الجزء  التاسع والعشرون

 

سورة الملك

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ( 2 )

( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ) قال عطاء عن ابن عباس: يريد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة.

وقال قتادة: أراد موت الإنسان وحياته في الدنيا جعل الله الدنيا دار حياة وفناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء .

قيل إنما قدم الموت لأنه إلى القهر أقرب: وقيل: قدمه لأنه أقدم لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنطفة والتراب ونحوهما ثم اعترضت عليها الحياة.

وقال ابن عباس: خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات وخلق الحياة على صورة فرس بلقاء [ انثى ] وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي، وهي التي أخذ السامري قبضة من أثرها فألقى على العجل فحيي.

( لِيَبْلُوَكُمْ ) فيما بين [ الحياة إلى الموت ] ( أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) روي عن ابن عمر مرفوعا: « أحسن عملا » أحسن عقلا وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله

وقال فضيل بن عياض « أحسن عملا » أخلصه وأصوبه. وقال: العمل لا يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا الخالص: إذا كان لله والصواب: إذا كان على السنة.

وقال الحسن: أيكم أزهد في الدنيا وأترك لها.

وقال الفَّراء: لم يوقع البلوى على « أى » [ إلا ] وبينهما إضمار كما تقول بلوتكم لأنظر أيكم أطوع . ومثله: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ( القلم- 40 ) أي: سلهم وانظر أيهم فـ « أي » : رفع على الابتداء « وأحسن » خبره ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) في انتقامه ممن عصاه ( الْغَفُورُ ) لمن تاب إليه.

الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ( 3 ) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ( 4 )

( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ) طبقًا على طبق بعضها فوق بعض ( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ) قرأ حمزة والكسائي: « من تفوت » بتشديد الواو بلا ألف، وقرأ الأخرون بتخفيف الواو وألف قبلها. وهما لغتان كالتَّحَمُّل والتحامل والتطهر والتطاهر. ومعناه: ما ترى يا ابن آدم في خلق الرحمن من اعوجاج واختلاف وتناقض بل هي مستقيمة مستوية. وأصله من « الفوت » وهو أن يفوت بعضها بعضا لقلة استوائها ( فَارْجِعِ الْبَصَرَ ) كرر النظر، معناه: انظر ثم ارجع ( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) شقوق وصدوع.

( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) قال ابن عباس: مرة بعد مرة ( يَنْقَلِبْ ) ينصرف ويرجع ( إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا ) صاغرًا ذليلا مبعدًا لم يرَ ما يهوى ( وَهُوَ حَسِيرٌ ) كليل منقطع لم يدرك ما طلب. وروي عن كعب أنه قال: السماء الدنيا موج مكفوف والثانية مرمرة بيضاء والثالثة حديد والرابعة [ صفراء ] وقال: نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء بين [ السماء ] السابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور .

وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ( 5 ) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 6 ) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ( 7 ) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ( 8 ) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ( 9 ) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( 10 ) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ( 11 ) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( 12 )

( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ) أراد الأدنى من الأرض وهي التي يراها الناس. ( بِمَصَابِيحَ ) [ أي: الكواكب واحدها: مصباح وهو السراج سُمي الكوكب مصباحًا ] لإضاءته ( وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا ) مرامي ( لِلشَّيَاطِينِ ) إذا استرقوا السمع ( وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ ) في الآخرة ( عَذَابِ السَّعِيرِ ) النار الموقدة. ( وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا ) وهو أول نهيق الحمار وذلك أقبح الأصوات ( وَهِيَ تَفُورُ ) تغلي بهم كغلي المِرْجل. وقال مجاهد: تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل.

( تَكَادُ تَمَيَّزُ ) تنقطع ( مِنَ الْغَيْظِ ) من تغيظها عليهم، قال ابن قتيبة: تكاد تنشق غيظًا على الكفار ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ ) جماعة منهم ( سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا ) سؤال توبيخ ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ) رسول ينذركم.

( قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا ) للرسل ( مَا نـزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ )

( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ ) من الرسل ما جاءونا به ( أَوْ نَعْقِلُ ) منهم. وقال ابن عباس: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله فنعمل به ( مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) قال الزجاج: لو كنا نسمع سمع من يعي ويتفكر أو نعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار.

( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا ) بعدًا ( لأصْحَابِ السَّعِيرِ ) قرأ أبو جعفر والكسائي « فسحقا » بضم الحاء، وقرأ الباقون بسكونها وهما لغتان مثل الرُّعُب والرّعْب والسُّحُت والسُّحْت.

 

وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 13 ) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( 14 ) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ( 15 ) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ( 16 )

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ قال ابن عباس: نـزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل عليه السلام بما قالوا فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كي لا يسمع إله محمد .

فقال الله جل ذكره: ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ) ألا يعلم ما في الصدور مَنْ خلقها ( وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) لطيف علمه في القلوب الخبير بما فيها من الخير والشر والوسوسة. وقيل « مَنْ » يرجع إلى المخلوق، أي ألا يعلم الله مخلوقه؟

( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا ) سهلا لا يمتنع المشي فيها بالحزونة ( فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ) قال ابن عباس وقتادة: في جبالها. وقال الضحاك: في آكامها. وقال مجاهد: في طرقها وفجاجها. قال الحسن: في سبلها. وقال الكلبي: في أطرافها. وقال مقاتل: في نواحيها. قال الفراء: في جوانبها والأصل في الكلمة الجانب، ومنه منكب الرجل والريح النكباء وَتنكَّب فلان [ أي جانب ] ( وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) مما خلقه رزقًا لكم في الأرض. ( وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) أي: وإليه تبعثون من قبوركم. ثم خوَّف الكفار فقال: ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) قال ابن عباس: أي: عذاب مَنْ في السماء إن عصيتموه ( أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ) قال الحسن: تتحرك بأهلها. وقيل: تهوي بهم. والمعنى: أن الله تعالى يحرِّك الأرض عند الخسف بهم حتى تلقيهم إلى أسفل، تعلو عليهم وتمر فوقهم. يقال: مَارَ يَمُورُ، أي: جاء وذهب.

أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ( 17 ) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 18 ) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ( 19 ) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ ( 20 ) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ( 21 ) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 22 )

( أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ) ريحًا ذات حجارة كما فعل بقوم لوط. ( فَسَتَعْلَمُونَ ) في الآخرة وعند الموت ( كَيْفَ نَذِيرِ ) أي إنذاري إذا عاينتم العذاب.

( وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يعني كفار الأمم الماضية ( فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) أي إنكاري عليهم بالعذاب.

( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ ) تصف أجنحتها في الهواء ( وَيَقْبِضْنَ ) أجنحتها بعد البسط ( مَا يُمْسِكُهُنَّ ) في حال القبض [ والبسط ] أن يسقطن ( إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ )

( أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ ) استفهام إنكار. قال ابن عباس: أي منعة لكم ( يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ ) يمنعكم من عذابه ويدفع عنكم ما أراد بكم. ( إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ ) أي في غرور من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينـزل بهم.

( أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ) أي من الذي يرزقكم المطر إن أمسك الله [ عنكم ] ( بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ ) تمادٍ في الضلال ( وَنُفُورٍ ) تباعد من الحق. وقال مجاهد: كفور. ثم ضرب مثلا فقال: ( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ ) راكبًا رأسه في الضلالة والجهالة أعمى القلب والعين لا يبصر يمينًا ولا شمالا وهو الكافر. قال قتادة: أكبَّ على المعاصي في الدنيا فحشره الله على وجهه يوم القيامة ( أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا ) معتدلا يبصر الطريق وهو ( عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وهو المؤمن. قال قتادة: يمشي يوم القيامة سويًا.

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ( 23 ) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 24 ) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 25 ) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 26 )

( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ) قال مقاتل: يعني أنهم لا يشكرون رب هذه النعم. ( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْم عنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَلَمَّا رَأَوْهُ ) يعني: العذاب في الآخرة - على قول أكثر المفسرين - وقال مجاهد: يعني العذاب ببدر

 

فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ( 27 ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 28 ) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 29 )

( زُلْفَةً ) أي قريبًا وهو [ اسم يوصف به المصدر يستوي فيه ] المذكر والمؤنث والواحد والاثنان [ والجميع ] ( سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) اسودت وعليها كآبة، والمعنى قبحت وجوههم بالسواد، يقال: ساء الشيء يسوء فهو سيئ إذا قبح، وسيئ يساء إذا قبح ( وَقِيلَ ) لها أي قال الخزنة ( هَذَا ) أي هذا العذاب ( الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) تفتعلون من الدعاء تدعون وتتمنون أنه يعجِّل لكم، وقرأ يعقوب تدعون بالتخفيف، وهي قراءة قتادة ومعناهما واحد مثل تذكرون وتذكرون.

( قُلْ ) يا محمد لمشركي مكة الذين يتمنون [ هلاكك ] ( أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ ) من المؤمنين ( أَوْ رَحِمَنَا ) فأبقانا وأخَّر آجالنا ( فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) فإنه واقع بهم لا محالة. وقيل: معناه أرأيتم إن أهلكني الله فعذبني ومن معي أو رحمنا فغفر لنا فنحن - مع إيماننا - خائفون أن يهلكنا بذنوبنا لأن حكمه نافذ فينا فمن يجيركم ويمنعكم من عذابه وأنتم كافرون؟ وهذا معنى قول ابن عباس.

( قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ ) الذي نعبده ( آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ ) قرأ الكسائي بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. ( مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي ستعلمون عند معاينة العذاب من الضال منا نحن أم أنتم؟

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ( 30 )

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا ) غائرًا ذاهبًا في الأرض لا تناله الأيدي والدلاء. قال الكلبي ومقاتل: يعني ماء زمزم ( فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ) ظاهر تراه العيون وتناله [ الأيدي ] والدلاء. وقال عطاء عن ابن عباس: معين أي جار.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني أبو الحسن الفارسي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يزيد، حدثنا أبو يحيى البزاز، حدثنا [ محمد بن يحيى ] حدثنا أبو داود، حدثنا عمران، عن قتادة، عن عباس الجشمي، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل فأخرجته من النار يوم القيامة وأدخلته الجنة، وهي سورة تبارك » .

 

سورة القلم

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( 1 )

( ن ) اختلفوا فيه فقال ابن عباس: هو الحوت الذي على ظهره الأرض. وهو قول مجاهد ومقاتل والسدي والكلبي .

وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال وإن الجبال لتفخر على الأرض ثم قرأ ابن عباس: ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) .

واختلفوا في اسمه، فقال الكلبي ومقاتل: [ اسمه ] يهموت. وقال الواقدي: ليوثا. وقال كعب: لويثا. وعن علي: اسمه بلهوث.

وقالت الرواة: لما خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكًا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتقه، إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب، باسطتين قابضتين على الأرضين السبع، حتى ضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار، فأهبط الله عز وجل من الفردوس ثورًا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدمي الملك على سنامه، فلم تستقر قدماه فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة عام فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض، ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفسًا فإذا تنفس مدَّ البحر وإذا [ رد ] نفسه جزر البحر فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار [ فخلق ] الله تعالى صخرة كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه « [ يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ] فتكن في صخرة » ولم يكن للصخرة مستقر، فخلق الله نونًا وهو الحوت العظيم، فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة. يقال: فكل الدنيا كلها بما عليها حرفان قال لها الجبار: [ جل جلاله ] كوني فكانت .

قال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه، فقال له: أتدري ما على ظهرك يا لوِيثا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك، فهمّ لوِيثا أن يفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله منها فأذن لها الله فخرجت. قال كعب: فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همَّ بشيء من ذلك عادت كما كانت.

وقال بعضهم: نون آخر حروف الرحمن، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس.

وقال الحسن وقتادة والضحاك: النون الدواة.

وقيل: هو قسم أقسم الله به. وقيل: فاتحة السورة. وقال عطاء: افتتاح اسمه نور وناصر.

وقال محمد بن كعب: أقسم الله بنصرته للمؤمنين .

( وَالْقَلَم ) [ هو ] الذي كتب الله به الذكر، وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض، ويقال: أول ما خلق الله القلم ونظر إليه فانشق بنصفين، ثم قال: اجرِ بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك. ( وَمَا يَسْطُرُونَ ) يكتبون أي ما تكتب الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم.

مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ( 2 ) وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ( 3 ) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( 4 )

( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) [ هو ] جواب لقولهم يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجر- 6 ) فأقسم الله بالنون والقلم وما يكتب من الأعمال فقال: ( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ) بنبوة ربك ( بِمَجْنُونٍ ) أي: إنك لا تكون مجنونا وقد أنعم الله عليك بالنبوة والحكمة. وقيل: بعصمة ربك. وقيل: هو كما يقال: ما أنت بمجنون [ والحمد لله ] وقيل: معناه ما أنت بمجنون والنعمة لربك، كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، أي: والحمد لك.

( وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ) أي: منقوص ولا مقطوع بصبرك على افترائهم عليك.

( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) قال ابن عباس ومجاهد: دين عظيم لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي منه، وهو دين الإسلام. وقال الحسن: هو آداب القرآن.

سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن .

وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله، والمعنى إنك على الخلق الذي أمرك الله به في القرآن.

وقيل: سمى الله خلقه عظيمًا لأنه امتثل تأديب الله إياه بقوله: خُذِ الْعَفْوَ ( الأعراف- 199 ) الآية.

وروينا عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق، وتمام محاسن الأفعال » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف [ حدثنا محمد بن إسماعيل ] حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا وأحسنهم خَلْقًا ليس بالطويل البائن ولا بالقصير .

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت عن أنس بن مالك قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍ قطّ [ وما ] قال لشيء صنعتُه: لِمَ صنعتَه؟ ولا لشيء تركته: لم تركتُه؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلقًا ولا مسست خزًا [ قط ] ولا حريرًا ولا شيئًا [ كان ] ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكًا ولا عطرًا كان أطيب من عَرَقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البَرْني، حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عبد الله بن عمر قال: « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا وكان يقول: خياركم أحسنكم أخلاقًا . »

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، أخبرنا أبو العباس الأصم، حدثنا محمد بن هشام بن ملاس، حدثنا مروان الفزاري، حدثنا حميد الطويل، عن أنس أن امرأة عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال: يا أم فلان اجلسي في أي سكك المدينة شئت أجلسْ إليك، قال: ففعلت فقعد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى [ قضى ] حاجتها .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل قال: [ حدثنا ] محمد بن عيسى، حدثنا هشيم، أخبرنا حميد الطويل، حدثنا أنس بن مالك قال: إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو محمد بن عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا عمران بن يزيد التغلبي، عن زيد [ ابن العَمِّي ] عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صافح الرجل لم ينـزع يده من يده [ حتى يكون هو الذي ينـزع يده ] ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون هو الذي يصرف وجهه [ عن وجهه ] ولم ير مقدمًا ركبتيه بين يدي جليس له .

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب، حدثنا أبو عيسى، حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عبيدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادمًا ولا امرأة .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك بن إسحاق عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس قال كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا علي بن المديني، حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك، عن أم الدرداء تحدث عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن، وإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أبو نعيم، حدثنا داود بن يزيد [ الأودي ] سمعت أبي يقول سمعت أبي هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: « أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان: الفرج والفم، أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أكثر ما يدخل الناس الجنة: تقوى الله وحسن الخلق » .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا محمد بن عبد الله [ بن عبد ] الحكم، أخبرنا أبي وشعيب قالا حدثنا الليث عن [ ابن ] الهاد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار » .

فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ( 5 ) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ( 6 )

قوله عز وجل ( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ) فسترى يا محمد ويرون - يعني أهل مكة - إذا نـزل بهم العذاب.

( بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ) قيل معناه: بأيكم المجنون، فـ « المفتون » مفعول بمعنى المصدر، كما يقال: ما بفلان مجلود ومعقول، أي جلادة وعقل. وهذا معنى قول الضحاك ورواية العوفي عن ابن عباس.

وقيل الباء بمعنى « في » مجازة: فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون في فريقك أم في فريقهم؟.

وقيل: الباء بمعنى « مع » و « المفتون » هو الشيطان. [ والمعنى: مع أيكم الشيطان ] مع المؤمنين أم مع الكافرين؟ وهذا معنى قول مجاهد .

وقال الآخرون: زائدة، معناه: أيكم المفتون؟ أي المجنون الذي فتن بالجنون، وهذا قول قتادة.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 7 ) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ( 8 ) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( 9 ) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ ( 10 ) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ( 11 ) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( 12 ) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ( 13 )

( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ) ، يعني مشركي مكة فإنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه أن يطيعهم.

( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) قال: الضحاك لو تكفر فيكفرون. قال الكلبي: لو تلين لهم فيلينون لك. قال الحسن: لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. قال زيد بن أسلم: لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون. وقال ابن قتيبة: أرادوا أن تعبد آلهتهم مدة ويعبدون الله مدة.

( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ ) كثير الحلف بالباطل. قال [ مقاتل: يعني ] الوليد بن المغيرة. وقيل: الأسود بن عبد يغوث. وقال عطاء: الأخنس بن شريق ( مَهِينٍ ) ضعيف حقير. قيل: هو فعيل من المهانة وهي قلة الرأي والتمييز. وقال ابن عباس: كذاب. وهو قريب من الأول لأن الإنسان إنما يكذب لمهانة نفسه عليه.

( هَمَّازٍ ) مغتاب يأكل لحوم الناس بالطعن والغيبة. قال الحسن: هو الذي يغمز بأخيه في المجلس، كقوله: « همزة » ( مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ) قتَّات يسعى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم.

( مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ) بخيل بالمال. قال ابن عباس: « منَّاع للخير » أي للإسلام يمنع ولده وعشيرته عن الإسلام يقول: لئن دخل واحد منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا ( مُعْتَدٍ ) ظلوم يتعدى الحق ( أَثِيمٍ ) فاجر. ( عُتُلٍّ ) العتل: الغليظ الجافي. وقال الحسن: هو الفاحش الخَلْق السيئ الخُلُق. قال الفَّراء: هو الشديد الخصومة في الباطل وقال الكلبي: هو الشديد في كفره، وكل شديد عند العرب عُتُلٌّ ، وأصله من العتل وهو الدفع بالعنف. قال عبيد بن عمير: « العُتُل » الأكول الشروب القوي الشديد [ في كفره ] لا يزن في الميزان شعيرة، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفًا في النار دفعة واحدة ( بَعْدِ ذَلِكَ ) أي مع ذلك، يريد مع ما وصفناه به ( زَنِيمٍ ) وهو الدَّعِي [ الملصق ] بالقوم وليس منهم. قال عطاء عن ابن عباس: يريد مع [ هذا ] هو دَعيٌّ في قريش وليس منهم. قال مرة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة. وقيل: « الزنيم » الذي له زنمة كزنمة الشاة.

وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: نُعِت فلم يعرف حتى قيل زنيم فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها .

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها .

قال ابن قتيبة: لا نعلم أن الله وصف أحدًا ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة فألحق به عارًا لا يفارقه في الدنيا والآخرة .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان الواعظ، حدثني أبو محمد بن زنجويه بن محمد، حدثنا علي بن الحسين الهلالي، حدثنا عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان، حدثني معبد بن خالد القيسي، عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كلُّ ضعيفٍ متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عُتُلّ جوَّاظ [ مستكبر ] » .

أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ( 14 )

( أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ) قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة وأبو بكر ويعقوب: « أأن » بالاستفهام. ثم حمزة وأبو بكر يخففان الهمزتين بلا مد ويمد الهمزة الأولى أبو جعفر وابن عامر ويعقوب ويلينون الثانية. وقرأ الآخرون بلا استفهام على الخبر، فمن قرأ بالاستفهام فمعناه: أَلأنْ كان ذا مالٍ وبنين؟

إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 15 )

( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) أي جعل مجازاة النعم التي خولها من البنين والمال الكفر بآياتنا. وقيل: معناه أَلَإِنْ كان ذا مال وبنين [ تطيعه ] .

ومن قرأ على الخبر فمعناه: لا تطع كل حلاف مهين لأن ( كان ذا مال وبنين ) أي: لا تطعه لماله وبنيه « إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين » .

 

سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ( 16 ) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ( 17 )

ثم أوعده فقال: ( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ) و « الخرطوم » : الأنف. قال أبو العالية ومجاهد: أي نسود وجهه، فنجعل له علمًا في الآخرة يعرف به، وهو سواد الوجه.

قال الفرَّاء: خص الخرطوم بالسمة فإنه في مذهب الوجه لأن بعض الشيء يعبر به عن كله .

وقال ابن عباس: سنخطمه بالسيف، وقد فعل ذلك يوم بدر وقال قتادة: سنلحق به شيئًا لا يفارقه.

قال القتيـبي تقول العرب للرجل سب الرجل سبة قبيحة: قد وسمه ميسم سوء. يريد: ألصق به عارًا لا يفارقه، كما أن السمة لا ينمحي ولا يعفو أثرها وقد ألحق الله بما ذكر من عيوبه عارًا لا يفارقه في الدنيا والآخرة، كالوسم على الخرطوم.

وقال الضحاك والكسائي: سنكويه على وجهه.

( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ) يعني اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع ( كَمَا بَلَوْنَا ) ابتلينا ( أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) روى محمد بن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: في قوله عز وجل: « إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة » قال: كان بستان باليمن يقال له الضّروان دون صنعاء بفرسخين، يطؤه أهل الطريق، كان غرسه قوم من أهل الصلاة، وكان لرجل فمات فورثه ثلاثة بنين له، وكان يكون للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل فلم يجزه وإذا طرح من فوق النخل إلى البساط فكل شيء يسقط على البساط فهو أيضا للمساكين، وإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين وإذا داسوه كان لهم كل شيء ينتثر أيضا فلما مات الأب وورثه هؤلاء الإخوة [ عن أبيهم ] فقالوا: والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير وإنما كان هذا الأمر يفعل إذ كان المال كثيرًا والعيال قليلا فأما إذا قلَّ المال وكثر العيال فإنا لا نستطيع أن نفعل هذا فتحالفوا بينهم يومًا ليغدون غدوة قبل خروج الناس فليصرِمُنَّ نخلهم ولم يستثنوا يقول: لم يقولوا إن شاء الله فغدا القوم بسدفة من الليل إلى جنتهم ليصرموها قبل أن يخرج المساكين، فرأوها مسودة وقد طاف عليها من الليل طائف من العذاب فأحرقها فأصبحت كالصريم فذلك قوله عز وجل: ( إِذْ أَقْسَمُوا ) حلفوا ( لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ) ليَجُذُّنُها وليقطعن ثمرها إذا أصبحوا قبل أن يعلم المساكينُ

وَلا يَسْتَثْنُونَ ( 18 ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ( 19 ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( 20 ) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ( 21 ) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ( 22 )

( وَلا يَسْتَثْنُونَ ) ولا يقولون إن شاء الله.

( فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ ) عذاب ( مِنْ رَبِّكَ ) ليلا ولا يكون الطائف إلا بالليل، وكان ذلك الطائف نارًا نـزلت من السماء فأحرقتها ( وَهُمْ نَائِمُونَ )

( فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ) كالليل المظلم الأسود. قال الحسن: أي صرم منها الخير فليس فيها شيء.

وقال الأخفش: كالصبح الصريم من الليل وأصل « الصريم » المصروم، مثل: قتيل ومقتول، وكل شيء قطع فهو صريم [ فالليل صريم ] والصبح صريم لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه.

وقال ابن عباس: كالرماد الأسود بلغة خزيمة.

( فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ) نادى بعضهم بعضا لما أصبحوا.

( أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ) يعني الثمار والزروع والأعناب ( إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ) قاطعين للنخل.

فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ( 23 ) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ( 24 ) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ( 25 ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ( 26 ) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( 27 ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ( 28 )

( فَانْطَلَقُوا ) مشوا إليها ( وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ) يتسارون، يقول بعضهم لبعض سرًا ( وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ) « الحرد » في اللغة يكون بمعنى القصد والمنع والغضب، قال الحسن وقتادة وأبو العالية: على جد وجهد.

وقال القرظي ومجاهد وعكرمة: على أمر مجتمع عليه قد أسسوه بينهم. وهذا على معنى القصد لأن القاصد [ إلى الشيء ] جاد مجمع على الأمر.

وقال أبو عبيدة والقتيـبي: غدوا ونيتهم على منع المساكين، يقال: حارَدتِ السَّنة، إذا لم يكن لها مطر وحاردت الناقة إذا لم يكن لها لبن.

وقال الشعبي وسفيان: على حنق وغضب من المساكين.

وعن ابن عباس قال: على قدرة ( قَادِرِينَ ) عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينها وبينهم أحد.

( فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ) أي لما رأوا الجنة محترقة قالوا: إنا لمخطئون الطريق، أضللنا مكان جنتنا ليست هذه بجنتنا. فقال بعضهم: ( بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) حرمنا خيرها ونفعها بمنعنا المساكين وتركنا الاستثناء.

( قَالَ أَوْسَطُهُمْ ) أعدلهم وأعقلهم وأفضلهم: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ) هلا تستثنون أنكر عليهم ترك الاستثناء في قولهم: « ليصرمنها مصبحين » وسمي الاستثناء تسبيحًا لأنه تعظيم لله وإقرار بأنه لا يقدر أحد على شيء إلا بمشيئته.

وقال أبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله، وقيل: هلا تسبحون الله وتقولون: سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. وقيل: هلا تستغفرونه من فعلكم.

قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 29 ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ( 30 ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ( 31 ) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ( 32 ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 33 ) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 34 ) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ( 35 ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( 36 ) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ( 37 ) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ( 38 )

( قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا ) نـزهوه عن أن يكون ظالمًا فيما فعل وأقروا على أنفسهم بالظلم فقالوا: ( إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) بمنعنا المساكين.

( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ) يلوم بعضهم بعضًا في منع المساكين حقوقهم، ونادوا على أنفسهم بالويل: ( قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ) في منعنا حق الفقراء. وقال ابن كيسان: طغينا نِعَمَ الله فلم نشكرها ولم نصنع ما صنع آباؤنا من قبل.

ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: ( عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ) قال عبد الله بن مسعود: بلغني أن القوم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقودًا واحدًا .

قال الله تعالى: ( كَذَلِكَ الْعَذَابُ ) أي: كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا وخالف أمرنا ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ثم أخبر بما عنده للمتقين فقال: ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) فقال المشركون: إنا نعطى في الآخرة أفضل مما تعطون فقال الله تكذيبا لهم: ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ ) نـزل من عند الله ( فِيهِ ) في هذا الكتاب ( تَدْرُسُونَ ) تقرءون.

( إِنَّ لَكُمْ فِيهِ ) في ذلك الكتاب ( لَمَا تَخَيَّرُونَ ) تختارون وتشتهون.

أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ( 39 ) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ( 40 ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ( 41 ) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ( 42 )

( أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ ) عهود ومواثيق ( عَلَيْنَا بَالِغَةٌ ) مؤكدة عاهدناكم عليها فاستوثقتم بها منا فلا ينقطع عهدكم ( إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ ) في ذلك العهد ( لَمَا تَحْكُمُونَ ) لأنفسكم من الخير والكرامة عند الله. وكسر « إن » في الآيتين لدخول اللام في خبرهما. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:

( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ) كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين؟

( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ ) أي عندهم شركاء لله أرباب تفعل هذا. وقيل: شهداء يشهدون لهم بصدق ما يدعونه. ( فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ )

( يَوْمَ يُكْشَفُ عنْ سَاقٍ ) قيل: « يوم » ظرف لقوله فليأتوا بشركائهم، أي: فليأتوا بها في ذلك اليوم لتنفعهم وتشفع لهم « يوم يكشف عن ساق » قيل: عن أمر فظيع شديد، قال ابن عباس: هو أشد ساعة في القيامة.

قال سعيد بن جبير: « يوم يكشف عن ساق » عن شدة الأمر.

وقال ابن قتيبة: تقول العرب للرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج فيه إلى الجد ومقاساة الشدة: شمر عن ساقه ويقال: إذا اشتد الأمر في الحرب: كشفت الحرب عن ساق.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن [ سفيان ] حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني سويد بن سعيد، حدثني جعفر، حدثني حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناسا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نعم هل تُضَارُّون في رؤيةِ الشمس بالظهيرة صَحْوًا ليس معها سحاب؟ وهل تُضَارُّون في رؤية القمر ليلة البدر صحوًا ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله قال: ما تُضَارُّون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تُضَارُّون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة أذَّن مُؤَذِّنٌ لِتَتْبَع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد الله من بَرِّ وفَاجرٍ وغُيَّرِ أهلِ الكِتاب فَتُدعى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله فيقال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبةٍ ولا ولدٍ، فماذا تبغون؟ فقالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم: ألا تَرِدُون؟ فيحشرون إلى النار كأنها سرابٌ يَحْطِمُ بعضُها بعضًا فيتساقطون في النار. ثم تدعى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيحَ ابن الله، فيقال لهم: ما اتخذ الله من صاحبةٍ ولا ولدٍ، فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا رَّبنا فاسقِنا فيشار إليهم: ألا تَرِدُون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يَحْطِم بعضُها بعضًا فيتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم ربُّ العالمين في أدنى صورة من التي رَأَوْه فيها قال: فماذا تنتظرون؟ لِتْتبَع كل أمة ما كانت تعبُدُ قالوا يا ربنا فارَقْنا الناسَ في الدنيا أفقرَ ما كنا إليهم ولم نصاحبْهم. فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئًا مرتين أو ثلاثًا حتى إن بعضَهم ليَكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آيةٌ تعرفونه بها فيقولون: نعم فيكشف عن ساقٍ فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أَذِنَ الله له بالسجود فلا يبقى مَنْ كان يسجد نفاقًا ورياءً إلا جعل الله ظهْرَه طبقةً واحدةً كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ثم يرفعون رءوسَهم وقد تحوَّل في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقال: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا ثم يُضْرَب الجسر على جهنم وتحلّ الشفاعة، ويقولون: اللهم سلِّم سلم، قيل يا رسول الله وما الجسر؟ قال: دحضٌ مُزِلَّةٌ فيه خطاطيف وكلاليب وحسكةٌ يكون بنجد فيها شويكة يقال لها السَّعْدان، فيمر المؤمنون كطْرفِ العين وكالبرقِ وكالريحِ وكالطيرِ وكأجاويدِ الخيلِ والركابِ فناجٍ مُسَلَّمٌ ومخدوشٌ مُرْسَل ومكردسٌ في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشدَّ لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أَخْرِجُوا من عرفتم فتُحرَّم صورهم على النار فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أخذتِ النار إلى نصف ساقه وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحدٌ مِمَّنْ أمرتَنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثال نصف دينارٍ من خيرٍ فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا ثم يقولون: ربنا لم نذرْ فيها ممن أمرتنا به أحدًا ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرةٍ من خيرٍ فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا ثم يقولون: ربنا لم نذرْ فيها أحدًا فيه خير ممن أمرتنا به وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ( النساء- 40 ) فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط قد عادوا حممًا فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحِبَّة في حَمِيل السيل، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون منها إلى الشمس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض؟ قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله من النار الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، ثم يقول: » ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا: أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا فيقولون: يا ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا « . »

وروى محمد بن إسماعيل هذا الحديث عن يحيى بن بكير عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم بهذا المعنى أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعةً، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا » .

قوله عز وجل: ( وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ) يعني: الكفار والمنافقين تصير أصلابهم كصياصي البقر، فلا يستطيعون السجود.

 

خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ( 43 )

( خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ) وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم من السجود ووجوههم أشد بياضا من الثلج وتسود وجوه الكافرين والمنافقين ( تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) يغشاهم ذل الندامة والحسرة ( وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ) قال إبراهيم التيمي: يعني إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة وقال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون ( وَهُمْ سَالِمُونَ ) أصحاء فلا يأتونه قال كعب الأحبار: والله ما نـزلت هذه الآية إلا عن الذين يتخلفون عن الجماعات.

فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ( 44 ) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( 45 ) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ( 46 ) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( 47 ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ( 48 ) لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ( 49 ) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 50 )

( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ) أي فدعني والمكذبين بالقرآن وخل بيني وبينهم. قال الزجاج: معناه لا تشغل قلبك بهم [ كِلْهُم ] إليَّ فإني [ أكفيكهم ] [ قال ومثله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا معناه في اللغة: لا تشغل قلبك به وكله إليَّ فإني أجازيه. ومثله قول الرجل: ذرني وإياه، ليس أنه منعه منه ولكن تأويله كِلْه، فإني أكفيك أمره ]

قوله تعالى: ( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ) سنأخذهم بالعذاب ( مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ، فعذبوا يوم بدر. ( وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيدِي مَتِينٌ أَمْ تَسأَلُهُمْ أَجرًا فَهُمْ مِنْ مَّغْرَمٍ مُّثقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الغَيبُ فَهُمْ يَكتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) اصبر على أذاهم لقضاء ربك ( وَلا تَكُنْ ) في الضجر والعجلة ( كَصَاحِبِ الْحُوتِ ) وهو يونس بن متى ( إِذْ نَادَى ) ربه [ في ] بطن الحوت ( وَهُوَ مَكْظُومٌ ) مملوء غمًا.

( لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ ) أدركته ( نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) حين رحمه وتاب عليه ( لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ ) لطرح بالفضاء من بطن الحوت ( وَهُوَ مَذْمُومٌ ) يذم ويلام بالذنب [ يذنبه ] .

( فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ ) اصطفاه ( فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ )

وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ( 51 ) وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ( 52 )

( وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ) وذلك أن الكفار أرادوا أن يصيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين فنظر إليه قومٌ من قريش وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه.

وقيل: كانت العين في بني أسد حتى كانت الناقة والبقرة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول: يا جارية خذي المكتل والدراهم فأتينا بشيء من لحم هذه فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر .

وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثًا ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنمًا أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلا حتى تسقط منها طائفة وعدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به مثل ذلك، فعصم الله نبيه وأنـزل: « وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم » أي ويكاد ودخلت اللام في « ليزلقونك » لمكان « إن » وقرأ أهل المدينة: « لَيزْلقونك » بفتح الياء، والآخرون بضمها وهما لغتان، يقال: زلقَه يَزلُقه زلقًا وأَزْلَقهُ يزلُقه إزلاقًا.

قال ابن عباس: معناه: ينفذونك، ويقال: زلق السهم: إذا أنفذ.

قال السدي: يصيبونك بعيونهم. قال النضير بن شميل: يعينونك. وقيل: يزيلونك.

وقال الكلبي: يصرعونك. وقيل: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة.

قال ابن قتيبة: ليس يريد أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرًا شديدًا بالعداوة والبغضاء، يكاد يسقطك .

وقال الزجاج: يعني من شدة عداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك. وهذا مستعمل في [ كلام العرب ] يقول القائل: نَظر إليَّ نظرًا يكاد يصرعني، ونظرا يكاد يأكلني. يدل على صحة هذا المعنى: أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهو قوله: ( لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ) وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهية فيحدون إليه النظر بالبغضاء ( وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) أي ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن. فقال الله تعالى:

( وَمَا هُوَ ) يعني القرآن ( إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) قال ابن عباس: موعظة للمؤمنين. قال الحسن: دواء إصابة العين أن يقرأ الإنسان هذه الآية .

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال حدثنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « العين حق » ونهى عن الوشم .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، حدثنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي، أخبرنا أبو نصر بن محمد بن حمدويه بن سهل المروزي، حدثنا محمود [ بن آدم المروزي ] حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر، عن عبيد بن رفاعة الزرقي أن أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ قال: « نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين » .

 

سورة الحاقة

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَاقَّةُ ( 1 ) مَا الْحَاقَّةُ ( 2 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ( 3 ) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ( 4 ) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ( 5 )

( الْحَاقَّةُ ) يعني القيامةُ سميت حاقة لأنها حقت فلا كاذبة لها. وقيل لأن فيها حواق الأمور وحقائقها ولأن فيها يحق الجزاء على الأعمال، أي يجب يقال: حق عليه الشيء إذا وجب يحق [ حقوقا ] قال الله تعالى: وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( الزمر- 71 ) قال الكسائي: « الحاقة » يوم الحق. ( مَا الْحَاقَّةُ ) هذا استفهام معناه التفخيم لشأنها كما يقال: زيد ما زيد على التعظيم لشأنه. ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ) أي أنك لا تعلمها إذ لم تعاينها ولم تر ما فيها من الأهوال. ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ) قال ابن عباس وقتادة: بالقيامة سميت قارعة لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة. وقيل: كذبت بالعذاب الذي أوعدهم نبيهم حتى نـزل بهم فقرع قلوبهم. ( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) أي بطغيانهم وكفرهم. قيل: هي مصدر، وقيل: نعت أي بفعلهم الطاغية وهذا معنى قول مجاهد، كما قال: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ( الشمس- 11 ) وقال قتادة: بالصيحة الطاغية، وهي التي جاوزت مقادير الصياح فأهلكتهم. وقيل: طغَت على الخُزَّان [ فلم يكن لهم عليها سبيل ولم يعرفوا كم خرج منها ] كما طغى الماء على قوم نوح.

وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ( 6 ) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( 7 ) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ( 8 )

( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) عتت على خُزَّانها فلم تطعهم ولم يكن لهم عليها سبيل، وجاوزت المقدار فلم يعرفوا كم خرج منها. ( سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ ) أرسلها عليهم. وقال مقاتل: سلطها عليهم ( سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ) قال وهب: هي الأيام التي تسميها العرب أيام العجوز، ذات برد ورياح شديدة. قيل: سميت عجوزًا لأنها في عجز الشتاء. وقيل: سميت بذلك لأن عجوزًا من قوم عاد دخلت سربًا فتبعتها الريح، فقتلتها اليوم الثامن من نـزول العذاب وانقطع العذاب ( حُسُومًا ) قال مجاهد وقتادة: متتابعة ليس لها فترة، فعلى هذا فهو من حسم الكَيّ وهو أن يتابع على موضع الداء بالمكواة حتى يبرأ، ثم قيل لكل شيء توبع: حاسم وجمعه حسوم، مثل شاهد وشهود، وقال الكلبي ومقاتل: حسومًا دائمة. وقال النضر بن شميل: حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم، والحسم: القطع والمنع ومنه حسم الداء. قال الزجاج: [ الذي توجبه الآية فعلى معنى ] تحسمهم حسوما تفنيهم وتذهبهم. وقال عطية: حسومًا كأنها حسمت الخير عن أهلها ( فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا ) أي في تلك الليالي والأيام ( صَرْعَى ) هلكى جمع صريع ( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) ساقطة، وقيل: خالية الأجواف. ( فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ) أي من نفس باقية، يعني: لم يبق منهم أحد.

 

وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ( 9 ) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ( 10 ) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ( 11 )

( وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ ) قرأ أهل البصرة والكسائي بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن معه من جنوده وأتباعه، وقرأ الآخرون بفتح القاف وسكون الباء، أي ومن قبله من الأمم الكافرة ( وَالْمُؤْتَفِكَاتُ ) أي: قرى قوم لوط، يريد: أهل المؤتفكات. وقيل يريد الأمم الذين ائتفكوا بخطيئتهم، أي أهلكوا بذنوبهم ( بِالْخَاطِئَةِ ) أي بالخطيئة والمعصية وهي الشرك. ( فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ ) يعني لوطًا وموسى ( فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ) نامية. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: شديدة. وقيل: زائدة على عذاب الأمم. ( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ ) أي عتا وجاوز حده حتى علا على كل شيء وارتفع فوقه، يعني زمن نوح عليه السلام ( حَمَلْنَاكُمْ ) أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم ( فِي الْجَارِيَةِ ) في السفينة التي تجري في الماء.

لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ( 12 ) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ( 13 ) وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ( 14 ) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( 15 ) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ( 16 ) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ( 17 )

( لِنَجْعَلَهَا ) أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا مِنْ إِغْراق قوم نوح ونجاة من حملنا معه ( لَكُمْ تَذْكِرَةً ) عبرة وموعظة ( وَتَعِيَهَا ) قرأ القواس عن ابن كثير وسليم عن حمزة باختلاس العين، وقرأ الآخرون بكسرها أي تحفظها ( أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) أي: حافظة لما جاء من عند الله. قال قتادة: [ أذن ] سمعت وعقلت ما سمعت. قال الفَّراء: لتحفظها كل أذن فتكون عبرة وموعظة لمن يأتي بعد . ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ) وهي النفخة الأولى. ( وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ ) رفعت من أماكنها ( فَدُكَّتَا ) كسرتا ( دَكَّةً ) كسرة ( وَاحِدَةً ) فصارتا هباءً [ منثورًا ] . ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) قامت القيامة. ( وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ) ضعيفة. قال الفراء: وَهْيُها: تشُّقُقها . ( وَالْمَلَكُ ) يعني الملائكة ( عَلَى أَرْجَائِهَا ) نواحيها وأقطارها ما لم ينشق منها واحدها: « رجا » مقصورًا وتثنيته رَجَوَان. قال الضحاك: تكون الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الرب فينـزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ ) أي فوق رءوسهم يعني الحملة ( يَوْمَئِذٍ ) يوم القيامة ( ثَمَانِيَةٌ ) أي ثمانية أملاك.

جاء في الحديث: « إنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخرى، فكانوا ثمانية على صورة الأوعال ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء » .

وجاء في الحديث: « لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر » .

أخبرنا أبو بكر بن الهيثم الترابي، أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي، أخبرنا محمد بن يحيى الخالدي، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم [ الحنظلي ] حدثنا عبد الرزاق، حدثنا يحيى بن العلاء، عن عمه شعيب بن خالد، حدثنا سماك بن حرب، عن عبد الله بن عميرة، عن العباس بن عبد المطلب قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فمرت سحابة فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: « أتدرون ما هذا؟ قلنا: السحاب. قال: والمزن؟ قلنا: والمزن، قال: والعنان؟ فسكتنا فقال: هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكذلك غلظ كل سماء خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض [ ثم بين ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن كما بين السماء والأرض ] ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء » .

ويروى هذا عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس.

وروي عن ابن عباس أنه قال: « فوقهم يومئذ ثمانية » أي: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله .

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ( 18 ) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ( 19 ) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ( 20 ) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ( 21 ) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( 22 ) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ( 23 )

( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ) على الله ( لا تَخْفَى ) قرأ حمزة والكسائي: « لا يخفى » بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء ( مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ) أي فِعْلة خافية. قال الكلبي: لا يخفى على الله منكم شيء. قال أبو موسى: يعرض الناس ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما العرضة الثالثة فعندها تطاير الصحف فآخذ بيمينه وآخذ بشماله وذلك قوله عز وجل: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ) تعالوا اقرءوا كتابيه الهاء في « كتابيه » هاء الوقف. ( إِنِّي ظَنَنْتُ ) علمت وأيقنت ( أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ) أي: [ أني ] أحاسب في الآخرة. ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ ) حالة من العيش ( رَاضِيَة ) مرضية كقوله: مَاءٍ دَافِقٍ ( الطارق- 6 ) يريد: يرضاها بأن لقي الثواب وأمن العقاب. ( فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ) رفيعة. ( قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ) ثمارها قريبة لمن يتناولها [ في كل أحواله ينالها ] قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا يقطعون كيف شاءوا. ويقال لهم:

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ( 24 ) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ( 25 ) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ( 26 ) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ( 27 ) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ( 28 ) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ( 29 ) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ( 30 ) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ( 31 ) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ( 32 )

( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ ) قدمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة ( فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ ) الماضية يريد أيام الدنيا. ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ) قال ابن السائب: تُلْوَى يده اليسرى [ من صدره ] خلف ظهره ثم يعطى كتابه. وقيل: تنـزع يده اليسرى من صدره إلى خلف ظهره ثم يعطى كتابه؛ ( فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَم أَدرِ مَا حِسَابِيَه ) يتمنى أنه لم يؤت كتابه لما يرى فيه من قبائح أعماله. ( يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ) يقول: يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاضية الفارغة من كل ما بعدها والقاطعة للحياة، فلم أحيَ بعدها. و « القاضية » موت لا حياة بعده يتمنى أنه لم يبعث للحساب. قال قتادة: يتمنى الموت ولم يكن عنده في الدنيا شيء أكره من الموت. ( مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ) لم يدفع عني من عذاب الله شيئًا. ( هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ) ضلت عني حجتي، عن أكثر المفسرين. وقال ابن زيد: زال عني ملكي وقوتي. قال مقاتل: يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك، يقول الله لخزنة جهنم: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ) اجمعوا يده إلى عنقه. ( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي: أدخِلوه الجحيم. ( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ) فأدخلوه فيها. قال ابن عباس: سبعون ذراعا بذراع المَلكَ، فتدخل في دبره وتخرج من منخره . وقيل: تدخل في فيه وتخرج من دبره. وقال نوف البكالي: سبعون ذراعا كل ذراع سبعون باعًا كل باع أبعد مما بينك وبين مكة، وكان في رحبة الكوفة وقال سفيان: كل ذراع سبعون ذراعا. قال الحسن: الله أعلم أي ذراع هو.

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن يزيد، عن أبي السمح، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو أن [ رضاضة ] مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفًا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها » .

وعن كعب قال: لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقه منها.

إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ( 33 ) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 34 )

( إِنَّه كَانَ لا يُؤمِنُ بِاللهَّ العَظِيم وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) لا يطعم المسكين في الدنيا ولا يأمر أهله بذلك.

 

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ( 35 ) وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ ( 36 ) لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ ( 37 ) فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لا تُبْصِرُونَ ( 39 )

( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ) قريب ينفعه ويشفع له. ( وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ ) وهو صديد أهل النار، مأخوذ من الغسل، كأنه غسالة جروحهم وقروحهم. قال الضحاك والربيع: هو شجر يأكله أهل النار. ( لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ ) أي: الكافرون. ( فَلا أُقْسِمُ ) « لا » رد لكلام المشركين، كأنه قال: ليس كما يقول المشركون أقسم ( بِمَا تُبْصِرُونَ ) أي بما ترون وبما لا ترون. قال قتادة: أقسم بالأشياء كلها فيدخل فيه جميع [ المخلوقات ] والموجودات. وقال: أقسم بالدنيا والآخرة. وقيل: « ما تبصرون » ما على وجه الأرض، و « ما لا تبصرون » ما في بطنها. وقيل: « ما تبصرون » من الأجسام و « ما لا تبصرون » من الأرواح. وقيل: « ما تبصرون » الإنس و « ما لا تبصرون » الملائكة والجن. وقيل النعم الظاهرة والباطنة. وقيل: « ما تبصرون » ما أظهر الله للملائكة واللوح والقلم: و « ما لا تبصرون » ما استأثر بعلمه فلم يطلع عليه أحدا.

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ( 44 ) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 )

( إِنَّهُ ) يعني القرآن ( لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) أي تلاوة رسول كريم، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم. ( وَمَا هُوَ بِقَولِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَّا تُؤمِنُون وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ) قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب: « يؤمنون ويذكرون » بالياء فيهما، وقرأ الآخرون بالتاء، وأراد بالقليل نفي إيمانهم أصلا كقولك لمن لا يزورك: قلما تأتينا. وأنت تريد: لا تأتينا أصلا. ( تَنـزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ ) تخرَّص واختلق ( عَلَيْنَا ) محمد ( بَعْضَ الأقَاوِيلِ ) وأتى بشيء من عند نفسه. ( لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) قيل « مِنْ » صلة مجازه: لأخذناه وانتقمنا منه باليمين أي بالحق، كقوله: كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ( الصافات- 28 ) أي: من قبل الحق. وقال ابن عباس: لأخذناه بالقوة والقدرة. قال الشماخ في عرابة ملك اليمن:

إذا مــا رايــةٌ رُفِعَــت لمَجْــدٍ تلقَّاهــــا عُرَابَـــةُ بـــاليَمِين

أي بالقوة، عبر عن القوة باليمين لأن قوة كل شيء في ميامنه.

وقيل: معناه لأخذنا بيده اليمنى، وهو مثل معناه: لأذللناه وأهنَّاه كالسلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من يريد يقول لبعض أعوانه: خذ بيده فأقمه.

ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) قال ابن عباس: أي نياط القلب وهو قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد: الحبل الذي في الظهر. وقيل هو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، فإذا انقطع مات صاحبه. ( فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) مانعين يحجزوننا عن عقوبته، والمعنى: أن محمدًا لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه بأنه لو تكلفه لعاقبناه ولا يقدر أحد على دفع عقوبتنا عنه، وإنما قال: « حاجزين » بالجمع وهو فعْل واحدٍ ردًا على معناه كقوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ( البقرة- 285 ) . ( وَإِنَّهُ ) يعني القرآن ( لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) أي لعظة لمن اتقى عقاب الله. ( وَإِنَّا لَنَعلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ) يوم القيامة يندمون على ترك الإيمان به.

( وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ) أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين.

( فَسَبِّح بِاسمِ رَبِّكَ العَظِيم ) .

 

سورة المعارج

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 )

( سَأَلَ سَائِلٌ ) قرأ أهل المدينة والشام: « سال » بغير همز وقرأ الآخرون بالهمز، فمن همز فهو من السؤال، ومن قرأ بغير همز قيل: هو لغة في السؤال، يقال: سال يسال مثل خاف يخاف [ يعني ] سال يسال خفف الهمزة وجعلها ألفًا.

وقيل: هو من السيل، والسايل واد من أودية جهنم، يروى ذلك عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والأول أصح.

واختلفوا في الباء في قوله: « بعذاب » قيل: هي بمعنى « عن » كقوله: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ( الفرقان- 59 ) [ أي عنه خبيرا ]

ومعنى الآية: سأل سائل عن عذاب ( وَاقِعٍ ) نازل كائن على من ينـزل ولمن ذلك العذاب فقال الله مبينًا مجيبًا لذلك السائل: ( لِلْكَافِرينَ ) وذلك أن أهل مكة لما خوفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال بعضهم لبعض: مَنْ أهل هذا العذاب؟ ولمن هو؟ سلوا عنه محمدًا فسألوه فأنـزل الله: « سأل سائل بعذاب واقع للكافرين » أي: هو للكافرين، هذا قول الحسن وقتادة. وقيل: الباء صلة ومعنى الآية: دعا داع وسأل سائل عذابًا واقعًا للكافرين، أي: على الكافرين، اللام بمعنى « على » وهو النضر بن الحارث حيث دعا على نفسه وسأل العذاب، فقال: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية ( الأنفال- 32 ) فنـزل به ما سأل يوم بدر فقتل صبرًا، وهذا قول ابن عباس ومجاهد: ( لَيْسَ لَهُ ) أي للعذاب ( دَافِعٌ ) مانع.

مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 )

( مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ) قال ابن عباس: أي ذي السماوات، سماها معارج لأن الملائكة تعرج فيها. وقال سعيد بن جبير: ذي الدرجات. وقال قتادة: ذي الفواضل والنعم [ ومعارج: الملائكة ] . ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ ) قرأ الكسائي « يعرج » بالياء، وهي قراءة ابن مسعود، وقرأ الآخرون « تعرج » بالتاء ( وَالرُّوحُ ) يعني جبريل عليه السلام ( إِلَيْهِ ) أي إلى الله عز وجل ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) من سني الدنيا لو صعد غير الملك وذلك أنها تصعد منتهى أمر الله تعالى من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمر الله تعالى من فوق السماء السابعة.

روى ليث عن مجاهد أن مقدار هذا خمسون ألف سنة .

وقال محمد بن إسحاق: لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش لساروا خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

وقال عكرمة وقتادة: هو يوم القيامة. وقال الحسن أيضا: هو يوم القيامة. وأراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا، ليس يعني به مقدار طوله هذا دون غيره لأن يوم القيامة له أول وليس له آخر لأنه يوم ممدود، ولو كان له آخر لكان منقطعًا.

وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو يوم القيامة يكون على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة .

أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي، أخبرنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي، أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، عن دراج أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة: فما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا » .

وقيل: معناه لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله لم يفرغ منه خمسين ألف سنة. وهذا معنى قول عطاء عن ابن عباس ومقاتل. قال عطاء: ويفرغ الله منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا.

وروى محمد بن الفضل عن الكلبي قال: يقول لو ولّيت حساب ذلك اليوم الملائكةَ والجنَّ والإنسَ وطوقُتهم محاسبتهم لم يفرغوا منه إلا بعد خمسين ألف سنة، وأنا أفرغ منها في ساعة [ واحدة ] من النهار.

وقال يمان: هو يوم القيامة فيه خمسون موطنًا، كل موطن ألف سنة. وفيه تقديم وتأخير كأنه قال: ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه.

فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 )

( فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا ) يا محمد على تكذيبهم وهذا قبل أن يؤمر بالقتال. ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ) يعني العذاب ( وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) لأن ما هو آت قريب. ( يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ) كعكر الزيت. وقال الحسن: كالفضة إذا أذيبت. ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ) كالصوف المصبوغ. ولا يقال: « عهن » إلا للمصبوغ. وقال مقاتل: كالصوف المنفوش. وقال الحسن: كالصوف الأحمر وهو أضعف الصوف وأول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا ثم عهنًا منفوشًا، ثم تصير هباءً منثورًا.

وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 )

( وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ) قرأ البزي عن ابن كثير « لا يسأل » بضم الياء أي: لا يُسأل حميم عن حميم، أي لا يقال له: أين حميمك؟ وقرأ الآخرون بفتح الياء، أي: لا يسأل قريب قريبًا لشغله بشأن نفسه.

 

يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ( 14 ) كَلا إِنَّهَا لَظَى ( 15 ) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ( 16 )

( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يرونهم، وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس، فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته فلا يسأله، ويبصر حميمه فلا يكلمه لاشتغاله بنفسه.

قال ابن عباس: يتعارفون ساعة من النهار ثم لا يتعارفون بعده.

وقيل: « يبصرونهم » يُعَرَّفونهم، أي: يُعَرَّفُ الحميم حميمه حتى يعرفهُ ومع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه.

وقال السدي: يعرفونهم أما المؤمن فببياض وجهه وأما الكافر فبسواد وجهه ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ ) يتمنى المشرك ( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ) ( وَصَاحِبَتِهِ ) زوجته ( وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ ) عشيرته التي فصل منهم. وقال مجاهد: قبيلته. وقال غيره: أقرباؤه الأقربون ( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) أي التي تضمه ويأوي إليها. ( وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ) ذلك الفداء من عذاب [ ربك ] . ( كَلا ) لا ينجيه من عذاب الله شيء ثم ابتدأ فقال: ( إِنَّهَا لَظَى ) وهي اسم من أسماء جهنم. وقيل: هي الدركة الثانية سميت بذلك لأنها تتلظى أي: تتلهب. ( نـزاعَةً لِلشَّوَى ) قرأ حفص عن عاصم « نـزاعة » نصب على الحال والقطع، وقرأ الآخرون بالرفع أي هي نـزاعة للشوى، وهي [ الأطراف ] اليدان والرجلان [ وسائر ] الأطراف. قال مجاهد: لجلود الرأس. وروى إبراهيم بن مهاجر عنه: [ تنـزع ] اللحم دون العظام.

قال مقاتل: تنـزع النار الأطراف فلا تترك لحمًا ولا جلدًا.

وقال الضحاك: تنـزع الجلد واللحم عن العظم.

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: العصب والعقب.

وقال الكلبي: لأمِّ الرأس تأكل الدماغ كله ثم يعود كما كان، ثم تعود لأكله فذلك دأبها.

وقال قتادة: لمكارم خلقه وأطرافه. قال أبو العالية: لمحاسن وجهه.

وقال ابن [ جرير ] « الشوى » جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلا يقال: رمى فأشوى إذا أصاب الأطراف ولم يصب المقتل .

تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَى ( 18 ) إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ( 19 ) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ( 20 ) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ( 21 )

( تَدْعُو ) أي: النار إلى نفسها ( مَنْ أَدْبَرَ ) على الإيمان ( وَتَوَلَّى ) عن الحق فتقول إليَّ يا مشرك إليَّ يا منافق إليَّ إليَّ. قال ابن عباس: تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. حُكي عن الخليل: أنه قال: تدعو أي تعذب. وقال: قال أعرابي لآخر: دعاك الله أي عذبك الله. ( وَجَمَعَ ) أي: جمع المال ( فَأَوْعَى ) [ أمسكه ] في الوعاء ولم يُؤدِ حق الله منه. ( إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ) روى السدي عن أبي صالح عن ابن عباس [ قال ] « الهلوع » الحريص على ما لا يحل له. وقال سعيد بن جبير: شحيحًا. وقال عكرمة: ضجورًا. وقال الضحاك والحسن: بخيلا. وقال قتادة: جزوعًا. وقال مقاتل: ضيق القلب. والهلع: شدة الحرص وقلة الصبر. وقال عطية عن ابن عباس: تفسيره ما بعده وهو قوله: ( إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) أي: إذا أصابه الفقر لم يصبر، وإذا أصاب المال لم ينفق. قال ابن كيسان: خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويهرب مما يكره، ثم تعبده بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره. ثم استثنى فقال:

إِلا الْمُصَلِّينَ ( 22 ) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ( 23 ) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ( 24 ) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( 25 ) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ( 26 ) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ( 27 ) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ( 28 ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ( 29 ) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ( 30 ) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ( 31 ) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( 32 ) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ( 33 )

( إِلا الْمُصَلِّينَ ) استثنى الجمع من الوحدان لأن الإنسان في معنى الجمع [ كقوله: إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا ] . ( الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ) يقيمونها في أوقاتها يعني الفرائض.

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، حدثنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن ابن لهيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب: أن أبا الخير أخبره قال: سألنا عقبة بن عامر عن قول الله تعالى: « الذين هم على صلاتهم دائمون » أهم الذين يصلون أبدًا؟ قال: لا ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا من خلفه . ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ) قرأ حفص عن عاصم ويعقوب: « بشهاداتهم » على الجمع، وقرأ الآخرون [ بشهاداتهم ] [ على التوحيد ] ( قَائِمُونَ ) أي يقومون فيها بالحق أو لا يكتمونها ولا يغيرونها.

وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( 34 ) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ( 35 ) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ( 36 ) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ( 37 ) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ( 38 ) كَلا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ( 39 )

( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ) .

( فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: فما بال الذين كفروا، كقوله: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ( المدثر- 49 ) ( قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) مسرعين مقبلين إليك ماديّ أعناقهم ومديمي النظر إليك متطلعين نحوك.

نـزلت في جماعة من الكفار كانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون كلامه ويستهزئون به ويكذبونه، فقال الله تعالى: ما لهم ينظرون إليك ويجلسون عندك وهم لا ينتفعون بما يستمعون . ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ) حلقًا وفرقًا، و « العزين » جماعات في تفرقة، واحدتها عِزَة. ( أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ) قال ابن عباس: معناه أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنَّتي كما يدخلها المسلمون ويتنعم فيها وقد كذَّب نبيي؟ ( كَلا ) لا يدخلونها. ثم ابتدأ فقال: ( إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) أي: من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، نبه الناس على أنهم خلقوا من أصل واحد وإنما يتفاضلون ويستوجبون الجنة بالإيمان والطاعة.

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا موسى بن محمد بن علي، حدثنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا جرير بن عثمان الرحبي، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن جبير بن نفير، عن بسر بن جحاش [ القرشي ] قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم وبصق يومًا في كفه ووضع عليها إصبعه فقال: يقول الله عز وجل: « ابن آدم أنَّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سوَّيتُك وعدلتُك ومشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة »

وقيل: معناه إنا خلقناهم [ من أجل ما يعملون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب.

وقيل: « ما » بمعنى « من » مجازه: إنا ] خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون لا كالبهائم.

 

فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ( 40 ) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( 41 ) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( 42 ) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ( 43 ) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( 44 )

( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ) يعني مشرق كل يوم من أيام السنة ومغربه ( إِنَّا لَقَادِرُونَ ) ( عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ ) على أن نخلق أمثل منهم وأطوع لله [ ورسوله ] ( وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا ) في باطلهم ( وَيَلْعَبُوا ) في دنياهم ( حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) نسختها آية القتال. ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ ) من القبور ( سِرَاعًا ) إلى إجابة الداعي ( كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ ) قرأ ابن عامر [ وابن عباس ] وحفص: « نُصُبٍ » بضم النون والصاد، وقرأ الآخرون بفتح النون وسكون الصاد يعنون إلى شيء منصوب، يقال: فلان نُصْبَ عيني. وقال الكلبي: إلى عَلَمٍ وراية. ومن قرأ بالضم، قال مقاتل والكسائي: يعني إلى أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله [ كقوله: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ( المائدة- 3 ) ] قال الحسن: يسرعون إليها أيهم يستلمها أولا ( يُوفِضُونَ ) يسرعون. ( خَاشِعَةً ) ذليلة خاضعة ( أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) يغشاهم هوان ( ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) يعني يوم القيامة.

 

سورة نوح

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 1 ) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 2 ) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ( 3 ) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 4 ) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا ( 5 ) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا ( 6 )

( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ ) أي: بأن أنذر قومك ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) المعنى: إنا أرسلناه لينذرهم بالعذاب إن لم يؤمنوا. ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) أنذركم وأبين لكم [ رسالة الله بلغة تعرفونها ] . ( أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) « من » صلة، أي: يغفر لكم ذنوبكم. وقيل: يعني ما سلف من ذنوبكم إلى وقت الإيمان، وذلك بعض ذنوبهم ( وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي: يعافيكم إلى منتهى آجالكم فلا يعاقبكم ( إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) يقول: آمنوا قبل الموت تسلموا [ من العذاب ] فإن أجل الموت إذا جاء لا يؤخر ولا يمكنكم الإيمان. ( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا ) نفارًا وإدبارًا عن الإيمان [ والحق ] .

وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ( 7 ) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ( 8 ) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ( 9 ) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ( 10 )

( وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ ) إلى الإيمان بك ( لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ ) لئلا يسمعوا دعوتي ( وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ ) غطوا بها وجوههم لئلا يروني ( وَأَصَرُّوا ) على كفرهم ( وَاسْتَكْبَرُوا ) عن الإيمان بك ( اسْتِكْبَارًا ) ( ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ) معلنا بالدعاء. قال ابن عباس: بأعلى صوتي. ( ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ ) كررت الدعاء مُعلنًا ( وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ) قال ابن عباس: يريد الرجل بعد الرجل أكلمه سرًّا بيني وبينهُ أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك . ( فَقُلتُ استَغفِرُوا رَبَّكُم إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا )

 

يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ( 11 )

( يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ) وذلك أن قوم نوح لما كذبوه زمانًا طويلا حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فهلكت أموالهم ومواشيهم، فقال لهم نوح: استغفروا ربكم من الشرك، أي استدعوا المغفرة بالتوحيد، يرسل السماء عليكم مدرارا.

وروى مطرف عن الشعبي أن عمر رضي الله تعالى عنه خرج يستسقي بالناس، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فقيل له: ما سمعناك استسقيت؟ فقال. طلبت الغيث [ بمجاديح ] السماء التي يستنـزل بها المطر، ثم قرأ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يرسل السماء عليكم مدرارا .

وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ( 12 ) مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ( 13 ) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ( 14 ) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ( 15 ) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ( 16 ) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا ( 17 ) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ( 18 ) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا ( 19 )

( وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ) قال عطاء: يكثر أموالكم وأولادكم ( وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ) قال ابن عباس ومجاهد: لا ترون لله عظمة. وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته. وقال الكلبي: لا تخافون الله حق عظمته.

و « الرجاء » بمعنى الخوف، و « الوقار » العظمة اسم من التوقير وهو التعظيم.

قال الحسن: لا تعرفون لله حقًا ولا تشكرون له نعمة.

قال ابن كيسان: ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرًا. ( وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) تارات حالا بعد حالٍ نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى تمام الخلق. ( أَلَم تَرَوا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ * طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ) قال الحسن: يعني في السماء الدنيا كما يقال: أتيت بني تميم، وإنما أتى بعضهم، وفلان متوار في دور بني فلان وإنما هو في دار واحدة. وقال عبد الله بن عمرو: إن الشمس والقمر وجوههما إلى السماوات، وضوء الشمس ونور القمر فيهن وأقفيتهما إلى الأرض . ويروى هذا عن ابن عباس .

( وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ) مصباحًا مضيئًا. ( وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا ) أراد مبدأ خلق آدم خلقه من الأرض والناس ولده، وقوله: « نباتا » اسم جعل في موضع المصدر أي إنباتًا قال الخليل: مجازه: أنبتكم فنبتُّم نباتًا. ( ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ) بعد الموت ( وَيُخْرِجُكُمْ ) منها يوم البعث أحياء ( إِخْرَاجًا ) ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا ) فرشها وبسطها لكم.

لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا ( 20 ) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا ( 21 ) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ( 22 ) وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ( 23 )

( لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا ) طرقًا واسعة. ( قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ) لم يجيبوا دعوتي ( وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا ) يعني: اتبع السفلةُ والفقراءُ القادةَ والرؤساءَ الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا وعقوبة في الآخرة. ( وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ) أي كبيرًا عظيمًا يقال: كبير وكبار بالتخفيف كُبَّار بالتشديد، كلها بمعنى واحد، كما يقال: أمر عجيب وعجَاب وعجَّاب بالتشديد وهو أشد في المبالغة.

واختلفوا في معنى مكرهم. قال ابن عباس: قالوا قولا عظيمًا. وقال الضحاك: افتروا على الله وكذبوا رسله وقيل: منع الرؤساء أتباعهم عن الإيمان بنوح [ وحرضوهم ] على قتله. ( وَقَالُوا ) لهم ( لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ) أي لا تتركوا عبادتها ( وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا ) قرأ أهل المدينة بضم الواو والباقون بفتحها ( وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا ) هذه أسماء آلهتهم.

قال محمد بن كعب: هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا كان لهم أتباع يقتدون بهم ويأخذون بعدهم بأخذهم في العبادة فجاءهم إبليس وقال لهم: لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة، ففعلوا ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك .

وسميت تلك الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صور أولئك القوم من المسلمين.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام عن ابن جريج وقال عطاء عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح [ تعبد ] في العرب [ بعده ] أما وَدّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يَغُوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ وأما يَعُوق فكانت لهمدان، وأما نَسْر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ذكره في تفسيره.

وروى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس قوله تعالى: « ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا » قال: كانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا فى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عُبِدَتْ .

وروي عن ابن عباس: أن تلك الأوثان دفنها الطوفان وطمها التراب، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب، وكانت للعرب أصنام أخر فاللات كانت لثقيف، والعزى لسليم وغطفان وجشم ومناة لقديد، وإساف ونائلة وهُبل لأهل مكة.

وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا ( 24 ) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ( 25 )

( وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا ) أي: ضل بسبب الأصنام كثير من الناس كقوله عز وجل: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ( إبراهيم- 36 ) وقال مقاتل: أضل كبراؤهم كثيرًا من الناس ( وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا ) هذا دعاء عليهم بعدما أعلم الله نوحًا أنهم لا يؤمنون، وهو قوله: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ ( هود- 36 ) . ( مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ ) أي: من خطيئاتهم و « ما » صلة، وقرأ أبو عمرو: « خطاياهم » وكلاهما جمع خطيئة ( أُغْرِقُوا ) بالطوفان ( فَأُدْخِلُوا نَارًا ) قال الضحاك: هي في حالة واحدة في الدنيا يغرقون من جانب ويحترقون من جانب، وقال مقاتل: فأدخلوا نارًا في الآخرة ( فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ) لم يجدوا أحدًا يمنعهم من عذاب الله.

وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ( 26 ) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا ( 27 ) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا ( 28 )

( وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) أحدًا يدور في الأرض فيذهب ويجيء أصله من الدوران وقال [ ابن قتيبة ] إن أصله من الدار، أي: نازل دار . ( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ ) قال ابن عباس، والكلبي ومقاتل: كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي حذرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير عليه ( وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا ) قال محمد بن كعب، ومقاتل، والربيع، وغيرهم: إنما قال نوح هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة. [ وقيل سبعين سنة ] وأخبر الله نوحا أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنًا فحينئذ دعا عليهم نوح فأجاب الله دعاءه، وأهلكهم كلهم ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب لأن الله تعالى قال: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ ( الفرقان- 37 ) ولم يوجد التكذيب من الأطفال . ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ) واسم أبيه: لمك بن متوشلخ، واسم أمه: سمحاء بنت أنوش، وكانا مؤمنين [ وقيل اسمها هيجل بنت لاموش بن متوشلخ فكانت بنت عمه ] ( وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ ) داري ( مُؤْمِنًا ) وقال الضحاك والكلبي: مسجدي. وقيل: سفينتي ( وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) هذا عام في كل من آمن بالله وصدَّق الرسل ( وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا ) هلاكًا ودمارًا فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم.

 

سورة الجن

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ( 1 ) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ( 2 ) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا ( 3 )

( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ) وكانوا تسعة من جن نصيبين. وقيل سبعة استمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ذكرنا خبرهم في سورة الأحقاف ( فَقَالُوا ) لما رجعوا إلى قومهم ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ) قال ابن عباس: بليغًا أي: قرآنًا ذا عجب يُعجَب منه لبلاغته. ( يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ) يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان ( فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ) ( وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) قرأ أهل الشام والكوفة غير أبي بكر عن عاصم: « وأنه تعالى » بفتح الهمزة وكذلك ما بعده إلى قوله وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وقرأ الآخرون بكسرهن، وفتح أبو جعفر منها « وأنه » وهو ما كان مردودا [ إلى ] الوحي وكسر ما كان حكاية عن الجن.

والاختيار كسر الكل لأنه من قول الجن لقومهم فهو معطوف على قوله: « فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا » وقالوا: « وأنه تعالى » .

ومن فتح ردَّه على قوله: « فآمنا به » وآمنا بكل ذلك؛ ففتح « أن » لوقوع الإيمان عليه.

( جَدُّ رَبِّنَا ) [ جلال ] ربنا وعظمته، قاله مجاهد وعكرمة وقتادة. يقال: جَدَّ الرجلُ أي: عظم، ومنه قول أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ فينا أي: عظم قدره.

وقال السدي: « جد ربنا » أي أمر ربنا. وقال الحسن: غنى ربنا. ومنه قيل للجد: حظ ورجل مجدود.

وقال ابن عباس: قدرة ربنا. قال الضحاك: فعله.

وقال القرظي: آلاؤه ونعماؤه على خلقه.

وقال الأخفش: علا ملك ربنا ( مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا ) قيل: تعالى جل جلاله وعظمته عن أن يتخذ صاحبةً [ أو ولدًا ] .

وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ( 4 ) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ( 5 ) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ( 6 )

( وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا ) جاهلنا قال مجاهد وقتادة: هو إبليس ( عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ) كذبًا وعدوانًا وهو وصفه بالشريك والولد. ( وَأَنَّا ظَنَنَّا ) حسبنا ( أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ ) قرأ يعقوب « تقوّل » بفتح الواو وتشديدها ( عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) أي: كنا نظنهم صادقين في قولهم إن لله صاحبةً وولدًا حتى سمعنا القرآن. قال الله تعالى: ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ ) وذلك أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في أرض قفر، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح.

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، حدثنا أبو القاسم [ عبد الرحمن ] بن محمد بن إسحاق المروزي حدثنا موسى بن سعيد بن النعمان بطرسوس، حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي، حدثنا القاسم بن مالك، عن عبدالرحمن بن إسحاق، عن أبيه، عن كردم بن أبي سائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي [ فقال ] يا عامر الوادي جارك فنادى منادٍ لا نراه، يقول: يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة فأنـزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم بمكة ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) يعني زاد الإنسُ الجنَّ باستعاذتهم بقادتهم رهقًا.

قال ابن عباس: إثمًا. قال مجاهد: طغيانًا. قال مقاتل: غيًا. قال الحسن: شرًا قال إبراهيم: عظمةً وذلك أنهم كانوا يزدادون بهذا التعوذ طغيانًا يقولون: سدنا الجن والإنس، و « الرَّهق » في كلام العرب: الإثم وغشيان المحارم.

وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ( 7 ) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ( 8 ) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ( 9 )

( وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا ) يقول الله تعالى: إن الجن ظنوا ( كَمَا ظَنَنْتُمْ ) يا معشر الكفار من الإنس ( أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ) بعد موته. ( وَأَنَّا ) تقول الجن ( لَمَسْنَا السَّمَاءَ ) قال الكلبي: السماء الدنيا ( فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا ) من الملائكة ( وَشُهُبًا ) من النجوم. ( وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا ) من السماء ( مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ) أي: كنا نستمع ( فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ) أرصد له ليرمى به.

قال ابن قتيبة: إن الرجم كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يكن مثل ما كان بعد مبعثه في شدة الحراسة، وكانوا يسترقون السمع في بعض الأحوال، فلما بعث [ النبي صلى الله عليه وسلم ] منعوا من ذلك أصلا ثم قالوا:

وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ( 10 ) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ( 11 ) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا ( 12 ) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا ( 13 )

( وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ ) برمي الشهب ( أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ) ( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ) دون الصالحين ( كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ) أي: جماعات متفرقين وأصنافا مختلفة، والقِدَّة: القطعة من الشيء، يقال: صار القوم قددًا إذا اختلفت حالاتهم، وأصلها من القَدّ وهو القطع. قال مجاهد: يعنون: مسلمين وكافرين.

وقيل: [ ذوو ] أهواء مختلفة، وقال الحسن والسدي: الجن أمثالكم فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة.

وقال ابن كيسان: شيعًا وفرقًا لكل فرقة هوى كأهواء الناس.

وقال سعيد بن جبير: ألوانًا شتى، وقال أبو عبيدة: أصنافًا. ( وَأَنَّا ظَنَنَّا ) علمنا وأيقنا ( أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ ) أي: لن نفوته إن أراد بنا أمرًا ( وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا ) إن طلبنا. ( وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ) [ القرآن وما أتى به محمد ] ( آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا ) نقصانًا من عمله وثوابه ( وَلا رَهَقًا ) ظلمًا. وقيل: مكروهًا يغشاه.

 

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ( 14 )

( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ) وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ( وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ) الجائرون العادلون عن الحق. قال ابن عباس: هم الذين جعلوا لله ندا، يقال: أقسط الرجل إذا عدل فهو مسقط، وقسط إذا جار فهو قاسط ( فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ) أي: قصدوا طريق الحق وتوخَّوه.

وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ( 15 ) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ( 16 ) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ( 17 )

( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ ) الذين كفروا ( فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) كانوا وقود النار يوم القيامة. ثم رجع إلى كفار مكة فقال: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) اختلفوا في تأويلها فقال قوم: لو استقاموا على طريقة الحق والإيمان والهدى فكانوا مؤمنين مطيعين ( لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) كثيرًا قال مقاتل: وذلك بعدما رفع عنهم المطر سبع سنين. وقالوا معناه لو آمنوا لوسّعنا عليهم في الدنيا وأعطيناهم مالا كثيرًا وعيشًا رغدًا وضرب الماء الغدق مثلا لأن الخير والرزق كله في المطر، كما قال: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ الآية ( المائدة- 66 ) وقال: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ الآية ( الأعراف- 96 ) . وقوله تعالى: ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) أي: لنختبرهم كيف شكرهم فيما خُوِّلوا. وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل والحسن.

وقال آخرون: معناها وأن لو استقاموا على طريقة الكفر والضلالة لأعطيناهم مالا كثيرًا ولوسعنا عليهم لنفتنهم فيه، عقوبةً لهم واستدراجًا حتى يفتتنوا بها فنعذبهم، وهذا قول الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي وابن كيسان، كما قال الله: « فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ » الآية ( الأنعام- 44 ) .

( وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ ) قرأ أهل الكوفة ويعقوب: « يسلكه » بالياء وقرأ الآخرون بالنون، أي: ندخله ( عَذَابًا صَعَدًا ) قال ابن عباس: شاقًا والمعنى ذا صعد أي: ذا مشقة. قال قتادة: لا راحة فيه. وقال مقاتل: لا فرح فيه. قال الحسن: لا يزداد إلا شدة. والأصل فيه أن الصعود يشق على [ الناس ] .

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ( 18 ) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ( 19 )

( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ) يعني المواضع التي بنيت للصلاة وذكر الله ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ) قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله المؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد وأراد بها المساجد كلها .

وقال الحسن: أراد بها البقاع كلها لأن الأرض جعلت كلها مسجدًا للنبي صلى الله عليه وسلم.

وقال سعيد بن جبير: قالت الجن للنبي صلى الله عليه وسلم كيف لنا أن [ نأتي المسجد وأن ] نشهد معك الصلاة ونحن ناءون؟ فنـزلت: « وأن المساجد لله » .

وروي عن سعيد بن جبير أيضا: أن المراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها الإنسان وهي سبعة: الجبهة واليدان والركبتان والقدمان؟ يقول: هذه الأعضاء التي يقع عليها السجود مخلوقة لله فلا تسجدوا عليها لغيره .

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا علي بن الحسن الهلالي والسري بن خزيمة قالا حدثنا يعلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء: الجبهة - وأشار بيده إليها - واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا أكف الثوب ولا الشعر » .

فإن جعلت المساجد مواضع الصلاة فواحدها مسجِد بكسر الجيم، وإن جعلتها الأعضاء فواحدها مسجَد بفتح الجيم. ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ ) قرأ نافع وأبو بكر بكسر الهمزة، وقرأ الباقون بفتحها « لما قام عبد الله » يعني النبي صلى الله عليه وسلم ( يَدْعُوهُ ) يعني يعبده ويقرأ القرآن، ذلك حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن ( كَادُوا ) يعني الجن ( يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) أي يركب بعضهم بعضًا ويزدحمون حرصًا على استماع القرآن. هذا قول الضحاك ورواية عطية عن ابن عباس.

وقال سعيد بن جبير عنه: هذا من قول النفر الذين رجعوا إلى قومهم من الجن أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واقتدائهم به في الصلاة .

وقال الحسن وقتادة وابن زيد يعني لما قام عبد الله بالدعوة تلبدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاءهم به، ويطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره، ويتم هذا الأمر، وينصره على من ناوأه .

وقرأ هشام عن ابن عامر: « لُبدًا » بضم اللام، وأصل « اللبد » الجماعات بعضها فوق بعض، ومنه سمى اللبد الذي يفرش لتراكمه، وتلبد الشعر: إذا تراكم.

قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ( 20 ) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا ( 21 ) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ( 22 ) إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ( 23 )

( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ) قرأ أبو جعفر وعاصم وحمزة: « قل » على الأمر، وقرأ الآخرون: « قال » يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم « إنما أدعو ربي » قال مقاتل: وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد جئت بأمر عظيم فارجع عنه فنحن نجيرك، فقال لهم: إنما أدعو ربي ( وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ) ( قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ) لا أقدر أن أدفع عنكم ضرًا ( وَلا رَشَدًا ) أي لا أسوق إليكم رشدًا أي: خيرًا يعني أن الله يملكه. ( قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ) لن يمنعني من أحد إن عصيته ( وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) ملجأ أميل إليه. ومعنى « الملتحد » أي: المائل. قال السدي: حرزًا. وقال الكلبي: مدخلا في الأرض مثل السِّرب. ( إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ ) ففيه الجوار والأمن والنجاة، قاله الحسن. قال مقاتل: ذلك الذي يجيرني من عذاب الله، يعني التبليغ. وقال قتادة: إلا بلاغًا من الله فذلك الذي أملكه بعون الله وتوفيقه. وقيل: لا أملك لكم ضرًا ولا رشدًا لكن أبلغ بلاغًا من الله فإنما أنا مرسل به لا أملك إلا ما ملكت ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) ولم يؤمن ( فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا )

حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ( 24 ) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ( 25 ) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ( 26 ) إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ( 27 ) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ( 28 )

( حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ ) يعني العذاب يوم القيامة ( فَسَيَعْلَمُونَ ) عند نـزول العذاب ( مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ) أهم أم المؤمنون. ( قُلْ إِنْ أَدْرِي ) [ أي ما أدري ] ( أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ ) يعني العذاب وقيل القيامة ( أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ) أجلا وغاية تطول مدتها يعني: أن علم وقت العذاب غيب لا يعلمه إلا الله. ( عَالِمُ الْغَيْبِ ) رفع على نعت قوله « ربي » وقيل: هو عالم الغيب ( فَلا يُظْهِرُ ) لا يطلع ( عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ) ( إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة بأن يخبر عن الغيب ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) ذكر بعض الجهات دلالة على جميعها رصدًا أي: يجعل بين يديه وخلفه حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع، ومن الجن أن يستمعوا الوحي فيلقوا إلى الكهنة.

قال مقاتل وغيره: كان الله إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة مَلَك يخبره فيبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصدًا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان، فاحذره وإذا جاءه ملك قالوا له: هذا رسول ربك . ( لِيَعْلَمَ ) قرأ يعقوب: « ليُعلم » بضم الياء أي ليعلم الناس ( أَنْ ) الرسل ( قَدْ أَبْلَغُوا ) وقرأ الآخرون بفتح الياء أي: « لَيعلم » الرسول، أن الملائكة قد أبلغوا ( رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ) أي: علم الله ما عند الرسل فلم يخفَ عليه شيء ( وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) قال ابن عباس: أحصى ما خلق وعرف عدد ما خلق فلم يَفُتْه علم شيءٍ حتى مثاقيل الذر والخردل. ونصب « عددًا » على الحال، وإن شئت على المصدر، أي عدَّ [ عدَّا ] .

 

سورة المزمل

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ( 1 ) قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا ( 2 ) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا ( 3 ) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ( 4 )

( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) أي الملتفف بثوبه. وأصله: المتزملُ أدغمت التاء في الزاي ومثله المدثر، أي: المتدثر ادغمت التاء في الدال، يقال: تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى به.

وقال السدي: أراد يا أيها النائم قم فصلِّ.

قال [ العلماء ] كان هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الوحي قبل تبليغ الرسالة، ثم خوطب بعد بالنبي والرسول. ( قُمِ اللَّيْلَ ) أي للصلاة ( إِلا قَلِيلا ) وكان قيام الليل فريضة في الابتداء وبيَّن قَدْرَه فقال: ( نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا ) إلى الثلث. ( أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ) على النصف إلى الثلثين، خيَّره بين هذه المنازل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقومون على هذه المقادير، وكان الرجل لا يدري متى ثلث الليل ومتى نصف الليل ومتى الثلثان، فكان [ الرجل ] يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدرَ الواجب، واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم فرحمهم الله وخفف عنهم ونسخها بقوله: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى الآية. فكان بين أول السورة وآخرها سنة .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفراييني، أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ، حدثنا الحسن بن علي بن عفان، حدثنا يحيى بن بشير، حدثنا سعيد - يعني ابن أبي عروبة - حدثنا قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن سعيد بن هشام قال: انطلقت إلى عائشة رضي الله عنها فقلت: يا أم المؤمنين انبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: [ ألست ] تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خُلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، قلت: فقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أم المؤمنين؟ قالت: ألست تقرأ: « يا أيها المزمل » قلت: بلى، قالت: فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء، ثم أنـزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعًا بعد الفريضة .

قال مقاتل وابن كيسان: كان هذا بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس.

( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ) قال ابن عباس: بيِّنه بيانًا. وقال الحسن: اقرأه قراءة بيّنة. وقال مجاهد: تَرَسَّل فيه ترسلا. وقال قتادة: تثبت فيه تثبتًا. وعن ابن عباس أيضا: اقرأه على هينتك ثلاث آيات أو أربعًا أو خمسًا.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام عن قتادة قال: سئل أنس كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مدًا مدًا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل قال: جاء رجل إلى ابن مسعود، قال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذًّا كهذِّ الشعر؟ لقد عرفت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين [ من آل حاميم ] في [ كل ] ركعة .

أخبرنا أبو جعفر أحمد بن أبي أحمد بن مثويه، أخبرنا الشريف أبو القاسم علي بن محمد بن علي بن الحسيني الحراني فيما كتبه إليّ [ أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري ] أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن حميد الواسطي، حدثنا زيد بن أخزم، حدثنا محمد بن الفضل، حدثنا سعيد بن زيد، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله - يعني ابن مسعود - قال: لا تنثروه نثرَ الدقل ولا تهذوه هذَّ الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة .

أخبرنا أبو جعفر أحمد بن أبي أحمد بن مثويه، أخبرنا الشريف أبو القاسم علي بن محمد علي بن الحسين الحراني فيما كتب إلي، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري، حدثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا الحسين بن الحسن المروزي، حدثنا ابن المبارك، ح، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمد، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن عبيدة وهو أخوه عن سهل بن سعد الساعدي قال: بينا نحن نقرأ إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « الحمد لله كتاب الله واحد وفيكم الأخيار وفيكم الأحمر والأسود اقرءوا [ القرآن ] قبل أن يأتي أقوام يقرءونه، يقيمون حروفه كما يقام السهم لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون آخره ولا يتأجلونه » .

أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا أبو بكر محمد بن نافع البصري، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن إسماعيل بن مسلم العبدي، عن أبي المتوكل الناجي، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة .

ورواه أبو ذر، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة حتى أصبح بآية [ من القرآن ] والآية: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( المائدة- 118 ) .

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا ( 5 )

( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: شديدًا. قال الحسن: إن الرجل ليهذّ السورة ولكن العمل بها ثقيل.

وقال قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده. وقال مقاتل: ثقيل لما فيه من الأمر والنهي والحدود.

وقال أبو العالية: ثقيل بالوعد والوعيد والحلال والحرام. وقال محمد بن كعب: ثقيل على المنافقين.

وقال الحسين بن الفضل: قولا خفيفًا على اللسان ثقيلا في الميزان.

قال الفراء: ثقيل ليس بخفيف السفساف لأنه كلام ربنا .

وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن هشام بن عروة عن [ أبيه ] عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم [ أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ] فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أحيانا يأتيني [ في ] مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول » . قالت عائشة: ولقد رأيته ينـزل عليه الوحي في اليوم الشاتي الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا .

إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا ( 6 )

قوله عز وجل: ( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ ) أي: ساعاته كلها وكل ساعة منه ناشئة، سميت بذلك لأنها تنشأ أي: تبدو، ومنه: نشأتِ السحابة إذا بدت، فكل ما حدث بالليل وبدا فقد نشأ فهو ناشئ، والجمع ناشئة.

وقال ابن أبي مليكة: سألت ابن عباس وابن الزبير عنها فقالا الليل كله ناشئة وقال سعيد بن جبير وابن زيد: أي: ساعة قام من الليل فقد نشأ وهو بلسان الحبش [ القيام يقال ] نشأ فلان أي: قام .

وقالت عائشة: الناشئة القيام بعد النوم.

وقال ابن كيسان: هي القيام من آخر الليل.

وقال عكرمة: هي القيام من أول الليل.

روي عن علي بن الحسين أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء، ويقول: هذه ناشئة الليل. وقال الحسن: كل صلاة بعد العشاء الآخرة فهي ناشئة من الليل.

وقال الأزهري: « ناشئة الليل » قيام الليل، مصدر جاء على فاعلة كالعافية بمعنى العفو.

( هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا ) قرأ ابن عامر [ وأبو عمرو ] وطاء بكسر الواو ممدودًا بمعنى المواطأة والموافقة، يقال: واطأت فلانًا مواطأة ووطئًا، إذا وافقته، وذلك أن مواطأة القلب والسمع والبصر واللسان بالليل تكون أكثر مما يكون بالنهار.

وقرأ الآخرون: [ وَطْئًا ] بفتح الواو وسكون الطاء، أي: أشد على المصلي وأثقل من صلاة النهار لأن الليل للنوم والراحة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: « اللهم اشدد وطأتك على مضر » .

وقال ابن عباس: كانت صلاتهم أول الليل هي أشد وطأ يقول هي أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من القيام، وذلك أن الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ .

وقال قتادة: أثبت في الخير وأحفظ للقراءة .

وقال الفراء: أثبت قيامًا أي: أوطأ للقيام وأسهل للمصلي من ساعات النهار لأن النهار خلق لتصرف العباد، والليل للخلوة فالعبادة فيه أسهل. وقيل: أشد نشاطًا.

وقال ابن زيد: أفرغ له قلبًا من النهار لأنه لا تعرض له حوائج .

وقال الحسن: أشد وطأ للخير وأمنع من الشيطان.

( وَأَقْوَمُ قِيلا ) وأصوب قراءة وأصح قولا لهدأة الناس وسكون الأصوات.

وقال الكلبي: أبين قولا بالقرآن.

وفي الجملة: عبادة الليل أشدُّ نشاطًا وأتم إخلاصًا وأكثر بركةً وأبلغ في الثواب [ من عبادة النهار ] .

إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا ( 7 )

( إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا ) أي: تصرفًا وتقلبًا وإقبالا وإدبارًا في حوائجك وأشغالك، وأصل « السبح » سرعة الذهاب، ومنه السباحة في الماء وقيل: « سبحا طويلا » أي: فراغًا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك فصلِّ من الليل.

وقرأ يحيى بن يعمر « سبخًا » بالخاء المعجمة أي: استراحة وتخفيفًا للبدن، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة، وقد دعت على سارق: « لا تُسَبِّخي عنه بدعائك عليه » [ أي: لا تخففي ] .

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ( 8 ) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا ( 9 ) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا ( 10 ) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا ( 11 ) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا ( 12 ) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ( 13 ) يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا ( 14 )

( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ) بالتوحيد والتعظيم ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال ابن عباس وغيره: أخلص إليه إخلاصًا. وقال الحسن: اجتهد. وقال ابن زيد: تفرغ لعبادته. قال سفيان: توكل عليه توكلا. وقيل: انقطع إليه في العبادة انقطاعًا وهو الأصل في الباب، يقال: تبتلت الشيء أي: قطعته وصدقةٌ بتةٌ: أي: مقطوعة عن صاحبها لا سبيل له عليها والتبتيل: [ التقطيع ] تفعيل منه يقال: بتلته فتبتل، والمعنى: بتّل نفسك إليه، ولذلك قال: تبتيلا. قال زيد بن أسلم: التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله تعالى. ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) قرأ أهل الحجاز، وأبو عمرو وحفص: « ربُّ » برفع الباء على الابتداء، وقرأ الآخرون بالجر على نعت الرب في قوله: « واذكر اسم ربك » ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا ) قيّمًا بأمورك ففوضها إليه. ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا ) نسختها آية القتال . ( وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا ) نـزلت في صناديد قريش المستهزئين. وقال مقاتل بن حيان: نـزلت في المطعمين ببدر ولم يكن إلا يسير حتى قتلوا ببدر . ( إِنَّ لَدَيْنَا ) عندنا في الآخرة ( أَنْكَالا ) قيودًا عظامًا لا تنفك أبدًا واحدها نكل. قال الكلبي: أغلالا من حديد ( وَجَحِيمًا ) ( وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ ) غير سائغة يأخذ بالحق لا ينـزل ولا يخرج وهو الزقوم والضريع. ( وَعَذَابًا أَلِيمًا ) ( يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ ) أي: تتزلزل وتتحرك ( وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا ) رملا سائلا. قال الكلبي: هو الرمل الذي إذا أخذت منه شيئا تبعك ما بعده، يقال أهلت الرمل أهيله هيلا إذا حركت أسفله حتى انهال من أعلاه.

إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا ( 15 ) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا ( 16 ) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ( 17 ) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا ( 18 ) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ( 19 )

( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا ) .

( فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا ) ، شديدًا ثقيلا يعني عاقبناه عقوبة غليظة يخوف كفار مكة. ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ ) أي: كيف لكم بالتقوى يوم القيامة إذ كفرتم في الدنيا يعني لا سبيل لكم إلى التقوى إذا وافيتم يوم القيامة؟ وقيل: معناه كيف تتقون العذاب يوم القيامة وبأي شيء تتحصنون منه إذا كفرتم؟ ( يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ) شمطًا من هوله وشدته، ذلك حين يقال لآدم قم فابعث بعث النار من ذريتك. ثم وصف هول ذلك اليوم فقال: ( السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ) متشقق لنـزول الملائكة به أي: بذلك المكان. وقيل: الهاء ترجع إلى الرب أي: بأمره وهيبته ( كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا ) كائنًا. ( إِنَّ هَذِهِ ) أي: آيات القرآن ( تَذْكِرَةٌ ) تذكير وموعظة ( فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ) بالإيمان والطاعة.

 

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 20 )

( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى ) أقل من ( ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ) قرأ أهل مكة والكوفة: « نصفَهُ وثلثَهُ » بنصب الفاء والثاء وإشباع الهاءين ضمًا أي: وتقوم نصفه وثلثه وقرأ الآخرون بجر الفاء والثاء وإشباع الهاءين كسرًا عطفًا على ثلثي ( وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) يعني المؤمنين وكانوا يقومون معه ( وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) قال عطاء: يريد لا يفوته علم ما تفعلون، أي أنه يعلم مقادير الليل والنهار فيعلم القدر الذي تقومون من الليل ( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ) قال الحسن: قاموا حتى انتفخت أقدامهم، فنـزل: « علم أن لن تحصوه » لن تطيقوا معرفة ذلك. وقال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله، مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام، فقال: علم أن لن تحصوه لن تطيقوا معرفة ذلك. ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ ) فعاد عليكم بالعفو والتخفيف ( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) يعني في الصلاة، قال الحسن: يعني في صلاة المغرب والعشاء.

قال قيس بن أبي حازم: صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد وأول آية من البقرة [ ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ] ثم ركع فلما انصرف أقبل علينا فقال: إن الله عز وجل يقول: فاقرءوا ما تيسر [ منه ]

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا عثمان بن أبي صالح، حدثنا ابن لهيعة، حدثني حميد بن مخراق، عن أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من قرأ خمسين آية في يوم أو في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية لم يحاجه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر » .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني القاسم بن زكريا حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان، عن يحيى [ بن كثير ] عن محمد [ عبد الله ] بن عبد الرحمن مولى بني زهرة عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اقرأ القرآن في كل شهر » قال قلت: إني أجد قوة، قال: « فاقرأه في [ كل ] عشرين ليلة » قال قلت: إني أجد قوة، قال: « فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك » .

قوله عز وجل: ( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ) يعني المسافرين للتجارة يطلبون من رزق الله ( وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) لا يطيقون قيام الليل.

روى إبراهيم عن ابن مسعود قال: أيما رجل جلب شيئًا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرًا محتسبًا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنـزلة الشهداء ثم قرأ عبد الله: « وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله » [ يعني المسافرين للتجارة يطلبون رزق الله ] « وآخرون يقاتلون في سبيل الله » .

( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ) أي [ ما تيسر عليكم ] من القرآن. [ قال أهل التفسير ] كان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بالصلوات الخمس، وذلك قوله: ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) قال ابن عباس: يريد ما سوى الزكاة من صلة الرحم، وقرى الضيف. ( وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوه عنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا ) تجدوا ثوابه في الآخرة أفضل مما أعطيتم ( وَأَعْظَمَ أَجْرًا ) من الذي أخرتم ولم تقدموه، ونصب « خيرا وأعظم » على المفعول الثاني، فإن الوجود إذا كان بمعنى الرؤية يتعدى إلى مفعولين، وهو فصل في قول البصريين وعماد في قول الكوفيين لا محل لها في الإعراب.

أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي الكشميهني، أخبرنا أبو نصر أحمد بن علي البخاري بالكوفة، أخبرنا أبو القاسم نصر بن أحمد الفقيه بالموصل، حدثنا أبو يعلى الموصلي، حدثنا أبو خيثمة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه » ؟ قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه . قال: « اعلموا ما تقولون » قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله، قال [ : « ما منكم رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله » قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال ] « إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخره » .

( وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ) لذنوبكم ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

 

سورة المدثر

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ( 1 )

[ ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) ] ، أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة [ بن ] عبد الرحمن عن أول ما نـزل من القرآن؟ قال: « يا أيها المدثر » قلت: يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ( العلق- 1 ) ؟ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، فقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا بما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: « جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا ونظرت أمامي فلم أر شيئًا ونظرت خلفي فلم أر شيئًا فرفعت رأسي فرأيت شيئًا فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماء باردًا [ قال ] فدثروني وصبوا علي ماء باردًا قال فنـزلت: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ . »

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، عن عقيل قال ابن شهاب: سمعت أبا سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي: « فبينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فخشيت حتى هويت على الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني [ فزملوني ] فأنـزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ إلى قوله: فَاهْجُرْ قال أبو سلمة: والرجز الأوثان، ثم حمي الوحي وتتابع » .

قُمْ فَأَنْذِرْ ( 2 ) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ( 3 ) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ( 4 )

قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ أي: أنذر كفار مكة. ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) عظمه عما يقوله عبدة الأوثان. ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) قال قتادة ومجاهد: نفسك فطهر [ عن الذنب ] فكنى عن النفس بالثوب، وهو قول إبراهيم والضحاك والشعبي والزهري. وقال عكرمة: سئل ابن عباس عن قوله: « وثيابك فطهر » فقال: لا تلبسها على معصية ولا على غدر، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:

وإنــي بحـمد اللـه لا ثـوب فـاجر لبـست ولا من غــــدرة أتقنــع

والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء: إنه طاهر الثياب, وتقول لمن غدر: إنه لدنس الثياب. وقال أبي بن كعب: لا تلبسها على غدر ولا على ظلم ولا إثم, البسها وأنت بر [ جواد ] طاهر.

وروى أبو روق عن الضحاك معناه: وعملك فأصلح.

قال السدي: يقال للرجل إذا كان صالحًا: إنه لطاهر الثياب، وإذا كان فاجرًا إنه لخبيث الثياب.

وقال سعيد بن جبير: وقلبك ونيتك فطهر. وقال الحسن والقرظي: وخلقك فحسّنْ.

وقال ابن سيرين وابن زيد: أمر بتطهير الثياب من النجاسات التي لا تجوز الصلاة معها وذلك أن المشركين [ كانوا ] لا يتطهرون ولا يطهرون ثيابهم .

وقال طاووس: وثيابك فقصر لأن تقصير الثياب طهرة لها.

وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ( 5 ) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ( 6 )

( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) قرأ أبو جعفر وحفص [ عن عاصم ] ويعقوب: « والرجز » بضم الراء، وقرأ الآخرون بكسرها وهما لغتان ومعناهما واحد. قال مجاهد وعكرمة وقتادة والزهري وابن زيد وأبو سلمة: المراد بالرجز الأوثان، قال: فاهجرها ولا تقربها.

وقيل: الزاي فيه منقلبة عن السين والعرب تعاقب بين السين والزاي لقرب مخرجهما ودليل هذا التأويل قوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ ( الحج- 30 ) .

وروي عن ابن عباس أن معناه: اترك المآثم.

وقال أبو العالية والربيع: « الرُّجز » بضم الراء: الصنم، وبالكسر: النجاسة والمعصية.

وقال الضحاك: يعني الشرك. وقال الكلبي: يعني العذاب.

ومجاز الآية: اهجر ما أوجب لك العذاب من الأعمال. ( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) أي: لا تعطِ مالكَ مصانعةً لتُعطى أكثر منه، هذا قول أكثر المفسرين قال الضحاك ومجاهد: كان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. قال الضحاك: هما رباءان حلال وحرام، فأما الحلال فالهدايا وأما الحرام فالربا. قال قتادة: لا تعط شيئًا طمعًا لمجازاة الدنيا يعني أعط لربك وأردْ به اللهَ. وقال الحسن: معناه لا تمنن على الله بعملك فتستكثره، قال الربيع: لا تكثرن عملك في عينك فإنه فيما أنعم الله عليك وأعطاك قليل. وروى خَصيف عن مجاهد: ولا تضعفْ أن تستكثر من الخير، من قولهم: حبل متين إذا كان ضعيفًا دليله: قراءة ابن مسعود: « ولا تمنن أن تستكثر » قال [ ابن ] زيد معناه: لا تمنن بالنبوة على الناس فتأخذ عليها أجرًا أو عرضًا من الدنيا .

وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ( 7 ) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ( 8 ) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ( 9 ) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ( 10 ) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ( 11 ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا ( 12 )

( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) قيل: فاصبر على طاعته وأوامره ونواهيه لأجل ثواب الله. قال مجاهد: فاصبر لله على ما أوذيت. وقال ابن زيد: ] معناه حملت أمرًا عظيمًا محاربة العرب والعجم فاصبر عليه لله عز وجل. وقيل: فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله. ( فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ) أي: نفخ في الصور، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، يعني النفخة الثانية. ( فَذَلِكَ ) يعني النفخ في الصور ( يَوْمَئِذ ) يعني يوم القيامة ( يَوْمٌ عَسِيرٌ ) شديد. ( عَلَى الْكَافِرِينَ ) يعسر فيه الأمر عليهم ( غَيْرُ يَسِيرٍ ) غير هين. قوله عز وجل: ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ) أي: خلقته في بطن أمه وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد. نـزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، كان يسمى الوحيد في قومه . ( وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا ) أي: كثيرًا. قيل: هو ما يمد بالنماء كالزرع والضرع والتجارة. واختلفوا في مبلغه، قال مجاهد وسعيد بن جبير: ألف دينار. وقال قتادة: أربعة آلاف دينار. وقال سفيان الثوري: ألف ألف [ دينار ] . وقال ابن عباس: تسعة آلاف مثقال فضة. وقال مقاتل: كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره شتاءً ولا صيفًا. وقال عطاء عن ابن عباس: كان له بين مكة والطائف إبل وخيل ونَعَم [ وغنم ] وكان له عير كثيرة وعبيد وجوارٍ. وقيل: مالا ممدودًا غلة شهر بشهر.

وَبَنِينَ شُهُودًا ( 13 ) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ( 14 ) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ( 15 ) كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ( 16 ) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ( 17 )

( وَبَنِينَ شُهُودًا ) حصورًا بمكة لا يغيبون عنه وكانوا عشرة، قاله مجاهد وقتادة. وقال مقاتل: كانوا سبعة وهم الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس، أسلم منهم [ ثلاثة ] خالد وهشام و [ عمارة ] . ( وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ) أي: بسطت له في العيش وطول العمر بسطًا. وقال الكلبي: يعني المال بعضه على بعض كما يمهد الفرش. ( ثُمَّ يَطْمَعُ ) يرجو ( أَنْ أَزِيدَ ) أي أن أزيده مالا وولدًا وتمهيدًا. ( كَلا ) لا أفعل ولا أزيده، قالوا: فما زال الوليد بعد نـزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. ( إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ) معاندًا. ( سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ) سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيها.

وروينا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الصعود جبل من نار يتصعد فيه [ الكافر ] سبعين خريفًا ثم يهوي » .

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا عمر بن الخطاب، حدثنا عبد الله بن الفضل، أخبرنا منجاب بن الحارث، أخبرنا شريك، عن عمار الدهني، عن عطية، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « سأرهقه صعودًا » قال: « هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت [ فإذا رفعها عادت فإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت ] »

وقال الكلبي: « الصعود » صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها لا يترك أن يتنفس في صعوده، ويجذب من أمامه بسلاسل من حديد، ويضرب من خلفه بمقامع من حديد، فيصعدها في أربعين عامًا فإذا بلغ ذروتها أحدر إلى أسفلها ثم يكلف أن يصعدها ويجذب من أمامه ويضرب من خلفه فذلك دأبه أبدًا [ أبدًا ] .

 

إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ( 18 )

( إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ) الآيات، وذلك أن الله تعالى لما أنـزل على النبي صلى الله عليه وسلم حم * تَنْـزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ إلى قوله: الْمَصِيرُ ( غافر: 1- 3 ) قام النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم لاستماعه لقراءته [ القرآن ] أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم، فقال: [ والله ] لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه [ لمثمر ] وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يُعلى، ثم انصرف إلى منـزله فقالت قريش: [ سحره محمد ] [ صبأ والله الوليد، والله لتصبون قريش كلهم، وكان يقال للوليد: ريحانة قريش ] فقال لهم أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزينًا، فقال له الوليد: مالي أراك حزينًا يا ابن أخي؟ قال: وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك النفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنك زيَّنت كلام محمد وتدخل على ابن أبي كبشة، وابن أبي قحافة، لتنال من فضل طعامهم فغضب الوليد، فقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالا وولدًا، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل من الطعام؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه، فقال لهم: تزعمون أن محمدًا مجنون، فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهم لا قال: تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه قط تكهن؟ قالوا: اللهم لا قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا قال: تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئًا من الكذب؟ قالوا: لا - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين قبل النبوة، من صدقه - فقالت قريش للوليد: فما هو؟ فتفكر في نفسه ثم نظر ثم عبس، فقال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه وولده؟ فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر فذلك قوله عز وجل: ( إِنَّهُ فَكَّرَ ) في محمد والقرآن ( وَقَدَّرَ ) في نفسه ماذا يمكنه أن يقول في محمد والقرآن.

فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( 19 ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( 20 ) ثُمَّ نَظَرَ ( 21 ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ( 22 ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ( 23 ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ( 24 ) إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ ( 25 ) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( 26 )

( فَقُتِلَ ) لعن، وقال الزهري: عُذّب، ( كَيْفَ قَدَّرَ ) على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ. ( ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) كرره للتأكيد، وقيل: معناه لعن على أي حال قدر من الكلام، كما يقال لأضربنه كيف صنع أي على أي حالٍ صنع. ( ثُمَّ نَظَرَ ) في طلب ما يدفع به القرآن ويرده. ( ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ) كلح وقطب وجهه ونظر بكراهية شديدة كالمهتم المتفكر في شيء. ( ثُمَّ أَدْبَرَ ) عن الإيمان ( وَاسْتَكْبَرَ ) تكبر حين دعي إليه. ( فَقَالَ إِنْ هَذَا ) ما هذا الذي يقرؤه محمد ( إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) يروى ويحكى عن السحرة. ( إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ ) يعني يسارًا وجبرًا فهو يأثره عنهما. وقيل: يرويه عن مسيلمة صاحب اليمامة. قال الله تعالى ( سَأُصْلِيه ) سأدخله ( سَقَرَ ) وسقر اسم من أسماء جنهم.

وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ( 27 ) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ( 28 ) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ( 29 ) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ( 30 )

( وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ) أي لا تبقي ولا تذر فيها شيئًا إلا أكلته وأهلكته. وقال مجاهد: لا تميت ولا تحيي يعني لا تبقي من فيها حيًا ولا تذر من فيها ميتًا كلما احترقوا جُدِّدوا. وقال السدي: لا تبقي لهم لحمًا ولا تذر لهم عظمًا. وقال الضحاك: إذا أخذت فيهم لم تبق منهم شيئًا وإذا أعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم ولكل شيء ملالة وفترة إلا لجهنم. ( لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ) مغيرة للجلد حتى تجعله أسود، يقال: لاحه السقم والحزن إذا غيره، وقال مجاهد: تلفح الجلد حتى تدعه أشد سوادًا من الليل. وقال ابن عباس وزيد بن أسلم: محرقة للجلد. وقال الحسن وابن كيسان: تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانًا نظيره قوله: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ( الشعراء- 91 ) و ( لَوَّاحَة ) رفع على نعت « سقر » في قوله: « وما أدراك ما سقر » و « البَشَر » جمع بشرة وجمع البشر أبشار. ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) [ أي: على ] النار تسعة عشر من الملائكة، وهم خزنتها: مالك ومعه ثمانية عشر. وجاء في الأثر: أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نـزعت منهم الرحمة، يرفع أحدهم سبعين ألف فيرميهم حيث أراد من جهنم .

قال عمرو بن دينار: إن واحدًا منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر.

قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك: لما نـزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبر أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدَّهم، أي: الشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم قال أبو [ الأشد ] أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، عشرة على ظهري وسبعة على بطني، فاكفوني أنتم اثنين.

وروي أنه قال: أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة. فأنـزل الله عز وجل ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً )

وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ( 31 ) كَلا وَالْقَمَرِ ( 32 ) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ( 33 ) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ( 34 )

( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً ) لا رجالا آدميين، فمن ذا يغلب الملائكة؟ ( وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ ) أي عددهم في القلة ( إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) أي ضلالة لهم حتى قالوا ما قالوا ( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) لأنه مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر، ( وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ) يعني من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقًا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا وجدوا ما قاله موافقًا لما في كتبهم ( وَلا يَرْتَابَ ) ولا يشك ( الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ) في عددهم ( وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) شك ونفاق ( وَالْكَافِرُونَ ) [ مشركو مكة ] ( مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا ) أي شيء أراد بهذا الحديث؟ وأراد بالمثل الحديث نفسَه. ( كَذَلِكَ ) أي كما أضل الله من أنكر عدد الخزنة وهدى من صدق كذلك ( يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ ) قال مقاتل: هذا جواب أبي جهل حين قال: أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر؟ قال عطاء: ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ ) يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، لا يعلم عدتهم إلا الله، والمعنى إن تسعة عشر هم خزنة النار، ولهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلم إلا الله عز وجل، ثم رجع إلى ذكر سقر فقال: ( وَمَا هِيَ ) يعني [ سقر ] ( إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ) إلا تذكرة وموعظة للناس. ( كَلا وَالْقَمَرِ ) هذا قسم، يقول: حقا. ( وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) قرأ نافع وحمزة وحفص ويعقوب « إذ » بغير ألف، « أدبر » بالألف، وقرأ الآخرون « إذا » بالألف « دبر » بلا ألف، لأنه أشد موافقة لما يليه، وهو قوله: ( وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ) ولأنه ليس في القرآن قسم بجانبه إذ وإنما بجانب الإقسام إذا [ ودبر وأدبر ] كلاهما لغة، يقال: دبر الليل وأدبر إذا ولى ذاهبًا. قال أبو عمرو: دبر لغة قريش، وقال قطرب: دبر أي أقبل، تقول العرب: دبرني فلان أي جاء خلفي، فالليل يأتي خلف النهار.

( وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ) أضاء وتبين.

إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ ( 35 ) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ( 36 ) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ( 37 ) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( 38 ) إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ( 39 )

( إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ ) يعني أن سقر لإحدى الأمور العظام، وواحد الكبر: كبرى، قال مقاتل والكلبي: أراد بالكُبَر: دركات جهنم، وهي سبعة: جنهم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية. ( نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ) يعني النار نذيرًا للبشر، قال الحسن: والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها، وهو نصب على القطع من قوله: « لإحدى الكبر » لأنها معرفة، و « نذيرا » نكرة، قال الخليل: النذير مصدر كالنكير، ولذلك وصف به المؤنث، وقيل: هو من صفة الله سبحانه وتعالى، مجازه: وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة نذيرًا للبشر أي إنذارًا لهم. قال أبو رزين يقول أنا لكم منها نذير، فاتقوها. وقيل: هو صفة محمد صلى الله عليه وسلم معناه: يا أيها المدثر قم نذيرًا للبشر، [ فأنذر ] وهذا معنى قول ابن زيد. ( لِمَنْ شَاءَ ) بدل من قوله « للبشر » ( مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ ) في الخير والطاعة ( أَوْ يَتَأَخَّرَ ) عنها في الشر والمعصية، والمعنى: أن الإنذار قد حصل لكل واحد ممن آمن أو كفر. ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) مرتهنة في النار بكسبها مأخوذة بعملها. ( إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ) فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم في النار ولكن يغفرها الله لهم. قال قتادة: علق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين. واختلفوا فيهم: روي عن علي رضي الله عنه أنهم أطفال المسلمين.

وروى أبو ظبيان عن ابن عباس: هم الملائكة.

وقال مقاتل: هم أصحاب الجنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق، حين قال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وعنه أيضا: هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم، وعنه أيضا: هم الذين كانوا ميامين على أنفسهم.

وقال الحسن: هم المسلمون المخلصون. وقال [ القاسم ] كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر إلا من اعتمد على الفضل، وكل من اعتمد على الكسب فهو رهين به، ومن اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ به.

فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 40 ) عَنِ الْمُجْرِمِينَ ( 41 ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ( 42 ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ( 43 ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( 44 ) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ( 45 ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ( 46 ) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ( 47 )

( فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ ) المشركين. ( مَا سَلَكَكُمْ ) أدخلكم ( فِي سَقَرَ ) فأجابوا ( قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) [ لله ] ( وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوض ) في الباطل ( مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) ( حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ) وهو الموت.

 

فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ( 48 )

قال الله عز وجل ( فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) قال ابن مسعود: تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين، فلا يبقى في النار إلا أربعة، ثم تلا قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إلى قوله: بِيَوْمِ الدِّينِ قال عمران بن الحصين: الشفاعة نافعة لكل واحد دون هؤلاء الذين تسمعون.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي، حدثنا محمد بن حماد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف أهل النار فيعذبون قال: « فيمر فيهم الرجل من أهل الجنة فيقول الرجل منهم يا فلان قال فيقول: ما تريد فيقول: أما تذكر رجلا سقاك شربة يوم كذا وكذا؟ قال فيقول: وإنك لأنت هو؟ فيقول: نعم، فيشفع له فيُشفع فيه. قال: ثم يمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول: يا فلان، فيقول: ما تريد؟ فيقول: أما تذكر رجلا وهب لك وضوءًا يوم كذا وكذا؟ فيقول: إنك لأنت هو؟ فيقول: نعم فيشفع له فيُشفع فيه » .

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ( 49 ) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ( 50 ) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ( 51 ) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ( 52 )

( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) مواعظ القرآن ( معرضين ) نصب على الحال، وقيل صاروا معرضين. ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ ) جمع حمار ( مُسْتَنْفِرَةٌ ) قرأ أهل المدينة والشام بفتح الفاء، وقرأ الباقون بكسرها، فمن قرأ بالفتح فمعناها منفرة مذعورة، ومن قرأ بالكسر فمعناها نافرة، يقال: نفر واستنفر بمعنى واحد، كما يقال عجب واستعجب. ( فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) قال مجاهد وقتادة والضحاك: « القسورة » : الرماة، لا واحد لها من لفظها، وهي رواية عطاء عن ابن عباس، وقال سعيد بن جبير: هم القناص وهي رواية عطية عن ابن عباس.

وقال زيد بن أسلم: [ هم ] رجال أقوياء، وكل ضخم شديد عند العرب: قسور وقسورة. وعن أبي المتوكل قال: هي لغط القوم وأصواتهم. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: هي حبال الصيادين.

وقال أبو هريرة: هي الأسد، وهو قول عطاء والكلبي، وذلك أن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت، كذلك هؤلاء المشركين إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن هربوا منه.

قال عكرمة: هي ظلمة الليل، ويقال لسواد أول الليل قسورة. ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ) قال المفسرون: إن كفار قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلمك ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك لرسوله نؤمر فيه باتباعك .

قال الكلبي: إن المشركين قالوا: يا محمد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا عند رأسه ذنبه وكفارتهُ فَأْتِنَا بمثل ذلك « والصحف » الكتب، وهي جمع الصحيفة، و « منشَّرة » منشورة.

كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ ( 53 ) كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( 54 ) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ( 55 ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( 56 )

فقال الله تعالى: ( كَلا ) لا يؤتون الصحف. وقيل: حقًا، وكل ما ورد عليك منه فهذا وجهه، ( بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ ) أي لا يخافون عذاب الآخرة، والمعنى أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا هذه الآيات بعد قيام الأدلة. ( كَلا ) حقا ( إِنَّه ) يعني القرآن ( تَذْكِرَةٌ ) موعظة. ( فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ) اتعظ به. ( وَمَا يَذْكُرُونَ ) قرأ نافع ويعقوب [ تذكرون ] بالتاء والآخرون بالياء ( إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) قال مقاتل: إلا أن يشاء الله لهم الهدى. ( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) أي أهل أن يتقى محارمه وأهل أن يغفر لمن اتقاه.

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عمر بن الخطاب، حدثنا عبد الله بن الفضل، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا سهيل بن أبي حزم، عن ثابت، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: ( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: قال ربكم عز وجل: « أنا أهل أن أتقى ولا يشرك بي غيري، وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر له » وسهيل هو ابن عبد الرحمن القطعي، أخو حزم القطعي .

 

سورة القيامة

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ( 1 ) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ( 2 )

( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) قرأ القواس عن ابن كثير: « لأقسم » الحرف الأول بلا ألف قبل الهمزة. ( وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) بالألف، وكذلك قرأ عبد الرحمن الأعرج، على معنى أنه أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس [ اللوامة ] والصحيح أنه أقسم بهما جميعا و « لا » صلة فيهما أي أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة.

وقال أبو بكر بن عياش: هو تأكيد للقسم كقولك: لا والله.

وقال الفرَّاء: « لا » ردّ، كلام المشركين المنكرين، ثم ابتدأ فقال: أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللوامة .

وقال المغيرة بن شعبة: يقولون: القيامة، وقيامة أحدهم موته. وشهد علقمة جنازة فلما دفنت قال: أما هذا فقد قامت قيامته.

( وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال سعيد بن جبير وعكرمة: تلوم على الخير والشر، ولا تصبر على السراء والضراء.

وقال قتادة: اللوَّامة: الفاجرة.

وقال مجاهد: تندم على ما فات وتقول: لو فعلت، ولو لم أفعل.

قال الفراء: ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا قالت: هلا ازددت، وإن عملت شرًا قالت: يا ليتني لم أفعل قال الحسن: هي النفس المؤمنة، قال: إن المؤمن - والله - ما تره إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلامي؟ ما أردت بأكلتي؟ وإن الفاجر يمضي قدمًا لا يحاسب نفسه ولا يعاتبها.

وقال مقاتل: هي النفس الكافرة تلوم نفسها في الآخرة على ما فرَّطت في أمر الله في الدنيا.

أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ( 3 ) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ( 4 )

( أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ) نـزلت في عدي بن ربيعة، حليف بني زهرة، ختن الأخنس بن شريق الثقفي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اكفني جارَي السوء، يعني: عديًا والأخنس. وذلك أن عدي بن ربيعة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد حدثني عن القيامة متى تكون وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن [ بك ] أَوَيجمع الله العظام؟ فأنـزل الله عز وجل: « أيحسب الإنسان » يعني الكافر ( أَن لن نَجْمَعَ عِظَامَهُ ) بعد التفرق والبلى فنحييه. قيل: ذكر العظام وأراد نفسه لأن العظام قالب النفس لا يستوي الخلق إلا باستوائها. وقيل: هو خارج على قول المنكر أو يجمع الله العظام كقوله: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ( يس- 78 ) . ( بَلَى قَادِرِينَ ) أي نقدر، استقبالٌ صُرِفَ إلى الحال، قال الفرَّاء « قادرين » نصب على الخروج من نجمع، كما تقول في الكلام أتحسب أن لا نقوى عليك؟ بلى قادرين على أقوى منك، يريد: بل قادرين على أكثر من ذا

مجاز الآية: بلى نقدر على جمع عظامه وعلى ما هو أعظم من ذلك، وهو ( عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) أنامله، فنجعل أصابع يديه ورجليه شيئًا واحدًا كخف البعير وحافر الحمار، فلا يرتفق بها [ بالقبض ] والبسط والأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وغيرها. هذا قول أكثر المفسرين.

وقال الزجاج وابن قتيبة: معناه: ظن الكافر أنا لا نقدر على جمع عظامه، بلى نقدر على أن نعيد السلاميات على صغرها، فنؤلف بينها حتى نسوي البنان، فمن قدر على جمع صغار العظام فهو على جمع كبارها أقدر

بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( 5 ) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( 6 ) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ( 7 )

( بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ) يقول لا يجهل ابن آدم أن ربه قادر على جمع عظامه لكنه يريد أن يفجر أمامه، أي: يمضي قدمًا [ على ] معاصي الله ما عاش راكبًا رأسه لا ينـزع عنها ولا يتوب، هذا قول مجاهد، والحسن، وعكرمة، والسدي.

وقال سعيد بن جبير: « ليفجر أمامه » يقدم على الذنب ويؤخر التوبة، فيقول: سوف أتوب، سوف أعمل حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله .

وقال الضحاك: هو الأمل، يقول: أعيش فأصيب من الدنيا كذا وكذا [ ولا يذكر الموت ] .

وقال ابن عباس، وابن زيد: يكذّب بما أمامه من البعث والحساب. وأصل « الفجور » الميل، وسمي الفاسق والكافر: فاجرًا، لميله عن الحق. ( يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ) أي متى يكون [ ذلك ] تكذيبا به. قال الله تعالى: ( فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ) قرأ أهل المدينة « بَرَق » بفتح الراء، وقرأ الآخرون بكسرها، وهما لغتان.

قال قتادة ومقاتل: شخص البصر فلا يطرف مما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا. قيل: ذلك عند الموت.

وقال الكلبي: عند رؤية جهنم برق أبصار الكفار.

وقال الفراء والخليل « برق » - بالكسر - أي: فزع وتحير لما يرى من العجائب و « برق » بالفتح، أي: شق عينه وفتحها، من البريق، وهو التلألؤ

وَخَسَفَ الْقَمَرُ ( 8 ) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( 9 ) يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ( 10 ) كَلا لا وَزَرَ ( 11 ) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( 12 ) يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( 13 )

( وَخَسَفَ الْقَمَرُ ) أظلم وذهب نوره وضوءه. ( وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران. وقيل: يجمع بينهما في ذهاب الضياء. وقال عطاء بن يسار: يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى. ( يَقُولُ الإنْسَانُ ) أي الكافر المكذب ( يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) أي: المهرب وهو موضع الفرار. [ وقيل: هو مصدر، أي: أين الفرار ] قال الله تعالى: ( كَلا لا وَزَرَ ) لا حصن ولا حرز ولا ملجأ. وقال السدي: لا جبل وكانوا إذا فزعوا لجؤوا إلى الجبل فتحصنوا به. [ فقال الله تعالى ] لا جبل يومئذ يمنعهم. ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) أي مستقر الخلق.

وقال عبد الله بن مسعود: المصير والمرجع، نظيره: قوله تعالى: إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ( العلق- 8 ) وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( آل عمران- 28 ) ( النور- 42 ) ( فاطر- 18 ) .

وقال السدي: المنتهى، نظيره: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ( النجم- 42 ) . ( يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) [ قال ابن مسعود وابن عباس: « بما قدم » ] قبل موته من عمل صالح وسيئ، وما أخر: بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها.

وقال عطية عن ابن عباس: « بما قدم » من المعصية « وأخر » من الطاعة.

وقال قتادة: بما قدم من طاعة الله، وأخَّر من حق الله فضيَّعه.

وقال مجاهد: بأول عمله وآخره. وقال عطاء: بما قدم في أول عمره وما أخر في آخر عمره.

وقال زيد بن أسلم: بما قدم من أمواله لنفسه وما أخر خلفه للورثة

بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ( 14 ) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ( 15 ) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( 16 )

( بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) قال عكرمة، ومقاتل، والكلبي: معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه ويشهدون عليه بعمله، وهي سمعه وبصره وجوارحه ودخل الهاء في البصيرة لأن المراد بالإنسان هاهنا جوارحه، ويحتمل أن يكون معناه « بل الإنسان على نفسه بصيرة » يعني: لجوارحه، فحذف حرف الجر كقوله: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ ( البقرة- 233 ) أي لأولادكم. ويجوز أن يكون نعتًا لاسم مؤنث أي بل الإنسان على نفسه عين بصيرة.

وقال أبو العالية، وعطاء: بل الإنسان على نفسه شاهد، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والهاء في « بصيرة » للمبالغة، دليل هذا التأويل. قوله عز وجل: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ( الإسراء- 14 ) . ( وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) يعني يشهد عليه الشاهد ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه، كما قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ( غافر- 52 ) وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وعطاء: قال الفراء: ولو اعتذر فعليه من نفسه من يكذب عذره ومعنى الإلقاء: القول، كما قال: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ( النحل- 86 ) . وقال الضحاك والسدي: « ولو ألقى معاذيره » يعني: ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب. وأهل اليمن يسمون الستر: معذارًا، وجمعه: معاذير، ومعناه على هذا القول: وإن أسبل الستر ليخفي ما يعمل، فإن نفسه شاهدة عليه. قوله عز وجل ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ )

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: « لا تحرك به لسانك لتعجل به » قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نـزل [ عليه ] جبريل بالوحي كان ربما يحرك لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه، فأنـزل الله عز وجل الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة: « لا تحرك به لسانك لتعجل به »

إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ( 17 ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( 18 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( 19 )

( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) قال علينا أن نجمعه في صدرك، وقرآنه. ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) فإذا أنـزلناه فاستمع. ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) علينا أن نبينه بلسانك. قال: فكان إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل، ورواه محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن موسى بن أبي عائشة بهذا الإسناد وقال: كان يحرك شفتيه إذا نـزل عليه، يخشى أن ينفلت منه، فقيل له: « لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ » « إن علينا جمعه » أن نجمعه في صدرك « وقرآنه » أن تقرأه.

 

كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( 20 ) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ( 21 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ( 22 ) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( 23 )

( كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ) قرأ أهل المدينة والكوفة « تحبون وتذرون » بالتاء فيهما، وقرأ الآخرون بالياء أي يختارون الدنيا على العقبى، ويعملون لها، يعني: كفار مكة، ومن قرأ بالتاء فعلى تقدير: قل لهم يا محمد: بل تحبون [ وتذرون ] ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ) يعني يوم القيامة ( نَاضِرَةٌ ) قال ابن عباس: حسنة، وقال مجاهد: مسرورة. وقال ابن زيد: ناعمة. وقال مقاتل: بيض يعلوها النور. وقال السدي: مضيئة. وقال يمان: مسفرة. وقال الفراء: مشرقة بالنعيم يقال: نضر الله وجهه ينضر نضرًا، ونضَّره الله وأنضره ونضُر وجهُه ينضُر نُضْرةً ونَضَارة. قال الله تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ( المطففين- 24 ) ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) قال ابن عباس: وأكثر الناس تنظر إلى ربها عيانًا بلا حجاب. قال الحسن: تنظر إلى الخالق وحق لها أن [ تنضر ] وهي تنظر إلى الخالق.

أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي، أخبرنا عبد الله بن أحمد الحموي، أخبرنا إبراهيم بن خزيم الشاشي، أخبرنا عبد بن حميد، حدثنا شبابة، عن إسرائيل، عن ثوير قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أدنى أهل الجنة منـزلة لَمَنْ ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة »

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( 24 ) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( 25 ) كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ( 26 ) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ( 27 ) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ( 28 )

( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ) عابسة كالحة مغبرة مسودة. ( تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) تستيقن أن يعمل بها عظيمة من العذاب، والفاقرة: الداهية العظيمة، والأمر الشديد يكسر فقار الظهر. قال سعيد بن المسيب: قاصمة الظهر. قال ابن زيد: هي دخول النار. وقال الكلبي: هي أن تحجب عن رؤية الرب عز وجل. ( كَلا إِذَا بَلَغَتِ ) يعني النفس، كناية عن غير مذكور ( التَّرَاقِيَ ) فحشرج بها عند الموت، و « التراقي » جمع الترقوة، وهي العظام بين ثغرة النحر والعاتق، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشراف على الموت. ( وَقِيلَ ) أي قال من حضره [ الموت ] هل « من راق » هل من طبيب يرقيه ويداويه فيشفيه برقيته أو دوائه.

وقال قتادة: التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا.

وقال سليمان التيمي، ومقاتل بن سليمان: هذا من قول الملائكة، يقول بعضهم لبعض: من يرقى بروحه؟ فتصعد بها ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب. ( وَظَن ) أيقن الذين بلغت روحه التراقي ( أَنَّهُ الْفِرَاقُ ) من الدنيا.

وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( 30 ) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ( 31 ) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( 32 ) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ( 33 ) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ( 34 ) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ( 35 )

( وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) قال قتادة: الشدة بالشدة. وقال عطاء: شدة الموت بشدة الآخرة. وقال سعيد بن جبير: تتابعت عليه الشدائد، وقال السدي: لا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه.

قال ابن عباس: أمر الدنيا بأمر الآخرة، فكان في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة.

وقال مجاهد: اجتمع فيه الحياة والموت.

وقال الضحاك: الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه.

وقال الحسن: هما ساقاه إذا التفَّتَا في الكفن. وقال الشعبي: هما ساقاه عند الموت . ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ) أي مرجع العباد [ يومئذ ] إلى الله يساقون إليه. ( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ) يعني: أبا جهل، لم يصدِّق بالقرآن ولا صلى لله. ( وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) عن الإيمان. ( ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ ) رجع إليهم ( يَتَمَطَّى ) يتبختر ويختال في مشيته، وقيل: أصله: « يتمطط » أي: يتمدد، والمَطُّ هو المَد. ( أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ) هذا وعيد على وعيد من الله عز وجل لأبي جهل، وهي كلمة موضوعة للتهديد والوعيد.

وقال بعض العلماء: معناه أنك أجدر بهذا العذاب وأحق وأولى به، يقال للرجل يصيبه مكروه يستوجبه.

وقيل: هي كلمة تقولها العرب لمن قاربه المكروه وأصلها [ من الولاء ] من المولى وهو القرب، قال الله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ( التوبة- 123 ) .

وقال قتادة: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نـزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له: « أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى » فقال أبو جهل: أتوعدني يا محمد؟ والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئًا، وإني لأعزّ من مشى بين جبليها! فلما كان يوم بدر صرعه الله شر مصرع، وقتله أسوأ قتلة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن لكل أمة فرعونا [ وإن ] فرعون هذه الأمة أبو جهل .

أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ( 36 ) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ( 37 ) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ( 38 ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ( 39 ) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ( 40 )

( أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ) هملا لا يؤمر ولا ينهى، وقال السدي: معناه المهمل وإبل سدى إذا كانت ترعى حيث شاءت بلا راع. ( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ) تُصَبُّ في الرحم، قرأ حفص عن عاصم « يمنى » بالياء، وهي قراءة الحسن، وقرأ الآخرون بالتاء، لأجل النطفة. ( ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ) فجعل فيه الروح فسوى خلقه. ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ) خلق من مائه أولادًا ذكورًا وإناثًا. ( أَلَيْسَ ذَلِكَ ) الذي فعل هذا ( بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى )

أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني، أخبرنا أبو عمرو القاسم بن جعفر الهاشمي، أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلؤي، حدثنا أبو داود سليمان بن أشعث، حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، حدثنا سفيان، حدثني إسماعيل بن أمية قال: سمعت أعرابيًا يقول سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ( التين- 8 ) فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ: « لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ » فانتهى إلى « أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى » فليقل: بلى، ومن قرأ: « وَالْمُرْسَلاتِ » فبلغ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فليقل: « آمنا بالله » .

أخبرنا عمر بن عبد العزيز، أخبرنا القاسم بن جعفر، أخبرنا أبو علي اللؤلؤي، أخبرنا أبو داود، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن موسى بن أبي عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ: « أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى » قال: سبحانك بلى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

سورة الإنسان

 

قال عطاء: هي مكية وقال مجاهد وقتادة: مدنية وقال الحسن وعكرمة: هي مدنية إلا آية وهي قوله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا

بسم الله الرحمن الرحيم

هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ( 1 ) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 2 )

( هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ ) يعني آدم عليه السلام ( حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ) أربعون سنة ملقى من طين بين مكة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح ( لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ) لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، يريد: كان شيئًا ولم يكن مذكورًا، وذلك من حين خلقه من طين إلى أن [ ينفخ ] فيه الروح.

روي أن عمر سمع رجلا يقرأ هذه الآية: « لم يكن شيئًا مذكورًا » فقال عمر: ليتها تمت، يريد: ليته بقي على ما كان قال ابن عباس: ثم خلقه بعد عشرين ومائة سنة. ( إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ ) يعني ولد آدم ( مِنْ نُطْفَةٍ ) يعني: مَنْي الرجل ومني المرأة. ( أَمْشَاجٍ ) أخلاط، واحدها: مَشْجٌ ومَشِيْجٌ، مثل خدن وخدين.

قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد والربيع: يعني ماء الرجل [ وماء المرأة ] يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد، فماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا صاحبه كان الشبه له، وما كان من عصب وعظم فهو من نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة .

وقال الضحاك: أراد بالأمشاج اختلاف ألوان النطفة، فنطفة الرجل بيضاء وحمراء وصفراء، ونطفة المرأة خضراء وحمراء [ وصفراء ] وهي رواية الوالبي عن ابن عباس. وكذلك قال الكلبي: قال: الأمشاج البياض في الحمرة والصفرة. وقال يمان: كل لونين اختلطا فهو أمشاج. وقال ابن مسعود: هي العروق التي تكون في النطفة.

وقال الحسن: نطفة مشجت بدم، وهو دم الحيضة، فإذا حبلت ارتفع الحيض.

وقال قتادة: هي أطوار الخلق نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم [ عظمًا ] ثم يكسوه لحمًا ثم ينشئه خلقا آخر .

( نَبْتَلِيهِ ) نختبره بالأمر والنهي ( فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) قال بعض أهل العربية: فيه تقديم وتأخير، مجازه فجعلناه سميعًا بصيرًا لنبتليه لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة.

إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ( 3 ) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ( 4 )

( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ) أي بينا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة، وعرَّفناه طريق الخير والشر ( إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) إما مؤمنا سعيدا وإما كافرا شقيا. وقيل: معنى الكلام الجزاء، يعني: بيَّنا له الطريق إن شكر أو كفر . ثم بيَّن ما للفريقين فقال: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ ) يعني: في جهنم قرأ أهل المدينة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: « سلاسلا » و « قواريرًا » فقوارير بالألف في الوقف، وبالتنوين في الوصل فيهن جميعا، وقرأ حمزة ويعقوب بلا ألف في الوقف، ولا تنوين في الوصل فيهن، وقرأ ابن كثير « قوارير » الأولى بالألف في الوقف وبالتنوين في الوصل، و « سلاسل » و « قوارير » الثانية بلا ألف ولا تنوين وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحفص « سلاسلا » و « قواريرا » الأولى بالألف [ في الوقف ] على الخط وبغير تنوين في الوصل، و « قوارير » الثانية بغير ألف ولا تنوين. قوله ( وَأَغْلالا ) يعني: في أيديهم، تغل إلى أعناقهم ( وَسَعِيرًا ) وقودًا شديدًا.

إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ( 5 )

( إِنَّ الأبْرَارَ ) يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم، [ واحدهم ] بار، مثل: شاهد وأشهاد، وناصر وأنصار، و « بر » أيضا مثل: نهر وأنهار ( يَشْرَبُونَ ) في الآخرة، ( مِنْ كَأْسٍ ) [ فيها ] شراب ( كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ) قال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. قال عكرمة: « مزاجها » طعمها، وقال أهل المعاني: أراد كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرده، لأن الكافور لا يشرب، وهو كقوله: حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا ( الكهف- 96 ) أي كنار. وهذا معنى قول [ قتادة ] ومجاهد: يمازجه ريح الكافور. وقال ابن كيسان: طيبت بالكافور والمسك والزنجبيل. وقال عطاء والكلبي: الكافور اسم لعين ماء في الجنة.

 

عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ( 6 ) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ( 7 ) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ( 8 )

( عَيْنًا ) نصب تبعًا للكافور. وقيل: [ هو ] نصب على المدح. وقيل: أعني عينا. وقال الزجاج: الأجود أن يكون المعنى من عين ( يَشْرَبُ بِهَا ) [ قيل: يشربها ] والباء صلة وقيل بها أي منها ( عِبَادَ اللَّهِ ) قال ابن عباس أولياء الله ( يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ) أي يقودونها حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم، كمن يكون له نهر يفجره هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد. ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) هذا من صفاتهم في الدنيا أي كانوا في الدنيا كذلك.

قال قتادة: أراد يوفون بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة، وغيرها من الواجبات ومعنى النذر: الإيجاب.

وقال مجاهد وعكرمة: إذا نذروا في طاعة الله وفوا به.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن طلحة بن عبد الملك الأيلي، عن القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه » ( وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ) فاشيًا ممتدًا، يقال: استطار الصبح، إذا امتد وانتشر.

قال مقاتل: كان شره فاشيًا في السماوات فانشقت، وتناثرت الكواكب، وكورت الشمس والقمر، وفزعت الملائكة، وفي الأرض: فنسفت الجبال، وغارت المياه، وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء. ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ) أي على حب الطعام وقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه. وقيل: على حب الله عز وجل ( مِسْكِينًا ) فقيرًا لا مال له ( وَيَتِيمًا ) صغيرًا لا أب له ( وَأَسِيرًا ) قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء: هو المسجون من أهل القبلة. وقال قتادة: أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك. وقيل: الأسير المملوك. وقيل: المرأة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان » أي أسراء.

واختلفوا في سبب نـزول هذه الآية، قال مقاتل: نـزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا .

وروى مجاهد وعطاء عن ابن عباس: أنها نـزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أنه عمل ليهودي بشيء من شعير، [ فقبض الشعير ] فطحن ثلثه فجعلوا منه شيئًا ليأكلوه، فلما تمَّ إنضاجه أتى مسكين فسأل فأخرجوا إليه الطعام، ثم عمل الثلث الثاني فلما تم إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه، ثم عمل الثلث الباقي فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين، فسأل فأطعموه، وطووا يومهم ذلك: وهذا قول الحسن وقتادة، أن الأسير كان من أهل الشرك، وفيه دليل على أن إطعام الأسارى، وإن كانوا من أهل الشرك، حسن يرجى ثوابه .

إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ( 9 ) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ( 10 ) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ( 11 ) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ( 12 )

( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ) والشُّكور مصدر كالعُقود والدُّخول والخروج. قال مجاهد وسعيد بن جبير: إنهم لم يتكلموا به ولكن علم الله ذلك من قلوبهم، فأثنى عليهم. ( إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا ) تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، نسب العبوس إلى اليوم، كما يقال: يوم صائم وليل قائم. وقيل وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة ( قَمْطَرِيرًا ) قال قتادة، ومجاهد، ومقاتل: « القمطرير » : الذي يقبض الوجوه والجباه بالتعبيس. قال الكلبي: العبوس الذي لا انبساط فيه، و « القمطرير » الشديد، قال الأخفش: « القمطرير » أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء، يقال: يوم قمطرير وقماطر، إذا كان شديدًا كريهًا، واقْمَطَّر اليوم فهو مُقْمَطِر. ( فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ ) الذي يخافون ( وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً ) حسنا في وجوههم، ( وَسُرُورًا ) في قلوبهم. ( وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا ) على طاعة الله واجتناب معصيته، وقال الضحاك: على الفقر. وقال عطاء: على الجوع. ( جَنَّةً وَحَرِيرًا ) قال الحسن: أدخلهم الله الجنة وألبسهم الحرير.

مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ( 13 ) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا ( 14 ) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ( 15 ) قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ( 16 ) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا ( 17 ) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا ( 18 )

( مُتَّكِئِينَ ) نصب على الحال ( فِيهَا ) في الجنة ( عَلَى الأرَائِكِ ) السرُر في الحِجال، ولا تكون أريكة إلا إذا اجتمعا ( لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ) أي [ صيفًا ] ولا شتاء. قال مقاتل: يعني شمسًا يؤذيهم حرها ولا زمهريرا يؤذيهم برده، لأنهما يؤذيان في الدنيا. والزمهرير: البرد الشديد. ( وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا ) أي قريبة منهم ظلال أشجارها، ونصب « دانية » بالعطف على قوله « متكئين » وقيل: على موضع قوله: « لا يرون فيها شمسًا ولا زمهريرًا » ويرون « دانيةً » وقيل: على المدح ( وَذُلِّلَتْ ) سُخرت وقُربت ( قُطُوفُهَا ) ثمارها ( تَذْلِيلا * وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآَنِيةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ) يأكلون من ثمارها قياما وقعودا ومضطجعين ويتناولونها كيف شاءوا على أي حال كانوا. ( قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ ) قال المفسرون: أراد بياض الفضة في صفاء القوارير، فهي من فضة في صفاء الزجاج، يرى ما في داخلها من خارجها.

قال الكلبي إن الله جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم، وإن أرض الجنة من فضة، فجعل منها قوارير يشربون فيها ( قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ) قدروا الكأس على قدر ريِّهم لا يزيد ولا ينقص، أي قدرها لهم السقاة والخدم الذين يطوفون عليهم يقدرونها ثم يسقون. ( وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا ) يشوق ويطرب، والزنجبيل: مما كانت العرب تستطيبه جدا، فوعدهم الله تعالى أنهم يسقون في الجنة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنة. قال مقاتل: لا يشبه زنجبيل الدنيا. قال ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له في الدنيا مثل. وقيل: هو عين في الجنة يوجد منها طعم الزنجبيل. قال قتادة: يشربها المقربون صرفا، ويمزج لسائر أهل الجنة . ( عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا ) قال قتادة: سلسة منقادة لهم يصرفونها حيث شاءوا وقال مجاهد: حديدةٌ [ شديدة ] الجْرَية . وقال [ أبو العالية ] ومقاتل بن حيان: سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان وشراب الجنة على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك. قال الزجَّاج: سميت سلسبيلا لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق، ومعنى قوله: « تسمى » أي توصف لأن أكثر العلماء على أن سلسبيلا صفة لا اسم.

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ( 19 ) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ( 20 ) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ( 21 )

( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ) قال عطاء: يريد في بياض اللؤلؤ وحسنه، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط، كان أحسن منه منظوما. وقال أهل المعاني: إنما شُبِّهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة، فلو كانوا صفًا لشبهوا بالمنظوم. ( وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ ) أي إذا [ رأيت ] ببصرك ونظرت به ثَمَّ يعني في الجنة ( رَأَيْتَ نَعِيمًا ) لا يوصف ( وَمُلْكًا كَبِيرًا ) وهو أن أدناهم منـزلة ينظر إلى ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه. وقال مقاتل والكلبي: هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليه إلا بإذنه. وقيل: ملكًا لا زوال له. ( عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ ) قرأ أهل المدينة وحمزة: « عاليْهِم » ساكنة الياء مكسورة الهاء، فيكون في موضع رفع بالابتداء، وخبره: ثياب سندس، وقرأ الآخرون بنصب الياء وضم الهاء على [ الصفة، أي فوقهم، وهو نصب على الظرف ] ( ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ) قرأ نافع وحفص « خضر وإستبرق » [ مرفوعا ] عطفا على الثياب، وقرأهما حمزة والكسائي مجرورين، وقرأ ابن كثير وأبو بكر « خضر » بالجر و « إستبرقٌ » بالرفع، وقرأ أبو جعفر وأهل البصرة والشام على ضده [ فالرفع على ] نعت الثياب [ والجر ] على نعت السندس [ وإستبرق بالرفع على أنه معطوف على وثياب إستبرقٍ فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كقوله وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ أي أهل القرية، ومثله قوله: خز أي ثوب خز، وأما جر إستبرق فعلى أنه معطوف على سندس وهو جر بإضافة الثياب إليه، وهما جنسان أضيفت الثياب إليهما كما تقول: ثوب خز وكتان فتضيفه إلى الجنسين ] .

( وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ) قيل: طاهرًا من الأقذار والأقذاء لم تدنسه الأيدي والأرجل كخمر الدنيا.

وقال أبو قلابة وإبراهيم: إنه لا يصير بولا نجسًا ولكنه يصير رشحًا في أبدانهم، [ ريحه كريح المسك ] ، وذلك أنهم يؤتون بالطعام، فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون فيطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحًا يخرج من جلودهم [ ريحًا ] أطيب من المسك الإذفر، وتضمر بطونهم وتعود شهوتهم.

وقال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نـزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد.

إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ( 22 ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلا ( 23 ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ( 24 )

( إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ) أي ما وصف من نعيم الجنة كان لكم جزاء بأعمالكم، ( وَكَانَ سَعْيُكُمْ ) عملكم في الدنيا بطاعة الله مشكورا، قال عطاء: شكرتكم عليه [ فأثيبكم ] أفضل الثواب. قوله عز وجل: ( إِنَّا نَحْنُ نـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنـزيلا ) قال ابن عباس: متفرقًا آية بعد آية، ولم ينـزل جملة واحدة. ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ ) يعني من مشركي مكة ( آثِمًا أَوْ كَفُورًا ) يعني وكفورًا، والألف صلة.

قال قتادة: أراد بالآثم الكفور أبا جهل وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أبو جهل عنها، وقال: لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأن عنقه .

وقال مقاتل: أراد بـ « الآثم » عتبة بن ربيعة وبـ « الكفور » الوليد بن المغيرة، قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال فارجع عن هذا الأمر، قال عتبة: فأنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر، وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى، فارجع عن هذا الأمر، فأنـزل الله هذه الآية .

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا ( 25 )

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلَا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ [ يعني صلاة المغرب والعشاء ]

 

وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا ( 26 ) إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا ( 27 ) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا ( 28 )

( وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا ) يعني التطوع بعد المكتوبة. ( إِنَّ هَؤُلاءِ ) يعني كفار مكة ( يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ) أي الدار العاجلة وهي الدنيا. ( وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ ) يعني أمامهم ( يَوْمًا ثَقِيلا ) شديدًا وهو يوم القيامة. أي يتركونه فلا يؤمنون به ولا يعملون له. ( نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا ) [ قوينا وأحكمنا ] ( أَسْرَهُم ) قال مجاهد وقتادة [ ومقاتل ] « أسرهم » أي: خلقهم، يقال: رجل حسن الأسر، أي: الخلق.

وقال الحسن: يعني أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب.

وروي عن مجاهد في تفسير « الأسر » قال: الشرج، يعني: موضع مَصْرَفَيْ البول والغائط، إذا خرج الأذى تقَّبضا. ( وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا ) أي: إذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم.

إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ( 29 ) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 30 ) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 31 )

( إِنَّ هَذِهِ ) يعني هذه السورة ( تَذْكِرَة ) تذكير وعظة ( فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ) وسيلة بالطاعة. ( وَمَا تَشَاءُونَ ) قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو: « يشاءون » بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء، ( إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) أي لستم تشاءون إلا بمشيئة الله عز وجل، لأن الأمر إليه ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) ( يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ ) أي المشركين ( أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )

 

سورة المرسلات

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ( 1 ) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ( 2 ) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ( 3 ) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ( 4 )

( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) يعني الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس. وقيل: عرفًا أي كثيرًا تقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد، إذا توجهوا إليه فأكثروا، هذا [ معنى ] قول مجاهد وقتادة. وقال مقاتل: يعني الملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه، وهي رواية مسروق عن ابن مسعود. ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) يعني الرياح الشديدة الهبوب. ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) يعني الرياح اللينة. وقال الحسن: هي الرياح التي يرسلها الله بشرًا بين يدي رحمته. وقيل: هي الرياح التي تنشر السحاب وتأتي بالمطر. وقال مقاتل: هم الملائكة ينشرون الكتب . ( فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: يعني الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل. وقال [ قتادة ] والحسن: هي آي القرآن تفرق بين الحلال والحرام. وروي عن مجاهد قال: هي الرياح تفرق السحاب وتبدِّده .

فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ( 5 ) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ( 6 ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ( 7 ) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ( 8 ) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ( 9 ) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ( 10 )

( فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء، نظيرها: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ ( غافر- 15 ) . ( عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ) أي للإعذار والإنذار، وقرأ الحسن « عُذُرًا » بضم الذال واختلف فيه عن أبي بكر عن عاصم، وقراءة العامة بسكونها، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص « [ عذرًا أو ] نذرًا » ساكنة الذال فيهما، وقرأ الباقون بضمها، ومن سكَّن قال: لأنهما في موضع مصدرين بمعنى الإنذار والإعذار، وليسا بجمع فينقلا [ وقال ابن كثير ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم ويعقوب برواية رويس بن حسان: « عذْرًا » سكون الذال و « نُذُرًا » بضم الذال، وقرأ روح بالضم في العذر والنذر جميعًا، وهي قراءة الحسن، والوجه فيهما أن العذر والنذر بضمتين كالأذُن والعُنِق هو الأصل ويجوز التخفيف فيهما كما يجوز التخفيف في العنق والأذن، يقال: عذْر ونذْر، وعذُر ونذُر، كما يقال: عُنْق وعُنُق، وأُذْن وأُذُن، والعذر والنذر مصدران بمعنى الإعذار والإنذار كالنكير والعذير والنذير، ويجوز أن يكونا جمعين لعذير ونذير، ويجوز أن يكون العذر جمع عاذر، كشارف وشُرُف، والمعنى في التحريك والتسكين واحد على ما بينا إلى هاهنا أقسام ] ذكرها على قوله: ( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ ) ( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ ) من أمر الساعة والبعث ( لَوَاقِع ) [ لكائن ] ثم ذكر متى يقع. فقال: ( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) محي نورها. ( وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ) شقت. ( وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ) قلعت من أماكنها.

وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ( 11 ) لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ( 12 ) لِيَوْمِ الْفَصْلِ ( 13 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ( 14 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 15 ) أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ ( 16 ) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ ( 17 ) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ( 18 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 19 )

( وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) قرأ أهل البصرة « وقتت » بالواو، وقرأ أبو جعفر بالواو وتخفيف القاف، وقرأ الآخرون بالألف وتشديد القاف، وهما لغتان. والعرب تعاقبت بين الواو والهمزة كقولهم: وكَّدت وأكدت، ورَّخت وأرخت، ومعناهما: جمعت لميقات يوم معلوم، وهو يوم القيامة ليشهدوا على الأمم. ( لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ) أي أخرت، وضرب الأجل لجمعهم فعجَّب العباد من ذلك اليوم، ثم بيَّن فقال ( لِيَوْمِ الْفَصْلِ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يوم يفصل الرحمن عز وجل بين الخلائق. ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَومُ الفَصْلِ * وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نُهْلِكِ الأوَّلِينَ ) يعني الأمم الماضية بالعذاب، في الدنيا حين كذبوا رسلهم. ( ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ ) السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب يعني كفار مكة بتكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلم. ( كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ )

 

أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ( 20 ) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ( 21 ) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ( 22 ) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ( 23 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 24 ) أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا ( 25 )

( أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ) يعني النطفة. ( فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ) يعني الرحم. ( إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ) وهو وقت الولادة. ( فَقَدَرْنَا ) قرأ أهل المدينة والكسائي: « فقدَّرنا » بالتشديد من التقدير، وقرأ الآخرون بالتخفيف من القدرة، لقوله: « فنعم القادرون » وقيل: معناهما واحد، وقوله: ( فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ) أي المقدّرون. ( وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا ) وعاءً، ومعنى الكَفْت: الضم والجمع، يقال: كفت الشيء: إذا ضمه وجمعه وقال الفَّراء: يريد تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم، وتكفتهم أمواتًا في بطنها، أي: تحوزهم .

أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ( 26 ) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ( 27 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 28 ) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 29 ) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ( 30 ) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ( 31 ) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ( 32 )

وهو قوله ( أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ) جبالا ( شَامِخَاتٍ ) عاليات، ( وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ) عذبًا. ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) قال مقاتل: وهذا كله أعجب من البعث، ثم أخبر أنه يقال لهم يوم القيامة ( انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ )

( انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) في الدنيا. ( انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) يعني دخان جهنم إذا ارتفع انشعب وافترق ثلاث فرق. وقيل: يخرج عنق من النار فيتشعب ثلاث شعب، أما النور فيقف على رءوس المؤمنين، والدخان يقف على رءوس المنافقين، واللهب الصافي يقف على رءوس الكافرين. ثم وصف ذلك الظل فقال عز وجل ( لا ظَلِيلٍ ) لا يظل من الحر ( وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ) قال الكلبي: لا يرد لهب جهنم عنكم، والمعنى أنهم [ إذا ] استظلوا بذلك الظل لم يدفع عنهم حر اللهب. ( إِنَّهَا ) يعني جهنم ( تَرْمِي بِشَرَرٍ ) وهو ما تطاير من النار، واحدها شررة ( كَالْقَصْرِ ) وهو البناء العظيم، قال ابن مسعود: يعني الحصون.

وقال عبد الرحمن بن عياش سألت ابن عباس عن قوله تعالى: « إنها ترمي بشرر كالقصر » قال: هي الخشب العظام المقطعة، وكنا نعمد إلى الخشب فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندخرها للشتاء، فكنا نسميها القصر.

وقال سعيد بن جبير، والضحاك: هي أصول النخل والشجر العظام، واحدتها قصرة، مثل تمرة وتمر، وجمرة وجمر.

وقرأ علي وابن عباس « كالقصر » بفتح الصاد، أي أعناق النخل، والقصرة العنق، وجمعها قصر وقصرات.

كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ( 33 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 34 ) هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ( 35 ) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( 36 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 37 ) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ ( 38 ) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ( 39 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 40 ) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ( 41 ) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 42 )

( كَأَنَّه ) رد الكناية إلى اللفظ ( جِمَالَة ) قرأ حمزة والكسائي وحفص: « جمالة » على جمع الجمل، مثل حجر وحجارة، وقرأ يعقوب بضم الجيم بلا ألف، أراد: الأشياء العظام المجموعة، وقرأ الآخرون: « جمالات » بالألف وكسر الجيم على جمع الجمال، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير: هي حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض، حتى تكون كأوساط الرجال، ( صُفْرٌ ) جمع الأصفر، يعني لون النار، وقيل: « الصفر » معناه: السود، لأنه جاء في الحديث أن شرر نار جهنم أسود كالقير، والعرب تسمى سود الإبل صفرًا لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة كما يقال لبيض الظباء: أدم، لأن بياضها يعلوه كدرة. ( وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) وفي القيامة مواقف، ففي بعضها يختصمون ويتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون. ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) رفع عطف على قوله: « يؤذن » قال الجنيد: أي لا عذر لمن أعرض عن مُنْعِمِه وكفر بأياديه ونعمه. ( وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ ) بين أهل الجنة والنار ( جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ ) يعني مكذبي هذه الأمة والأولين الذين كذبوا أنبياءهم. ( فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) قال مقاتل: إن كانت لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم. ( وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ ) جمع ظل أي في ظلال الشجر ( وَعُيُون ) الماء.

( وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) .

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 43 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 44 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 45 ) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ( 46 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 47 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ( 48 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 49 ) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( 50 )

ويقال لهم ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) في الدنيا بطاعتي.

( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين ) .

ثم قال لكفار مكة: ( كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا ) في الدنيا ( إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) مشركون بالله عز وجل مستحقون للعذاب. ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا ) صلُّوا ( لا يَرْكَعُونَ ) لا يصلُّون، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنما يقال لهم هذا يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين * فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ ) بعد القرآن ( يُؤْمِنُونَ ) إذا لم يؤمنوا به.