كاذبين ما كانوا مشركين ( كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) في الدنيا ( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ ) من أيمانهم الكاذبة ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) ( اسْتَحْوَذ ) غلب واستولى ( عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ ) الأسفلين. أي: هم في جملة من يلحقهم الذل في الدنيا والآخرة. ( كَتَبَ اللَّهُ ) قضى الله قضًاء ثابتًا ( لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [ نظيره ] قوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ( الصافات 171- 172 ) قال الزجاج: غلبة الرسل على نوعين: من بعث منهم بالحرب فهو غالب بالحرب، ومن لم يؤمر بالحرب فهو غالب بالحجة.

 

لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 22 )

قوله عز وجل ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) الآية. أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين وأن من كان مؤمنًا لا يوالي من كفر، وإن كان من عشيرته.

قيل: نـزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة وسيأتي في سورة الممتحنة إن شاء الله عز وجل.

وروى مقاتل بن حيان عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال: « ولو كانوا آباءهم » يعني: أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد « أو أبناءهم » يعني أبا بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز وقال: يا رسول الله دعني أكن في الرحلة الأولى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: متعنا بنفسك يا أبا بكر « أو إخوانهم » يعني: مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد « أو عشيرتهم » يعني عمر قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعليا وحمزة وعبيدة قتلوا يوم بدرعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة

( أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ) أثبت التصديق في قلوبهم فهي موقنة مخلصة، وقيل: حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنها موضعه ( وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) قواهم بنصر منه. قال الحسن: سمى نصره إياهم روحا لأن أمرهم يحيا به. وقال السدي: يعني بالإيمان. وقال الربيع: يعني بالقرآن وحجته، كما قال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ( الشورى - 52 ) وقيل برحمة منه. وقيل أمدهم بجبريل عليه السلام. ( وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )

 

سورة الحشر

مدنية

قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: قل: سورة النضير

بسم الله الرحمن الرحيم

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 )

( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) قال المفسرون: نـزلت هذه السورة في بني النضير وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فصالحته بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه فَقَبِل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وظهر على المشركين قالت بنو النضير: والله إنه النبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية، فلما غزا أحدًا وهُزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبًا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشًا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد صلى الله عليه وسلم ودخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد الحرام، وأخذ بعضهم على بعض الميثاقَ بين الأستار والكعبة، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة، ونـزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة - ذكرناه في سورة آل عمران .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في مُنْصَرَفِه من بئر معونة، فهمُّوا بطرح حجر عليه من فوق الحصن فعصمه الله وأخبره بذلك - ذكرناه في سورة المائدة .

فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير وكانوا بقرية يقال لها زهرة فلما سار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف فقالوا: يا محمد واعية على أثر واعية وباكية على أثر باكية؟ قال: نعم قالوا: ذرنا نبكي شجونًا ثم ائتَمِر أمرك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجوا من المدينة فقالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك فتنادوا بالحرب وآذنوا بالقتال ودس المنافقون - عبد الله بن أبي وأصحَابُه - إليهم: أن لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ولئن أخرجتم لنخرجن معكم. فدرِّبوا على الأزقة وحصِّنوها ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا إليه: أن اخرْج في ثلاثين رجلا من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان بيننا وبينك فيستمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبرًا من اليهود حتى إذا كانوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلا من أصحابه كلهم يحب أن يموت قبله؟ فأرسلوا إليه: كيف نفهم ونحن ستون رجلا ؟ اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيستمعوا منك فإن آمنوا بك آمنا كلنا بك وصدقناك فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه وخرج ثلاثة من اليهود واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أخوها سريعًا حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فسارّه بخبرهم قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم فقبلوا ذلك، فصالحهم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلَّت الإبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح، وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم .

وقال ابن عباس: على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم، ولنبي الله صلى الله عليه وسلم ما بقي.

وقال الضحاك: أعطي كل ثلاثة نفر بعيرًا وسقاة ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة منهم بالحيرة فذلك قوله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ( 2 )

( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) يعني بني النضير ( مِنْ دِيَارِهِمْ ) التي كانت بيثرب، قال ابن إسحاق: كان إجلاء بني النضير بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان. ( لأوَّلِ الْحَشْرِ ) قال الزهري: كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا .

قال ابن عباس: من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية فكان هذا أول حشر إلى الشام قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجوا قالوا إلى أين قال: إلى أرض المحشر، ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام .

وقال الكلبي: إنما قال: « لأول الحشر » لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب، ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قال مرة الهمداني: كان أول الحشر من المدينة، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحاء من الشام في أيام عمر.

وقال قتادة: كان هذا أول الحشر، والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا .

( مَا ظَنَنْتُمْ ) أيها المؤمنون ( أَنْ يَخْرُجُوا ) المدينة لعزتهم ومنعتهم، وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخيل كثيرة. ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ ) أي: وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله ( فَأَتَاهُمُ اللَّهُ ) أي أمر الله وعذابه ( مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) أنه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك ( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) بقتل سيدهم كعب بن الأشرف. ( يُخْرِبُونَ ) قرأ أبو عمرو: بالتشديد والآخرون بالتخفيف ومعناهما واحد ( بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) قال الزهري: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أن لهم ما أقلَّت الإبل كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينـزعون منها ما يستحسنونه فيحملونه على إبلهم، ويخرب المؤمنون باقيها قال ابن زيد: كانوا يقلعون العُمُد وينقضون السقوف وينقبون الجدران ويقلعون الخشب حتى الأوتاد يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون حسدًا منهم وبغضًا . قال قتادة: كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ويخربها اليهود من داخلها .

قال ابن عباس رضي الله عنهما: كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها لتتسع لهم المقاتل، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم في أدبارها فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم، ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك قوله عز وجل: ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا ) فاتعظوا وانظروا فيما نـزل بهم ( يَا أُولِي الأبْصَارِ ) يا ذوي العقول والبصائر.

وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ( 3 )

( وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ ) الخروج من الوطن ( لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ) بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة ( وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ )

 

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 4 ) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ( 5 )

( ذَلِكَ ) الذي لحقهم ( بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ) الآية. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نـزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح! أفمِنَ الصلاح عقر الشجر وقطع النخيل؟ فهل وجدت فيما زعمت أنه أنـزل عليك الفساد في الأرض؟ فوجد المسلمون في أنفسهم [ من قولهم وخشوا ] أن يكون ذلك فسادًا واختلفوا في ذلك فقال بعضهم: لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها فأنـزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر قال: حرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع البُويرة فنـزلت ( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ )

( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ ) أخبر الله في هذه الآية أن ما قطعوه وما تركوه فبإذن الله ( وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ )

واختلفوا في « اللينة » فقال قوم: النخل كلها لينة ما خلا العجوة [ وهو قول عكرمة وقتادة ورواه زاذان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع نخلهم إلا العجوة ] وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمرة: الألوان واحدها لون ولينة. وقال الزهري: هي ألوان النخل كلها إلا العجوة والبرنية.

وقال مجاهد وعطية: هي النخل كلها من غير استثناء. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهم: هي لون من النخل. وقال سفيان: هي كرام النخل.

وقال مقاتل هي ضرب من النخل يقال لثمرها اللَّون وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارج يغيب فيها الضرس وكان من أجود تمرهم وأعجبها إليهم وكانت النخلة الواحدة منها ثمنها ثمن وصيف وأحب إليهم من وصيف فلما رأوهم يقطعونها شق ذلك عليهم وقالوا للمؤمنين إنكم تكرهون الفساد في الأرض وأنتم تفسدون دعوا هذا النخل [ قائما هو لمن غلب عليها ] فأخبر الله تعالى أن ذلك بإذنه.

وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 6 ) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 7 )

( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ) أي رده على رسوله. يقال: أفاء يفيء أي رجع، وأفاء الله ( مِنْهُمْ ) أي من يهود بني النضير ( فَمَا أَوْجَفْتُمْ ) أوضعتم ( عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ ) يقال: وجف الفرس والبعير يجف وجيفًا وهو سرعة السير، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير، وأراد بالركاب الإبل التي تحمل القوم. وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسمها بينهم، كما فعل بغنائم خيبر، فبين الله تعالى في هذه الآية أنها فيء لم يوجف المسلمون عليها خيلا ولا ركابًا ولم يقطعوا إليها شقة ولا نالوا مشقة ولم يلقوا حربًا، ( وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فجعل أموال بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئًا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث ابن الصمة .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد ابن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني مالك بن أوس بن الحَدَثان النَّضْري، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعاه إذ جاءه حاجبه يَرْفَا فقال: هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون؟ قال: نعم فأدخلهم، فلبث يرفأ قليلا ثم جاء فقال: هل لك في عباس وعلي يستأذنان؟ قال: نعم فلما دخلا قال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا - وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بني النضير - فقال الرهط: يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر، قال: اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه؟ قالوا: قد قال ذلك، فأقبل عمر على علي وعباس، فقال أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك؟ قالا نعم قال: فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله كان خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره، فقال: « وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب » إلى قوله: « قَدِيرٌ » وكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم لقد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته، ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فعمل بها بما عمل به فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم حينئذ جميع وأقبل على علي وعباس: تذكران أن أبا بكر فعل فيه كما تقولان والله يعلم إنه فيها صادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله، أبا بكر، فقلت: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر والله يعلم إني فيه صادق بار راشد تابع للحق، ثم جئتماني كِلاكُما وكلمتكما واحدة، وأمركما جميع فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت: إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وبما عملت به فيها منذ وليتها وإلا فلا تكلماني فيها فقلتما: ادفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فإني أكفيكما . قوله عز وجل ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) يعني من أموال كفار أهل القرى، قال ابن عباس: هي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة ( فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) قد ذكرنا في سورة الأنفال حكم الغنيمة وحكم الفيء. إن مال الفيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته يضعه حيث يشاء وكان ينفق منه على أهله نفقة سنتهم ويجعل ما بقي مجعل مال الله .

واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قوم هو للأئمة بعده.

وللشافعي فيه قولان: أحدهما - هو للمقاتلة، والثاني: لمصالح المسلمين، ويبدأ بالمقاتلة ثم بالأهم فالأهم من المصالح.

واختلفوا في تخميس مال الفيء: فذهب بعضهم إلى أنه يخمَّس، فخمسه لأهل الغنيمة، وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح، وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد، ولجميع المسلمين فيه حق، قرأ عمر بن الخطاب: « ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى » حتى بلغ: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ . وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ثم قال: هذه استوعبت المسلمين عامة، وقال: ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم .

( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً ) قرأ العامة بالياء، « دولة » نصب أي لكيلا يكون الفيء دولة، وقرأ أبو جعفر: « تكون » بالتاء « دولة » بالرفع على اسم كان، أي: كيلا يكون الأمر إلى دولة، وجعل الكينونة بمعنى الوقوع وحينئذ لا خبر له. « والدُّوْلة » اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم ( بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) يعني بين الرؤساء والأقوياء، فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا اغتنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع، ثم يصطفي منها بعد المرباع ما شاء، فجعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم يقسمه فيما أمر به، ثم قال: ( وَمَا آتَاكُمُ ) أعطاكم ( آتَاكُمُ ) [ من الفيء والغنيمة ] ( فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ) الغلول وغيره ( فَانْتَهُوا ) وهذا نازل في أموال الفيء، وهو عام في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، عن محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه قد بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول: قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت: « وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا » ( الحشر - 7 ) ؟ قالت: بلى قال: فإنه قد نهى عنه ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ثم بين من له الحق في الفيء فقال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( 8 )

( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا ) رزقًا ( مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ) أي أخرجوا إلى دار الهجرة طلبًا لرضا الله عز وجل ( وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) في إيمانهم. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر وخرجوا حبًا لله ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من شدة، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها

أخبرنا محمد بن الحسن المروزي، أخبرنا أبو العباس الطحان، أخبرنا أبو أحمد بن محمد بن قريش بن سليمان، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي، أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام، حدثني عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أمية بن خالد بن عبد الله بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين. قال أبو عبيد: هكذا قال عبد الرحمن وهو عندي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد .

وروينا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك مقدار خمسمائة سنة » .

وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 9 )

( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ ) الأنصار تبوؤا الدار توطنوا الدار، أي: المدينة اتخذوها دار الهجرة والإيمان ( مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين.

ونظم الآية: والذين تبوؤا الدار من قبلهم أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم، وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان تبوء.

( يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً ) حزازة وغيظًا وحسدًا ( مِمَّا أُوتُوا ) أي مما أعطى المهاجرين دونهم من الفيء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط منها الأنصار فطابت أنفس الأنصار بذلك ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) أي يؤثرون على إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم ( وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون، وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم:

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا مسدد، حدثنا عبد الله بن داود عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستضافه فبعث إلى نسائه هل عندكن من شيء؟ فقلن ما معناه: إلا الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضم أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبيان فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك، إذا أرداوا عشاءً، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما فأنـزل الله عز وجل: « ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا فقالوا: تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها قال: « ألا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، فإنه سيصيبكم أثرة بعدي » .

وروي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار: « إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة » فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فأنـزل الله عز وجل: « ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون » .

« والشح » في كلام العرب: البخل ومنع الفضل، وفرّق العلماء بين الشح والبخل. روي أن رجلا قال لعبد الله بن مسعود: إني أخاف أن أكون قد هلكت، فقال: وما ذاك؟ قال: أسمع الله يقول: « ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون » وأنا رجل شحيح، لا يكاد يخرج من يدي شيء، فقال عبد الله: ليس ذاك بالشح الذي ذكر الله عز وجل في القرآن، ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلمًا ولكن ذاك البخل، وبئس الشيء البخل .

وقال ابن عمر: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له وقال سعيد بن جبير: « الشح » هو أخذ الحرام ومنع الزكاة وقيل: الشح هو الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم.

قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه، ولم يدعه الشح إلى أن يمنع شيئا من شيء أمره الله به فقد وقاه شح نفسه

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو سعد خلف بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي نـزار، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن حزاز القهندري، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق السعدي، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا القعنبي، حدثنا داود بن قيس الفراء عن عبيد الله بن مقسم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم »

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا أبي وشعيب قالا أخبرنا الليث عن يزيد ابن الهاد عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن أبي يزيد عن القعقاع هو ابن اللجلاج عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا » .

 

وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 10 ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 11 )

قوله عز وجل: ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ) يعني التابعين وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان والمغفرة فقال: ( يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا ) غشًا وحسدًا وبغضًا، ( لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) من كان في قلبه غِلّ على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاثة منازل: المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر الله، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجًا من أقسام المؤمنين.

قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: الفقراء المهاجرين والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا ابن نمير، حدثنا أبي عن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسببتموهم سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: « لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها » .

وقال مالك بن مغول: قال عامر بن شراحيل الشعبي: يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة [ بخصلة ] سئلت اليهود: مَنْ خير أهل ملتكم؟ فقالت: أصحاب موسى عليه السلام. وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: حواري عيسى عليه السلام. وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبُّوهم، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة .

قال مالك بن أنس: من يبغض أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين ثم تلا مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى حتى أتى على هذه الآية: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ... وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ ... ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ) إلى قوله: ( رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) . قوله عز وجل: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا ) أي أظهروا خلاف ما أضمروا: يعني: عبدَ الله بن أبيٍّ ابنَ سلولَ وأصحابه ( يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) اليهود من بني قريظة والنضير، جعل المنافقين إخوانهم في الدين لأنهم كفار مثلهم. ( لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ ) المدينة ( لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا ) يسألنا خذلانكم وخلافكم ( أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ ) يعني المنافقين ( لَكَاذِبُونَ )

لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ( 12 ) لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ( 13 ) لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ( 14 )

( لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ) وكان الأمر كذلك، فإنهم أخرجوا من ديارهم فلم يخرج المنافقون معهم، وقُوتلوا فلم ينصروهم: قوله تعالى: ( وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ) أي لو قدر وجود نصرهم. قال الزجَّاج: معناه لو قصدوا نصر اليهود لولوا الأدبار منهزمين ( ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) يعني بني النضير لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصرهم. ( لأنْتُمْ ) يا معشر المسلمين ( أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ) أي يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله ( ذَلِكَ ) أي ذلك الخوف منكم ( بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) عظمة الله. ( لا يُقَاتِلُونَكُمْ ) يعني اليهود ( جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ ) أي لا يبرزون لقتالكم إنما يقاتلونكم متحصنين بالقرى والجدران، وهو قوله: ( أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: « جدار » على الواحد، وقرأ الآخرون: « جدر » بضم الجيم والدار على الجمع. ( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) أي: بعضهم فظّ على بعض، وعداوة بعضهم بعضًا شديدة. وقيل: بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد، فإذا خرجوا لكم فهم أجبن خلق الله ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) متفرقة مختلفة، قال قتادة: أهل الباطل مختلفة أهواؤهم، مختلفة شهادتهم، مختلفة أعمالهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق. وقال مجاهد: أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود. ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 15 ) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( 16 )

( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يعني: مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم ( قَرِيبًا ) يعني مشركي مكة ( ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ) يعني القتل ببدر، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير، قاله مجاهد. وقال ابن عباس: كمثل الذين من قبلهم يعني بني قينقاع. وقيل: مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان. ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود جميعا في [ تخاذلهم ] فقال: ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ ) أي مثل المنافقين في غرورهم بني النضير وخذلانهم كمثل الشيطان ( إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ )

وذلك ما روى عطاء وغيره عن ابن عباس قال: كان راهب في الفترة يقال له « برصيصا » تعبد في صومعة له سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين وإن إبليس أعياه في أمره الحيل، فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال: ألا أجد أحدًا منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض - وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوس إليه على وجه الوحي فدفعه جبرائيل إلى أقصى أرض الهند - فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك أمره، فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في عشرة أيام مرة.

فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان، فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لم يجبه، فقال له: إنك ناديتني وكنت مشتغلا عنك، فما حاجتك؟ قال: حاجتي أني أحببت أن أكون معك، فأتأدب بك وأقتبس من عملك وعلمك، ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمنًا فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيبًا إن استجاب لي ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يومًا بعدها، فلما انفتل رآه قائمًا يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تأذن لي فأرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته، فأقام معه حولا يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يومًا ولا ينفتل عن صلاته إلا في كل أربعين يومًا مرة، وربما مدَّ إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض.

فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق فإن لي صاحبًا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادًا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت، فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته للذي رأى من شدة اجتهاده، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه يشفي الله بها السقيم ويعافي بها المبتلى والمجنون، قال برصيصا: إني أكره هذه المنـزلة لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إن علم به الناس شغلوني عن العبادة، فلم يزل به الأبيض حتى علمه. ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل.

قال: فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن بصاحبكم جنونًا أفأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إني لا أقوى على جنته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه، انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب، فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان، فكان الأبيض يفعل مثل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا، فيدعو فيعافون، فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل بين ثلاثة إخوة وكان أبوهم ملكهم، فمات واستخلف أخاه فكان عمها ملك بني إسرائيل، فعذبها وخنقها ثم جاء إليهم في صورة متطبب فقال لهم: أتريدون أن أعالجها؟ قالوا: نعم، قال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده إذا جاء شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت وتردونها صحيحة، قالوا: ومن هو؟ قال برصيصا، قالوا: وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأنًا من ذلك؟ قال: فانطلقوا فابنوا صومعة إلى جانب صومعته حتى تشرفوا عليه، فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعتها، ثم قولوا له هي أمانة عندك، فاحتسب فيها.

قال: فانطلقوا إليه فسألوه فأبى عليهم، فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ووضعوا الجارية في صومعته، وقالوا: هذه أختنا أمانة فاحتسب فيها، ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا عن صلاته عاين الجارية وما بها من الحسن والجمال، فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم، ثم أقبل في صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها، وكانت تكشف عن نفسها، فجاءه الشيطان وقال واقعها فستتوب بعد فتدرك ما تريد من الأمر، فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب؟ فإن سألوك فقل: ذهب بها شيطانها، فلم أقدر عليه. فدخل فقتلها، ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل، فجاء الشيطان وهو يدفنها ليلا فأخذ بطرف إزارها، فبقي طرف خارجًا من التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم، وكانوا يجيئون في طرف الأيام يسألون عنها ويوصونه بها، فقالوا: يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه، فصدَّقوه وانصرفوا فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال: ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا وإنه ودفنها في موضع كذا وكذا، فقال الأخ في نفسه: هذا حلم وهو من عمل الشيطان، فإن برصيصا خير من ذلك. قال: فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث. فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك فقال الأوسط مثل ما قاله الأكبر، فلم يخبر أحدًا، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال أصغرهم لأخويه: والله لقد رأيت كذا وكذا، وقال الأوسط: وأنا والله قد رأيت مثله وقال الأكبر: وأنا رأيت مثله، فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا: يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال: أليس قد أعلمتكم بحالها؟ فكأنكم اتهمتموني؟ فقالوا: والله لا نتهمك، واستحيوا منه فانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب. فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم، فمشوا في مواليهم وغلمانهم ومعهم الفئوس والمساحي فهدموا صومعته وأنـزلوه، ثم كتفوه فانطلقوا به إلى الملك فأقر على نفسه، وذلك أن الشيطان أتاه فقال: تقتلها ثم تكابر يجتمع عليك أمران: قتل ومكابرة اعترف. فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض فقال: يا برصيصا أتعرفني؟ قال: لا قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك، ويحك ما اتقيت الله في أمانتك ! خنت أهلها وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل، أما استحييت؟ فلم يزل يعيِّره، ثم قال في آخر ذلك: ألم يكفك ما صنعتَ حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وفضحت أشباهك من الناس؟ فإن مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك، قال: فكيف أصنع قال: تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم فأخرجك من مكانك ! قال: وما هي قال تسجد لي [ قال: ما أستطيع. قال: افعلْ ] فسجد له فقال: يا برصيصا هذا الذي كنت أردت منك، صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك، إني بريء منك « إني أخاف الله رب العالمين » .

 

فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ( 17 )

يقول الله تعالى ( فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا ) يعني الشيطان وذلك الإنسان ( أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ) قال ابن عباس: ضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة، وذلك أن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير عن المدينة فدسَّ المنافقون إليهم، وقالوا: لا تجيبوا محمدًا إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلكم فإنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم، فأجابوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين، حتى جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فناصبوه الحرب يرجون نصر المنافقين، فخذلوهم وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله، فكان عاقبة الفريقين النار.

قال ابن عباس رضي الله عنه: فكان الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتَّقِيَّة والكتمان، وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار، ورموهم بالبهتان والقبيح حتى كان أمر جريج الراهب، فلما برأه الله مما رموه به انبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس، وكانت قصة جريج على ما: أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني زهير بن حرب، حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا جرير بن حازم، حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم عليه السلام، وصاحب جريج، وكان جريج رجلا عابدًا فاتخذ صومعته فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته، فانصرفت فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أيْ رب أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات. »

فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننَّه لكم قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنـزلوه من صومعته وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغية فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به فقال دعوني حتى أصلي فصلى فلما انصرف أتى الصبي وطعن في بطنه وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا. وبينا صبي يرضع من أمه، فمرَّ رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل عليه ونظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله. ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع. قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فمه، فجعل يمصها.

قال: ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيتِ وسرقتِ، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهناك تراجعا الحديث، فقالت: مرّ رجل حسن الهيئة فقلتُ: اللهم اجعل ابني مثله، فقلتَ: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت، فقلتُ: اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلتَ: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذاك الرجل كان جبارًا فقلت اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيتِ، ولم تزنِ، وسرقتِ، ولم تسرقْ، فقلت: اللهم اجعلني مثلها « . »

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 18 ) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 19 ) لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ( 20 ) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( 21 )

قوله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) يعني ليوم القيامة، أي: لينظر أحدكم أي شيء قدم لنفسه، عملا صالحًا ينجيه أم سيئًا يوبقه؟ ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ ) تركوا أمر الله ( فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) [ أي حظوظ أنفسهم ] حتى لم يقدموا لها خيرا ( أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )

( لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ )

قوله عز وجل: ( لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) قيل: لو جعل في الجبل تمييز وأنـزل عليه القرآن لخشع وتشقق وتصدع من خشية الله مع صلابته ورزانته حذرًا من أن لا يؤدي حق الله عز وجل في تعظيم القرآن، والكافر يعرض عما فيه من العبر كأن لم يسمعها يصفه بقساوة القلب ( وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )

.

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( 22 ) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 23 )

( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) « الغيب » : ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموهُ والشهادة ما شاهدوه وما علموه ( هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ) الطاهر من كل عيب المنـزه عما لا يليق به ( السَّلامُ ) الذي سلم من النقائص ( الْمُؤْمِنُ ) قال ابن عباس: هو الذي أمن الناس من ظلمه وأمن من آمن به من عذابه، هو من الأمان الذي هو ضد التخويف كما قال: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ( قريش - 4 ) وقيل: معناه المصدق لرسله بإظهار المعجزات، والمصدق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب، وللكافرين بما أوعدهم من العقاب.

( الْمُهَيْمِنُ ) الشهيد على عباده بأعمالهم، وهو قول ابن عباس، ومجاهد وقتادة والسدي ومقاتل. يقال: هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيبًا على الشيء وقيل: هو في الأصل مؤيمن قلبت الهمزة هاء، كقولهم: أرقت وهرقت ومعناه المؤمن. وقال الحسن: الأمين. وقال الخليل: هو الرقيب الحافظ. وقال ابن زيد: المصدق. وقال سعيد بن المسيب والضحاك: القاضي. وقال ابن كيسان: هو اسم من أسماء الله تعالى في الكتب والله أعلم بتأويله.

( الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ ) قال ابن عباس: « الجبار » هو العظيم، وجبروت الله عظمته، وهو على هذا القول صفة ذات الله، وقيل: هو من الجبر وهو الإصلاح يقال: جبرت الأمر، وجبرت العظم إذا أصلحته بعد الكسر، فهو يغني الفقير ويُصلح الكسير. وقال السدي ومقاتل: هو الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما أراد. وسئل بعضهم عن معنى الجبار فقال: هو القهار الذي إذا أراد أمرًا فعله لا يحجزه عنه حاجز.

( الْمُتَكَبِّرُ ) الذي تكبر عن كل سوء. وقيل: المتعظم عما لا يليق به. وأصل الكبر، والكبرياء: الامتناع. وقيل: ذو الكبرياء، وهو الملك ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 24 )

( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ ) المقَدِّر والمقلب للشيء بالتدبير إلى غيره، كما قال: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ( الزمر - 6 ) ( الْبَارِئُ ) المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود ( الْمُصَوِّرُ ) الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض. يقال: هذه صورة الأمر أي مثاله، فأولا يكون خلقًا ثم بَرْءًا ثم تصويرًا. ( لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن شيبة، حدثنا ابن وهب، حدثنا أحمد بن أبي شريح وأحمد بن منصور الرمادي قالا أخبرنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا خالد بن طهمان، حدثني نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من قال حين يصبح - ثلاث مرات - أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر وكَّلَ الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا، ومن قال حين يمسي كان بتلك المنـزلة » .

ورواه أبو عيسى عن محمود بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري بهذا الإسناد، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه

 

 

سورة الممتحنة

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 1 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ) الآية.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، أخبرني الحسن بن محمد أنه سمع عبد الله بن أبي رافع يقول سمعت عليا رضي الله عنه يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: « انطلقوا حتى تأتوا ( روضة خاخ ) فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها » قال: فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتُخْرِجَنَّ الكتاب أو لتلقين الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرًأ ملصقًا في قريش - يقول كنت حليفًا ولم أكن من أنفسها- وكان مَنْ معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت - إذ فاتني ذلك من النسب فيهم- أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقكم، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله اطلع على [ من شهد بدرًا ] فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فأنـزل الله تعالى هذه السورة: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تُلقون إليهم بالمودة » إلى قوله: « سواء السبيل » .

قال المفسرون: نـزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة كما جاء في الحديث، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة من مكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسلمة جئت؟ قالت: لا قال أمهاجرة جئت؟ قالت: لا قال: فما جاء بك قالت: كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت مواليَّ وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني، فقال لها: وأين أنت من شبان مكة؟ وكانت مغنية نائحة، قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها نفقة وكسوها وحملوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى، فكتب معها إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير، وكساها بُرْدًا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة، وكتب في الكتاب: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم، فخذوا حِذْركم.

فخرجت سارة، ونـزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا وعمارًا والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد فرسانًا فقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا « روضة خاخ » فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فخذوا منها وخلوا سبيلها وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها.

قال: فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها كتاب، فبحثوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابًا فهمُّوا بالرجوع، فقال علي رضي الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلَّ سيفه فقال: أخرجي الكتاب وإلا لأجردنك ولأضربن عنقك. فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها وكانت قد خبأته في شعرها فخلوا سبيلها ولم يتعرضوا لها ولا لما معها فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب، فأتاه فقال: هل تعرف الكتاب؟ قال: نعم قال: فما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته، وكنت غريبًا فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدًا، وقد علمت، أن الله ينـزل بهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره.

فقام عمر بن الخطاب فقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ فأنـزل الله عز وجل في شأن حاطب: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء » .

( تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) قيل: أي المودة، « والباء » زائدة، كقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ( الحج- 25 ) وقال الزّجَّاج: معناه تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وسِرَّه بالمودة التي بينكم وبينهم ( وَقَدْ كَفَرُوا ) « الواو » للحال، أي: وحالهم أنهم كفروا ( بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ) يعني القرآن ( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ) من مكة ( أَنْ تُؤْمِنُوا ) أي لأن آمنتم، كأنه قال: يفعلون ذلك لإيمانكم ( بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ ) هذا شرط جوابه متقدم وهو قوله: « لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق إن كنتم خرجتم » ( جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) قال مقاتل: بالنصيحة ( وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ ) من المودة للكفار ( وَمَا أَعْلَنْتُمْ ) أظهرتم بألسنتكم ( وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) أخطأ طريق الهدى.

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ( 2 )

( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ ) يظفروا بكم ويروكم ( يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ) بالضرب والقتل ( وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ) بالشتم ( وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ) كما كفروا. يقول: لا تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم ولا يوادُّونكم.

لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 3 ) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 4 )

( لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ ) معناه: لا يَدْعُوَنَّكم ولا يحملَّنكم ذوو أرحامكم وقراباتكم وأولادكم الذين بمكة إلى خيانة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وترك مناصحتهم وموالاة أعدائهم فلن تنفعكم أرحامكم ( وَلا أَوْلادُكُمْ ) الذين عصيتم الله لأجلهم ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ) فيدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار. قرأ عاصم ويعقوب ( يَفْصِلُ ) بفتح الياء وكسر الصاد مخففًا، وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الصاد مشددًا، [ وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح الصاد مشددًا ] وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الصاد مخففًا. ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ ) قدوة ( حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) من أهل الإيمان ( إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ ) من المشركين ( إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ ) جمع بريء ( وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ ) جحدنا وأنكرنا دينكم ( وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ) يأمر حاطبًا والمؤمنين بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، والذين معه من المؤمنين في التبرؤ من المشركين ( إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ) يعني: لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان قد قال لأبيه: لأستغفرن لك، ثم تبرأ منه - على ما ذكرناه في سورة التوبة- ( وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) يقول إبراهيم لأبيه: ما أغني عنك ولا أدفع عنك عذاب الله إن عصيتَه وأشركتَ به ( رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا ) يقوله إبراهيم ومن معه من المؤمنين ( وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )

رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 5 )

( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) قال الزَّجَاج: لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق فيفتنوا وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم ذلك ( وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )

 

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 6 ) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 7 ) لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 8 )

( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ ) أي في إبراهيم ومن معه ( أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ) هذا بدل من قوله « لكم » وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة ( وَمَنْ يَتَوَلَّ ) يُعْرِض عن الإيمان ويوال الكفار ( فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ ) عن خلقه ( الْحَمِيدُ ) إلى أوليائه وأهل طاعته.

قال مقاتل: فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة. ويعلم الله شدة وجد المؤمنين بذلك فأنـزل الله ( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ ) أي من كفار مكة ( مودة ) ففعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم، فصاروا لهم أولياء وإخوانًا، وخالطوهم وناكحوهم ( وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ثم رخص الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال: ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ ) أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم ( وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ) تعدلوا فيهم بالإحسان والبر ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) قال ابن عباس: نـزلت في خزاعة كانوا قد صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدًا، فرخص الله في برهم.

وقال عبد الله بن الزبير: نـزلت في أسماء بنت أبي بكر، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها المدينة بهدايا، ضِبابًا وأقطًا وسمنًا، وهي مشركة، فقالت أسماء: لا أقبل منك هدية ولا تدخلي عليَّ بيتي حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنـزل الله هذه الآية فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منـزلها وتقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة، حدثنا حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدتهم مع أبيها فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال: صليها .

وروي عن ابن عيينة قال: فأنـزل الله فيها « لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين » . ثم ذكر الذين نهاهم عن صلتهم فقال: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ

إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 9 )

( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ ) وهم مشركو مكة ( أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 10 )

قوله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) الآية.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ، كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يأتيك منا أحد - وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه. فكره المؤمنون ذلك وأبي سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرد النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحدٌ من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلمًا، وجاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مهاجرة وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنـزل الله فيهن: « إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن » إلى « ولا هم يحلون لهن »

قال عروة فأخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ .

قال عروة: قالت عائشة رضي الله عنها: فمن أقرت بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايعتك كلامًا يكلمها به، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ما بايعهن إلا بقوله .

قال ابن عباس: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرًا حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه إليه، وكتبوا بذلك كتابًا وختموا عليه، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مُسْلِمةً بعد الفراغ من الكتاب، فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم - وقال مقاتل هو: صيفي بن الراهب- في طلبها، وكان كافرًا، فقال: يا محمد ردَّ علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف بعد، فأنـزل الله عز وجل: « يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات » من دار الكفر إلى دار الإسلام ( فَامْتَحِنُوهُنَّ )

قال ابن عباس: امتحانها: أن تستحلف ما خرجت لبغض زوجها ولا عشقًا لرجل من المسلمين، ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا لحدثٍ أحدثته ولا لالتماس دنيا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحبًا لله ولرسوله.

قال فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فحلفت فلم يردَّها، وأعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها؛ فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يرد من جاءه من الرجال ويحبس من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطي أزواجهن مهورهن.

( اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ) [ أي هذا الامتحان لكم، والله أعلم بهنَّ ] ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) ما أحل الله مؤمنة لكافر ( وَآتُوهُمْ ) يعني أزواجهن الكفار ( مَا أَنْفَقُوا ) عليهن يعني المهر الذي دفعوا إليهن ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) أي مهورهن، أباح الله نكاحهن للمسلمين، وإن كان لهن أزواج في دار الكفر لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفار ( وَلا تُمْسِكُوا ) [ قرأ أبو عمرو ويعقوب: بالتشديد، والآخرون: بالتخفيف، من الإمساك ] ( بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) « والعِصَم » : جمع العصمة، وهي ما يعتصم به من العقد والنسب. « والكوافر » : جمع الكافرة.

نهى الله المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات، يقول: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما.

قال الزهري: فلما نـزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة مشركتين: قُرَيْبَة بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما بمكة، والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم ابنه عبد الله بن عمر، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم، وهما على شركهما. وكانت أروى بنت ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب تحت طلحة بن عبيد الله، فهاجر طلحة وهي بمكة على دين قومها ففرق الإسلام بينهما فتزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية .

قال الشعبي: وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأقام أبو العاص بمكة مشركًا، ثم أتى المدينة فأسلم، فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم

( وَاسْأَلُوا ) أيها المؤمنون ( مَا أَنْفَقْتُمْ ) أي: إن لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة فاسألوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم ( وَلْيَسْأَلُوا ) يعني: المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم ( مَا أَنْفَقُوا ) من المهر ممن تزوجها منكم ( ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) قال الزهري: لولا الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ولم يرّد الصداق، وكذلك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد فلما نـزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله عز وجل وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمروا به من أداء نفقات المسلمين [ على نسائهم ] فأنـزل الله عز وجل: وَإِنْ فَاتَكُمْ

وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 11 )

( وَإِنْ فَاتَكُمْ ) أيها المؤمنون ( شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ) فلحقن بهم مرتدات ( فَعَاقَبْتُمْ ) قال المفسرون: معناه غنمتم، أي غزوتم فأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة، وقيل: ظهرتم وكانت العاقبة لكم، وقيل: أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم، قرأ حميد الأعرج « فعقَّبتم » بالتشديد، وقرأ الزهري: « فعقَبتم » خفيفة بغير ألف وقرأ مجاهد « فأعقبتم » أي صنعتم بهم كما صنعوا بكم. وكلها لغات بمعنى واحد، يقال: عاقب وعقَّب وعقَب، وأعَقب وتعقَّب وتعاقب واعتقب: إذا غنم. وقيل: « التعقيب » : غزوة بعد غزوة ( فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ ) إلى الكفار منكم ( مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا ) عليهن من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار. وقيل: فعاقبتم المرتدة بالقتل.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لحق بالمشركين من نساء المؤمنين والمهاجرين ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان وكانت تحت عياض بن شداد الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية ابن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت، وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان، وعزة بن عبد العزيز بن نضلة، وزوجها عمرو ابن عبدود، وهند بنت أبي جهل بن هشام، كانت تحت هشام بن العاص بن وائل، وأم كلثوم بنت جرول، كانت تحت عمر بن الخطاب، فكلهن رَجَعْن عن الإسلام، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة .

( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) واختلف القول في أن رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن، كان واجبًا أو مندوبًا؟ .

وأصله أن الصلح هل كان وقع على ردِّ النساء؟ فيه قولان: أحدهما أنه وقع على رد الرجال والنساء جميعا لِما روينا: أنه لا يأتيك منّا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ثم صار الحكم في رد النساء منسوخًا بقوله: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ فعلى هذه كان رد المهر واجبًا.

والقول الآخر: أن الصلح لم يقع على رد النساء، لأنه روي عن علي: أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوِّفت، وأكرهت عليها لضعف قلبها وقلة هدايتها إلى المخرج منها بإظهار كلمة الكفر مع التورية، وإضمار الإيمان ولا يخشى ذلك على الرجل لقّوته وهدايته إلى التقية، فعلى هذا كان رد المهر مندوبًا. واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار؟ فقال قوم: لا يجب، وزعموا أن الآية منسوخة، وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة. وقال قوم: هي غير منسوخة ويرد إليهم ما أنفقوا.

 

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 12 )

قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ) الآية. وذلك يوم فتح مكة لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال، وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه، وهو يبايع النساء بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغهن عنهُ وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبايعكن « على أن لا تشركن بالله شيئًا » فرفعت هند رأسها وقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال، وبايع الرجال يومئذ على الإسلام، والجهاد فقط فقال النبي صلى الله عليه وسلم « ولا يسرقن » فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات، فلا أدري أيحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك، فقال: « ولا يزنين » فقالت هند: أو تزني الحرة؟ فقال: « ولا يقتلن أولادهن » فقالت هند: ربيناهن صغارًا وقتلتموهم كبارًا فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر، فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن » - وهي أن تقذف ولدًا على زوجها ليس منه- قالت هند: والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: « ولا يعصينك في معروف » قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. فأقَّر النسوة بما أخذ عليهن قوله عز وجل: ( وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ) أراد وأد البنات الذي كان يفعله أهل الجاهلية قوله ( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) ليس المراد منه نهيهن عن الزنا لأن النهي عن الزنا قد تقدم ذكره، بل المراد منه أن تلتقط مولودًا وتقول لزوجها هذا ولدي منك فهو البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن لأن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها. قوله ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) أي في كل أمر وافق طاعة الله. قال بكر بن عبد الله المزني: في كل أمر فيه رشدهن. وقال مجاهد: لا تخلو المرأة بالرجال. وقال سعيد بن المسيب والكلبي وعبد الرحمن بن زيد: هو النهي عن النوح والدعاء بالويل وتمزيق الثوب وحلق الشعر ونتفه وخمش الوجه، ولا تحدِّث المرأة الرجال إلا ذا محرم، ولا تخلو برجل غير ذي محرم، ولا تسافر إلا مع ذي محرم.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا « أن لا يشركن بالله شيئا » ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأةٌ يدها فقالت: أسعَدْتني فلانة أريد أن أجزيها فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فانطلقت ورجعت وبايعها

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري، حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق، حدثنا أبو يعلى الموصلي، حدثنا هُدْبَة بن خالد، حدثنا أبان بن يزيد، حدثنا يحيى بن أبي كثير أن زيدًا حدثه أن أبا سلام حدثه أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم والنياحة » . وقال: « النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب »

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن حفص، حدثنا أبي أخبرنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية » قوله: ( فَبَايِعْهُنَّ ) يعني إذا بايعنك فبايعهن ( وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني محمود، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: « لا يشركن بالله شيئا » قالت: وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَ امرأة إلا امرأة يملكها

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، أخبرنا مكي بن عبدان، حدثنا عبد الرحمن بن بشر، حدثنا سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، سمع أميمة بنت رقية تقول: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة، فقال لنا: فيما استطعتن وأطقتن، فقلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم بنا من أنفسنا قلت: يا رسول الله بايعنا قال سفيان: يعني صافحنا فقال: « إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة »

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( 13 )

قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) وهم اليهود، وذلك أن أناسًا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين يتوصلون إليهم بذلك فيصيبون من ثمارهم، فنهاهم الله عن ذلك ( قَدْ يَئِسُوا ) يعني هؤلاء اليهود ( مِنَ الآخِرَةِ ) بأن يكون لهم فيها ثواب وخير ( كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) أي: كما يئس الكفار الذين ماتوا وصاروا في القبور من أن يكون لهم حظ وثواب في الآخرة. قال مجاهد: الكفار حين دخلوا قبورهم أيسوا من رحمة الله. قال سعيد بن جبير: يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار الذين ماتوا فعاينوا الآخرة. وقيل: كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم.

 

سورة الصف

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ( 2 ) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ( 3 )

( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) قال المفسرون: إن المؤمنين قالوا: لو علمنا أحب الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه، ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا. فأنـزل الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا فابتلوا بذلك يوم أحد فولوا مدبرين، فأنـزل الله تعالى « لِمَ تقولون ما لا تفعلون »

وقال محمد بن كعب: لما أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر، [ قالت الصحابة ] لئن لقينا بعده قتالا لنُفْرِغَنَّ فيه وسعنا ففروا يوم أحد فعيَّرهم الله بهذه الآية

وقال قتادة والضحاك: نـزلت في [ شأن ] القتال، كان الرجل يقول: قاتلت ولم يقاتل وطعنت ولم يطعن، وضربت ولم يضرب، فنـزلت هذه الآية قال ابن زيد: نـزلت في المنافقين كانوا يعدون النصر للمؤمنين وهم كاذبون ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ) في موضع الرفع فهو كقولك: بئس رجلا أخوك، ومعنى الآية: أي عَظُمَ ذلك في المَقْت والبغض عند الله، أي: إن الله يبغض بغضًا شديدًا أن تقولوا ( مَا لا تَفْعَلُونَ ) أن تعِدوا من أنفسكم شيئا ثم لم توفوا به.

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ( 4 ) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 5 )

( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً ) أي يصفُّون أنفسهم عند القتال صفًا ولا يزولون عن أماكنهم ( كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) قد رُصَّ بعضه ببعض [ أي ألزق بعضه ببعض ] وأحكم فليس فيه فرجة ولا خلل. وقيل كالرصاص. ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ) من بني إسرائيل: ( يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي ) وذلك حين رموه بالأدرة ( وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) والرسول يعظم [ ويكرم ] ويحترم ( فَلَمَّا زَاغُوا ) عدلوا عن الحق ( أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) أمالها عن الحق، يعني أنهم لما تركوا الحق بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عن الحق ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) قال الزجَّاج: يعني لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق.

 

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 6 ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 7 ) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( 8 ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( 9 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 10 ) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 11 ) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12 )

( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) والألف فيه للمبالغة في الحمد، وله وجهان: أحدهما: أنه مبالغة من الفاعل، أي الأنبياء كلهم حمادون لله عز وجل، وهو أكثر حمدًا لله من غيره، والثاني: أنه مبالغة في المفعول، أي الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو [ أكثرهم مبالغة ] وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها. ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

( وَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُوَ يُدعَى إِلَى الإسلامِ واللَّه لا يَهِدي القَومَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفوَاهِهِم وَاللَّهُ مُتِمُ نُورِهِ وَلَوَ كَرِهَ الكَافِرُون ) .

( هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ ) .

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ ) . قرأ ابن عامر « تُنْجيكم » بالتشديد والآخرون بالتخفيف ( مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) . نـزل هذا حين قالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه وجعل ذلك بمنـزلة التجارة لأنهم يربحون بها رضا الله ونيل جنته والنجاة من النار. ثم بين تلك التجارة فقال:

( تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 13 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ( 14 )

( وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ) . أي: ولكم خصلة أخرى في العاجل مع ثواب الآخرة تحبونها وتلك الخصلة: ( نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ) . قال الكلبي: هو النصر على قريش، وفتح مكة. وقال عطاء: يريد فتح فارس والروم. ( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) . يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة. ثم حضَّهم على نصر الدين وجهاد المخالفين فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ ) . قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو: « أنصارًا » بالتنوين « لله » بلام الإضافة، وقرأ الآخرون: « أنصار الله » مضافا لقوله: « نحن أنصار الله » .

( كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ ) . أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى عليه السلام: ( مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ) . ؟ أي: من ينصرني مع الله؟ ( قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ) . قال ابن عباس: يعني في زمن عيسى عليه السلام، وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق: فرقة قالوا: كان الله فارتفع، وفرقة قالوا: كان ابن الله فرفعه الله إليه، وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه وهم المؤمنون، واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس، فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى: ( فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ) . عالين غالبين. وروى مغيرة عن إبراهيم قال: فأصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى كلمة الله وروحه .

 

سورة الجمعة

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 ) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 2 ) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 3 )

( يسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الامِّيِّينَ ) يعني العرب كانت أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ ( رَسُولا مِنْهُمْ ) يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم نسبُه نسبُهم [ ولسانه لسانهم ليكون أبلغ في إقامة الحجة عليهم ] ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيزَكِّيهِمْ وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي ما كانوا قبل بعثة الرسول إلا في ضلال مبين يعبدون الأوثان. ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ) وفي « آخرين » وجهان من الإعراب: أحدهما الخفض، على الرد إلى الأميين مجازه: وفي آخرين. والثاني النصب، على الرد إلى الهاء والميم في قوله « ويعلمهم » أي: ويعلم آخرين منهم، أي من المؤمنين الذين يدينون بدينهم، لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم، فإن المسلمين كلهم أمة واحدة.

واختلف العلماء فيهم، فقال قوم: هم العجم، وهو قول ابن عمر وسعيد بن جبير ورواية ليث عن مجاهد، والدليل عليه ما: أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن محمد المعلم الطوسي بها حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب، أخبرنا أبو النصر محمد بن محمد بن يوسف، حدثنا الحسين بن سفيان، وعلي بن طيفور، وأبو العباس الثقفي قالوا: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد العزيز، عن ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نـزلت سورة الجمعة، فلما قرأ: « وآخرين منهم لما يلحقوا بهم » قال رجل: مَنْ هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرتين أو ثلاثا قال: وفينا سليمان الفارسي قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان، ثم قال: « لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء »

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق الدبري، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن جعفر الجزري عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو كان الدين عند الثريا لذهب إليه رجل، أو قال: رجال، من أبناء فارس حتى يتناولوه » وقال عكرمة ومقاتل: هم التابعون. وقال ابن زيد: هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة وهي رواية [ ابن ] أبي نجيح عن مجاهد. قوله ( لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) أي [ لم ] يدركوهم ولكنهم يكونون بعدهم. وقيل: « لما يلحقوا بهم » أي في الفضل والسابقة لأن التابعين لا يدركون شأو الصحابة. ( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )

ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 4 ) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 5 )

( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ) يعني الإسلام والهداية. ( وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) قوله عز وجل: ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ) أي كُلِّفوا القيام بها والعمل بما فيها ( ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ) لم يعملوا بما فيها ولم يؤدُّوا حقها ( كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) أي كتبًا من العلم، واحدها سفر، قال الفراء: هي الكتب العظام يعني كما أن الحمار يحملها ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود يقرؤن التوراة ولا ينتفعون بها لأنهم خالفوا ما فيها ( بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء عليهم السلام، يعني من سبق في علمه أنه لا يؤمن لا يهديهم.

قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 6 ) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( 7 ) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 8 )

( قُلْ يَا أَيهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ ) من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ( فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ) فادعُوا بالموت على أنفسكم ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ، أنكم أبناء الله وأحباؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه. ( وَلا يَتَمَنَّونَهُ أَبَدَا بِمَا قَدَّمَتْ أَيديِهم وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم ثُمَّ تُرَدَّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيبِ والشَّهَادَةِ فَينَبِئُكُم بِمَا كُنتُم تَعْمَلُونَ )

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 9 )

قوله عز وجل: ( يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ) أي في يوم الجمعة كقوله: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ [ أي في الأرض ] وأراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزَّوراء قرأ الأعمش: « من يوم الجمعة » بسكون الميم، وقرأ العامة بضمها.

واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة، منهم من قال: لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم عليه السلام. وقيل: لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات. وقيل: لاجتماع الجماعات فيه. وقيل: لاجتماع الناس فيها للصلاة.

وقيل: أول من سماها جمعة كعب بن لؤي قال أبو سلمة: أول من قال « أما بعد » كعب بن لؤي وكان أول من سمى الجمعة جمعة، وكان يقال له يوم العروبة.

وعن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة. وقبل أن ينـزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة. وقالوا: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى يوم، فهلم فلنجعل يومًا نجتمع فيه، فنذكر الله ونصلي فيه، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم ركعتين وذكَّرهم فسموه يوم الجمعة، ثم أنـزل الله عز وجل في ذلك بعد .

وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب، أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة؟ قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له بقيع الخضمات، قلت له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون وأول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه على ما ذكر أهل السير: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجرًا نـزل قباء على بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين لثنتي عشرة [ ليلة ] خلت من شهر ربيع الأول حين امتد الضحى، فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ويوم الخميس، وأسَّسَ مسجدهم، ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامدًا المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم، وقد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجدا، فجمَّع هناك وخطب

قوله عز وجل: ( فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) أي: فامضوا إليه واعملوا له، وليس المراد من السعي الإسراع، إنما المراد منها العمل والفعل، كما قال: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ ( البقرة - 205 ) وقال: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ( الليل - 4 ) .

وكان عمر بن الخطاب يقرأ: فامضوا إلى ذكر الله، وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود . وقال الحسن: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنية والخشوع

وقال قتادة في هذه الآية: « فاسعوا إلى ذكر الله » قال: فالسعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها وكان يتأول قوله: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ( الصافات - 102 ) يقول فلما مشى معه.

أخبرنا الإمام أبو [ علي ] الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا محمد بن أحمد بن معقل الميداني، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، ولكن ائتوها تمشون وعليكم السكينة [ والوقار ] فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموها » قوله ( إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) أي إلى الصلاة، وقال سعيد بن المسيب: « فاسعوا إلى ذكر الله » قال هو موعظة الإمام ( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) يعني البيع والشراء لأن اسم البيع يتناولهما جميعًا. وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني وقال الزهري: عند خروج الإمام. وقال الضحاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء ( ذلكم ) الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع، ( خَيْرٌ لَكُمْ ) من المبايعة ( إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) مصالح أنفسكم. واعلم أن صلاة الجمعة من فروض الأعيان، فتجب على كل من جمع العقل، والبلوغ، والحرية والذكورة والإقامة إذا لم يكن له عذر. ومن تركها استحق الوعيد.

وأما الصبي والمجنون فلا جمعة عليهما، لأنهما ليسا من أهل أن يلزمهما فرض الأبدان لنقصان أبدانهما، ولا جمعة على النساء بالاتفاق:

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني سلمة بن عبد الله الخطمي عن محمد بن كعب أنه سمع رجلا من بني وائل يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأةً أو صبيًا أو مملوكًا » وذهب أكثرهم إلى أنه لا جمعة على العبيد. وقال الحسن وقتادة والأوزاعي: تجب على العبد المخارج، ولا تجب على المسافر عند الأكثرين.

وقال النخعي والزهري: تجب على المسافر إذا سمع النداء، وكل من له عذر من مرض أو تعهد مريض أو خوف، جاز له ترك الجمعة، وكذلك له تركها بعذر المطر والوحل.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل [ حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل ] أخبرني عبد الحميد صاحب الزيادي، حدثنا عبد الله بن الحارث بن عمر، حدثنا محمد بن سيرين قال ابن عباس لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة. قل: صلُّوا في بيوتكم. فكأن الناس استنكروا فقال: فَعَلَهُ من هو خير مني إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض .

وكل من لا يجب عليه حضور الجمعة، فإذا حضر وصلى مع الإمام [ الجمعة ] سقط عنه فرض الظهر، ولكن لا يكمل به عدد الجمعة إلا صاحب العذر، فإنه إذا حضر يكمل به العدد. أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، أخبرنا عيسى بن عمر بن العباس السمرقندي، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي، أخبرنا يحيى بن حسان حدثنا معاوية بن سلام، أخبرني زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول حدثني الحكم بن مينا أن ابن عمر حدثه وأبا هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على أعواد منبره: « لينتهين أقوامٌ عن وَدْعِهم الجمعات أو ليختمنَّ الله على قلوبهم ثم ليكونُنَّ من الغافلين »

أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا علي بن خشرم، أخبرنا عيسى بن يونس، عن محمد بن عمرو عن عبيدة بن سفيان، عن أبي الجعد يعني الضميري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونًا بها طبع الله على قلبه »

واختلف أهل العلم في موضع إقامة الجمعة، وفي العدد الذي تنعقد به الجمعة، وفي المسافة التي يجب أن يؤتى منها: أما الموضع: فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلا من أهل الكمال، بأن يكونوا أحرارًا عاقلين [ بالغين ] مقيمين لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفًا إلا ظعن حاجة، تجب عليهم إقامة الجمعة فيها. وهو قول عبيد الله بن عبد الله، وعمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. وقالوا: لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلا على هذه الصفة، وشرط عمر بن عبد العزيز مع عدد الأربعين أن يكون فيهم والٍ، والوالي غير شرط عند الشافعي. وقال علي: لا جمعة إلا في مصر جامع وهو قول أصحاب الرأي.

ثم عند أبي حنيفة، رضي الله عنهُ تنعقد بأربعة، والوالي شرط وقال الأوزاعي وأبو يوسف: تنعقد بثلاثة إذا كان فيهم وال. وقال الحسن وأبو ثور: تنعقد باثنين كسائر الصلوات. وقال ربيعة: تنعقد باثني عشر رجلا. والدليل على جواز إقامتها في القرى ما: أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن المثنى، أخبرنا أبو عامر العقدي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي حمزة الضبعي عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثَي من البحرين

وإذا كان الرجل مقيمًا في قرية لا تقام فيها الجمعة، أو كان مقيمًا في برية، فذهب قوم إلى أنه إن كان يبلغهم النداء من موضع الجمعة يلزمهم حضور الجمعة، وإن كان لا يبلغهم النداء فلا جمعة عليهم. وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. والشرط أن يبلغهم نداء مؤذنٍ جهوري الصوت يؤذن في وقت تكون الأصوات فيه هادئة والرياح ساكنة، وكل قرية تكون في موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة.

وقال سعيد بن المسيب: تجب على كل من آواه المبيت. وقال الزهري: تجب على من كان على ستة أميال. وقال ربيعة: على أربعة أميال. وقال مالك والليث: على ثلاثة أميال. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا جمعة على أهل السواد قريبة كانت القرية أو بعيدة.

وكل من تلزمه صلاة الجمعة لا يجوز له أن يسافر يوم الجمعة بعد الزوال قبل أن يصلي الجمعة، وجوَّز أصحاب الرأي أن يسافر بعد الزوال إذا كان يفارق البلد قبل خروج الوقت.

أما إذا سافر قبل الزوال بعد طلوع الفجر فيجوز، غير أنه يكره إلا أن يكون سفره سفر طاعة من حج أو غزو، وذهب بعضهم إلى أنه إذا أصبح يوم الجمعة مقيمًا فلا يسافر حتى يصلي الجمعة، والدليل على جوازه ما:

أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، أخبرنا أبو العباس المحبوبي، أخبرنا أبو عيسى، حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا أبو معاوية عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة، فغدا أصحابه، وقال: أتخلف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ألحقهم، فلما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رآه فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ قال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال: « لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل غدوتهم » وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلا عليه هيئة السفر يقول: لولا أن اليوم يوم الجمعة لخرجت، فقال عمر: اخرجْ فإن الجمعة لا تحبس عن سفر

وقد ورد أخبار في سنن يوم الجمعة وفضله منها: ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد الفقيه، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أنه قال: خرجت إلى [ الطور ] فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته أن قلت له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أهبط وفيه تيب عليه، وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حين تطلع الشمس شفقًا من الساعة إلا الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه » قال كعب: ذلك في كل سنة يوم، فقلت: بل في كل جمعة، قال: فقرأ كعب التوراة فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو هريرة: ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة، فقال عبد الله بن سلام: قد علمت أية ساعة هي هي آخر ساعة في يوم الجمعة، قال أبو هريرة: وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة ! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي » وتلك ساعة لا يصلي فيها؟ فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها؟ قال أبو هريرة: بلى، قال: فهو ذاك .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل »

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، أخبرني أبي عن عبد الله بن وديعة عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدَّهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرّق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعن أبي أمامة يعني سهل بن حنيف حدثاه عن أبي سعيد وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من اغتسل يوم الجمعة واستن ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد، فلم يتخط رقاب الناس ثم ركع ما شاء الله أن يركع، وأنصت إذا خرج الإمام كانت كفارة ما بينها وبين الجمعة التي كانت قبلها » قال أبو هريرة: وزيادة ثلاثة أيام لأن الله تعالى يقول: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ( الأنعام - 160 ) .

أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني، أخبرنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي، أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلؤي، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي، حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي، حدثني حسان بن عطية، حدثني أبو الأشعث الصنعاني، حدثني أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من غسَّل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع، ولم يلْغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها » أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة والمهجِّر إلى الصلاة كالمهدي بدنة، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة، ثم الذي يليه كالمهدي شاة ثم الذي يليه كالمهدي كبشًا حتى ذكر الدجاجة والبيضة » .

فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 10 ) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( 11 )

قوله عز وجل ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ ) أي إذا فرغ من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم ( وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ) يعني الرزق وهذا أمر إباحة، كقوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ( المائدة - 2 ) قال ابن عباس: إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد وإن شئت فصلِّ إلى العصر، وقيل: فانتشروا في الأرض ليس لطلب الدنيا ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله. وقال الحسن وسعيد بن جبير ومكحول: « وابتغوا من فضل الله » هو طلب العلم.

( وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) قوله عز وجل ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ) الآية، أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا خالد بن عبد الله [ أخبرنا حصين ] عن سالم بن أبي الجعد وعن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم فثار الناس إلا اثني عشر رجلا فأنـزل الله: « وإذا رأوا تجارةً أو لهوًا انفضوا إليها » .

ويحتج بهذا الحديث من يرى [ إقامة ] الجمعة باثني عشر رجلا. وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة حتى يكون حجة لاشتراط هذا العدد. وقال ابن عباس في رواية الكلبي: لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط.

وقال الحسن وأبو مالك: أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة زيت من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط منهم أبو بكر وعمر فنـزلت هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارًا »

وقال مقاتل: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة، وكان إذا قدم لم تبق بالمدينة عاتق إلا أتته، وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبُرِّ وغيره، فينـزل عند أحجار الزيت، وهو مكان في سوق المدينة، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « كم بقي في المسجد؟ » فقالوا: اثنا عشر رجلا وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لولا هؤلاء لسوّمت لهم الحجارة من السماء » فأنـزل الله هذه الآية وأراد باللهو الطبل.

وقيل: كانت العير إذا قدمت المدينة استقبلوها بالطبل والتصفيق. وقوله: « انفضوا إليها » رد الكناية إلى التجارة لأنها أهم. وقال علقمة: سئل عبد الله بن عمر: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائمًا أو قاعدًا؟ قال: أما تقرأ « وتركوك قائمًا » .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن محمد، أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائمًا يفصل بينهما بجلوس .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، أخبرنا أبو الأحوص، عن سماك عن جابر بن سمرة قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكِّر الناس

وبهذا الإسناد عن جابر بن سمرة قال: كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا

والخطبة فريضة في صلاة الجمعة، ويجب أن يخطب قائمًا خطبتين، وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة: أن يحمد الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي بتقوى الله، هذه الثلاثة فرض في الخطبتين جميعًا ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن، ويدعو للمؤمنين في الثانية، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لا تصح جمعته عند الشافعي وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أنه لو أتى بتسبيحة أو تحميدة أو تكبيرة أجزأه. وهذا القدر لا يقع عليه اسم الخطبة، وهو مأمور بالخطبة.

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا عبد الله بن يوسف بن محمد بن مامويه، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة، حدثنا الحسن بن الصباح الزعفراني، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع أن مروان استخلف أبا هريرة على المدينة، فصلَّى بهم أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى وفي الثانية: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ( المنافقون - 1 ) فقال عبيد الله: فلما انصرفنا مشيت إلى جنبه فقلت له: لقد قرأت بسورتين سمعت علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الصلاة؟ فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن ضمرة بن سعيد المازني عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة؟ فقال: كان يقرأ بـ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ .

أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس المحبوبي، حدثنا أبو عيسى حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى و هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وربما اجتمع في يوم واحد فيقرأ بهما .

ولجواز الجمعة خمس شرائط: الوقت وهو: وقت الظهر ما بين زوال الشمس إلى دخول وقت العصر، والعدد والإمام والخطبة ودار الإقامة فإذا فقد شرط من هذه الخمسة يجب أن يصلوها ظهرا..

ولا يجوز للإمام أن يبتدئ الخطبة قبل اجتماع العدد، وهو عدد الأربعين عند الشافعي فلو اجتمعوا وخطب بهم ثم انفضوا قبل افتتاح الصلاة أو انتقص واحد من العدد لا يجوز أن يصلي بهم الجمعة، بل يصلي الظهر، ولو افتتح بهم الصلاة ثم انفضُّوا فأصح أقوال الشافعي أن بقاء الأربعين شرط إلى آخر الصلاة، [ كما أن بقاء الوقت شرط إلى آخر الصلاة ] فلو انتقص واحد منهم قبل أن يسلِّم الإمام يجب على الباقين أن يصلُّوها أربعًا. وفيه قول آخر: إن بقي معه اثنان أتمها جمعة. وقيل: إن بقي معه واحد أتمها جمعة، وعند المزني إذا نقصوا بعد ما صلى الإمام بهم ركعة أتمها جمعة، وإن بقي وحده فإن كان في الركعة الأولى يتمها أربعًا وإن انتقص من العدد واحد، وبه قال أبو حنيفة في العدد الذي شرطه كالمسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فإذا سلم الإمام أتمها جمعة وإن أدرك أقل من ركعة أتمها أربعًا. .

قوله عز وجل: ( قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ) أي ما عند الله من الثواب على الصلاة والثبات مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من اللهو ومن التجارة ( وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) لأنه موجد الأرزاق فإياه فاسئلوا ومنه فاطلبوا.

 

سورة المنافقون

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( 1 ) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 2 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ( 3 ) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 4 )

( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ) يعني عبدَ الله بن أبي ابن سلول وأصحابَه, ( قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا. ( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ) سترة, ( فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) منعوا الناس عن الجهاد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.

( إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ) أقروا باللسان إذا رأوا المؤمنين, ( ثُمَّ كَفَرُوا ) إذا خلوا إلى المشركين, ( فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) بالكفر, ( فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ) الإيمان. ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ) يعني أن لهم أجسامًا ومناظر, ( وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) فتحسب أنه صدق, قال عبد الله بن عباس: كان عبد الله بن أبي جسيمًا فصيحًا ذلق اللسان, فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله. ( كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ) أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام. قرأ أبو عمرو والكسائي: « خُشْب » بسكون الشين, وقرأ الباقون بضمها.

( مُسَنَّدَةٌ ) ممالة إلى جدار, من قولهم: أسندت الشيء, إذا أَمَلْتُه, والتثقيل للتكثير, وأراد أنها ليست بأشجار تثمر, ولكنها خشب مسندة إلى حائط, ( يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ) أي لا يسمعون صوتًا في العسكر بأن نادى منادٍ أو انفلتت دابة وأنشدت ضالة, إلا ظنوا - من جبنهم وسوء ظنهم - أنهم يرادون بذلك, وظنوا أنهم قد أتوا, لما في قلوبهم من الرعب.

وقيل: ذلك لكونهم على وجل من أن ينـزل الله فيهم أمرا يهتك أستارهم ويبيح دماءهم ثم قال: ( هُمُ الْعَدُوُّ ) وهذا ابتداء وخبره, ( فَاحْذَرْهُمْ ) ولا تأمنهم, ( قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ) لعنهم الله ( أَنَّى يؤْفَكُونَ ) يصرفون عن الحق.

 

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ( 5 ) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 6 )

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ ) أي عطفوا وأعرضُوا بوجوههم رغبة عن الاستغفار. قرأ نافع ويعقوب « لَووَا » بالتخفيف, وقرأ الآخرون بالتشديد, لأنهم فعلوه مرة بعد مرة.

( وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ ) يعرضون عما دُعُوا إليه, ( وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) متكبرون عن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُم ) يا محمد, ( أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ذكر محمد بن إسحاق وغيره عن جماعة, من أصحاب السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَلَغُه: أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو [ جويرة ] زوج النبي صلى الله عليه وسلم, فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المُرَيْسيع من ناحية قُدَيْد إلى الساحل, فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق, وقتل من قتل منهم, ونقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها [ عليهم ] فبينما الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار, يقال له جهجاه بن سعيد الغفاري يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبرة الجهني, حليف بني عوف بن الخزرج, على [ ذلك ] الماء فاقتتلا فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار! وصرخ الغفاري: يا معشر المهاجرين ! وأعان جهجاهًا الغفاريَّ رجلٌ من المهاجرين يقال له جُعال, وكان فقيرًا, فغضب عبدُ الله بن أبيٍّ ابنُ سلولَ وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم, غلام حديث السن, فقال ابن أُبيّ: أفعَلوها؟ فقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا, والله ما مَثَلُنا ومثلُهم إلا كما قال القائل: سِّمن كلبك يأكلك, أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذَّل. يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم, أحللتموهم بلادكم, وقاسمتموهم أموالكم, أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم, ولتحولوا إلى غير بلادكم, فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضُّوا من حول محمد, فقال زيد بن أرقم: أنت - والله - الذليل القليل المبغض في قومك, محمد صلى الله عليه وسلم في عزّ من الرحمن ومودة من المسلمين, فقال عبد الله بن أبي: اسكت, فإنما كنت ألعب. قال: فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وذلك ] بعد فراغه من الغدو, فأخبره الخبر, وعنده عمر بن الخطاب, فقال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله قال: كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ ولكن أذّن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها فارتحل الناس.

وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبيٍّ فأتاه فقال: أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني؟ فقال عبد الله: والذي أنـزل عليك الكتاب ما قلت شيئًا من ذلك, وإن زيدًا لكاذبٌ, وكان عبد الله في قومه شريفًا عظيمًا, فقال من حضر من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قاله. فَعَذَره النبي صلى الله عليه وسلم وفَشَتِ المَلامةُ في الأنصار لزيد, وكذَّبوه, وقال له عمه [ وكان زيد معه ] ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم, والناسُ مَقَتُوك, وكان زيد يساير النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيا بعد ذلك أن يدنو من النبي صلى الله عليه وسلم.

فلما استقلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه, ثم قال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوما بلغك ما قال صاحبكم عبد الله بن أبي؟ قال: وما قال؟ قال: زعم إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل. فقال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت, هو والله الذليل وأنت العزيز, ثم قال: يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك, وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكًا.

وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي, لما بلغك عنه, فإن كنت فاعلا فَمُرْني به, فأنا أحمل إليك رأسه, فوالله لقد علمتِ الخزرج ما كان بها رجلٌ أبرَّ بوالديه مني, وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله, فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله, فأقتل مؤمنًا بكافر, فأدخل النار.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.

قالوا: وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يومهم ذلك حتى أمسى, وليلتهم حتى أصبح, وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس, [ ثم نـزل بالناس ] فلم يكن إلا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نيامًا. وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي.

ثم راح بالناس حتى نـزل [ على ماء بِـ ] الحجاز فُوَيْقَ النَّقِيع, يقال له نقعًا فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوَّفوها وضلت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك ليلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تخافوا فإنما هبَّتْ لموت عظيم من عظماء الكفار توفي بالمدينة, قيل: من هو, قال: رفاعة بن زيد بن التابوت, فقال رجل من المنافقين: كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته؟ ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي! فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة, وأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه, وقال: ما أزعم أني أعلم الغيب وما أعلمه, ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي, هي في الشِّعب قد تعلق زمامها بشجرة فخرجوا يسعَوْن قِبَل الشعب فإذا هي كما قال, فجاءوا بها وآمن ذلك المنافق.

فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات ذلك اليوم, وكان من عظماء اليهود وكهفًا للمنافقين, فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, قال زيد بن أرقم: جلست في البيت لما بي من الهمِّ والحياء, فأنـزل الله تعالى سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله. فلما نـزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد وقال: « يا زيد إن الله صدقك وأوفى بأذنك » .

وكان عبد الله بن أُبيّ بقرب المدينة, فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله بن عبد الله حتى أناخ على مجامع طرق المدينة, فلما جاء عبد الله بن أبي قال: [ وراءك، قال: ] مالك ويلك؟ قال: لا والله لا تدخلها أبدًا إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولتعلمن اليوم من الأعز من الأذل, فشكا عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع ابنه, فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خلِّ عنه حتى يدخل, فقال: أما إذا جاء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنعم, فدخل فلم يلبث إلا أيامًا قلائل حتى اشتكى ومات.

قالوا: فلما نـزلت الآية وبان كذب عبد الله بن أبي قيل له: يا أبا حباب إنه قد نـزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك, فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أؤمن فآمنت, وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد فأنـزل الله تعالى: « وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم » الآية. ونـزل:

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ( 7 ) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ( 8 )

( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ) يتفرقوا, ( وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) فلا يعطي أحد أحدًا شيئًا إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته, ( وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ) أن أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون. ( يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ) من غزوة بني المصطلق, ( لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) فعزة الله: قهره من دونه, وعزة رسوله: إظهار دينه على الأديان كلها, وعزة المؤمنين: نصر الله إياهم على أعدائهم. ( وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) , ذلك ولو علموا ما قالوا هذه المقالة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 9 ) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 10 )

قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ ) , لا تشغلكم ( أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) , قال المفسرون يعني الصلوات الخمس, نظيره قوله: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ( النور - 37 ) ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ) , أي من شغله ماله وولده عن ذكر الله ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) . ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُم ) , قال ابن عباس: يريد زكاة الأموال, ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) , فيسأل الرجعة, ( فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي ) , هلا أخرتني أمهلتني. وقيل: « لا » صلة, فيكون الكلام بمعنى التَّمني, أي: لو أخرتني, ( إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ) , فأتصدق وأزكي مالي, ( وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) , أي من المؤمنين.

نظيره قوله تعالى: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ ( الرعد - 23 ) ( غافر - 8 ) , هذا قول مقاتل وجماعة. وقالوا: نـزلت الآية في المنافقين. وقيل: [ نـزلت ] الآية في المؤمنين.

والمراد بالصلاح هنا: الحج. وروى الضحاك, وعطية عن ابن عباس قال: ما من أحد يموت وكان له مال لم يؤد زكاته وأطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت. وقرأ هذه الآية وقال: « وأكن من الصالحين » قرأ أبو عمرو « وأكونَ » بالواو ونصب النون على جواب التمني وعلى لفظ فأصدق, قال: إنما حذفت الواو من المصحف اختصارا.

وقرأ الآخرون: « وأكنْ » بالجزم عطفًا على قوله « فأصدَّق » لو لم يكن فيه الفاء, لأنه لو لم يكن فيه فاء كان جزمًا. يعني: إن أخرتني أصدق وأكن, ولأنه مكتوب في المصحف بحذف الواو.

وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 11 )

( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) قرأ أبو بكر: « يعملون » بالياء وقرأ الآخرون بالتاء.

 

سورة التغابن

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 2 )

قال عطاء هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ إلى آخرهن. ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ، قال ابن عباس: [ إن ] الله خلق بني آدم مؤمنًا وكافرًا، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنًا وكافرًا .

وروينا عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام طبع كافرًا »

وقال جل ذكره وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا ( نوح- 27 ) .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد، عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس [ عن أنس ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « وكل الله بالرحم مَلَكًا فيقول: أَيْ ربِّ نطفة أيْ ربِّ علقة، أيْ ربِّ مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: يا رب أذكَر أم أنثى أشقي أم سعيد؟ فما الرزق فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه »

وقال جماعة: معنى الآية: إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا لأن الله تعالى ذكر الخلق ثم وصفهم بفعلهم، فقال: « فمنكم كافر ومنكم مؤمن » كما قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي ( النور- 45 ) والله خلقهم والمشُي فِعْلُهم. ثم اختلفوا في تأويلها: روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: « فمنكم كافر » في حياته « مؤمن » في العاقبة « ومنكم مؤمن » في حياته كافر في العاقبة.

وقال عطاء بن أبي رباح: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب .

وقيل فمنكم كافر بأن الله تعالى خلقه، وهو مذهب الدهرية، ومنكم مؤمن بأن الله خلقه

وجملة القول فيه: أن الله خلق الكافر وكفره فعل له وكسب وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان لأن الله تعالى أراد ذلك منه وقدَّره عليه وعلمه منه، والكافر بعد خلق الله تعالى إياه يختار الكفر لأن الله تعالى أراد ذلك منه وقدَّره عليه وعلمه منه. وهذا طريق أهل السنة والجماعة من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر.

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 3 )

( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرضَ بِالحَقِّ وَصَوَّرَكُم فَأَحسَنَ صُوَرَكُم وَإِلَيهِ المَصِيرُ ) .

يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 4 ) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 5 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 6 ) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 7 ) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 8 ) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 9 )

( يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )

( أَلَمْ يَأْتِكُمْ ) يخاطب كفار مكة ( نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ) يعني: الأمم الخالية ( فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ) يعني ما لحقهم من العذاب في الدنيا ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) في الآخرة. ( ذَلِكَ ) العذاب ( بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ) ولم يقل: يهدينا لأن البشر وإن كان لفظه واحدًا فإنه في معنى الجمع، وهو اسم الجنس لا واحد له من لفظه وواحده إنسان، ومعناها: ينكرون ويقولون آدمي مثلنا يهدينا ! ( فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ ) عن إيمانهم ( وَاللَّهُ غَنِيٌّ ) عن خلقه ( حَمِيدٌ ) في أفعاله. ثم أخبر عن إنكارهم البعث فقال جل ذكره: ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ ) يا محمد ( بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا ) وهو القرآن ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ) يعني يوم القيامة يجمع فيه أهل السماوات والأرض ( ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ) وهو تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ، والمراد بالمغبون من غُبِن عن أهله ومنازله في الجنة، فيظهر يومئذ غبن كل كافر بتركه الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) قرأ أهل المدينة والشام: « نكفر » « وندخله » وفي سورة الطلاق « ندخله » بالنون فيهن، وقرأ الآخرون بالياء ( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )

 

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 10 ) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 11 ) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 12 ) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 13 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 14 )

( وَاَّلذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئسَ المَصِيرُ )

( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ) [ بإرادته وقضائه ] ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ) فيصدق أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله ( يَهْدِ قَلْبَهُ ) يوفقه لليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه فيسلم [ لقضائه ] ( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيتُم فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ )

( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّه فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ ) . قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) قال ابن عباس: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يهاجروا إلى المدينة، فمنعهم أزواجهم وأولادهم، وقالوا: صبرنا على إسلامكم فلا نصبر على فراقكم فأطاعوهم وتركوا الهجرة [ فقال تعالى: ( فَاحْذَرُوهُمْ ) أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة ] .

( وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) هذا فيمن أقام على الأهل والولد ولم يهاجر، فإذا هاجر رأى الذين سبقوه بالهجرة قد فقهوا في الدين همَّ أن يعاقب زوجه وولده الذين ثبطوا عن الهجرة، وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم ولم يصبهم بخير، فأمرهم الله تعالى بالعفو عنهم والصفح.

وقال عطاء بن يسار: نـزلت في عوف بن مالك الأشجعي: كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، وقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق لهم ويقيم فأنـزل الله: « إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم » بحملهم إياكم على ترك الطاعة، فاحذروهم أن تقبلوا منهم.

( وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا ) فلا تعاقبوهم على خلافهم إياكم فالله غفور رحيم.

إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 15 )

( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) بلاء واختبار وشغل عن الآخرة يقع بسببها الإنسان في العظائم ومنع الحق وتناول الحرام ( وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) قال بعضهم: لما ذكر الله العداوة أدخل فيه « من » للتبعيض، فقال: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ لأن كلهم ليسوا [ بأعداء ] ولم يذكر « مِنْ » في قوله: « إنما أموالكم وأولادكم فتنة » لأنها لا تخلو عن الفتنة واشتغال القلب.

وكان عبد الله بن مسعود يقول: لا يقولَّن أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس منكم أحد يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضَّلات الفتن

أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن الفضل الفقيه، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن إسحاق الفقيه، حدثنا أحمد بن بكر بن يوسف حدثنا علي بن الحسن، أخبرنا الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة قال سمعت أبا بريدة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر، فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: « صدق الله: إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما »

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 16 ) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ( 17 ) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 18 )

( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) أطقتم هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ( آل عمران- 102 ) ( وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ) الله ورسوله ( وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ ) أنفقوا من أموالكم خيرًا لأنفسكم. ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ) حتى يعطي حق الله من ماله ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

 

سورة الطلاق

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ( 1 )

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ) نادى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خاطب أمته لأنه السيد المقدَّم، فخطاب الجميع معه.

وقيل: مجازه: يا أيها النبي قل لأمتك « إذا طلقتم النساء » إذا أردتم تطليقهن، كقوله عز وجل: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ( النحل- 98 ) أي: إذا أردت القراءة.

( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) أي لطهرهن بالذي يحصينه من عدتهن. وكان ابن عباس وابن عمر يقرآن: « فطلقوهن في قُبُلِ عدتهن » نـزلت هذه الآية في عبد الله [ بن عمر ] كان قد طلق امرأته في حال الحيض .

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد الفقيه، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك [ عن نافع ] عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: مُرْه فَلْيراجِعْها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض [ ثم تطهر ] ثم إن شاء أمسك بَعْدُ، وإن شاء طلَّق قبل أن يمسَّ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء .

ورواه سالم عن ابن عمر قال: « مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملا » .

ورواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين عن ابن عمر، ولم يقولا ثم تحيض ثم تطهر .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم وسعيد بن سالم، عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل عبد الله بن عمر - وأبو الزبير يسمع - فقال: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا؟ فقال ابن عمر: طلق عبد الله بن عمر امرأته حائضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك » قال ابن عمر: وقال الله عز وجل: « يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قُبلِ عدتهن أو لقبل عدتهن » الشافعي يشك.

ورواه حجاج بن محمد عن ابن جريج، وقال: قال ابن عمر: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن .

اعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس بدعة، وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « وإن شاء طلق قبل أن يمسّ » .

والطلاق السني: أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه. وهذا في حق امرأة تلزمها العدة بالأقراء.

فأما إذا طلَّق غيرَ المدخولِ بها في حال الحيض أو طلق الصغيرة التي لم تحض قط أو الآيسة بعد ما جامعها أو طلق الحامل بعد ما جامعها أو في حال رؤية الدم لا يكون بدعيًا. ولا سنة ولا بدعة في طلاق هؤلاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملا » .

والخلع في حال الحيض أو في طهر جامعها [ فيه ] لا يكون بدعيًا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته من غير أن يعرف حالها ولولا جوازه في جميع الأحوال لأشبه أن يتعرف الحال.

ولو طلق امرأته في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه قصدًا يعصي الله تعالى ولكن يقع الطلاق لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بالمراجعة فلولا وقوع الطلاق لكان لا يأمر بالمراجعة، وإذا راجعها في حال الحيض يجوز أن يطلقها في الطهر الذي يعقب تلك الحيضة قبل المسيس كما رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين عن ابن عمر.

وما رواه نافع عن ابن عمر: « ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر » فاستحبابٌ، استحب تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني حتى لا يكون مراجعته إياها للطلاق كما يكره النكاح للطلاق.

ولا بدعة في الجمع بين الطلقات الثلاث، عند بعض أهل العلم حتى لو طلق امرأته في حال الطهر ثلاثًا لا يكون بدعيًا، وهو قول الشافعي وأحمد. وذهب بعضهم إلى أنه بدعة، وهو قول مالك وأصحاب الرأي.

قوله عز وجل: ( وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) أي عدد أقرائها احفظوها قيل: أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثًا. وقيل: للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعاة أمر النفقة والسكنى.

( وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ) أراد به إذا كان المسكن الذي طلقها فيه للزوج لا يجوز له أن يخرجها منه ( وَلا يَخْرُجْنَ ) ولا يجوز لها أن تخرج ما لم تنقض عدتها فإن خرجت لغير ضرورة أو حاجة أَثِمَتْ فإن وقعت ضرورة - وإن خافت هدمًا أو غرقًا - لها أن تخرج إلى منـزل آخر، وكذلك إن كان لها حاجة من بيع غزل أو شراء قطن فيجوز لها الخروج نهارًا ولا يجوز ليلا فإن رجالا استُشْهِدوا بأحد فقالت نساؤهم: نستوحش في بيوتنا فأذن لهن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحدثن عند إحداهن، فإذا كان وقت النوم تأوي كل امرأة إلى بيتها وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لخالة جابر طلقها زوجها أن تخرج لجذاذ نخلها .

وإذا لزمتها العِدَّة في السفر تعتد ذاهبة وجائية والبدوية [ تتبوأ ] حيث يتبوأ أهلها في العدة لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم.

قوله: ( إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) قال ابن عباس: « الفاحشة المبينة » أن تبدو على أهل زوجها فيحل إخراجها .

وقال جماعة: أراد بالفاحشة: أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها ثم ترد إلى منـزلها يروى ذلك عن ابن مسعود .

وقال قتادة: معناه إلا أن يطلقها على نشوزها فلها أن تتحول من بيت زوجها والفاحشة: النشوز.

وقال ابن عمر والسدي: خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة .

( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) يعني: ما ذكر من سنة الطلاق وما بعدها ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ) يوقع في قلب الزوج مراجعتها بعد الطلقة والطلقتين. وهذا يدل على أن المستحب أن يفرق الطلقات، ولا يوقع الثلاث دفعة واحدة، حتى إذا ندم أمكنه المراجعة.

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ( 2 )

( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ) أي قربن من انقضاء عدتهن ( فَأَمْسِكُوهُنَّ ) أي راجعوهن ( بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فتبين منكم ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) على الرجعة والفراق. أمر بالإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق. ( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ ) أيها الشهود ( لِلَّهِ )

( ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ) قال عكرمة والشعبي والضحاك: ومن يتق الله فيطلق للسنة يجعل له مخرجًا إلى الرجعة .

وأكثر المفسرين قالوا: نـزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر المشركون ابنًا له يسمى مالكًا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أسر العدو ابني، وشكا أيضا إليه الفاقة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله واصبر وأَكْثِر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ففعل الرجل [ ذلك ] فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو، فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه .

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: فتغفل عنه العدو، فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه، وهي أربعة آلاف شاة. فنـزلت: « ومن يتق الله يجعل له مخرجا » في ابنه.

وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ( 3 )

( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) ما ساق من الغنم.

وقال مقاتل: أصاب غنمًا ومتاعًا ثم رجع إلى أبيه، فانطلق أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، وسأله: أيحل له أن يأكل ما أتى به ابنه؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، وأنـزل الله هذه الآية.

قال ابن مسعود: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا هو أن يعلم أنه مِنْ قِبَلِ الله وأن الله رازقه.

وقال الربيع بن خيثم: « يجعل له مخرجًا » من كل شيء ضاق على الناس .

وقال أبو العالية: « مخرجًا » من كل شدة.

وقال الحسن: « مخرجًا » عما نهاه عنه. ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) يتق الله فيما نابه كفاه ما أهمه.

وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا » .

( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ) قرأ طلحة بن مصِّرف، وحفص عن عاصم: « بالغُ أمرِهِ » بالإضافة، وقرأ الآخرون « بالغٌ » [ بالتنوين ] « أمرَه » نصب أي منفذ أمره مُمْضٍ في خلقه قضاءَه. ( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) أي جعل لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه.

قال مسروق: في هذه الآية « إن الله بالغ أمره » توكل عليه أو لم يتوكل، غير أن المتوكل عليه يكفِّر عنه سيئاته ويعظم له أجرا.

وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ( 4 )

قوله عز وجل ( وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ ) فلا ترجون أن يحضن ( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) أي شككتم فلم تدروا ما عدتهن ( فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ )

قال مقاتل: لما نـزلت: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ( البقرة- 228 ) قال خلاد بن النعمان بن قيس الأنصاري: يا رسول الله فما عدة من لا تحيض والتي لم تحض وعدة الحبلى؟ فأنـزل الله: « واللائي يئسن من المحيض من نسائكم » يعني القواعد اللائي قعدن عن الحيض « إن ارتبتم » شككتم في حكمها « فعدتهن ثلاثة أشهر » .

( وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ ) يعني الصغار اللائي لم يحضن فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر. أما الشابة التي كانت تحيض فارتفع حيضها قبل بلوغها سن الآيسات: فذهب أكثر أهل العلم إلى أن عدتها لا تنقضي حتى يعاودها الدم فتعتد بثلاثة أقراء أو تبلغ سن الآيسات فتعتد بثلاثة أشهر. وهو قول عثمان وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي وأصحاب الرأي.

وحكي عن عمر: أنها تتربص تسعة أشهر فإن لم تحض تعتد بثلاثة أشهر [ وهو قول مالك.

وقال الحسن: تتربص سنة فإن لم تحض تعتد بثلاثة أشهر ] . وهذا كله في عدة الطلاق.

أما المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرًا سواء كانت ممن تحيض أو لا تحيض.

أما الحامل فعدتها بوضع الحمل سواء طلقها زوجها أو مات عنها لقوله تعالى: ( وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله [ بن عبد الله ] عن أبيه: أن سُبَيْعَةَ بنت الحارث وضعتْ بعد وفاة زوجها بليال فمرَّ بها أبو السَّنابِل بن بَعْكَك [ فقال ] قد تَصَنَّعْتِ للأزواج إنها أربعة أشهر وعشر فذكرتْ ذلك سبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « كذب أبو السنابل - أَوْ: ليس كما قال أبو السنابل - قد حَلَلْتِ فتزوجي » .

( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ) يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة.

ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ( 5 )

( ذَلِكَ ) يعني ما ذكر من الأحكام ( أَمْرُ اللَّهِ أَنـزلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا )

 

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( 6 )

( أَسْكِنُوهُنَّ ) يعني مطلقات نسائكم ( مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ) « مِنْ » صلة، أي: أسكنوهن حيث سكنتم ( مِنْ وُجْدِكُمْ ) يعني: سعتكم وطاقتكم، يعني: إن كان موسرًا يوسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان فقيرًا فعلى قدر الطاقة ( وَلا تُضَارُّوهُنَّ ) لا تؤذوهن ( لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) مساكنهن فيخرجن ( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) فيخرجن من عدتهن.

أعلم أن المعتدة الرجعية تستحق على الزوج النفقة والسكنى ما دامت في العدة. ونعني بالسكنى: مؤنة السكنى فإن كانت الدار التي طلقها فيها ملكًا للزوج يجب على الزوج أن يخرج ويترك الدار لها مدة عدتها وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة، وإن كانت عارية فرجع المعير فعليه أن يكتري لها دارًا تسكنها.

فأما المعتدة البائنة بالخلع أو الطلقات الثلاث [ أو باللعان فلها السكنى حاملا كانت أو حائلا عند أكثر أهل العلم ] .

روي عن ابن عباس أنه قال: لا سكنى لها إلا أن تكون حاملا وهو قول الحسن وعطاء والشعبي.

واختلفوا في نفقتها: فذهب قوم إلى أنه لا نفقة لها إلا أن تكون حاملا. روي ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن وعطاء والشعبي وبه قال الشافعي وأحمد .

ومنهم من أوجبها بكل حال روي ذلك عن ابن مسعود، وهو قول إبراهيم النخعي وبه قال الثوري وأصحاب الرأي.

وظاهر القرآن يدل على أنها لا تستحق إلا أن تكون حاملا لأن الله تعالى قال: « وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن » .

والدليل عليه من جهة السنة ما:

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البَتَّة وهو غائب بالشام، فأرسل إليها وكيله بشعير فَسَخِطَتْهُ، فقال: واللهِ ما لك علينا من شيءٍ. فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. فقال لها: ليس لك عليه نفقة، وأمرها أن تعتَدَّ في بيت أم شريكٍ. ثم قال: تلك امرأةٌ يغشاها أصحابي فاعتدِّي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذِنِيني. قالت: فلما حَلَلْت، ذكرت له أنَّ معاويةَ بنَ أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوكٌ لا مال له، انكحي أسامة بن زيد، قالت: فَكَرِهْتُهُ، ثم قال: انكحي أسامة، فنكحتُهُ فجعلَ الله فيه خيرًا واغتبطت به .

واحتج من لم يجعل لها السكنى بحديث فاطمة بنت قيس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيت عمرو بن أم مكتوم.

ولا حجة فيه، لما روي عن عائشة أنها قالت: كانت فاطمة في مكان وَحْشٍ، فخيف على ناحيتها .

وقال سعيد بن المسيب: إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها وكان للسانها ذرابة .

أما المعتدة عن وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق فلا سكنى لها ولا نفقة وإن كانت حاملا.

[ والمعتدة عن وفاة الزوج لا نفقة لها حاملا ] كانت أو حائلا عند أكثر أهل العلم، وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أن لها النفقة إن كانت حاملا من التركة حتى تضع، وهو قول شريح والشعبي والنخعي والثوري. .

واختلفوا في سكناها وللشافعي رضي الله عنه فيه قولان: أحدهما لا سكنى لها بل تعتد حيث تشاء، وهو قول علي وابن عباس وعائشة. وبه قال عطاء والحسن، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه.

والثاني: لها السكنى وهو قول عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر، وبه قال مالك وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق .

واحتج من أوجب لها السكنى بما:

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب: أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها: أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم، فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في منـزل يملكه ولا نفقة؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعيت له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ قالت: فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، فقال: امكثي [ في بيتك ] حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا. قالت: فلما كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به .

فمن قال بهذا القول قال: إذْنُهُ لفريعة أولا بالرجوع إلى أهلها صار منسوخًا بقوله [ آخرًا ] « امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله » .

ومن لم يوجب السكنى قال: أمرها بالمكث في بيتها آخرًا استحبابًا لا وجوبًا.

قوله عز وجل ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ) أي أرضعن أولادكم ( فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) على إرضاعهن ( وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ) [ ليقبل بعضكم من بعض إذا أمره بالمعروف ] قال الكسائي: شاوروا قال مقاتل: بتراضي الأب والأم على أجر مسمى. والخطاب للزوجين جميعًا يأمرهم أن يأتوا بالمعروف وبما هو الأحسن، ولا يقصدوا الضرار. ( وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ ) في الرضاع والأجرة فأبى الزوج أن يعطي المرأة رضاها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها على إرضاعه، ولكنه يستأجر للصبي مرضعًا غير أمه وذلك قوله: ( فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى )

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ( 7 ) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ( 8 ) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ( 9 ) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ( 10 ) رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ( 11 )

( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ) على قدر غناه ( وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ) من المال ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا ) في النفقة ( إِلا مَا آتَاهَا ) أعطاها من المال ( سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ) بعد ضيق وشدة غنًى وسعةً.

قوله عز وجل: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ ) عصت وطغت ( عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ ) أي وأمر رسله ( فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا ) بالمناقشة والاستقصاء، قال مقاتل: حاسبها بعملها في الدنيا فجازاها بالعذاب، وهو قوله: ( وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ) منكرًا فظيعًا، وهو عذاب النار. لفظهما ماضٍ ومعناهما الاستقبال.

وقيل: في الآية تقديم وتأخير مجازها: فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر البلايا وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا. ( فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا ) جزاء أمرها وقيل: ثقل عاقبة كفرها ( وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ) خسرانا في الدنيا والآخرة. ( أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنـزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ) يعني القرآن. ( رَسُولا ) بدل من الذكر، وقيل: أنـزل إليكم قرآنًا وأرسل رسولا. وقيل: مع الرسول، وقيل: « الذكر » هو الرسول.

وقيل: « ذكرا » أي شرفًا. ثم بيَّن ما هو فقال: ( رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ) يعني الجنة التي لا ينقطع نعيمها.

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ( 12 )

( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ ) [ في العدد ] ( يَتَنـزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ ) بالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى.

قال أهل المعاني: هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره، فينـزل المطر ويخرج النبات، ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء، ويخلق الحيوان على اختلاف هيئاتها وينقلها من حال إلى حال.

وقال قتادة: في كل أرضٍ من أرضه وسماءٍ من سمائه خلقٌ مِنْ خلقه وأمرٌ من أمره وقضاء من قضائه.

( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) فلا يخفى عليه شيء.

 

سورة التحريم

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 1 )

( يَا أَيُّهَا النَّبِي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وسبب نـزولها ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبيد الله بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء [ ويحب ] العسل وكان إذا صلى العصر جاز على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شربة، فقلت: أما والله لنحتالنَّ له فذكرت ذلك لسودة، وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله أكلتَ مغافير؟ فإنه سيقول: لا فقولي له: ما هذه الريح وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح، فإنه سيقول: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحلُه العرفط، وسأقول ذلك وقوليه أنت يا صفية، فلما دخل على سودة، تقول سودة: والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أباديه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب، فرقًا منك فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال: لا قلت: فما بال هذه الريح! قال: سقتني حفصة شربة عسل، قالت: جرست نحله العرفط، فلما دخل علي قلت له مثل ذلك، ودخل على صفية فقالت له مثل ذلك، فلما دخل على حفصة قالت له: يا رسول الله ألا أسقيك منه قال: لا حاجة لي به تقول سودة: سبحان الله لقد حرمناه، قالت: قلت لها اسكتي

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن محمد الصباح، حدثنا الحجاج عن ابن جريج قال: زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول سمعت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا بأس شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له، فنـزلت: « يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك » إلى قوله: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ لعائشة وحفصة وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا لقوله: بل شربت عسلا

وبهذا الإسناد قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن عطاء بإسناده وقال: قال: لا ولكن كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا يبتغي بذلك مرضاة أزواجه .

وقال المفسرون: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها، فلما خرجت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة، فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقًا فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقًا، وحفصة تبكي فقال: ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت لي من أجل هذا أدخلت أَمَتَكَ بيتي، ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقًا؟ ما كنت تصنع هذا بامرأةٍ منهنَّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليست هي جاريتي أحلها الله لي؟ اسكتي فهي حرام عليّ ألتمس بذاك رضاك، فلا تخبري بهذا امرأة منهن. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت: ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية، وإن الله قد أراحنا منها وأخبرت عائشة بما رأت، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها فأنـزل الله عز وجل « يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك » يعني العسل ومارية « تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم » وأمره أن يكفِّر يمينه ويراجع أمته، فقال:

قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 2 ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ( 3 )

( قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ) أي بين وأوجب أن تكفروها إذا حنثتم وهي ما ذكر في سورة المائدة ( وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ ) وليكم وناصركم ( وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ )

واختلف أهل العلم في لفظ التحريم، فقال قوم: ليس هو بيمين، فإن قال لزوجته: أنت علي حرام، أو حرمتك، فإن نوى به طلاقًا فهو طلاق، وإن نوى به ظهارًا فظهار. وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين بنفس اللفظ. وإن قال ذلك لجاريته فإن نوى عتقًا عتقت، وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين، وإن قال لطعام: حرَّمْتُه على نفسي فلا شيء عليه، وهذا قول ابن مسعود وإليه ذهب الشافعي.

وذهب جماعة إلى أنه يمين، فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب عليه الكفارة ما لم يقربها كما لو حلف أن لا يطأها. وإن حرَّم طعامًا فهو كما لو حلف أن لا يأكله، فلا كفارة عليه ما لم يأكل، يروى ذلك عن أبي بكر وعائشة وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة رضي الله عنه:

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا معاذ بن فضالة، حدثنا هشام عن يحيى، عن ابن حكيم، وهو يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في الحرام: يكفَّر. وقال ابن عباس: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( الأحزاب- 21 ) . ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا ) وهو تحريم فتاته على نفسه، وقوله لحفصة: لا تخبري بذلك أحدًا.

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أسرَّ أمر الخلافة بعده فحدثت به حفصة . قال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي. وقال ميمون بن مهران: أسر أن أبا بكر خليفتي من بعدي .

( فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ ) أخبرت به حفصة عائشة ( وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ) أي أطلع الله تعالى نبيه على أنها أنبأت به ( عَرَّفَ بَعْضَهُ ) قرأ عبد الرحمن السلمي والكسائي: « عَرَفَ » بتخفيف الراء، أي: عرف بعض الفعل الذي فعلته من إفشاء سره، أي: غضب من ذلك عليها وجازاها به، من قول القائل لمن أساء إليه: لأعرفنَّ لك ما فعلتَ، أي: لأجازينَّك عليه، وجازاها به عليه بأن طلقها فلما بلغ ذلك عمر قال: لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء جبريل وأمره بمراجعتها واعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرًا وقعد في مشربة أم إبراهيم مارية، حتى نـزلت آية التخيير .

وقال مقاتل بن حيان: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وإنما همّ بطلاقها فأتاه جبريل عليه السلام، وقال: لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة، فلم يطلقها.

وقرأ الآخرون « عرّف » بالتشديد، أي: عرّف حفصة بعد ذلك الحديث، أي أخبرها ببعض القول الذي كان منها.

( وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ) يعني لم يعرفها إياه، ولم يخبرها به. قال الحسن: ما استقصى كريم قط قال الله تعالى: ( عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الكراهية في وجه حفصة أراد أن يتراضاها فأسر إليها شيئين: تحريم الأمة على نفسه، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وفي أبيها عمر رضي الله عنها فأخبرت به حفصة عائشة وأطلع الله تعالى نبيه عليه، عرف [ بعضه ] حفصة وأخبرها ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم الأمة وأعرض عن بعض، يعني ذكر الخلافة كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتشر ذلك في الناس ( فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ ) أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه ( قَالَت ) حفصة ( مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا ) أي: من أخبرك بأني أفشيت السر؟ ( قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ )

إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ( 4 )

( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ ) أي من التعاون على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء. يخاطب عائشة وحفصة ( فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) أي زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما التوبة. قال ابن زيد: مالت قلوبهما بأن سرهما ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن عبد الله بن عباس قال: لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى لهما: « إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما » حتى حج وحججت معه وعدل وعدلت معه بإداوة، فتبَّرز ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضأ فقلت له: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى لهما: « إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما » ؟ فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة.

ثم استقبل عمر الحديث يسوقه فقال: إني كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النـزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينـزل يومًا وأنـزل يومًا فإذا نـزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نـزل فعل مثل ذلك.

وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصخبت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني فقالت: ولم تنكر أن أراجعك! فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل. فأفزعني وقلت: خاب من فعل ذلك منهن.

ثم جمعت عليَّ ثيابي [ فنـزلت ] فدخلت على حفصة، فقلت لها: أيْ حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم، فقلت: خبتِ وخسرتِ، أفتأمنين أن يغضب الله تعالى لغضب رسوله فتهلكي لا تستكثري للنبي صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه في شيء ولا تهجريه وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت [ جارتك ] [ أوضأ ] منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم - يريد عائشة - .

قال عمر: وكنا تحدثنا أن غسان تنعل الخيل لتغزونا فنـزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فرجع إلينا عشاء فضرب بابي ضربًا شديدًا وقال: أَثَمَّ هو؟

ففزعت فخرجت إليه فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم؟ فقلت: ما هو أجاء غسان! قال: لا بل أعظم منه وأهول، طلَّق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه. فقلت: قد خابت حفصة وخسرت كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون.

فجمعت علي ثيابي وصليت صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشربة فاعتزل فيها فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي، فقلت: ما يبكيك أَلَمْ أكن حذرتك؟ أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم.

قالت: لا أدري ها هو ذا معتزل في المشربة. فجئت إلى المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلا ثم غلبني ما أجد، فجئت المشربة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لغلام له أسود: استأذِنْ لعمر، فدخل فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع فقال: كلمت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتك له فصمت، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت فقلت إلى الغلام فقلت: استأذن فاستأذن ثم رجع إليَّ فقال: قد ذكرتك له فصمت [ فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فاستأذن ثم رجع إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت ] .

فلما وليت منصرفا قال إذا الغلام يدعوني فقال: قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش قد أثّر الرمال بجنبه متكئًا على وسادة من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم: يا رسول الله أطلقتَ نساءك؟ فرفع إلي بصره فقال: لا فقلت: الله أكبر. ثم قلت وأنا قائم أستأنس: يا رسول الله لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلت: يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لها: لا يغرنك أن كانت جارتك [ أوضأ ] منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم - يريد عائشة - فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته يبتسم فرفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسَع عليهم وأعطوا من الدنيا وهم لا يعبدون الله.

فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئا فقال: « أو في هذا أنت يا ابن الخطاب؟ إن أولئك قوم عُجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا » .

فقلت: يا رسول الله استغفر لي.

فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعا وعشرين ليلة، وكان قال: ما أنا بداخل عليهن شهرًا - من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله عز وجل

فلما مضت تسع وعشرون ليلة، دخل على عائشة رضي الله عنها فبدأ بها فقالت له عائشة: يا رسول الله إنك كنت أقسمت أن لا تدخل علينا شهرًا وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدّها عدًا! فقال: الشهر تسع وعشرون، وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين ليلة.

قالت عائشة: ثم أنـزل الله التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه، فاخترته ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل ما قالت عائشة .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك [ أن لا تعجلي ] حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت ثم قال إن الله قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إلى تمام الآيتين، فقلت: أَوَ في هذا أستأمر أبويَّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، عن سماك [ بن زميل ] حدثنا عبد الله بن عباس، حدثني عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وذكر الحديث. وقال: دخلت عليه فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت - وأحمد الله تعالى - بكلام إلا رجوت أن الله يصدِّق قولي الذي أقول، ونـزلت هذه الآية: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ . « وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير » .

قوله: ( وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ ) أي تتظاهرا وتتعاونا على أذى النبي صلى الله عليه وسلم. قرأ أهل الكوفة بتخفيف الظاء، والآخرون بتشديدها.

( فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ ) أي وليه وناصره: ( وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) روي عن ابن مسعود وأبي بن كعب: ( وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال الكلبي: هم المخلصون الذين ليسوا بمنافقين. ( وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ) قال مقاتل: بعد الله وجبريل « وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير » أي: أعوان للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع، كقوله: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ( النساء- 69 ) .

عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ( 5 )

( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ ) أي: واجبٌ من الله إن طلقكن رسولُه ( أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ ) خاضعات لله بالطاعة ( مُؤْمِنَاتٍ ) مصدقات بتوحيد الله ( قَانِتَاتٍ ) طائعات، وقيل: داعيات. وقيل: مصليات ( تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ) صائمات، وقال زيد بن أسلم: مهاجرات وقيل: يسحن معه حيث ما ساح ( ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ) وهذا في الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال: « إن طلقكن » وقد علم أنه لا يطلقهن وهذا كقوله: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ( محمد- 38 ) وهذا في الإخبار عن القدرة لأنه ليس في الوجود أمة خير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( 6 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 7 )

قوله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ ) قال عطاء عن ابن عباس: أي بالانتهاء عما نهاكم الله تعالى عنه والعمل بطاعته ( وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ) يعني: مروهم بالخير وانهوهم عن الشر وعلِّموهم وأدِّبوهم تَقُوهُمْ بذلك نارًا ( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ ) يعني خزنة النار ( غِلاظٌ ) فظاظ على أهل النار ( شِدَادٌ ) أقوياء يدفع الواحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفًا في النار وهم الزبانية، لم يخلق الله فيهم الرحمة ( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لا تَعتَذِرُوا اليَومَ إِنَّمَا تُجزَونَ مَا كُنتُم تَعمَلُونَ )

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 8 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ) قرأ الحسن وأبو بكر عن عاصم: « نُصوحًا » بضم النون، وقرأ العامة بفتحها أي: توبة ذات نصح تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه.

واختلفوا في معناها قال عمر وأبي ومعاذ: « التوبة النصوح » أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع .

قال الحسن: هي أن يكون العبد نادما على ما مضى؛ مجمعًا على ألا يعود فيه .

قال الكلبي: أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن.

قال سعيد بن المسيب: توبة تنصحون بها أنفسكم.

قال القرظي: يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيئ الإخوان.

( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) أي لا يعذبهم الله بدخول النار ( نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ) على الصراط ( يَقُولُونَ ) إذ طفئ نور المنافقين ( رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 9 ) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ( 10 )

ثم ضرب الله مثلا للصالحين والصالحات من النساء فقال جل ذكره: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ ) واسمها واعلة ( وَامْرَأَةَ لُوطٍ ) واسمها واهلة. وقال مقاتل: والعة ووالهة.

( كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ ) وهما نوح ولوط عليهما السلام ( فَخَانَتَاهُمَا ) قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط وإنما كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما فكانت امرأة نوح تقول للناس: إنه مجنون، وإذا آمن به أحد أخبرت به الجبابرة وأما امرأة لوط [ فإنها كانت ] تدل قومه على أضيافه إذا نـزل به ضيف بالليل أوقدت النار، وإذا نـزل بالنهار دخنت ليعلم قومه أنه نـزل به ضيف.

وقال الكلبي: أسرتا النفاق وأظهرتا الإيمان.

( فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) لم يدفعا عنهما مع نبوتهما عذاب الله ( وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) قطع الله بهذه الآية طمع كل من يركب المعصية أن ينفعه صلاح غيره.

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 11 ) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ( 12 )

ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعًا فقال: ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ) وهي آسية بنت مزاحم.

قال المفسرون: لما غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون، ولما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس.

قال سلمان: كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة .

( إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ) فكشف الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته.

وفي القصة: أن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها فلما أتوها بالصخرة قالت: رب ابن لي عندك بيتًا في الجنة فأبصرت بيتها في الجنة من درة بيضاء، وانتزع روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألمًا.

وقال الحسن وابن كيسان: رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة فهي فيها تأكل وتشرب.

( وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ) قال مقاتل: وعمله يعني الشرك. وقال أبو صالح عن ابن عباس « وعمله » قال: جِمَاعه. ( وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) الكافرين. ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ ) أي في جيب درعها ولذلك ذكر الكناية ( مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا ) يعني الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنـزلة ( وَكُتُبِهِ ) قرأ أهل البصرة وحفص: « وكتبه » على الجمع، وقرأ الآخرون: « وكتابه » على التوحيد. والمراد منه الكثرة أيضا. وأراد بكتبه التي أنـزلت على إبراهيم وموسى وداود وعيسى عليهم السلام. ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) أي من القوم القانتين المطيعين لربها ولذلك لم يقل من القانتات.

وقال عطاء: « من القانتين » أي من المصلين. ويجوز أن يريد بالقانتين رهطها وعشيرتها فإنهم كانوا أهل صلاح مطيعين لله.

وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون » .