الجزء الثالث

 

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( 253 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 254 )

( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ) أي كلمه الله تعالى يعني موسى عليه السلام ( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ الإمام رحمة الله عليه: وما أوتي نبي آية إلا وقد أوتي نبينا مثل تلك الآية وفضل على غيره بآيات مثل: انشقاق القمر بإشارته، وحنين الجذع على مفارقته، وتسليم الحجر والشجر عليه، وكلام البهائم والشهادة برسالته، ونبع الماء من بين أصابعه، وغير ذلك من المعجزات والآيات التي لا تحصى، وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السماء وأهل الأرض عن الإتيان بمثله.

أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي، أنا أبو الحسن محمد بن أحمد المخلدي، أخبرنا أبو العباس بن محمد بن إسحاق الثقفي، أنا قتيبة بن سعيد، أنا الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله تعالى إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن سنان، أخبرنا هشيم، أنا سيار، أنا يزيد الفقير، أنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة » .

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أنا عبد الله بن عمر الجوهري، أنا أحمد بن علي الكشميهني، أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر، أنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « فضلت على الأنبياء بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون » .

قوله تعالى: ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) أي من بعد الرسل ( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ ) ثبت على إيمانه بفضل الله ( وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ) بخذلانه ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ) أعاده تأكيدا ( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) يوفق من يشاء فضلا ويخذل من يشاء عدلا.

سأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر؟ فقال: طريق مظلم لا تسلكه، فأعاد السؤال فقال: بحر عميق فلا تلجه، فأعاد السؤال، فقال: سر الله في الأرض قد خفي عليك فلا تفتشه .

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ) قال السدي: أراد به الزكاة المفروضة وقال غيره: أراد به صدقة التطوع والنفقة في الخير ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ) أي لا فداء فيه، سماه بيعا لأن الفداء شراء نفسه ( وَلا خُلَّةٌ ) لا صداقة ( وَلا شَفَاعَةٌ ) إلا بإذن الله، قرأ ابن كثير ونافع وأهل البصرة كلها بالنصب، وكذلك في سورة إبراهيم ( الآية 31 ) لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ وفي سورة الطور ( الآية 23 ) لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ وقرأ الآخرون كلها بالرفع والتنوين ( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها.

اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( 255 ) لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 256 )

قوله عز وجل: ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني أنا حميد بن زنجويه أنا ابن أبي شيبة أنا عبد الأعلى عن الجريري عن أبي السليل عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أبا المنذر أي آية من كتاب الله أعظم » قلت ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) قال فضرب في صدري ثم قال: « ليهنك العلم » ثم قال: « والذي نفس محمد بيده إن لهذه الآية لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف عن محمد بن إسماعيل قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو: أخبرنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال: فخليت سبيله فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ » قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال: « أما إنه قد كذبك وسيعود » فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال ولا أعود، فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال : لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا أبا هريرة ما فعل أسيرك » قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال: « أما إنه قد كذبك وسيعود » فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود ثم تعود قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما فعل أسيرك البارحة » قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال ما هي؟ قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) وقال: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص الناس على الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة » قلت: لا قال « ذاك شيطان » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو معاوية عن عبد الرحمن بن أبي بكر هو المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أول حم * تَنْـزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 1 - 2 غافر ) حفظ في يومه ذلك حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ في ليلته تلك حتى يصبح » .

قوله تعالى: ( اللَّه ) رفع بالابتداء وخبره في ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ ) الباقي الدائم على الأبد وهو من له الحياة، والحياة صفة الله تعالى ( الْقَيُّوم ) قرأ عمر وابن مسعود « القيام » وقرأ علقمة « القيم » وكلها لغات بمعنى واحد، قال مجاهد ( الْقَيُّوم ) القائم على كل ( شيء ) وقال الكلبي: القائم على كل نفس بما كسبت وقيل هو القائم بالأمور. وقال أبو عبيدة: الذي لا يزول ( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) السنة: النعاس وهو النوم الخفيف، والوسنان بين النائم واليقظان يقال منه وسن يسن وسنا وسنة والنوم هو الثقيل المزيل للقوة والعقل، قال المفضل الضبي: السنة في الرأس والنوم في القلب، فالسنة أول النوم وهو النعاس، وقيل السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب فهو غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء، نفى الله تعالى عن نفسه النوم لأنه آفة وهو منـزه عن الآفات ولأنه تغير ولا يجوز عليه التغير.

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن جعفر أخبرنا علي بن حرب أخبرنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: « إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، ولكنه يخفض القسط، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » . ورواه المسعودي عن عمرو بن مرة وقال: حجابه النار.

( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) ملكا وخلقا ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) بأمره ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) قال مجاهد وعطاء والسدي: ( مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) أمر الدنيا ( وَمَا خَلْفَهُمْ ) أمر الآخرة، وقال الكلبي: ( مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها ( وَمَا خَلْفَهُمْ ) الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم، وقال ابن جريج: ما بين أيديهم ما مضى أمامهم وما خلفهم ما يكون بعدهم، وقال مقاتل: ما بين أيديهم، ما كان قبل خلق الملائكة وما خلفهم أي ما كان بعد خلقهم، وقيل: ما بين أيديهم أي ما قدموه من خير أو شر وما خلفهم ما هم فاعلوه ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ) أي من علم الله ( إِلا بِمَا شَاءَ ) أن يطلعهم عليه يعني لا يحيطون بشيء من علم الغيب إلا بما شاء مما أخبر به الرسل كما قال الله تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ( 26 - 27 الجن ) قوله تعالى: ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ) أي ملأ وأحاط به، واختلفوا في الكرسي فقال الحسن: هو العرش نفسه وقال أبو هريرة رضي الله عنه: الكرسي موضوع أمام العرش ومعنى قوله: « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ » أي سعته مثل سعة السماوات والأرض، وفي الأخبار أن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة. ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس .

وقال علي ومقاتل: كل قائمة من الكرسي طولها مثل السماوات السبع والأرضين السبع، وهو بين يدي العرش، ويحمل الكرسي أربعة أملاك، لكل ملك أربعة وجوه، وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام، ملك على صورة سيد البشر آدم عليه السلام، وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة إلى السنة، وملك على صورة سيد الأنعام وهو الثور وهو يسأل للأنعام الرزق من السنة إلى السنة وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل، وملك على صورة سيد السباع وهو الأسد يسأل للسباع الرزق من السنة إلى السنة، [ وملك على صورة سيد الطير وهو النسر يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة ] وفي بعض الأخبار أن ما بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام لولا ذلك لاحترق حملة الكرسي من نور حملة العرش.

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أراد بالكرسي علمه وهو قول مجاهد، ومنه قيل لصحيفة العلم كراسه، وقيل: كرسيه ملكه وسلطانه، والعرب تسمي الملك القديم كرسيا، ( وَلا يَئُودُه ) أي لا يثقله ولا يشق عليه يقال: آدني الشيء أي أثقلني ( حِفْظُهُمَا ) أي حفظ السماوات والأرض ( وَهُوَ الْعَلِيُّ ) الرفيع فوق خلقه والمتعالي عن الأشياء والأنداد، وقيل العلي بالملك والسلطنة ( الْعَظِيم ) الكبير الذي لا شيء أعظم منه.

قوله تعالى: ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة ( المقلاة من النساء ) لا يعيش لها ولد - وكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهود، فجاء الإسلام وفيهم منهم فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا: هم أبناؤنا وإخواننا فنـزلت هذه الآية ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « خيروا أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم » .

وقال مجاهد: كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبن معهم ولندينن بدينهم، فمنعهم أهلوهم، فنـزلت ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) .

وقال مسروق: كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تسلما، فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فأنـزل الله تعالى ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) فخلى سبيلهما .

وقال قتادة وعطاء: نـزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإسلام، فلما أسلموا طوعا أو كرها أنـزل الله تعالى: ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإسلام، وقيل كان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت منسوخة بآية السيف، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه ( قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) أي الإيمان من الكفر والحق من الباطل ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ) يعني الشيطان، وقيل: كل ما عبد من دون الله تعالى فهو طاغوت، وقيل كل ما يطغي الإنسان، فَاعُوْل من الطغيان، زيدت التاء فيه بدلا من لام الفعل، كقولهم حانوت وتابوت، فالتاء فيها مبدلة من هاء التأنيث ( وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ ) أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين، والوثقى تأنيث الأوثق وقيل العروة الوثقى السبب الذي يوصل إلى رضا الله تعالى: ( لا انْفِصَامَ لَهَا ) لا انقطاع لها ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ ) قيل: لدعائك إياهم إلى الإسلام ( عَلِيم ) بحرصك على إيمانهم.

 

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 257 )

قوله تعالى: ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ) ناصرهم ومعينهم، وقيل: محبهم، وقيل متولي أمورهم لا يكلهم إلى غيره، وقال الحسن: ولي هدايتهم ( يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) أي من الكفر إلى الإيمان قال الواقدي: كل ما في القرآن من الظلمات والنور فالمراد منه الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام، وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ فالمراد منه الليل والنهار، سمي الكفر ظلمة لالتباس طريقه وسمي الإسلام نورا لوضوح طريقه ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ) قال مقاتل: يعني كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وسائر رءوس الضلالة ( يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) يدعونهم من النور إلى الظلمات، والطاغوت يكون مذكرا ومؤنثا وواحدا وجمعا، قال تعالى في المذكر والواحد: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ( 60- النساء ) وقال في المؤنث : وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ( 17- الزمر ) وقال في الجمع: ( يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) فإن قيل: قال: يخرجونهم من النور وهم كفار لم يكونوا في نور قط؟ قيل: هم اليهود كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث لما يجدون في كتبهم من نعته، فلما بعث كفروا به، وقيل: هو على العموم في حق جميع الكفار، قالوا: منعهم إياهم من الدخول فيه إخراج كما يقول الرجل لأبيه أخرجتني من مالك ولم يكن فيه، كما قال الله تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( 37- يوسف ) ولم يكن قط في ملتهم ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 258 )

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ) معناه هل انتهى إليك يا محمد خبر الذي حاج إبراهيم أي خاصم وجادل، وهو نمرود وهو أول من وضع التاج على رأسه، وتجبر في الأرض وادعى الربوبية؟ ( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ) أي لأن آتاه الله الملك فطغى أي كانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه، قال مجاهد: ملك الأرض أربعة، مؤمنان وكافران فأما المؤمنان فسليمان وذو القرنين، وأما الكافران فنمرود وبختنصر.

واختلفوا في وقت هذه المناظرة، قال مقاتل: لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمرود ثم أخرجه ليحرقه بالنار فقال له: من ربك الذي تدعونا إليه؟ فقال ربي الذي يحيي ويميت، وقال آخرون: كان هذا بعد إلقائه في النار، وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمرود وكان الناس يمتارون من عنده الطعام، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأله من ربك؟ فإن قال أنت، باع منه الطعام، فأتاه إبراهيم فيمن أتاه فقال له نمرود: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت فاشتغل بالمحاجة ولم يعطه شيئا فرجع إبراهيم فمر على كثيب من رمل أعفر فأخذ منه تطييبا لقلوب أهله إذا دخل عليهم، فلما أتى أهله ووضع متاعه نام، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام ما رآه أحد، فأخذته فصنعت له منه فقربته إليه فقال: من أين هذا؟ قالت من الطعام الذي جئت به فعرف أن الله رزقه، فحمد الله.

قال الله تعالى: ( إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) [ وهذا جواب سؤال غير مذكور تقديره قال له: من ربك؟ فقال إبراهيم ( رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) ] قرأ حمزة ( رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) بإسكان الياء وكذلك حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ( 33- الأعراف ) و عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ ( 146- الأعراف ) و قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ ( 31- إبراهيم ) و آتَانِيَ الْكِتَابَ ( 30- مريم ) و مَسَّنِيَ الضُّرُّ ( 83- الأنبياء ) و عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ( 105- الأنبياء ) و عِبَادِيَ الشَّكُورُ ( 13- سبأ ) و مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ ( 41- ص ) و إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ ( 38- الزمر ) و إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ ( 28- الملك ) أسكن الياء فيهن حمزة، ووافق ابن عامر والكسائي في « لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا » وابن عامر « آيَاتِي الَّذِينَ » وفتحها الآخرون، ( قَال ) نمرود ( أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ )

قرأ أهل المدينة ( أنا ) بإثبات الألف والمد في الوصل إذا تلتها ألف مفتوحة أو مضمومة والباقون بحذف الألف، ووقفوا جميعا بالألف، قال أكثر المفسرين: دعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فجعل ترك القتل إحياء له، فانتقل إبراهيم إلى حجة أخرى، لا عجزا، فإن حجته كانت لازمة لأنه أراد بالإحياء إحياء الميت فكان له أن يقول: فأحي من أمت إن كنت صادقا فانتقل إلى حجة أخرى أوضح من الأولى.

( قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) أي تحير ودهش وانقطعت حجته. فإن قيل: كيف بهت وكان يمكنه أن يعارض إبراهيم فيقول له: سل أنت ربك حتى يأتي بها من المغرب قيل: إنما لم يقله لأنه خاف أن لو سأل ذلك دعا إبراهيم ربه فكان زيادة في فضيحته وانقطاعه، والصحيح أن الله صرفه عن تلك المعارضة إظهارا للحجة عليه أو معجزة لإبراهيم عليه السلام ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 259 )

قوله تعالى: ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ) وهذه الآية منسوقة على الآية الأولى، تقديره أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ وإلى الذي مر على قرية، وقيل: تقديره هل رأيت الذي حاج إبراهيم في ربه، وهل رأيت الذي مر على قرية؟ واختلفوا في ذلك المار، فقال قتادة وعكرمة والضحاك: هو عزير بن شرخيا، وقال وهب بن منبه: هو أرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون، وهو الخضر وقال مجاهد: هو كافر شك في البعث، واختلفوا في تلك القرية فقال وهب وعكرمة وقتادة: هي بيت المقدس، وقال الضحاك: هي الأرض المقدسة، وقال الكلبي: هي دير سابر أباد، وقال السدي: مسلم باذ، وقيل ديرهرقل، وقيل: هي الأرض التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، وقيل: هي قرية العنب، وهي على فرسخين من بيت المقدس ( وَهِيَ خَاوِيَةٌ ) ساقطة يقال: خوي البيت بكسر الواو يخوي خوى، مقصورا، إذا سقط وخوى البيت بالفتح خواء ممدودا إذا خلا ( عَلَى عُرُوشِهَا ) سقوفها، واحدها عرش وقيل: كل بناء عرش، ومعناه: أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها.

( قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) وكان السبب في ذلك على ما روى محمد بن إسحاق بن منبه أن الله تعالى بعث إرمياء إلى ناشية بن أموص ملك بني إسرائيل يسدده في ذلك ويأتيه بالخبر من الله عز وجل، فعظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي فأوحى الله تعالى إلى إرمياء: أن ذكر قومك نعمي وعرفهم أحداثهم وادعهم إلي، فقال إرمياء إني ضعيف إن لم تقوني، عاجز إن لم تبلغني، مخذول إن لم تنصرني، فقال الله عز وجل: أنا ألهمك، فقام إرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه الله في الوقت خطبة بليغة طويلة بين لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وقال في آخرها عن الله تعالى: وإني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحكيم، ولأسلطن عليهم جبارا فارسيا ألبسه الهيبة وأنـزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، ثم أوحى الله إلى إرمياء إني مهلك بني إسرائيل بيافث، ويافث من أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام، فلما سمع إرمياء ذلك صاح وبكى وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه فلما سمع الله تضرعه وبكاءه ناداه: يا أرمياء أشق عليك ما أوحيت إليك قال: نعم يا رب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به فقال الله تعالى: وعزتي لا أهلك بني إسرائيل حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك، ففرح إرمياء بذلك وطابت نفسه، فقال: لا والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل، ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان ملكا صالحا فاستبشر وفرح فقال: إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة وإن عفا عنا فبرحمته.

ثم إنهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشر وذلك حين اقترب هلاكهم فقل الوحي، ودعاهم الملك إلى التوبة، فلم يفعلوا، فسلط الله عليهم بختنصر، فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائرا أتى الملك الخبر، فقال لإرمياء: أين ما زعمت أن الله أوحى إليك؟ فقال إرمياء: إن الله لا يخلف الميعاد وأنا به واثق فلما قرب الأجل بعث الله إلى إرمياء ملكا قد تمثل له رجلا من بني إسرائيل فقال له إرمياء: من أنت؟ قال: أنا رجل من بني إسرائيل أتيتك أستفتيك في أهل رحمي وصلت أرحامهم ولم آت إليهم إلا حسنا ولا يزيدهم إكرامي إياهم إلا إسخاطا لي فأفتني فيهم، قال: أحسن فيما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير. فانصرف الملك فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه فقال: أنا الذي أتيتك في شأن أهلي، فقال له إرمياء: أما طهرت أخلاقهم لك بعد؟ قال: يا نبي الله والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى رحمة إلا قدمتها إليهم وأفضل، فقال له النبي إرمياء عليه السلام: ارجع فأحسن إليهم أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم، فقام الملك، فمكث أياما وقد نـزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد ففزع منهم بنو إسرائيل فقال ملكهم لإرمياء: يا نبي الله أين ما وعدك الله. قال: إني بربي واثق، ثم أقبل الملك إلى إرمياء وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه عز وجل الذي وعده، فقعد بين يديه فقال: أنا الذي أتيتك في شأن أهلي مرتين، فقال النبي: ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال الملك: يا نبي الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، فاليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله: فقال النبي: على أي عمل رأيتهم؟ قال: على عمل عظيم من سخط الله فغضب الله وأتيتك لأخبرك، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق نبيا إلا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم، فقال إرمياء: يا مالك السماوات والأرض إن كانوا على حق وصواب فأبقهم وإن كانوا على عمل لا ترضاه فأهلكهم، فلما خرجت الكلمة من فم إرمياء، أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها، فلما رأى ذلك إرمياء صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال: يا مالك السماوات أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك ودعائك، فاستيقن النبي عليه السلام أنها فتياه وأن ذلك السائل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فطار إرمياء حتى خالط الوحوش.

ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا فيقذفه في بيت المقدس، ففعلوا حتى ملئوه ، ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عندهم صغيرهم وكبيرهم من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه، فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة، وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق، فثلثا قتلهم، وثلثا سباهم، وثلثا أقرهم بالشام، وكانت هذه الواقعة الأولى التي أنـزلها الله في بني إسرائيل بظلمهم فلما ولى عنهم بختنصر راجعا إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل أقبل إرمياء على حمار له معه عصير عنب في ركوة وسلة تين حتى غشي إيلياء، فلما وقف عليها ورأى خرابها قال: ( أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) .

وقال الذي قال إن المار كان عزيرا: وإن بختنصر لما خرب بيت المقدس وقدم بسبي بني إسرائيل ببابل كان فيهم عزير ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار له حتى نـزل دير هرقل على شط دجلة فطاف في القرية فلم ير فيها أحدا، وعامة شجرها حامل فأكل من الفاكهة، واعتصر من العنب فشرب منه، وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العصير في زق فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال: ( أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) قالها تعجبا لا شكأ في البعث.

رجعنا إلى حديث وهب قال: ثم ربط إرمياء حماره بحبل جديد فألقى الله تعالى عليه النوم فلما نام نـزع الله منه الروح مائة عام وأمات حماره، وعصيره وتينه عنده فأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد، وذلك ضحى، ومنع الله السباع والطير لحمه فلما مضى من موته سبعون سنة أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس يقال له نوشك فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيلياء حتى يعود أعمر ما كان، فانتدب الملك بألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل وجعلوا يعمرونه، فأهلك الله بختنصر ببعوضة دخلت دماغه، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل، ولم يمت ببابل وردهم جميعا إلى بيت المقدس ونواحيه وعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى عادوا على أحسن ما كانوا عليه فلما مضت المائة أحيا الله منه عينيه، وسائر جسده ميت، ثم أحيا جسده وهو ينظر إليه، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرقة بيض، تلوح فسمع صوتا من السماء: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمع بعضها إلى بعض، واتصل بعضها ببعض ثم نودي إن الله يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا فكانت كذلك ثم نودي: إن الله يأمرك أن تحيا، فقام بإذن الله ونهق، وعمر الله إرمياء فهو الذي يرى في الفلوات فذلك قوله تعالى: ( فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) أي أحياه ( قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ) أي: كم مكثت؟ يقال: لما أحياه الله بعث إليه ملكا فسأله كم لبثت؟ ( قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا ) وذلك أن الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس، فقال: لبثت يوما وهو يرى أن الشمس قد غربت، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال ( أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) بل بعض يوم ( قَال ) الملك ( بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ ) يعني التين ( وَشَرَابِك ) يعني العصير ( لَمْ يَتَسَنَّهْ ) أي لم يتغير، فكان التين كأنه قطف في ساعته والعصير كأنه عصر في ساعته.

قال الكسائي: كأنه لم تأت عليه السنون. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب لم يتسن بحذف الهاء في الوصل وكذلك فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ( 90- الأنعام ) وقرأ الآخرون بالهاء فيهما وصلا ووقفا، فمن أسقط الهاء في الوصل جعل الهاء صلة زائدة وقال: أصله يتسنى فحذف الياء بالجزم وأبدل منه هاء في الوقف وقال أبو عمرو: هو من التسنن بنونين: وهو التغير كقوله تعالى: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ( 26- الحجر ) أي متغير فعوضت من إحدى النونين ياء كقوله تعالى: ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ( 33- القيامة ) أي يتمطط، وكقوله وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ( 10- الشمس ) وأصله دسيتها، ومن أثبت الهاء في الحالين جعل الهاء أصلية لام الفعل، وهذا على قول من جعل أصل السنة السنهة وتصغيرها سنيهة والفعل من السانهة وإنما قال: لم يتسنه ولم يثنه مع أنه أخبر عن شيئين رد التغيير إلى أقرب اللفظين وهو الشراب واكتفى بذكر أحد المذكورين لأنه في معنى الآخر ( وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ) فنظر فإذا هو عظام بيض فركب الله تعالى العظام بعضها على بعض فكساه اللحم والجلد وأحياه وهو ينظر ( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ) قيل الواو زائدة مقحمة. وقال الفراء أدخلت الواو فيه دلالة على أنها شرط لفعل بعدها معناه ولنجعلك آية أي: عبرة ودلالة على البعث بعد الموت قاله أكثر المفسرين، وقال الضحاك وغيره: إنه عاد إلى قريته شابا وأولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللحية.

قوله تعالى: ( وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ) قرأ أهل الحجاز والبصرة ننشرها بالراء معناه نحييها يقال: أنشر الله الميت إنشارا ونشرة نشورا قال الله تعالى: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ( 22- عبس ) وقال في اللازم وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ( 15- الملك ) وقرأ الآخرون بالزاي أي نرفعها من الأرض ونردها إلى مكانها من الجسد ونركب بعضها على بعض، وإنشاز الشيء رفعه وإزعاجه، يقال: أنشزته فنشز أي رفعته فارتفع.

واختلفوا في معنى الآية، فقال الأكثرون: أراد به عظام حماره، وقال السدي: إن الله تعالى أحيا عزيرا ثم قال له: انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه فبعث الله تعالى ريحا فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل وقد ذهبت بها الطير والسباع فاجتمعت فركب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار حمارا من عظام ليس فيه لحم ولا دم ( ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ) ثم كسا العظام لحما ودما فصار حمارا لا روح فيه، ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن الله.

وقال قوم أراد به عظام هذا الرجل، وذلك أن الله تعالى لم يمت حماره بل أماته هو فأحيا الله عينيه ورأسه، وسائر جسده ميت، ثم قال: انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره قائما واقفا كهيئته يوم ربطه حيا لم يطعم ولم يشرب مائة عام ونظر إلى الرمة في عنقه جديدة لم تتغير، وتقدير الآية: ( وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ) وانظر إلى عظامك كيف ننشزها وفي الآية تقديم وتأخير، وتقديرهما: وانظر إلى حمارك، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ولنجعلك آية للناس.

وقال قتادة عن كعب والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما، والسدي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما أحيا الله تعالى عزيرا بعد ما أماته مائة سنة ركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكر الناس ومنازله فانطلق على وهم حتى أتى منـزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت عرفته وعقلته فقال لها عزير: يا هذه هذا منـزل عزير؟ قالت: نعم هذا منـزل عزير وبكت وقالت: ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة يذكر عزيرا قال: فإني أنا عزير، قالت: سبحان الله فإن عزيرا قد فقدناه من مائة سنة لم نسمع له بذكر قال: فإني أنا عزير كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني، قالت: فإن عزيرا كان رجلا مستجاب الدعوة ويدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية، فادع الله أن يرد لي بصري حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك، فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال: قومي بإذن الله تعالى، فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة، فنظرت إليه فقالت: أشهد أنك عزير، فانطلقت إلى بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ كبير ابن مائة سنة وثمانية عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس، فنادت هذا عزير قد جاءكم، فكذبوها، فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله كان أماته مائة سنة ثم بعثه، فنهض الناس فأقبلوا إليه فقال ولده: كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير.

وقال السدي والكلبي: لما رجع عزير إلى قومه وقد أحرق بختنصر التوراة ولم يكن من الله عهد بين الخلق، فبكى عزير على التوراة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الماء فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه الله التوراة وبعثه نبيا، فقال: أنا عزير فلم يصدقوه فقال: إني عزير قد بعثني الله إليكم لأجدد لكم توراتكم قالوا: أملها علينا، فأملاها عليهم عن ظهر قلبه، فقالوا: ما جعل الله التوراة في صدر رجل بعدما ذهبت إلا أنه ابنه، فقالوا: عزير ابن الله، وستأتي القصة في سورة براءة إن شاء الله تعالى .

قوله تعالى: ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ) ذلك عيانا ( قَالَ أَعْلَمُ ) قرأ حمزة والكسائي مجزوما موصولا على الأمر على معنى قال الله تعالى له اعلم، وقرأ الآخرون أعلم بقطع الألف ورفع الميم على الخبر عن عزير أنه قال لما رأى ذلك أعلم ( أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

 

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 260 )

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ) قال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني وابن جريج: كان سبب هذا السؤال من إبراهيم عليه السلام أنه مر على دابة ميتة، قال ابن جريج: كانت جيفة حمار بساحل البحر، قال عطاء: في بحيرة طبرية، قالوا: فرآها وقد توزعتها دواب البحر والبر، فكان إذا مد البحر جاءت الحيتان ودواب البحر فأكلت منها فما وقع منها يصير في البحر، فإذا جزر البحر ورجع جاءت السباع فأكلن منها فما سقط منها يصير ترابا فإذا ذهبت السباع، جاءت الطير فأكلت منها فما سقط منها قطعتها الريح في الهواء، فلما رأى ذلك إبراهيم عليه السلام تعجب منها وقال: يا رب قد علمت لتجمعنها من بطون السباع وحواصل الطير وأجواف دواب البحر فأرني كيف تحييها لأعاين فأزداد يقينا، فعاتبه الله تعالى ( قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى ) يا رب علمت وآمنت ( وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) أي ليسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة، أراد أن يصير له علم اليقين عين اليقين، لأن الخبر ليس كالمعاينة.

وقيل كان سبب هذا السؤال من إبراهيم أنه لما احتج على نمرود فقال رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ( 258- البقرة ) قال نمرود أنا أحيي وأميت فقتل أحد الرجلين، وأطلق الآخر، فقال إبراهيم: إن الله تبارك وتعالى يقصد إلى جسد ميت فيحييه، فقال له نمرود: أنت عاينته، فلم يقدر أن يقول نعم فانتقل إلى حجة أخرى، ثم سأل ربه أن يريه إحياء الموتى. ( قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) بقوة حجتي فإذا قيل أنت عاينته فأقول نعم قد عاينته.

وقال سعيد بن جبير لما اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربه أن يأذن له فيبشر إبراهيم بذلك فأذن له فأتى إبراهيم ولم يكن في الدار، فدخل داره وكان إبراهيم عليه السلام أغير الناس إذا خرج أغلق بابه، فلما جاء وجد في داره رجلا فثار عليه ليأخذه وقال له: من أذن لك أن تدخل داري؟ فقال: أذن لي رب هذه الدار، فقال إبراهيم: صدقت وعرف أنه ملك، فقال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت جئت أبشرك بأن الله تعالى قد اتخذك خليلا فحمد الله عز وجل، وقال: فما علامة ذلك؟ قال: أن يجيب الله دعاءك ويحيي الله الموتى بسؤالك، فحينئذ قال إبراهيم: ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) أنك اتخذتني خليلا وتجيبني إذا دعوتك .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أحمد بن صالح، أنا ابن وهب، أخبرنا يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، ورحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي » .

وأخرج مسلم بن الحجاج هذا الحديث عن حرملة بن يحيى عن وهب بهذا الإسناد مثله وقال: « نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى » .

حكى محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال على هذا الحديث، لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم في أن الله قادر على أن يحيي الموتى وإنما شكا في أنه هل يجيبهما إلى ما سألا وقال أبو سليمان الخطابي: ليس في قوله نحن أحق بالشك من إبراهيم، اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم، لكن فيه نفي الشك عنهما، يقول: إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك، وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس، وكذلك قوله: « لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي » وفيه الإعلام أن المسألة من إبراهيم عليه السلام لم تعرض من جهة الشك، ولكن من قبل زيادة العلم بالعيان، فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال، وقيل: لما نـزلت هذه الآية قال قوم: شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول تواضعا منه وتقديما لإبراهيم على نفسه.

قوله ( أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ) معناه قد آمنت فلم تسأل؟ شهد له بالإيمان كقول جرير:

ألســتم خـير مـن ركـب المطايـا وأنـــدى العــالمين بطــون راح

يعني أنتم كذلك، ولكن ليطمئن قلبي بزيادة اليقين.

( قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ ) قال مجاهد وعطاء وابن جريج: أخذ طاووسا وديكا وحمامة وغرابا، وحكي عن ابن عباس رضي الله عنه: ونسرا بدل الحمامة.

وقال عطاء الخراساني: أوحى إليه أن خذ بطة خضراء وغرابا أسود وحمامة بيضاء وديكا أحمر ( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) قرأ أبو جعفر وحمزة ( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) بكسر الصاد أي قطعهن ومزقهن، يقال صار يصير صيرا إذا قطع، وانصار الشيء انصيارا إذا انقطع.

قال الفراء: هو مقلوب من صريت أصري صريا إذا قطعت، وقرأ الآخرون ( فَصُرْهُنَّ ) بضم الصاد ومعناه أملهن إليك ووجههن، يقال: صرت الشيء أصوره إذا أملته، ورجل أصور إذا كان مائل العنق، وقال عطاء: معناه اجمعهن واضممهن إليك يقال: صار يصور صورا إذا اجتمع ومنه قيل لجماعة النحل صور، ومن فسره بالإمالة والضم قال فيه إضمار معناه فصرهن إليك ثم قطعهن فحذفه اكتفاء بقوله: ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ) لأنه يدل عليه، وقال أبو عبيدة: فصرهن معناه قطعهن أيضا، والصور القطع.

قوله تعالى: ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ) قرأ عاصم برواية أبي بكر ( جزءا ) مثقلا مهموزا، والآخرون بالتخفيف والهمز، وقرأ أبو جعفر مشددة الزاي بلا همز وأراد به بعض الجبال.

قال بعض المفسرين: أمر الله إبراهيم أن يذبح تلك الطيور وينتف ريشها ويقطعها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها بعضها ببعض ففعل، ثم أمره أن يجعل أجزاءها على الجبال.

واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال فقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: أمر أن يجعل كل طائر أربعة أجزاء ويجعلها على أربعة أجبل على كل جبل ربعا من كل طائر وقيل: جبل على جانب الشرق، وجبل على جانب الغرب، وجبل على جانب الشمال، وجبل على جانب الجنوب.

وقال ابن جريج والسدي: جزأها سبعة أجزاء ووضعها على سبعة أجبل وأمسك رءوسهن ثم دعاهن: تعالين بإذن الله تعالى، فجعلت كل قطرة من دم طائر تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى، وكل عظم يصير إلى العظم الآخر، وكل بضعة تصير إلى الأخرى، وإبراهيم ينظر، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضا في الهواء بغير رأس ثم أقبلن إلى رءوسهن سعيا فكلما جاء طائر مال برأسه فإن كان رأسه دنا منه، وإن لم يكن تأخر، حتى التقى كل طائر برأسه فذلك قوله تعالى ( ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ) قيل المراد بالسعي الإسراع والعدو، وقيل المراد به المشي دون الطيران كما قال الله تعالى فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( 9- الجمعة ) أي فامضوا، والحكمة في المشي دون الطيران كونه أبعد من الشبهة لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطير وأن أرجلها غير سليمة والله أعلم. وقيل السعي بمعنى الطيران ( وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 261 )

قوله تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) فيه إضمار تقديره مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم ( كَمَثَلِ ) زارع ( حَبَّة ) وأراد بسبيل الله الجهاد، وقيل جميع أبواب الخير ( أَنْبَتَت ) أخرجت ( سَبْعَ سَنَابِلَ ) جمع سنبلة ( فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) فإن قيل فما رأينا سنبلة فيها مائة حبة فكيف ضرب المثل به؟ قيل: ذلك متصور، غير مستحيل، وما لا يكون مستحيلا جاز ضرب المثل به وإن لم يوجد، معناه: ( فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) فما حدث من البذر الذي كان فيها كان مضاعفا إليها وكذلك تأوله الضحاك فقال: كل سنبلة أنبتت مائة حبة ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ) قيل معناه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء، وقيل: معناه يضاعف على هذا ويزيد لمن يشاء ما بين سبع إلى سبعين إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف مما لا يعلمه إلا الله ( وَاللَّهُ وَاسِعٌ ) غني يعطي عن سعة ( عَلِيمٌ ) بنية من ينفق ماله.

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 262 ) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( 263 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( 264 )

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) قال الكلبي: نـزلت هذه الآية في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما، جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كانت عندي ثمانية آلاف فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم، وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله فيما أمسكت لك وفيما أعطيت، وأما عثمان فجهز جيش المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحلاسها فنـزلت فيهما هذه الآية.

وقال عبد الرحمن بن سمرة: جاء عثمان رضي الله عنه بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيها يده ويقلبها ويقول « ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم » فأنـزل الله تعالى ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) في طاعة الله ( ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا ) وهو أن يمن عليه بعطائه فيقول أعطيتك كذا، ويعد نعمه عليه فيكدرها ( وَلا أَذًى ) أن يعيره فيقول إلى كم تسأل وكم تؤذيني؟ وقيل من الأذى هو أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه.

وقال سفيان: ( مَنًّا وَلا أَذًى ) أن يقول قد أعطيتك وأعطيت فما شكرت، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه، فحظر الله على عباده المن بالصنيعة، واختص به صفة لنفسه، لأنه من العباد تعيير وتكدير . ومن الله إفضال وتذكير ( لَهُمْ أَجْرُهُمْ ) أي ثوابهم ( عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )

( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) أي كلام حسن ورد على السائل جميل، وقيل عدة حسنة. وقال الكلبي: دعاء صالح يدعو لأخيه بظهر الغيب، وقال الضحاك: نـزلت في إصلاح ذات البين ( وَمَغْفِرَة ) أي تستر عليه خلته ولا تهتك عليه ستره، وقال الكلبي والضحاك: يتجاوز عن ظالمه، وقيل يتجاوز عن الفقير إذا استطال عليه عند رده ( خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ ) يدفعها إليه ( يَتْبَعُهَا أَذًى ) أي من وتعيير للسائل أو قول يؤذيه ( وَاللَّهُ غَنِيٌّ ) أي مستغن عن صدقة العباد ( حَلِيم ) لا يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بالصدقة.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ ) أي أجور صدقاتكم ( بِالْمَن ) على السائل، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بالمن على الله تعالى ( وَالأذَى ) لصاحبها ثم ضرب لذلك مثلا فقال ( كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ ) أي كإبطال الذي ينفق ماله ( رِئَاءَ النَّاسِ ) أي مراءاة وسمعة ليروا نفقته ويقولوا إنه كريم سخي ( وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) يريد أن الرياء يبطل الصدقة ولا تكون النفقة مع الرياء من فعل المؤمنين وهذا للمنافقين لأن الكافر معلن بكفره غير مراء ( فَمَثَلُه ) أي مثل هذا المرائي ( كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ) الحجر الأملس، وهو واحد وجمع، فمن جعله جمعا فواحده صفوانة ومن جعله واحدا فجمعه صفي ( عَلَيْه ) أي على الصفوان ( تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ) المطر الشديد العظيم القطر ( فَتَرَكَهُ صَلْدًا ) أي أملس، والصلد الحجر الصلب الأملس الذي لا شيء عليه فهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المنافق والمرائي والمؤمن الذي يمن بصدقته ويؤذي ويري الناس في الظاهر أن لهؤلاء أعمالا كما يرى التراب على هذا الصفوان فإذا كان يوم القيامة بطل كله واضمحل لأنه لم يكن لله عز وجل كما أذهب الوابل ما على الصفوان من التراب فتركه صلدا ( لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ) أي على ثواب شيء مما كسبوا وعملوا في الدنيا ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني، أخبرنا علي بن حجر، أخبرنا إسماعيل بن جعفر، أخبرنا عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال « الرياء يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء » .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد الحارثي أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أخبرنا عبد الله بن محمد بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، أخبرنا عبد الله بن المبارك عن حيوة بن شريح، أخبرني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان المدائني أن عقبة بن مسلم حدثه أن شفيا الأصبحي حدثه أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس فقال من هذا؟ قالوا: أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس فلما سكت وخلا قلت له: أنشدك الله بحق، لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إن الله إذا كان يوم القيامة ينـزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنـزلت على رسولي؟ فقال: بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق. فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة كذبت ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول له: فبماذا قتلت؟ فيقول: يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة » .

 

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 265 )

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه ) أي طلب رضا الله تعالى ( وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) قال قتادة: احتسابا، وقال الشعبي والكلبي: تصديقا من أنفسهم، أي يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله، ويعلمون أن ما أخرجوا خير لهم مما تركوا، وقيل على يقين بإخلاف الله عليهم.

وقال عطاء ومجاهد: يثبتون أي يضعون أموالهم، قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت فإن كان لله أمضى وإن كان يخالطه شك أمسك، وعلى هذا القول يكون التثبيت بمعنى التثبت، كقوله تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ( 8- المزمل ) أي تبتلا ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ ) أي بستان قال ( المبرد ) والفراء: إذا كان في البستان نخل فهو جنة وإن كان فيه كرم فهو فردوس ( بِرَبْوَة ) قرأ ابن عامر وعاصم بربوة وإلى ربوة في سورة المؤمنون بفتح الراء وقرأ الآخرون بضمها وهي المكان المرتفع المستوي الذي تجري فيه الأنهار فلا يعلوه الماء ولا يعلو عن الماء، وإنما جعلها بربوة لأن النبات عليها أحسن وأزكى ( أَصَابَهَا وَابِلٌ ) مطر شديد كثير ( فَآتَتْ أُكُلَهَا ) ثمرها، قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتثقيل، وزاد نافع وابن كثير تخفيف أكله والأكل، وخفف أبو عمرو رسلنا ورسلكم ورسلهم وسبلنا.

( ضِعْفَيْنِ ) أي أضعفت في الحمل قال عطاء: حملت في السنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين، وقال عكرمة: حملت في السنة مرتين ( فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ) أي فطش، وهو المطر الضعيف الخفيف ويكون دائما.

قال السدي: هو الندى، وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المؤمن المخلص فيقول: كما أن هذه الجنة تريع في كل حال ولا تخلف سواء قل المطر أو كثر، كذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمن ولا يؤذي سواء قلت نفقته أو كثرت، وذلك أن الطل إذا كان يدوم يعمل عمل الوابل الشديد. ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 266 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 267 )

( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) هذه الآية متصلة بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [ قوله أيود يعني: أيحب أحدكم أن تكون له جنة أي بستان من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ] .

( لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ ) أولاد صغار ضعاف عجزة ( فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ ) الريح العاصف التي ترتفع إلى السماء كأنها عمود وجمعه أعاصير ( فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ) هذا مثل ضربه الله لعمل المنافق والمرائي يقول: عمله في حسنه كحسن الجنة ينتفع به كما ينتفع صاحب الجنة بالجنة، فإذا كبر أو ضعف وصار له أولاد ضعاف وأصاب جنته إعصار فيه نار فاحترقت فصار أحوج ما يكون إليها وضعف عن إصلاحها لكبره وضعف أولاده عن إصلاحها لصغرهم ولم يجد هو ما يعود به على أولاده ولا أولاده ما يعودون به عليه فبقوا جميعا متحيرين عجزة لا حيلة بأيديهم، كذلك يبطل الله عمل هذا المنافق والمرائي حين لا مغيث لهما ولا توبة ولا إقالة.

قال عبيد بن عمير: قال عمر رضي الله عنه يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيمن ترون هذه الآية نـزلت ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) قالوا: الله أعلم، فغضب عمر رضي الله عنه فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر رضي الله عنه: ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ضربت مثلا لعمل، فقال عمر رضي الله عنه: أي عمل؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لعمل المرائي قال عمر رضي الله عنه لرجل غني يعمل بطاعة الله بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله « . ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ ) خيار، قال ابن مسعود رضي الله عنه ومجاهد: من حلالات مَا كَسَبْتُمْ بالتجارة والصناعة وفيه دلالة على إباحة الكسب وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث. »

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا يعلى بن عبيد، أخبرنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا عبد الله بن صالح، أخبرنا أبو معاوية بن صالح عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب أنه حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وكان داود لا يأكل إلا من عمل يديه » .

أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي بن محمد الكشميهني، أخبرنا نجاح بن يزيد المحاربي بالكوفة، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، أخبرنا أحمد بن حازم، أخبرنا يحيى بن عبيد، أخبرنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد بن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يكتسب عبد مالا حراما فيتصدق منه فيقبل الله منه، ولا ينفق منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث » .

والزكاة واجبة في مال التجارة عند أكثر أهل العلم، فبعد الحول يقوم العروض فيخرج من قيمتها ربع العشر إذا كان قيمتها عشرون دينارا أو مائتي درهم، قال سمرة بن جندب: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع » .

وعن أبي عمرو بن حماس أن أباه قال: مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عنقي أدمة أحملها فقال عمر: ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟ فقلت: ما لي غير هذا وأهب في القرظ ، فقال ذاك مال، فضع، فوضعتها فحسبها فأخذ منها الزكاة .

قوله تعالى: ( وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ ) قيل هذا بإخراج العشور من الثمار والحبوب واتفق أهل العلم على إيجاب العشر في النخيل والكروم وفيما يقتات من الحبوب إن كان مسقيا بماء السماء أو من نهر يجري الماء إليه من غير مؤنة، وإن كان مسقيا بساقية أو بنضح ففيه نصف العشر.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم « فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر » .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد الله بن نافع عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الكرم « يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيبا كما يؤدى زكاة النخل تمرا » .

واختلف أهل العلم فيما سوى النخل والكروم، وفيما سوى ما يقتات به من الحبوب، فذهب قوم إلى أنه لا عشر في شيء منها، وهو قول ابن أبي ليلى والشافعي رضي الله عنه.

وقال الزهري والأوزاعي ومالك رضي الله عنهم: يجب في الزيتون، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجب العشر في جميع البقول والخضروات كالثمار إلا الحشيش والحطب، وكل ثمرة أوجبنا فيها الزكاة فإنما يجب ببدو الصلاح، ووقت الإخراج بعد الاجتناء والجفاف، وكل حب أوجبنا فيه العشر فوقت وجوبه اشتداد الحب ووقت الإخراج بعد الدياسة والتنقية، ولا يجب العشر في شيء منها حتى تبلغ خمسة أوسق عند أكثر أهل العلم، وعند أبي حنيفة رحمه الله يجب في كل قليل وكثير منها، واحتج من شرط النصاب بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة » .

وروى يحيى بن عبادة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ليس في حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق » ، وقال قوم: الآية في صدقات التطوع.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما من مؤمن يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة » .

قوله تعالى: ( وَلا تَيَمَّمُوا ) قرأ ابن كثير برواية البزي بتشديد التاء في الوصل فيها وفي أخواتها وهي واحد وثلاثون موضعا في القرآن، لأنه في الأصل تاءان أسقطت إحداهما فرد هو الساقطة وأدغم وقرأ الآخرون بالتخفيف ومعناه لا تقصدوا ( الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ )

روي عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: كانت الأنصار تخرج إذا كان جذاذ النخل أقناء من التمر والبسر فيعلقونه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل منه فقراء المهاجرين، فكان الرجل منهم يعمد فيدخل قنو الحشف وهو يظن أنه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء، فنـزل فيمن فعل ذلك ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ) أي الحشف والرديء، وقال الحسن ومجاهد والضحاك: كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم ويعزلون الجيد ناحية لأنفسهم، فأنـزل الله تعالى ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ) الرديء ( مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) ( وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ ) يعني الخبيث ( إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) الإغماض غض البصر، وأراد هاهنا التجوز والمساهلة، معناه لو كان لأحدكم على رجل حق فجاءه بهذا لم يأخذه إلا وهو يرى أنه قد أغمض له عن حقه وتركه. وقال الحسن وقتادة: لو وجدتموه يباع في السوق ما أخذتموه بسعر الجيد.

وروي عن البراء قال: لو أهدي ذلك لكم ما أخذتموه إلا على استحياء من صاحبه وغيظ، فكيف ترضون ما لا ترضون لأنفسكم؟ هذا إذا كان المال كله جيدا فليس له إعطاء الرديء، لأن أهل السهمان شركاؤه فيما عنده، فإن كان كل ماله رديئا فلا بأس بإعطاء الرديء، ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ ) عن صدقاتكم ( حَمِيد ) محمود في أفعاله.

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 268 ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ ( 269 )

( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ) أي يخوفكم بالفقر، يقال وعدته خيرا ووعدته شرا، قال الله تعالى في الخير وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ( 20- الفتح ) وقال في الشر النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ( 72- الحج ) فإذا لم يذكر الخير والشر قلت في الخير: وعدته وفي الشر، أوعدته، والفقر سوء الحال وقلة ذات اليد، وأصله من كسر الفقار، ومعنى الآية: أن الشيطان يخوفكم بالفقر ويقول للرجل أمسك عليك مالك فإنك إذا تصدقت به افتقرت ( وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ) أي بالبخل ومنع الزكاة، وقال الكلبي: كل الفحشاء في القرآن فهو الزنا إلا هذا ( وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ ) أي لذنوبكم ( فَضْلا ) أي رزقا خلفا ( وَاللَّهُ وَاسِعٌ ) غني ( عَلِيم )

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي، أخبرنا أبو طاهر الزيادي أخبرنا محمد بن الحسين القطان أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله تعالى يقول: ابن آدم أنفق أنفق عليك » وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه ( قال ) وعرشه على الماء وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عبيد الله بن سعيد أخبرنا عبد الله بن نمير أخبرنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها « أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك » .

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ) قال السدي: هي النبوة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: علم القرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله، وقال الضحاك: القرآن والفهم فيه، وقال: في القرآن مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة وألف آية حلال وحرام، لا يسع المؤمنين تركهن حتى يتعلموهن، ولا تكونوا كأهل نهروان تأولوا آيات من القرآن في أهل القبلة وإنما أنـزلت في أهل الكتاب جهلوا علمها فسفكوا بها الدماء وانتهبوا الأموال وشهدوا علينا بالضلالة، فعليكم بعلم القرآن فإنه من علم فيم أنـزل الله لم يختلف في شيء منه.

وقال مجاهد: هي القرآن والعلم والفقه، وروى ابن أبي نجيح عنه: الإصابة في القول والفعل، وقال إبراهيم النخعي: معرفة معاني الأشياء وفهمها.

( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ) في محل الرفع على ما لم يسم فاعله، والحكمة خبره ، وقرأ يعقوب - يؤت الحكمة - بكسر التاء أي من يؤته الله الحكمة، دليل قراءة الأعمش، ومن يؤته الله، حكي عن الحسن ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ) قال: الورع في دين الله ( فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ ) يتعظ ( إِلا أُولُو الألْبَابِ ) ذوو العقول.

 

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ( 270 ) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 271 ) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ( 272 )

قوله تعالى: ( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ) فيما فرض الله عليكم ( أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ ) أي: ما أوجبتموه [ أنتم ] على أنفسكم في طاعة الله فوفيتم به ( فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) يحفظه حتى يجازيكم به، وإنما قال: يعلمه، ولم يقل: يعلمها لأنه رده إلى الآخر منهما كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا ( 112- النساء ) وإن شئت حملته على « ما » كقوله: وَمَا أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ( 231- البقرة ) ولم يقل بهما ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ ) الواضعين الصدقة في غير موضعها بالرياء أو يتصدقون من الحرام ( مِنْ أَنْصَارٍ ) أعوان يدفعون عذاب الله عنهم، وهي جمع نصير، مثل: شريف وأشراف.

قوله تعالى: ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ ) أي تظهروها ( فَنِعِمَّا هِيَ ) أي: نعمت الخصلة هي و « ما » في محل الرفع « وهي » في محل النصب كما تقول نعم الرجل رجلا فإذا عرفت رفعت، فقلت: نعم الرجل زيد، وأصله نعم ما فوصلت، قرأ أهل المدينة غير ورش وأبو عمرو وأبو بكر: فنعما بكسر النون وسكون العين، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: بفتح النون وكسر العين، وقرأ ابن كثير ونافع برواية ورش ويعقوب وحفص بكسرهما، وكلها لغات صحيحة وكذلك في سورة النساء.

( وَإِنْ تُخْفُوهَا ) تسروها ( وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ ) أي تؤتوها الفقراء في السر ( فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) وأفضل وكل مقبول إذا كانت النية صادقة ولكن صدقة السر أفضل، وفي الحديث « صدقة السر تطفئ غضب الرب . »

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد الخدري أو عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه » .

وقيل: الآية في صدقة التطوع، أما الزكاة المفروضة فالإظهار فيها أفضل حتى يقتدي به الناس، كالصلاة المكتوبة في الجماعة أفضل، والنافلة في البيت [ أفضل ] وقيل: الآية في الزكاة المفروضة كان الإخفاء فيها خيرا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما في زماننا فالإظهار أفضل حتى لا يساء به الظن.

قوله تعالى: ( وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُم ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر بالنون ورفع الراء أي ونحن نكفر، وقرأ ابن عامر وحفص بالياء ورفع الراء، أي ويكفر الله، وقرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي بالنون والجزم نسقا على الفاء التي في قوله « فهو خير لكم » لأن موضعها جزم بالجزاء، وقوله من سيئاتكم قيل « من » صلة، تقديره نكفر عنكم سيئاتكم، وقيل: هو للتحقيق والتبعيض، يعني: نكفر الصغائر من الذنوب، ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )

( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ) قال الكلبي سبب نـزول هذه الآية أن ناسا من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار في اليهود وكانوا ينفقون عليهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم وأرادوهم على أن يسلموا، وقال سعيد بن جبير كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصدق على المشركين كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنـزل قوله ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ) فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، ( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) وأراد به هداية التوفيق، أما هدي البيان والدعوة فكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطوهم بعد نـزول الآية.

( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ) أي مال ( فَلأنْفُسِكُم ) أي تعملونه لأنفسكم ( وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ) وما جحد، لفظه نفي ومعناه نهي، أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله ( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ) شرط كالأول ولذلك حذف النون منهما ( يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) أي يوفر لكم جزاؤه، ومعناه: يؤدى إليكم، ولذلك دخل فيه إلا ( وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا، وهذا في صدقة التطوع، أباح الله تعالى أن توضع في أهل الإسلام وأهل الذمة، فأما الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين وهم أهل السهمان المذكورون في سورة التوبة.

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 273 ) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 274 )

قوله تعالى: ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) اختلفوا في موضع هذه اللام: قيل هي مردودة على موضع اللام من قوله فَلأَنْفُسِكُمْ كأنه قال: وما تنفقوا من خير فللفقراء، وإنما تنفقون لأنفسكم، وقيل: معناها الصدقات التي سبق ذكرها، وقيل: خبره محذوف تقديره: للفقراء الذين صفتهم كذا حق واجب، وهم فقراء المهاجرين، كانوا نحوا من أربعمائة رجل، لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر، وكانوا في المسجد يتعلمون القرآن ويرضخون النوى بالنهار، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أصحاب الصفة، فحث الله تعالى عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.

( الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) فيه أقاويل؛ قال قتادة - وهو أولاها - حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله ( لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ ) لا يتفرغون للتجارة وطلب المعاش وهم أهل الصفة الذين ذكرناهم، وقيل: حبسوا أنفسهم على طاعة الله، وقيل: معناه حبسهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله، وقال سعيد بن جبير: قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد في سبيل الله فصاروا زمنى، أحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في سبيل الله للجهاد، وقال ابن زيد: معناه: من كثرة ما جاهدوا صارت الأرض كلها حربا عليهم فلا يستطيعون ضربا في الأرض من كثرة أعدائهم، ( يَحْسَبُهُم ) قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة: يحسبهم وبابه بفتح السين وقرأ الآخرون بالكسر ( الْجَاهِل ) بحالهم ( أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ) أي من تعففهم عن السؤال وقناعتهم يظن من لا يعرف حالهم أنهم أغنياء، والتعفف التفعل من العفة وهي الترك يقال: عف عن الشيء إذا كف عنه وتعفف إذا تكلف في الإمساك.

( تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ ) السيماء والسيمياء والسمة: العلامة التي يعرف بها الشيء، واختلفوا في معناها هاهنا، فقال مجاهد: هي التخشع والتواضع، وقال السدي: أثر الجهد من الحاجة والفقر، وقال الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع والضر وقيل رثاثة ثيابهم، ( لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ) قال عطاء: إذا كان عندهم غداء لا يسألون عشاء، وإذا كان عندهم عشاء لا يسألون غداء، وقيل: معناه لا يسألون الناس إلحافا أصلا لأنه قال: من التعفف، والتعفف ترك السؤال، ولأنه قال: تعرفهم بسيماهم، ولو كانت المسألة من شأنهم لما كانت إلى معرفتهم بالعلامة من حاجة، فمعنى الآية، ليس لهم سؤال فيقع فيه إلحاف، والإلحاف: الإلحاح واللجاج.

أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، أخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم بن الإسماعيلي، أخبرنا محمد بن يعقوب، أخبرنا محمد بن عبد الله بن الحكم أخبرنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أو منعوه » .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان » قالوا: فمن المسكين يا رسول الله؟ قال: « الذي لا يجد غنى فيغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس » .

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا » .

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، أخبرنا محمد بن زكريا بن عدافر، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد الدبري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن هارون بن رياب عن كنانة العدوي عن قبيصة بن مخارق قال: إني تحملت بحمالة في قومي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني تحملت بحمالة في قومي وأتيتك لتعينني فيها قال: « بل نتحملها عنك يا قبيصة ونؤديها إليهم من الصدقة » ثم قال « يا قبيصة إن المسألة حرمت إلا في إحدى ثلاث: رجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فيسأل حتى يصيب قواما من عيشه ثم يمسك، وفي رجل أصابته حاجة حتى يشهد له ثلاثة نفر من ذوي الحجا من قومه وأن المسألة قد حلت له فيسأل حتى يصيب القوام من العيش ثم يمسك، وفي رجل تحمل بحمالة فيسأل حتى إذا بلغ أمسك، وما كان غير ذلك فإنه سحت يأكله صاحبه سحتا » .

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، أخبرنا قتيبة، أخبرنا شريك عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح » .

قيل يا رسول الله وما يغنيه؟ قال « خمسون درهما أو قيمتها من الذهب » .

قوله تعالى: ( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ) مال ( فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) وعليه مجاز

( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) روي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نـزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية .

وعن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهم قال لما نـزلت ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أصحاب الصفة، وبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في جوف الليل بوسق من تمر فأنـزل الله تعالى فيهما ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) الآية عنى بالنهار علانية: صدقة عبد الرحمن بن عوف، وبالليل سرا: صدقة علي رضي الله عنه، وقال أبو أمامة وأبو الدرداء ومكحول والأوزاعي: نـزلت في الذين يرتبطون الخيل للجهاد فإنها تعلف ليلا ونهارا سرا وعلانية . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا علي بن حفص، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا طلحة بن أبي سعيد قال: سمعت سعيدا المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة » .

وقوله تعالى: ( فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) قال الأخفش: جعل الخبر بالفاء، لأن « الذين » بمعنى « من » وجواب من بالفاء بالجزاء، أو معنى الآية: من أنفق كذا فله أجره عند ربه ( وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )

 

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 275 ) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( 276 ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 277 )

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ) أي يعاملون به، وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال ( لا يَقُومُونَ ) يعني يوم القيامة من قبورهم ( إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ) أي يصرعه ( الشَّيْطَان ) أصل الخبط الضرب والوطء، وهو ضرب على غير استواء يقال: ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائهما ( مِنَ الْمَسِّ ) أي الجنون يقال: مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنونا، ومعناه: أن آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كمثل المصروع.

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، أخبرنا عبد الله بن يحيى، أخبرنا يعقوب بن سفيان أخبرنا إسماعيل بن سالم، أخبرنا عباد بن عباد عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء قال: « فانطلق بي جبريل عليه السلام إلى رجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم منضدين على سابلة آل فرعون - وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا - قال: فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون، فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا، فتميل بهم بطونهم فيصرعون، ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع، فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيردوهم مقبلين ومدبرين، فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة ( قال ) وآل فرعون يقولون: اللهم لا تقم الساعة أبدا ( قال ) ويوم القيامة يقال: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس » .

قوله تعالى: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) أي ذلك الذي نـزل بهم لقولهم هذا واستحلالهم إياه، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه به فيقول الغريم لصاحب الحق: زدني في الأجل حتى أزيدك في المال، فيفعلان ذلك، ويقولون سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند المحل لأجل التأخير فكذبهم الله تعالى وقال: ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وما ليكثر فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ( 39- الروم ) وطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة، إنما المحرم زيادة على صفة مخصوصة في مال مخصوص بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ورجل آخر عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء، عينا بعين، يدا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر يدا بيد كيف شئتم - ونقص أحدهما الملح أو التمر وزاد أحدهما: من زاد وازداد فقد أربى » . وروى هذا الحديث مطرف عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار وعبد الله بن عتيك عن عبادة فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على ستة أشياء.

وذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا يثبت في هذه الأشياء الست بالأوصاف فيها فيتعدى إلى كل مال توجد فيه تلك الأوصاف، ثم اختلفوا في تلك الأوصاف، فذهب قوم: إلى أن المعنى في جميعها واحد وهو النفع وأثبتوا الربا في جميع الأموال، وذهب الأكثرون إلى أن الربا يثبت في الدراهم والدنانير بوصف وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر، واختلفوا في ذلك الوصف فقال قوم: ثبت في الدراهم والدنانير بوصف، النقدية، وهو قول مالك والشافعي، وقال قوم: ثبت بعلة الوزن وهو قول أصحاب الرأي وأثبتوا الربا في جميع الموزونات مثل الحديد والنحاس والقطن ونحوها.

وأما الأشياء الأربعة فذهب قوم إلى أن الربا ثبت فيها بعلة الكيل وهو قول أصحاب الرأي، وأثبتوا الربا في جميع المكيلات مطعوما كان أو غير مطعوم كالجص والنورة ونحوها، وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل والوزن، فكل مطعوم وهو مكيل أو موزون يثبت فيه الربا، ولا يثبت فيما ليس بمكيل ولا موزون، وهو قول سعيد بن المسيب، وقاله الشافعي رحمه الله في القديم، وقال في الجديد: يثبت فيها الربا بوصف الطعم، وأثبت الربا في جميع الأشياء المطعومة من الثمار والفواكه والبقول والأدوية مكيلة كانت أو موزونة لما روي عن معمر بن عبد الله قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « الطعام بالطعام مثلا بمثل » . فجملة مال الربا عند الشافعي ما كان ثمنا أو مطعوما، والربا نوعان: ربا الفضل وربا النساء، فإذا باع مال الربا بجنسه مثلا بمثل بأن باع أحد النقدين بجنسه أو باع مطعوما بجنسه كالحنطة بالحنطة ونحوها يثبت فيه كلا نوعي الربا حتى لا يجوز إلا متساويين في معيار الشرع، فإن كان موزونا كالدراهم والدنانير فيشترط المساواة في الوزن، وإن كان مكيلا كالحنطة والشعير بيع بجنسه، فيشترط المساواة في الكيل ويشترط التقابض في مجلس العقد، وإذا باع مال الربا بغير جنسه نظر: إن باع بما لا يوافقه في وصف الربا مثل إن باع مطعوما بأحد النقدين فلا ربا فيه، كما لو باعه بغير مال الربا، أو إن باعه بما يوافقه مع الوصف مثل إن باع الدراهم بالدنانير أو باع الحنطة بالشعير أو باع مطعوما بمطعوم آخر من غير جنسه فلا يثبت فيه ربا الفضل حتى يجوز متفاضلا أو جُزَافًا ويثبت فيه ربا النساء حتى يشترط التقابض في المجلس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم « لا تبيعوا الذهب بالذهب - إلى أن قال - إلا سواء بسواء » فيه إيجاب المماثلة وتحريم الفضل عند اتفاق الجنس، وقوله « عينا بعين » فيه تحريم النساء، وقوله « يدا بيد كيف شئتم » فيه إطلاق التفاضل عند اختلاف الجنس مع إيجاب التقابض في المجلس، هذا في ربا المبايعة.

ومن أقرض شيئا بشرط أن يرد عليه أفضل فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا.

قوله تعالى: ( فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) تذكير وتخويف، وإنما ذكر الفعل ردا إلى الوعظ ( فَانْتَهَى ) عن أكل الربا ( فَلَهُ مَا سَلَفَ ) أي ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له ( وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ) بعد النهي إن شاء عصمه حيث يثبت على الانتهاء، وإن شاء خذله حتى يعود، وقيل: ( مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ) فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء ( وَمَنْ عَادَ ) بعد التحريم إلى أكل الربا مستحلا له ( فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن المثنى حدثني غندر، أخبرنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي، ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور « . »

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أخبرنا مسلم بن الحجاج، أخبرنا زهير بن حرب، أخبرنا هشيم أخبرنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: « هم سواء » .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو محمد المخلدي، أنا أبو حامد بن الشرقي أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي، أخبرنا النضر بن محمد، أخبرنا عكرمة بن عمار، أخبرنا يحيى هو ابن أبي كثير قال: حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الربا سبعون بابا أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمه » .

قوله تعالى ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ) أي ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ) يعني لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ولا حجة ولا صلة ( وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ) أي يثمرها ويبارك فيها في الدنيا، ويضاعف بها الأجر والثواب في العقبى ( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ ) بتحريم الربا ( أَثِيم ) فاجر بأكله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 278 ) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ( 279 ) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 280 ) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 281 )

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ) قال عطاء وعكرمة: نـزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وكانا قد أسلفا في التمر فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر: إن أنتما أخذتما حقكما لا يبقى لي ما يكفي عيالي فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا فلما حل الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهما فأنـزل الله تعالى هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رءوس أموالهما .

وقال السدي: نـزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير، ناس من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنـزل الله تعالى هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يوم عرفة « ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتله هذيل، وربا الجاهلية كلها، وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنها موضوعة كلها » .

وقال مقاتل: نـزلت في أربعة إخوة من ثقيف، مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، كانوا يداينون بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم وكانوا يربون فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف أسلم هؤلاء الإخوة فطلبوا رباهم من بني المغيرة، فقال بنو المغيرة: والله ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين، فاختصموا إلى عتاب بن أسيد وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة فكتب عتاب بن أسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقصة الفريقين وكان ذلك مالا عظيما فأنـزل الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ) .

( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )

( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ) أي إذا لم تذروا ما بقي من الربا ( فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قرأ حمزة وعاصم برواية أبي بكر فآذنوا بالمد على وزن آمنوا، أي فأعلموا غيركم أنكم حرب لله ورسوله، وأصله من الأذن أي أوقعوا في الآذان، وقرأ الآخرون فأذنوا مقصورا بفتح الذال أي فاعلموا أنتم وأيقنوا بحرب من الله ورسوله، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقال لآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب، قال أهل المعاني: حرب الله: النار وحرب رسول الله: السيف.

( وَإِنْ تُبْتُمْ ) أي تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه ( فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ) بطلب الزيادة ( وَلا تُظْلَمُونَ ) بالنقصان عن رأس المال فلما نـزلت الآية قال بنو عمرو الثقفي ومن كان يعامل بالربا من غيرهم: بل نتوب إلى الله، فإنه لا يدان لنا بحرب الله ورسوله، فرضوا برأس المال، فشكا بنو المغيرة العسرة وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات فأبوا أن يؤخروا فأنـزل الله تعالى ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ )

يعني وإن كان الذي عليه الدين معسرا، رفع الكلام باسم كان ولم يأت لها بخبر وذلك جائز في النكرة، تقول، إن كان رجلا صالحا فأكرمه ، وقيل « كان » بمعنى وقع، وحينئذ لا يحتاج إلى خبر، قرأ أبو جعفر عسرة بضم السين ( فَنَظِرَة ) أمر في صيغة الخبر تقديره فعليه نظرة ( إِلَى مَيْسَرَةٍ ) قرأ نافع ميسرة بضم السين وقرأ الآخرون بفتحها وقرأ مجاهد ميسرة بضم السين مضافا ومعناها اليسار والسعة ( وَأَنْ تَصَدَّقُوا ) أي تتركوا رءوس أموالكم إلى المعسر ( خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) قرأ عاصم تصدقوا بتخفيف الصاد والآخرون بتشديدها.

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان، أخبرنا أبو العباس إسماعيل بن عبد الله الميكالي، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن موسى بن عبدان الحافظ، أخبرنا أبو طاهر أحمد بن عمرو بن السرح، أخبرنا ابن وهب عن جرير عن حازم عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه كان يطلب رجلا بحق فاختبأ منه فقال: ما حملك على ذلك قال: العسرة، فاستحلفه على ذلك فحلف فدعا بصكه فأعطاه إياه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من أنظر معسرا أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل عن منصور عن ربعي عن أبي مسعود رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم « إن الملائكة لتلقت روح رجل كان قبلكم فقالوا هل عملت خيرا قط؟ قال: لا قالوا: تذكر، قال: لا إلا أني رجل كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني أن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر، قال الله تبارك وتعالى » تجاوزوا عنه « . »

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا أحمد بن عبد الله، أخبرنا زائدة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن أبي اليسر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول « من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله » .

فصل في الدين وحسن قضائه وتشديد أمره

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو الوليد، أخبرنا شعبة، أخبرنا سلمة بن كهيل قال: سمعت أبا سلمة بمنى يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له فهم به أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا واشتروا له بعيرا فأعطوه إياه، قالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه قال: « اشتروه فأعطوه إياه فإن خياركم أحسنكم قضاء » .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع » .

أخبرنأ عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه » .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري عن أبيه أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، يكفر الله عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « نعم » فلما أدبر ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر به فنودي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كيف قلت؟ » فأعاد عليه قوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « نعم إلا الدين » كذلك قال جبريل « . »

قوله تعالى: ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ) قرأ أهل البصرة بفتح التاء أي تصيرون إلى الله، وقرأ الآخرون بضم التاء وفتح الجيم، أي: تردون إلى الله تعالى: ( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذه آخر آية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له جبريل عليه السلام ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا وعشرين يوما، وقال ابن جريج: تسع ليال، وقال سعيد بن جبير: سبع ليال، ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول حين زاغت الشمس سنة إحدى عشرة من الهجرة، قال الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما آخر آية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا .

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 282 )

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) قال ابن عباس رضي الله عنهما لما حرم الله الربا أباح السلم وقال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله تعالى في كتابه وأذن فيه ثم قال « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » .

قوله: ( إِذَا تَدَايَنْتُمْ ) أي تعاملتم بالدين، يقال: داينته إذا عاملته بالدين وإنما قال ( بِدَيْن ) بعد قوله تداينتم لأن المداينة قد تكون مجازاة وقد تكون معاطاة فقيده بالدين ليعرف المراد من اللفظ، وقيل: ذكره تأكيدا كقوله تعالى: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( 38- الأنعام ) ( إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأجل مدة معلومة الأول والآخر، والأجل يلزم في الثمن في البيع وفي السلم حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قبل محله، وفي القرض لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم ( فَاكْتُبُوه ) أي اكتبوا الذي تداينتم به، بيعا كان أو سلما أو قرضا.

واختلفوا في هذه الكتابة: فقال بعضهم: هي واجبة، والأكثرون على أنه أمر استحباب فإن ترك فلا بأس كقوله تعالى فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ ( 10- الجمعة ) وقال بعضهم كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضا ثم نسخ الكل بقوله فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وهو قول الشعبي ثم بين كيفية الكتابة فقال جل ذكره ( وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ ) أي ليكتب كتاب الدين بين الطالب والمطلوب ( كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) أي بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخير ( وَلا يَأْبَ ) أي لا يمتنع ( كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ ) واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشاهد، فذهب قوم إلى وجوبها إذا طولب وهو قول مجاهد، وقال الحسن تجب إذا لم يكن كاتب غيره، وقال قوم هو على الندب والاستحباب، وقال الضحاك كانت عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله تعالى « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ( كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ) أي كما شرعه الله وأمره ( فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ) يعني: المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه، والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد، جاء بهما القرآن، فالإملال هاهنا، والإملاء قوله تعالى: فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا ( 5- الفرقان ) ( وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ) يعني الممل ( وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ) أي ولا ينقص منه، أي من الحق الذي عليه شيئا.

( فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا ) أي جاهلا بالإملاء، قاله مجاهد، وقال الضحاك والسدي: طفلا صغيرا، وقال الشافعي رحمه الله، السفيه: المبذر المفسد لماله أو في دينه.

قوله ( أَوْ ضَعِيفًا ) أي شيخا كبيرا وقيل هو ضعيف العقل لعته أو جنون ( أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ ) لخرس أو عي أو عجمة أو حبس أو غيبة لا يمكنه حضور الكاتب أو جهل بما له وعليه ( فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ ) أي قيمه ( بِالْعَدْل ) أي بالصدق والحق، وقال ابن عباس رضي الله عنه ومقاتل: أراد بالولي صاحب الحق، يعني إن عجز من عليه الحق من الإملال فليملل ولي الحق وصاحب الدين بالعدل لأنه أعلم بحقه، ( وَاسْتَشْهِدُوا ) أي وأشهدوا ( شَهِيدَيْن ) أي شاهدين ( مِنْ رِجَالِكُمْ ) يعني الأحرار المسلمين، دون العبيد والصبيان والكفار، وهو قول أكثر أهل العلم، وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد ( فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ ) أي لم يكن الشاهدان رجلين ( فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) أي فليشهد رجل وامرأتان.

وأجمع الفقهاء على أن شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال حتى تثبت برجل وامرأتين واختلفوا في غير الأموال فذهب جماعة إلى أنه تجوز شهادتهن مع الرجال في غير العقوبات، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي، وذهب جماعة إلى أن غير المال لا يثبت إلا برجلين عدلين وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن ما يطلع عليه النساء غالبا كالولادة والرضاع والثيوبة والبكارة ونحوها يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وبشهادة أربع نسوة، واتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة في العقوبات.

قوله تعالى: ( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ) يعني من كان مرضيا في ديانته وأمانته، وشرائط [ قبول ] الشهادة سبعة: الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة وانتفاء التهمة، فشهادة الكافر مردودة لأن المعروفين بالكذب عند الناس لا تجوز شهادتهم، فالذي يكذب على الله تعالى أولى أن يكون مردود الشهادة، وجوز أصحاب الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، ولا تقبل شهادة العبيد، وأجازها شريح وابن سيرين وهو قول أنس بن مالك رضي الله عنه، ولا قول للمجنون حتى يكون له شهادة، ولا تجوز شهادة الصبيان سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك؟ فقال: لا تجوز، لأن الله تعالى يقول: « ممن ترضون من الشهداء » والعدالة شرط، وهي أن يكون الشاهد مجتنبا للكبائر غير مصر على الصغائر، والمروءة شرط، وهي ما يتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء، وهي حسن الهيئة والسيرة والعشرة والصناعة، فإن كان الرجل يظهر من نفسه شيء منها ما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته، وانتفاء التهمة شرط حتى لا تقبل شهادة العدو على العدو وإن كان مقبول الشهادة على غيره، لأنه متهم في حق عدوه، ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وإن كان مقبول الشهادة عليهما، ولا تقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعا، كالوارث يشهد على رجل يقتل مورثه، أو يدفع عن نفسه بشهادته ضررا كالمشهود عليه يشهد بجرح من يشهد عليه لتمكن التهمة في شهادته.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي، أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام أخبرنا مروان الفزاري عن شيخ من أهل الحيرة يقال له يزيد بن زياد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها ترفعه « لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في ولاء ولا قرابة ولا القانع مع أهل البيت » .

قوله تعالى: ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ) قرأ حمزة إن تضل بكسر الألف ( فَتُذَكِّرُ ) برفع الراء، ومعناه الجزاء والابتداء، وموضع تضل جزم بالجزاء إلا أنه لا يتبين في التضعيف « فتذكر » رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ، وقراءة العامة بفتح الألف ونصب الراء على الاتصال بالكلام الأول، وتضل محله نصب بأن فتذكر منسوق عليه، ومعنى الآية: فرجل وامرأتان كي تذكر ( إِحْدَاهُمَا الأخْرَى ) ومعنى تضل أي تنسى، يريد إذا نسيت إحداهما شهادتها، تذكرها الأخرى فتقول ألسنا حضرنا مجلس كذا وسمعنا كذا؟ قرأ ابن كثير وأهل البصرة: فتذكر مخففا، وقرأ الباقون مشددا، وذكر واذكر بمعنى واحد، وهما متعديان من الذكر الذي هو ضد النسيان، وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال: هو من الذكر أي تجعل إحداهما الأخرى ذكرا أي تصير شهادتهما كشهادة ذكر، والأول أصح لأنه معطوف على النسيان.

قوله تعالى: ( وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ) قيل أراد به إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، سماهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء وهو أمر إيجاب عند بعضهم، وقال قوم: تجب الإجابة إذا لم يكن غيره فإن وجد غيره ( فهو مخير ) وهو قول الحسن، وقال قوم: هو أمر ندب وهو مخير في جميع الأحوال، وقال بعضهم، هذا في إقامة الشهادة وأدائها فمعنى الآية « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » لأداء الشهادة التي تحملوها، وهو قول مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير، وقال الشعبي: الشاهد بالخيار ما لم يشهد، وقال الحسن: الآية في الأمرين جميعا في التحمل والإقامة إذا كان فارغا.

( وَلا تَسْأَمُوا ) أي ولا تملوا ( أَنْ تَكْتُبُوهُ ) والهاء راجعة إلى الحق ( صَغِيرًا ) كان الحق ( أَوْ كَبِيرًا ) قليلا كان أو كثيرا ( إِلَى أَجَلِهِ ) إلى محل الحق ( ذَلِكُم ) أي الكتاب ( أَقْسَط ) أعدل ( عِنْدِ اللَّهِ ) لأنه أمر به، واتباع أمره أعدل من تركه ( وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ) لأن الكتابة تذكر الشهود ( وَأَدْنَى ) وأحرى وأقرب إلى ( أَلا تَرْتَابُوا ) تشكوا في الشهادة ( إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً ) قرأهما عاصم بالنصب على خبر كان وأضمر الاسم، مجازه: إلا أن تكون التجارة تجارة ( حاضرة ) أو المبايعة تجارة، وقرأ الباقون بالرفع وله وجهان:

أحدهما: أن تجعل الكون بمعنى الوقوع معناه إلا أن تقع تجارة.

والثاني: أن تجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل وهو قوله ( تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ ) تقديره إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم، ومعنى الآية إلا أن تكون تجارة حاضرة يدا بيد تديرونها بينكم ليس فيها أجل ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تكتبوها ) يعني التجارة ( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ) قال الضحاك: هو عزم من الله تعالى، والإشهاد واجب في صغير الحق وكبيره نقدا أو نسيئا، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: الأمر فيه إلى الأمانة لقوله تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا الآية، وقال الآخرون هو أمر ندب.

قوله تعالى: ( وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ) هذا نهي للغائب، وأصله يضارر، فأدغمت إحدى الرائين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين، واختلفوا فيه فمنهم من قال: أصله يضارر بكسر الراء الأولى، وجعل الفعل للكاتب والشهيد، معناه لا يضار الكاتب فيأبى أن يكتب ولا الشهيد فيأبى أن يشهد، ولا يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه ولا الشهيد فيشهد بما لم يستشهد عليه، وهذا قول طاووس والحسن وقتادة، وقال قوم: أصله يضارر بفتح الراء على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين ومعناه أن يدعو الرجل الكاتب أو الشاهد وهما على شغل مهم، فيقولان: نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا فيقول الداعي إن الله أمركما أن تجيبا ويلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما فنهي عن ذلك وأمر بطلب غيرهما ( وَإِنْ تَفْعَلُوا ) ما نهيتكم عنه من الضرر ( فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ) أي معصية وخروج عن الأمر ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )

 

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( 283 )

( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو فرهن بضم الهاء والراء، وقرأ الباقون فرهان، وهو جمع رهن مثل بغل وبغال وجبل وجبال، والرهن جمع الرهان جمع الجمع، قاله الفراء والكسائي، وقال أبو عبيد وغيره: هو جمع الرهن أيضا مثل سقف وسقف وقال أبو عمرو وإنما قرأنا فرهن ليكون فرقا بينهما وبين رهان الخيل، وقرأ عكرمة فرهن بضم الراء وسكون الهاء، والتخفيف والتثقيل في الرهن لغتان مثل كتب وكتب ورسل ورسل ومعنى الآية: وإن كنتم على سفر ولم تجدوا آلات الكتابة فارتهنوا ممن تداينونه رهونا لتكون وثيقة لكم بأموالكم، واتفقوا على أن الرهن لا يتم إلا بالقبض، وقوله « فرهن مقبوضة » أي ارتهنوا واقبضوا حتى لو رهن ولم يسلم فلا يجبر الراهن على التسليم فإذا سلم لزم من جهة الراهن حتى لا يجوز له أن يسترجعه ما دام شيء من الحق باقيا، ويجوز في الحضر الرهن مع وجود الكاتب، وقال مجاهد: لا يجوز الرهن إلا في السفر عند عدم الكاتب لظاهر الآية، وعند الآخرين خرج الكلام في الآية على الأعم الأغلب لا على سبيل الشرط.

والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي ولم يكن ذلك في السفر ولا عند عدم كاتب ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) وفي حرف أبي « فإن ائتمن » يعني فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئا لحسن ظنه به.

( فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَه ) أي فليقضه على الأمانة ( وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ) في أداء الحق، ثم رجع إلى خطاب الشهود وقال: ( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ) إذا دعيتم إلى إقامتها نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه فقال ( وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) أي فاجر قلبه، قيل: ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة، قال: « فإنه آثم قلبه » وأراد به مسخ القلب، نعوذ بالله من ذلك ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ) بيان الشهادة وكتمانها ( عَلِيمٌ )

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 284 )

( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) ملكا [ وأهلها له عبيد وهو مالكهم ] ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) اختلف العلماء في هذه الآية، فقال قوم: هي خاصة ثم اختلفوا في وجه [ خصوصها ] فقال بعضهم: هي متصلة بالآية الأولى نـزلت في كتمان الشهادة أو تخفوا الكتمان يحاسبكم به الله وهو قول الشعبي وعكرمة، وقال بعضهم: نـزلت فيمن يتولى الكافرين دون المؤمنين، يعني وإن تعلنوا ما في أنفسكم من ولاية الكفار أو تسروا يحاسبكم به الله، وهو قول مقاتل كما ذكر في سورة آل عمران لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إلى أن قال قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ( 29- آل عمران ) .

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 285 ) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 286 )

وذهب الأكثرون إلى أن الآية عامة ثم اختلفوا فيها فقال قوم: هي منسوخة بالآية التي بعدها .

والدليل عليه ما أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، حدثني محمد بن المنهال الضرير وأمية بن بسطام العيشي واللفظ له قالا أخبرنا يزيد بن زريع أنا روح وهو ابن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما أنـزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الآية قال: اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنـزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا ( سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنـزل الله في أثرها ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى: ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) قال نعم ( رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ) قال نعم ( رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) قال نعم ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) قال نعم . »

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما بمعناه ، ، وقال في كل ذلك: قد فعلت، بدل قوله نعم، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وإليه ذهب محمد بن سيرين ومحمد بن كعب وقتادة والكلبي.

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصفهاني، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، أخبرنا يعقوب بن يوسف القزويني، أخبرنا القاسم بن الحكم العرني، أخبرنا مسعر بن كدام عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي ما وسوست به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به » .

وقال بعضهم الآية غير منسوخة لأن النسخ لا يرد على الأخبار إنما يرد على الأمر والنهي وقوله يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ خبر لا يرد عليه النسخ، ثم اختلفوا في تأويلها فقال قوم: قد أثبت الله تعالى للقلب كسبا فقال بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( 225- البقرة ) فليس لله عبد أسَرّ عملا أو أعلنه من حركة من جوارحه أو همسة في قلبه إلا يخبره الله به ويحاسبه عليه ثم يغفر ما يشاء ويعذب بما يشاء، وهذا معنى قول الحسن يدل عليه قوله تعالى إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ( 36- الإسراء ) . وقال الآخرون: معنى الآية أن الله عز وجل يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم أو أخفوه ويعاقبهم عليه، غير أن معاقبته على ما أخفوه مما لم يعلموه بما يحدث لهم في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها وهذا قول عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال: « يا عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة حتى الشوكة والبضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيروع لها حتى إن المؤمن يخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عليه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة » .

وقال بعضهم وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ يعني ما في قلوبكم مما عزمتم عليه أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ولا تبدوه وأنتم عازمون عليه يحاسبكم به الله فأما ما حدثت به أنفسكم مما لم تعزموا عليه فإن ذلك مما لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولا يؤاخذكم به، دليله قوله تعالى لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( 225- البقرة ) .

وقال عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان: أيؤاخذ العبد بالهمَّة قال: إذا كان عزما أخذ بها، وقيل معنى المحاسبة الإخبار والتعريف، ومعنى الآية: وإن تبدوا ما في أنفسكم فتعملوا به أو تخفوه مما أضمرتم ونويتم يحاسبكم به الله ويجزيكم به ويعرفكم إياه، ثم يغفر للمؤمنين إظهارا لفضله، ويعذب الكافرين إظهارا لعدله، وهذا معنى قول الضحاك، ويروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، يدل عليه أنه قال: يحاسبكم به الله ولم يقل يؤاخذكم به، والمحاسبة غير المؤاخذة والدليل عليه ما أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الزراد، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب، أنا عيسى بن أحمد العسقلاني، أنا يزيد بن هارون، أنا همام بن يحيى عن قتادة عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذا بيد عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فأتاه رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه يستره من الناس فيقول: أي عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب ثم يقول أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال فإني سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( 18- هود ) . »

قوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ رفع الراء والياء أبو جعفر وابن عامر وعاصم ويعقوب وجزمهما الآخرون، فالرفع على الابتداء والجزم على النسق، روى طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما، فيغفر لمن يشاء الذنب العظيم ويعذب من يشاء على الذنب الصغير لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ( 23- الأنبياء ) وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . قوله تعالى: ( آمَنَ الرَّسُولُ ) أي صدق ( بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ) يعني كل واحد منهم، ولذلك وحَّد الفعل ( وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) قرأ حمزة والكسائي: كتابه، على الواحد يعني القرآن، وقيل معناه الجمع وإن ذكر بلفظ التوحيد كقوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْـزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ 213- البقرة ) وقرأ الآخرون وكتبه بالجمع كقوله تعالى: وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ( 136- النساء ) ، ( لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، وفيه إضمار تقديره يقولون لا نفرق، وقرأ يعقوب لا يفرق بالياء فيكون خبرا عن الرسول، أو معناه لا يفرق الكل وإنما قال « بين أحد » ولم يقل بين آحاد لأن الأحد يكون للواحد والجمع قال الله تعالى: فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47- الحاقة ) ( وَقَالُوا سَمِعْنَا ) قولك ( وَأَطَعْنَا ) أمرك.

روي عن حكيم عن جابر رضي الله عنهما أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين نـزلت هذه الآية: إن الله قد أثنى عليك وعلى أمتك فسل تعطه، فسأل بتلقين الله تعالى فقال ( غُفْرَانَكَ ) وهو نصب على المصدر أي اغفر غفرانك، أو نسألك غفرانك ( رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) ظاهر الآية قضاء الحاجة، وفيها إضمار السؤال كأنه قال: وقالوا لا تكلفنا إلا وسعنا، وأجاب أي لا يكلف الله نفسا إلا وسعها أي طاقتها، والوسع: اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، واختلفوا في تأويله فذهب ابن عباس رضي الله عنه وعطاء وأكثر المفسرين إلى أنه أراد به حديث النفس الذي ذكر في قوله تعالى وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ كما ذكرنا، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: هم المؤمنون خاصة، وسَّع عليهم أمر دينهم ولم يكلفهم فيه إلا ما يستطيعون كما قال الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( 185- البقرة ) وقال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ( 78- الحج ) وسئل سفيان بن عيينة عن قوله عز وجل ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) قال: إلا يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها، وهذا قول حسن لأن الوسع ما دون الطاقة.

قوله تعالى: ( لَهَا مَا كَسَبَتْ ) أي للنفس ما عملت من الخير، لها أجره وثوابه ( وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) من الشر وعليها وزره ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا ) أي لا تعاقبنا ( إِنْ نَسِينَا ) جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو، قال الكلبي كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطأوا عجلت لهم العقوبة، فحرم عليهم من شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك، وقيل هو من النسيان الذي هو الترك كقوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ( 67- التوبة ) .

قوله تعالى: ( أَوْ أَخْطَأْنَا ) قيل معناه القصد والعمد يقال: أخطأ فلان إذا تعمد، قال الله تعالى: إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ( 31- الإسراء ) قال عطاء: إن نسينا أو أخطأنا يعني: إن جهلنا أو تعمدنا، وجعله الأكثرون من الخطأ الذي هو الجهل والسهو، لأن ما كان عمدا من الذنب فغير معفو عنه بل هو في مشيئة الله، والخطأ معفو عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه . »

قوله تعالى: ( رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ) أي عهدا ثقيلا وميثاقا لا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه ( كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ) يعني اليهود، فلم يقوموا به فعذبتهم، هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والسدي والكلبي وجماعة. يدل عليه قوله تعالى: وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ( 81- آل عمران ) أي عهدي، وقيل: معناه لا تشدد ولا تغلظ الأمر علينا كما شددت على من قبلنا من اليهود، وذلك أن الله فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ومن أصاب ذنبا أصبح وذنبه مكتوب على بابه ونحوها من الأثقال والأغلال، وهذا معنى قول عثمان وعطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة وجماعة. يدل عليه قوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ( 157- الأعراف ) وقيل: الإصر ذنب لا توبة له، معناه اعصمنا من مثله، والأصل فيه العقل والإحكام.

قوله تعالى: ( رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) أي لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيقه وقيل هو حديث النفس والوسوسة حكي عن مكحول أنه قال: هو الغلمة، قيل الغُلْمة: شدة الشهوة، وعن إبراهيم قال: هو الحب، وعن محمد بن عبد الوهاب قال: العشق وقال ابن جريج: هو مسخ القردة والخنازير وقيل هو شماتة الأعداء، وقيل: هو الفرقة والقطيعة نعوذ بالله منها.

قوله تعالى: ( وَاعْفُ عَنَّا ) أي تجاوز وامْحُ عنا ذنوبنا ( وَاغْفِرْ لَنَا ) استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا ( وَارْحَمْنَا ) فإننا لا ننال العمل إلا بطاعتك، ولا نترك معصيتك إلا برحمتك ( أَنْتَ مَوْلانَا ) ناصرنا وحافظنا وولينا ( فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) .

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل ( غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ) قال الله تعالى « قد غفرت لكم » وفي قوله لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال: « لا أؤاخذكم » ( رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ) قال: « لا أحمل عليكم إصرا » ( وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) قال: « لا أحملكم » ( وَاعْفُ عَنَّا ) إلى آخره قال « قد عفوت عنكم، وغفرت لكم، ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين » .

وكان معاذ بن جبل إذا ختم سورة البقرة قال: آمين.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا أبو أسامة حدثني مالك بن مِغْوَل عن الزبير بن عدي عن طلحة بن علي بن مصرّف عن مرة عن عبد الله قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يُعْرَجُ به من الأرض فَيُقْبَضُ منها، وإليها ينتهي ما يُهْبَطُ به فوقها فَيُقْبَضُ منها قال: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ( 16- النجم ) قال: فراش من ذهب قال: وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: الصلوات الخمس وأعطي خواتِيْمَ سُورةِ البقرة، وغُفِرَ لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا من المُقْحَمَاتِ « كبائر الذنوب. »

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفراييني أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ، أنا يونس وأحمد بن شيبان قالا ثنا سفيان بن عيينة عن منصور عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبي مسعود رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كَفَتَاهُ » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو منصور السمعاني، أنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أنا العلاء بن عبد الجبار، أنا حماد بن سلمة، أخبرنا الأشعث بن عبد الرحمن الجرمي، عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنـزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا تقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان » .

 

سورة آل عمران - مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الم ( 1 ) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ( 2 ) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ( 3 )

قوله تعالى ( الم اللَّهُ ) قال الكلبي والربيع بن أنس وغيرهما: نـزلت هذه الآيات في وفد نجران وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يئول إليهم أمرهم: العاقب: أمير القوم وصاحب مشورتهم، الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد: ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم .

دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العصر، عليهم ثياب الحِبَرات جبب وأردية في [ جمال ] رجال بلحارث بن كعب، يقول من رآهم : ما رأينا وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « دعوهم » فصلوا إلى المشرق، [ فسلم ] السيد والعاقب فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم « أسلِما » قالا أسلمنا قبلك قال « كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنـزير » قالا إن لم يكن عيسى ولدا لله فمن يكن أبوه؟ وخاصموه جميعا في عيسى، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم « ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه » ؟ قالوا بلى قال: « ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه » قالوا: بلى، قال : « فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ » قالوا: لا قال: « ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ » قالوا: بلى، قال: « فهل يعلم عيسى عن ذلك شيئا إلا ما عُلِّم؟ » قالوا: لا قال: « فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء [ وربنا ليس بذي صورة وليس له مثل ] وربنا لا يأكل ولا يشرب » قالوا: بلى، قال: « ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ » ، قالوا: بلى قال: « فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ » فسكتوا، فأنـزل الله تعالى صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها . فقال عز من قائل ( الم اللَّهُ ) مفتوح الميم، موصول عند العامة، وإنما فتح الميم لالتقاء الساكنين حرك إلى أخف الحركات وقرأ أبو يوسف ويعقوب بن خليفة الأعشى عن أبي بكر ( الم الله ) مقطوعا سكن الميم على نية الوقف ثم قطع الهمزة للابتداء وأجراه على لغة من يقطع ألف الوصل .

قوله تعالى ( اللَّهُ ) ابتداء وما بعده خبر، والحي القيوم نعت له.

( نَـزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) أي القرآن ( بِالْحَقِّ ) بالصدق ( مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) لما قبله من الكتب في التوحيد والنبوات والأخبار وبعض الشرائع ( وَأَنْـزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ ) وإنما قال: وأنـزل التوراة والإنجيل لأن التوراة والإنجيل أنـزلا جملة واحدة، وقال في القرآن « نـزل » لأنه نـزل مفصلا والتنـزيل للتكثير، والتوراة قال البصريون: أصلها وَوْرية على وزن فوعلة مثل: دوحلة وحوقلة، فحولت الواو الأولى تاءً وجعلت الياء المفتوحة ألفا فصارت توراة، ثم كتبت بالياء على أصل الكلمة، وقال الكوفيون: أصلها تفعلة مثل توصية وتوفية فقلبت الياء ألفا على لغة طيئ فإنهم يقولون للجارية جاراة، وللتوصية توصاة، وأصلها من قولهم: ورى الزند إذا خرجت ناره، وأوريته أنا، قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ( الواقعة - 71 ) فسمي التوراة لأنها نور وضياء، قال الله تعالى: وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ( الأنبياء - 48 ) وقيل هي من التوراة وهي كتمان [ السر ] والتعريض بغيره، وكان أكثر التوراة معاريض من غير تصريح.

والإنجيل: إفعيل من النجل وهو الخروج ومنه سمي الولد نجلا لخروجه، فسمي الإنجيل به لأن الله تعالى أخرج به دارسا من الحق عافيا، ويقال: هو من النَّجَل وهو سعة العين، سمي به لأنه أنـزل سعة لهم ونورا، وقيل: التوراة بالعبرانية تور، وتور معناه الشريعة، والإنجيل بالسريانية أنقليون ومعناه الإكليل.

مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْـزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( 4 ) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ( 5 ) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 6 )

قوله تعالى: ( هُدًى لِلنَّاسِ ) هاديًا لمن تبعه ولم يثنِّه لأنه مصدر ( وَأَنْـزَلَ الْفُرْقَانَ ) المفرق بين الحق والباطل، وقال السدي: في الآية تقديم وتأخير تقديرها وأنـزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للناس.

قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّه عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ )

( هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ) ذكرا أو أنثى، أبيض أو أسود، حسنا أو قبيحا، تاما أو ناقصا، ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيمُ ) وهذا في الرد على وفد نجران من النصارى، حيث قالوا: عيسى ولد الله، فكأنه يقول: كيف يكون لله ولد وقد صوره الله تعالى في الرحم.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحيم بن أحمد بن محمد الأنصاري، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، أنا علي بن الجعد، أنا أبو خيثمة زهير بن معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق « إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه الملك » أو قال: « يبعث إليه الملك بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد » قال: « وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها » .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا أبو أحمد بن عيسى الجلودي، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول: يا رب أشقي أو سعيد؟ فيكتب ذلك فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص » .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ ( 7 )

قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ) مبينات مفصلات، سميت محكمات من الإحكام، كأنه أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها ( هُنَّ أُمّ الْكِتَابِ ) أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام وإنما قال: ( هُنَّ أُمّ الْكِتَابِ ) ولم يقل أمهات الكتاب لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة، وكلام الله واحد وقيل: معناه كل آية منهن أم الكتاب كما قال: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ( 50 - المؤمنون ) أي كل واحد منهما آية ( وَأُخَرُ ) جمع أخرى ولم يصرفه لأنه معدول عن الآخر، مثل: عمر وزفر ( مُتَشَابِهَاتٌ ) فإن قيل كيف فرق هاهنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكما في مواضع أخر؟ . فقال: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ( 1- هود ) وجعله كله متشابها [ في موضع آخر ] فقال: اللَّهُ نَـزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ( 23 - الزمر ) .

قيل: حيث جعل الكل محكما، أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل، وحيث جعل الكل متشابها أراد أن بعضه يشبه بعضا في الحق والصدق وفي الحسن وجعل هاهنا بعضه محكما وبعضه متشابها.

واختلف العلماء فيهما فقال ابن عباس رضي الله عنهما: المحكمات هن الآيات الثلاث في سورة الأنعام قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ( 151 ) ونظيرها في بني إسرائيل وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ( 23 - الإسراء ) الآيات وعنه أنه قال: المتشابهات حروف التهجي في أوائل السور.

وقال مجاهد وعكرمة: المحكم ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه يشبه بعضه بعضا في الحق ويصدق بعضه بعضا، كقوله تعالى: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ( 26 - البقرة ) وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ( 100 - يونس ) .

وقال قتادة والضحاك والسدي: المحكم الناسخ الذي يعمل به، والمشتابه المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: محكمات القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به، وقيل: المحكمات ما أوقف الله الخلق على معناه والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه لا سبيل لأحد إلى علمه، نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجال، ونـزول عيسى عليه السلام، وطلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة وفناء الدنيا.

وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد والمتشابه ما احتمل أوجها.

وقيل: المحكم ما يعرف معناه وتكون حججها واضحة ودلائلها لائحة لا تشتبه، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر، ولا يعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل. وقال بعضهم: المحكم ما يستقل بنفسه في المعنى والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا بردِّه إلى غيره.

قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية [ باذان ] المتشابه حروف التهجي في أوائل السور، وذلك أن رهطا من اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له حيي: بلغنا أنه أنـزل عليك ( الم ) فننشدك الله أنـزلت عليك؟ قال: « نعم » قال: فإن كان ذلك حقا فإني أعلم مدة ملك أمتك، هي إحدى وسبعون سنة فهل أنـزل غيرها؟ قال: « نعم » المص قال: فهذه أكثر هي إحدى وستون ومائة سنة، قال: فهل غيرها؟ قال: « نعم » الر . قال: هذه أكثر هي مائتان وإحدى وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليله ونحن ممن لا يؤمن بهذا فأنـزل الله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَر مُتَشَابِهَاتٌ ) .

( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم ْزَيْغٌ ) أي ميل عن الحق وقيل شك ( فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) واختلفوا في المعنيِّ بهذه الآية . قال الربيع: هم وفد نجران خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام، وقالوا له: ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال: « بلى » قالوا: حسبنا، فأنـزل الله هذه الآية .

وقال الكلبي: هم اليهود طلبوا علم أجل هذه الأمة واستخراجها بحساب الجمَّل. وقال ابن جريج: هم المنافقون وقال الحسن: هم الخوارج، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية: ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم ْزَيْغٌ ) قال: إن لم يكونوا الحرورية والسبأية فلا أدري من هم، وقيل: هم جميع المبتدعة .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الله بن مسلمة، أنا يزيد بن إبراهيم التستري، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنهما قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ( هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَر مُتَشَابِهَاتٌ ) - إلى قوله ( أُولُو الألْبَابِ ) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم » .

قوله تعالى : ( ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ) طلب الشرك قاله الربيع والسدي، وقال مجاهد: ابتغاء الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم ( وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) تفسيره وعلمه، دليله قوله تعالى سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ( 78 - الكهف ) وقيل: ابتغاؤه عاقبته، وهو طلب أجل هذه الأمة من حساب الجمل، دليله قوله تعالى ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ( 35 - الإسراء ) أي عاقبة .

قوله تعالى: ( وَمَا يَعْلَم تَأْوِيلَه إِلا اللَّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم: الواو في قوله والراسخون واو العطف يعني: أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ) وهذا قول مجاهد والربيع، وعلى هذا يكون قوله « يقولون » حالا معناه: والراسخون في العلم قائلين آمنا به، هذا كقوله تعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ( 7 - الحشر ) ثم قال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ( 8 - الحشر ) إلى أن قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ( 9 - الحشر ) ثم قال وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ( 10 - الحشر ) وهذا عطف على ما سبق، ثم قال: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ( 10 - الحشر ) يعني هم مع استحقاقهم الفيء يقولون ربنا اغفر لنا، أي قائلين على الحال .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول في هذه الآية : أنا من الراسخين في العلم، وروي عن مجاهد: أنا ممن يعلم تأويله.

وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله « والراسخون » واو الاستئناف، وتم الكلام عند قوله: ( وَمَا يَعْلَم تَأْوِيلَه إِلا اللَّهُ ) وهو قول أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم ورواية طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال الحسن وأكثر التابعين واختاره الكسائي والفراء والأخفش، وقالوا: لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحدا من خلقه كما استأثر بعلم الساعة، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، ونـزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوها، والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به وفي المحكم بالإيمان به والعمل، ومما يصدِّق ذلك قراءة عبد الله إنْ تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به، وفي حرف أُبي: ويقول الراسخون في العلم آمنا به.

وقال عمر بن عبد العزيز: في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا. وهذا قول أقيس في العربية وأشبه بظاهر الآية .

قوله تعالى ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) أي الداخلون في العلم هم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في معرفتهم شك، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته يقال: رسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسخا ورسوخا وقيل: الراسخون في العلم علماء مؤمني أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه دليله قوله تعالى لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ( 162 - النساء ) يعني ( المدارسين ) علم التوراة وسئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الراسخين في العلم قال: العالم العامل بما علم المتبع له وقيل: الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق،والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والسدي: بقولهم آمنا به سماهم الله تعالى راسخين في العلم، فرسوخهم في العلم قولهم: آمنا به، أي بالمتشابه ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ) المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا وما لم نعلم ( وَمَا يَذَّكَّرُ ) وما يتعظ بما في القرآن ( إِلا أُولُو الألْبَابِ ) ذوو العقول.

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ( 8 )

قوله تعالى ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا ) أي ويقول الراسخون: ربنا لا تزغ قلوبنا أي لا تملْها عن الحق والهدى كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ ( بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ) وفقتنا لدينك والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك ( وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ ) أعطنا من عندك ( رَحْمَةً ) توفيقا وتثبيتا للذي نحن عليه من الإيمان والهدى، وقال الضحاك: تجاوزًا ومغفرة ( إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )

أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي، أنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي، أنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، أنا أبو بكر بن عبد الرحمن بن القاسم القرشي يعرف بابن الرواس الكبير بدمشق، أنا أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني، أنا صدقة، أنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر، حدثني بشر بن عبيد الله قال: سمعت أبا إدريس الخولاني يقول: حدثني النواس بن سمعان الكلابي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه » وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، والميزان بيد الرحمن يرفع قوما ويضع آخرين إلى يوم القيامة » .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا عبد الرحيم بن منيب، أنا يزيد بن هارون، أنا سعيد بن إياس الجُريري عن غنيم بن قيس عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثل القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهرا لبطن » .

رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( 9 )

قوله تعالى: ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِع النَّاسِ لِيَوْمٍ ) أي لقضاء يوم، وقيل: اللام بمعنى في، أي في يوم ( لا رَيْبَ فِيهِ ) أي لا شك فيه، وهو يوم القيامة ( إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِف الْمِيعَادَ ) مفعال من الوعد.

 

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ( 10 ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 11 ) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 12 )

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ ) لن تنفع ولن تدفع ( عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ ) قال الكلبي: من عذاب الله، وقال أبو عبيدة من بمعنى عند، أي عند الله ( شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُود النَّارِ )

( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومجاهد: كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر والتكذيب، وقال عطاء والكسائي وأبو عبيدة: كسنة آل فرعون، وقال الأخفش: كأمر آل فرعون وشأنهم، وقال النضر بن شميل: كعادة آل فرعون، يريد عادة هؤلاء الكفار في تكذيب الرسول وجحود الحق كعادة آل فرعون، ( وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) كفار الأمم الماضية؛ مثل عاد وثمود وغيرهم ( كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُم اللَّهُ ) فعاقبهم الله ( بِذُنُوبِهِمْ ) وقيل نظم الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ) عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفار الأمم الخالية أخذناهم فلن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم ( وَاللَّه شَدِيد الْعِقَابِ ) .

قوله تعالى: ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ) قرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما، أي أنهم يغلبون ويحشرون، وقرأ الآخرون بالتاء فيهما، على الخطاب، أي: قل لهم: إنكم ستغلبون وتحشرون. قال مقاتل: أراد مشركي مكة معناه: قل لكفار مكة: ستغلبون يوم بدر وتحشرون إلى جهنم في الآخرة، فلما نـزلت هذه الآية قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر « إن الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم » .

وقال بعضهم المراد بهذه الآية: اليهود، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن يهود أهل المدينة قالوا لما هزم رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر: هذا - والله - النبي الذي بشَّرَنا به موسى لا ترد له راية، وأرادوا اتباعه، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة أخرى، فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا فغلب عليهم الشقاء، فلم يسلموا، وقد كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى مكة ليستفزهم، فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنـزل الله تعالى فيهم هذه الآية.

وقال محمد بن إسحاق عن رجاله ورواه سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا: أنه لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: « يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نـزل بقريش يوم بدر وأسلِموا قبل أن ينـزل بكم مثل ما نـزل بهم فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم » فقالوا: يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة وإنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس، فأنـزل الله تعالى ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ) تهزمون ( وَتُحْشَرُونَ ) في الآخرة ( إِلَى جَهَنَّمَ ) ( وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) الفراش، أي بئس ما مهد لهم يعني النار.

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ( 13 )

قوله تعالى: ( قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ) ولم يقل قد كانت لكم، والآية مؤنثة لأنه ردها إلى البيان أي قد كان لكم بيان، فذهب إلى المعنى.

وقال الفراء: إنما ذُكِّرَ لأنه حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث، فذكر الفعل وكل ما جاء من هذا النحو فهذا وجهه، فمعنى الآية: قد كان لكم آية أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول أنكم ستغلبون. ( فِي فِئَتَيْنِ ) فرقتين وأصلها فيء الحرب لأن بعضهم يفيء إلى بعض ( الْتَقَتَا ) يوم بدر ( فِئَةٌ تُقَاتِل فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) طاعة الله وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار، وصاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان فيهم سبعون بعيرا وفرسان فرس للمقداد بن عمرو وفرس لمرثد بن أبي مرثد وأكثرهم رجّالة وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف.

قوله تعالى: ( وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ) أي فرقة أخرى كافرة وهم مشركو مكة وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا من المقاتلة رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وفيهم مائة فرس وكانت حرب بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ ) قرأ أهل المدينة ويعقوب بالتاء يعني ترون يا معشر اليهود أهل مكة مثلي المسلمين وذلك أن جماعة من اليهود كانوا حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة فرأوا المشركين مثلي عدد المسلمين ورأوا النصرة مع ذلك للمسلمين فكان ذلك معجزة وآية، وقرأ الآخرون بالياء، واختلفوا في وجهه: فجعل بعضهم الرؤية للمسلمين ثم له تأويلان أحدهما يرى المسلمون المشركين مثليهم كما هم، فإن قيل: كيف قال: مثليهم وهم كانوا ثلاثة أمثالهم؟ قيل: هذا مثل قول الرجل وعنده درهم أنا أحتاج إلى مثلي هذا الدرهم يعني إلى مثليه سواه فيكون ثلاثة دراهم والتأويل الثاني - وهو الأصح - كان المسلمون يرون المشركين مثلي عدد أنفسهم، قلَّلهم الله تعالى في أعينهم حتى رأوهم ستمائة وستة وعشرين ثم قللهم الله في أعينهم في حالة أخرى حتى رأوهم مثل عدد أنفسهم. قال ابن مسعود رضي الله عنه: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا. ثم قللهم الله تعالى أيضا في أعينهم حتى رأوهم عددًا يسيرًا أقل من أنفسهم [ قال ابن مسعود رضي الله عنه ] حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال: أراهم مائة قال بعضهم: الرؤية راجعة إلى المشركين يعني يرى المشركون المسلمين مثليهم قللهم الله قبل القتال في أعين المشركين ليجترئ المشركون عليهم ولا ينصرفوا فلما أخذوا في القتال كثرهم الله في أعين المشركين ليجبنوا وقللهم في أعين المؤمنين ليجترئوا فذلك قوله تعالى وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ( 44 - الأنفال ) .

قوله تعالى: ( رَأْيَ الْعَيْنِ ) أي في رأي العين نصب بنـزع حرف الصنعة ( وَاللَّه يُؤَيِّد بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ ) الذي ذكرت ( لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ ) لذوي العقول، وقيل لمن أبصر الجمعين.

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ( 14 )

قوله تعالى : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبّ الشَّهَوَاتِ ) جمع شهوة وهي ما تدعو النفس إليه ( مِنَ النِّسَاءِ ) بدأ بهن لأنهن حبائل الشيطان ( وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ ) جمع قنطار واختلفوا فيه فقال الربيع بن أنس: القنطار المال الكثير بعضه على بعض، وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: القنطار ألف ومائتا أوقية وقال ابن عباس رضي الله عنهما [ والضحاك ] ألف ومائتا مثقال. وعنهما رواية أخرى اثنا عشر ألف درهم وألف [ دينار ] دية أحدكم، وعن الحسن القنطار دية أحدكم، وقال سعيد بن جبير وعكرمة: هو مائة ألف ومائة مَنٍّ ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم، ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل قد قنطروا، وقال سعيد بن المسيب وقتادة: ثمانون ألفا، وقال مجاهد سبعون ألفا، وعن السدي قال: أربعة آلاف مثقال، وقال الحكم: القنطار ما بين السماء والأرض من مال، وقال أبو نضرة: ملء مسك ثور ذهبا أو فضة.

وسمي قنطارا من الإحكام، يقال: قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة.

قوله تعالى: ( الْمُقَنْطَرَةِ ) قال الضحاك: المحصنة المحكمة، وقال قتادة: هي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض وقال يمان: [ المدفونة ] وقال السدي المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير، وقال [ الفراء ] المضعفة، فالقناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة ( مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ) وقيل سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى، والفضة لأنها تنفضُّ أي تتفرق ( وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ) الخيل جمع لا واحد له من لفظه واحدها فرس، كالقوم والنساء ونحوهما، المسومة قال مجاهد: هي المطهمة الحسان، وقال عكرمة: تسويمها حسنها، وقال سعيد بن جبير: هي الراعية، يقال: أسام الخيل وسوَّمها قال الحسن وأبو عبيدة: هي المعلمة من السيماء والسيماء العلامة، ثم منهم من قال: سيماها الشبه واللون وهو قول قتادة وقيل: الكي.

( وَالأنْعَامِ ) جمع النعم، وهي الإبل والبقر والغنم جمع لا واحد له من لفظه ( وَالْحَرْثِ ) يعني الزرع ( ذَلِكَ ) الذي ذكرنا ( مَتَاع الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يشير إلى أنها متاع يفنى ( وَاللَّه عِنْدَه حُسْن الْمَآبِ ) أي المرجع، فيه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة.

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( 15 )

قوله تعالى ( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْد َرَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ) قرأه العامة بكسر الراء، وروى أبو بكر عن عاصم بضم الراء، وهما لغتان كالعُدوان والعِدوان.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا يحيى بن سليمان، حدثني ابن وهب، حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم « إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا » .

 

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( 16 ) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ( 17 )

قوله تعالى وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ إن شئت جعلت محل الذين خفضًا ردًا على قوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا وإن شئت جعلته رفعا على الابتداء، ويحتمل أن يكون نصبا تقديره أعني الذين يقولون ( رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا ) صدقنا ( فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ) استرها علينا وتجاوز عنا ( وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )

( الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ ) إن شئت نصبتها على المدح، وإن شئت خفضتها على النعت، يعني الصابرين في أداء الأمر وعن ارتكاب النهي، وعلى البأساء والضراء وحين البأس، والصادقين في إيمانهم، قال قتادة: هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السر والعلانية ( وَالْقَانِتِينَ ) المطيعين المصلين ( وَالْمُنْفِقِينَ ) أموالهم في طاعة الله ( وَالْمُسْتَغْفِرِين َبِالأسْحَارِ ) قال مجاهد وقتادة والكلبي: يعني المصلين بالأسحار وعن زيد بن أسلم أنه قال: هم الذين يصلون الصبح في الجماعة، وقيل بالسَّحَر لقربه من الصبُح وقال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا، وقال نافع كان ابن عمر رضي الله عنه يحيي الليل ثم يقول: يا نافع أسْحَرْنا؟ فأقول لا فيعاود الصلاة فإذا قلت: نعم قعد يستغفر الله ويدعو حتى يصبح.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو محمد بن الحسن بن أحمد المخلدي، حدثنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، أنا قتيبة [ بن سعيد ] أنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ينـزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول: أنا الملك أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له » .

وحكي عن الحسن أن لقمان قال لابنه: يا بني لا تكن أعجز من هذا الديك يصوِّت من الأسحار وأنت نائم على فراشك .

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 18 )

قوله تعالى : ( شَهِدَ اللَّه أَنَّه لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) قيل: نـزلت هذه الآية في نصارى نجران. وقال الكلبي: قدم حبران من أحبار الشام على النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان؟ فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة، فقالا له: أنت محمد، قال: نعم، قالا له: وأنت أحمد؟ قال: « أنا محمد وأحمد » قالا له: فإنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك، فقال اسألا فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنـزل الله تعالى هذه الآية، فأسلم الرجلان .

قوله ( شَهِدَ اللَّهُ ) أي بين الله لأن الشهادة تبين، وقال مجاهد: حكم الله [ وقيل: علم الله ] وقيل: أعلم الله أنه لا إله إلا هو .

قال ابن عباس رضي الله عنهما: خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، فشهد بنفسه لنفسه قبل أن خلق الخلق حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا بر ولا بحر فقال: ( شَهِدَ اللَّه أَنَّه لا إِلَهَ إِلا هُوَ )

وقوله: ( وَالْمَلائِكَةُ ) أي وشهدت الملائكة قيل: معنى شهادة الله الإخبار والإعلام، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار. قوله تعالى ( وَأُولُو الْعِلْمِ ) يعني الأنبياء عليهم السلام.

وقال ابن كيسان يعني: المهاجرين والأنصار وقال مقاتل: علماء مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه. قال السدي والكلبي: يعني جميع علماء المؤمنين. ( قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) أي بالعدل. ونظم هذه الآية شهد الله قائمًا بالقسط، نصب على الحال، وقيل: نصب على القطع، ومعنى قوله ( قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) أي قائما بتدبير الخلق كما يقال: فلان قائم بأمر فلان، أي مدبر له ومتعهد لأسبابه، وقائم بحق فلان أي مجاز له فالله جل جلاله مدبر رازق مجاز بالأعمال. ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيمُ )

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 19 )

( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ ) يعني الدين المرضي الصحيح، كما قال تعالى : وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ( 3 - المائدة ) وقال : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ( 85 - آل عمران ) وفتح الكسائي الألف من أن الدين ردا على أن الأولى تقديره شهد الله أنه لا إله إلا هو وشهد أن الدين عند الله الإسلام، أو شهد الله أن الدين عند الله الإسلام بأنه لا إله إلا هو، وكسر الباقون الألف على الابتداء والإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة، يقال: أسلم أي دخل في السلم واستسلم، قال قتادة في قوله تعالى ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ ) قال: شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وهو دين الله الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه [ ولا يقبل غيره ولا يجزي إلا به ] .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو عمرو الفراتي، أنا أبو موسى عمران بن موسى، أنا الحسن بن سفيان، أنا عمار بن عمر بن المختار، حدثني أبي عن غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة فنـزلت قريبا من الأعمش وكنت أختلف إليه فلما كنت ذات ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة، فإذا الأعمش قائم من الليل يتهجد، فمر بهذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ ) قالها مرارا قلت لقد سمع فيها شيئا، فصليت معه وودعته، ثم قلت : إني سمعتك تقرأ آية ترددها فما بلغك فيها؟ [ قال لي: أوما بلغك ما فيها؟ قلت: أنا عندك منذ سنتين لم تحدثني ] قال: والله لا أحدثك بها إلى سنة، فكتبت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة، فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد قد مضت السنة قال: حدثني أبو وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله: إن لعبدي هذا عندي عهدا، وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة » .

قوله تعالى : ( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) قال الكلبي : نـزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام أي وما اختلف الذين أوتوا الكتاب في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما جاءهم العلم، يعني بيان نعته في كتبهم، وقال الربيع: إن موسى عليه السلام لما حضره الموت دعا سبعين رجلا من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة واستخلف يوشع بن نون، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم الذين أوتوا الكتاب من أبناء أولئك السبعين حتى أهرقوا بينهم الدماء، ووقع الشر والاختلاف، وذلك من بعد ما جاءهم العلم يعني بيان ما في التوراة ( بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) أي طلبا للملك والرياسة، فسلط الله عليهم الجبابرة وقال محمد بن جعفر بن الزبير: نـزلت في نصارى نجران ومعناها ( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) يعني الإنجيل في أمر عيسى عليه السلام وفرقوا القول فيه إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله واحد وأن عيسى عبده ورسوله ( بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) أي للمعاداة والمخالفة ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيع الْحِسَابِ )

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( 20 )

قوله تعالى: ( فَإِنْ حَاجُّوكَ ) أي خاصموك يا محمد في الدين، وذلك أن اليهود والنصارى قالوا لسنا على ما سميتنا به يا محمد إنما اليهودية والنصرانية نسب، والدين هو الإسلام ونحن عليه فقال الله تعالى ( فَقُلْ أَسْلَمْت وَجْهِيَ لِلَّهِ ) أي انقدت لله وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي، وإنما خص الوجه لأنه أكرم الجوارح من الإنسان وفيه بهاؤه، فإذا خضع وجهه للشيء خضع له جميع جوارحه، وقال الفراء: معناه أخلصت عملي لله ( وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) أي ومن اتبعني أسلم كما أسلمت، وأثبت نافع وأبو عمرو الياء في قوله تعالى ( اتبعني ) على الأصل وحذفها الأخرون على الخط لأنها في المصحف بغير ياء.

وقوله: ( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ ) يعني العرب ( أَأَسْلَمْتُمْ ) لفظه استفهام ومعناه أمر، أي أسلموا كما قال فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ( 91 - المائدة ) أي انتهوا، ( فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ) فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال أهل الكتاب: أسلمنا، فقال لليهود: أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله قالوا: معاذ الله، وقال النصارى : أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله ؟ قالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبدا فقال الله عز وجل ( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ ) أي تبليغ الرسالة وليس عليك الهداية ( وَاللَّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) عالم بمن يؤمن وبمن لا يؤمن .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 21 )

قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ) يجحدون بآيات الله يعني القرآن، وهم اليهود والنصارى ( وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ) قرأ حمزة: ويقاتلون الذين يأمرون، قال ابن جريج: كان الوحي يأتي على [ أنبياء ] بني إسرائيل ولم يكن يأتيهم كتاب، فيذكِّرون قومهم فيُقتلون، فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم فيذكِّرون قومهم فيقتلون أيضا فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن فنجويه الدينوري، أنا أبو نصر منصور بن جعفر النهاوندي، أنا أحمد بن يحيى بن الجارود، أنا محمد بن عمرو بن حيان، أنا محمد بن ( حمير ) ، أنا أبو الحسن مولى بني أسد عن مكحول عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: « رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ) إلى أن انتهى إلى قوله وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا في أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عُبَّاد بني إسرائيل أمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوهم جميعا في آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنـزل الآية فيهم » ( فَبَشِّرْهُمْ ) أخبرهم ( بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) وجيع، وإنما أدخل الفاء على خبر إن وتقديره الذين يكفرون ويقتلون فبشرهم، لأنه لا يقال: إن زيدا فقائم.

أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 22 )

( أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ ) بطلت ( أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ) وبطلان العمل في الدنيا أن لا يقبل وفي الآخرة ألا يجازى عليه .

 

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ( 23 )

قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ) يعني اليهود ( يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ) اختلفوا في هذا الكتاب، فقال قتادة: هم اليهود دُعوا إلى حكم القرآن فأعرضوا عنه.

وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: إن الله تعالى جعل القرآن حكمًا فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهدى فأعرضوا عنه، وقال الآخرون: هو التوراة.

وروى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله عز وجل. فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم، قالا إن إبراهيم كان يهوديا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فهلمُّوا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم » فأبيا عليه، فأنـزل الله تعالى هذه الآية

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوا أن يكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم فقال له النعمان بن أوفى وبحري بن عمرو: جُرْتَ عليهما يا محمد ليس عليهما الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « بيني وبينكم التوراة » قالوا: قد أنصفتنا قال « فمن أعلمكم بالتوراة » قالوا رجل أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا، فأرسلوا إليه فقدم المدينة، وكان جبريل قد وصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنت ابن صوريا؟ » قال: نعم، قال: « أنت أعلم اليهود » ؟ قال: كذلك يزعمون قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من التوراة، فيها الرجم مكتوب، فقال له : « اقرأ » فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله قد جاوزها فقام فرفع كفه عنها ثم قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود بأن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهوديين فرجما، فغضب اليهود لذلك وانصرفوا فأنـزل الله عز وجل ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ) ( لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ )

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 24 ) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 25 )

( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّار إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ) والغرور هو الإطماع فيما لا يحصل منه شيء ( مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) والافتراء اختلاق الكذب .

قوله تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ ) أي فكيف حالهم أو كيف يصنعون إذا جمعناهم ( لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ) [ وهو يوم القيامة ] ( وَوُفِّيَتْ ) [ وفرت ] ( كُلّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ) أي جزاء ما كسبت من خير أو شر ( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم .

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْـزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 26 )

قوله تعالى ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ) قال قتادة ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته فأنـزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن عباس رضي الله عنهما وأنس بن مالك رضي الله عنه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد صلى الله عليه وسلم ملك فارس والروم؟ وهم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنـزل الله هذه الآية ( قُلِ اللَّهُمَّ ) قيل : معناه يا الله فلما حذف حرف النداء زيد الميم في آخره، وقال قوم: للميم فيه معنى، ومعناها يا الله أُمَّنا بخير أي: اقصدنا ، حذف منه حرف النداء كقولهم: هلم إلينا، كان أصله هل أُمَّ إلينا، ثم كثرت في الكلام فحذفت الهمزة استخفافا وربما خففوا أيضا فقالوا: لاهُمَّ ، قوله ( مَالِكَ الْمُلْكِ ) [ يعني يا مالك الملك ] أي مالك العباد وما ملكوا، وقيل يا مالك السماوات والأرض، وقال الله تعالى في بعض الكتب: « أنا الله ملك الملوك، ومالك الملوك وقلوب الملوك ونواصيهم بيدي فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة وإن عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إليَّ أعطفهم عليكم » .

قوله تعالى: ( تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ) قال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني ملك النبوة وقال الكلبي: تؤتي الملك من تشاء محمدا وأصحابه ( وَتَنْـزِع الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ) أبي جهل وصناديد قريش وقيل: تؤتي الملك من تشاء: العرب وتنـزع الملك ممن تشاء: فارس والروم، وقال السدي تؤتي الملك من تشاء، آتى الله الأنبياء عليهم السلام وأمر العباد بطاعتهم ( وَتَنْـزِع الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ) نـزعه من الجبارين وأمر العباد بخلافهم، وقيل تؤتي من تشاء: آدم وولده وتنـزع الملك ممن تشاء إبليس وجنوده.

وقوله تعالى: ( وَتُعِزّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلّ مَنْ تَشَاء ) قال عطاء تعز من تشاء: المهاجرين والأنصار وتذل من تشاء: فارس والروم، وقيل تعز من تشاء محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها، وتذل من تشاء: أبا جهل وأصحابه حتى حُزَّت رءوسهم وألقوا في القليب، وقيل تعز من تشاء بالإيمان والهداية، وتذل من تشاء بالكفر والضلالة، وقيل تعز من تشاء بالطاعة وتذل من تشاء بالمعصية، وقيل تعز من تشاء بالنصر وتذل من تشاء بالقهر، وقيل تعز من تشاء بالغنى وتذل من تشاء بالفقر، وقيل تعز من تشاء بالقناعة والرضى وتذل من تشاء بالحرص والطمع ( بِيَدِكَ الْخَيْر ) أي بيدك الخير والشر فاكتفى بذكر أحدهما قال تعالى : سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( 81 - النحل ) أي الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما ( إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 27 )

قوله تعالى ( تُولِج اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ) أي تدخل الليل في النهار حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعاتٍ ( وَتُولِج النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة والنهار تسع ساعات، فما نقص من أحدهما زاد في الآخر ( وَتُخْرِج الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِج الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) قرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم « الميِّت » بتشديد الياء هاهنا وفي الأنعام ويونس والروم وفي الأعراف لِبَلَدٍ مَيِّتٍ وفي فاطر إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ زاد نافع أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( 122 - الأنعام ) و لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ( 12 - الحجرات ) و الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ( 33 - يس ) فشددها، والآخرون يخففونها، وشدد يعقوب « يخرِج الحي من الميت » « لحم أخيه ميتا » قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة: معنى الآية: يخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة، ويخرج النطفة من الحيوان.

وقال عكرمة والكلبي: يخرج الحي من الميت أي الفرخ من البيضة ويخرج البيضة من الطير، وقال الحسن وعطاء. يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن، فالمؤمن حي الفؤاد، والكافر ميت الفؤاد قال الله تعالى : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( 122 - الأنعام ) وقال الزجاج: يخرج النبات الغضَّ الطري من الحب اليابس، ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي ( وَتَرْزُق مَنْ تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ) من غير تضييق [ ولا تقتير ] .

أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنفي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي، أنا محمد بن علي بن زيد الصائغ، أنا محمد بن أبي الأزهر، أنا الحارث بن عمير، أنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن فاتحة الكتاب وآية الكرسي والآيتين من آل عمران شَهِدَ اللَّهُ - إلى قوله - إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ - و - قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ - إلى قوله - بِغَيْرِ حِسَابٍ معلقات، ما بينهن وبين الله عز وجل حجاب، قلن: يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك؟ قال الله عز وجل: بي حلفت لا يقرؤكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان منه ولأسكننه في حظيرة القدس ولنظرت إليه بعيني المكنونة كل يوم سبعين مرة ولقضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ولأعذته من كل عدو وحاسد ونصرته منهم » رواه الحارث عن عمرو وهو ضعيف.

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( 28 )

قوله عز وجل: ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) قال ابن عباس رضي الله عنه: كان الحجاج بن عمرو بن أبي الحقيق وقيس بن زيد ( يظنون ) بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود لا يفتنونكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنـزل الله تعالى هذه الآية.

وقال مقاتل: نـزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره وكانوا يظهرون المودة لكفار مكة.

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما نـزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنـزل الله عز وجل هذه الآية، ونهى المؤمنين عن مثل [ فعلهم ] .

قوله تعالى: ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ) أي موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم وإظهارهم على عورة المسلمين ( فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ) [ أي ليس من دين الله في شيء ] ثم استثنى فقال ( إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) يعني: إلا أن تخافوا منهم مخافة، قرأ مجاهد ويعقوب « تَقيَّة » على وزن بقية لأنهم كتبوها بالياء ولم يكتبوها بالألف، مثل حصاة ونواة، وهي مصدر يقال تقيته تقاة وتقى تقية وتقوى فإذا قلت اتقيت كان المصدر الاتقاء، وإنما قال تتقوا من الاتقاء ثم قال: تقاة ولم يقل اتقاء لأن معنى اللفظين إذا كان واحدا يجوز إخراج مصدر أحدهما على لفظ الآخر كقوله تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ( 8 - المزمل ) ومعنى الآية: أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يستحل دما حراما أو مالا حراما، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين، والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية، قال الله تعالى: إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ( 106 - النحل ) ثم هذا رخصة، فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم وأنكر قوم التقية [ اليوم ] قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في [ بُدُوِّ ] الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، وأما اليوم فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم، وقال يحيى البكاء: قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج: إن الحسن كان يقول لكم التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان؟ فقال سعيد: ليس في الإسلام تقية إنما التقية في أهل الحرب ( وَيُحَذِّرُكُم اللَّه نَفْسَهُ ) أي يخوفكم الله عقوبته على موالاة الكفار وارتكاب المنهي عنه ومخالفة المأمور ( وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ )

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 29 )

( قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ ) أي قلوبكم من مودة الكفار ( أَوْ تُبْدُوهُ ) موالاتهم قولا وفعلا ( يَعْلَمْه اللَّهُ ) وقال الكلبي: إن تسروا ما في قلوبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من التكذيب أو تظهروه، بحربه وقتاله، يعلمه الله ويحفظه عليكم حتى يجازيكم به ثم قال: ( وَيَعْلَمُ ) رفع على الاستئناف ( مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) يعني إذا كان لا يخفى عليه شيء في السماوات ولا في الأرض فكيف تخفى عليه موالاتكم الكفار وميلكم إليهم بالقلب؟ ( وَاللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

 

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ( 30 )

قوله تعالى : ( يَوْمَ تَجِد كُلّ نَفْسٍ ) نصب يوما بنـزع حرف الصفة أي في يوم، وقيل: بإضمار فعل أي: اذكروا واتقوا يوم تجد كل نفس ( مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا ) لم يبخس منه شيء كما قال الله تعالى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ( 49 - الكهف ) ( وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) جعله بعضهم خبرا في موضع النصب أي تجد محضرا ما عملت من الخير [ والشر فتسر بما عملت من الخير ] وجعله بعضهم خيرا مستأنفا، دليل هذا التأويل: قراءة ابن مسعود رضي الله عنهما « وما عملت من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا » .

قوله تعالى: ( تَوَدّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا ) أي بين النفس ( وَبَيْنَهُ ) يعني وبين السوء ( أَمَدًا بَعِيدًا ) قال السدي: مكانا بعيدا، وقال مقاتل: كما بين المشرق والمغرب، والأمد الأجل والغاية التي ينتهي إليها، وقال الحسن: يَسُرُّ أحدهم أن لا يلقى عمله أبدا، وقيل يود أنه لم يعمله ( وَيُحَذِّرُكُم اللَّه نَفْسَه وَاللَّه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ )

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 31 ) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( 32 )

قوله تعالى: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُم اللَّه ) نـزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ .

وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها ( الشُّنوف ) وهم يسجدون لها، فقال: يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل فقالت له قريش إنما نعبدها حبًا لله ليقربونا إلى الله زلفى، فقال الله تعالى: قل يا محمد إن كنتم تحبون الله وتعبدون الأصنام ليقربوكم إليه فاتبعوني يحببكم الله، فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم، أي اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله فحب المؤمنين لله اتباعهم أمره وإيثار طاعته وابتغاء مرضاته، وحب الله للمؤمنين ثناؤه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم فذلك قوله تعالى: ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وقيل لما نـزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبي لأصحابه إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى ابن مريم فنـزل قوله تعالى: ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أعرضوا عن طاعتهما ( فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبّ الْكَافِرِينَ ) لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن سنان، أنا فليح، أنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى » قالوا ومن يأبى؟ قال « من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن عبادة، أنا يزيد نا سُليم بن حيان [ وأثنى عليه ] ، أنا سعيد بن ميناء قال: حدثنا أو سمعت جابر بن عبد الله يقول: جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم. فقال بعضهم: إنه نائم وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أوِّلوها له يفقهها، فقالوا: أما الدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس « »

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 33 ) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 34 )

وقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا ) الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما: قالت اليهود نحن من أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ونحن على دينهم فأنـزل الله تعالى هذه الآية. يعني: إن الله اصطفى هؤلاء بالإسلام وأنتم على غير دين الإسلام ( اصْطَفَى ) اختار، افتعل من الصفوة وهي الخالص من كل شيء ( آدَمَ ) أبو البشر ( وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ ) قيل: أراد بآل إبراهيم وآل عمران إبراهيم عليه السلام وعمران أنفسهما كقوله تعالى وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ( 248 - البقرة ) يعني موسى وهارون.

وقال آخرون: آل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وكان محمد صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم عليه السلام، وأما آل عمران فقال مقاتل: هو عمران بن يصهر بن فاهت بن لاوي بن يعقوب عليه السلام ( والد ) موسى وهارون. وقال الحسن ووهب: هو عمران بن أشهم بن أمون من ولد سليمان بن داود عليهما السلام [ والد ] مريم وعيسى. وقيل: عمران بن ماثان وإنما خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء والرسل كلهم من نسلهم ( عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً ) اشتقاقها من ذرأ بمعنى خلق، وقيل: من الذر لأنه استخرجهم من صلب آدم كالذر، ويسمى الأولاد والآباء ذرية، فالأبناء ذرية لأنه ذرأهم، والآباء ذرية لأنه ذرأ الأبناء منهم، قال الله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ( 41 - يس ) أي آباءهم

( ذُرِّيَّةً ) نصب على معنى واصطفى ذرية ( بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ) أي بعضها من ولد بعض، [ وقيل بعضها من بعض في التناصر ] وقيل: بعضها على دين بعض ( وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ )

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 35 )

قوله تعالى : ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَة عِمْرَانَ ) وهي حنة بنت قافوذا أم مريم، وعمران هو عمران بن ماثان وليس بعمران أبي موسى عليه السلام، وبينهما ألف وثمانون سنة، وكان بنو ماثان رءوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم وقيل: عمران بن أشهم.

قوله تعالى: ( رَبِّ إِنِّي نَذَرْت لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ) أي جعلت الذي في بطني محررًا نذرًا مني لك ( فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيع الْعَلِيمُ ) والنذر: ما يوجبه الإنسان على نفسه ( مُحَرَّرًا ) أي عتيقا خالصا لله مفرغا لعبادة الله ولخدمة الكنيسة لا أشغله بشيء من الدنيا، وكل ما أخلص فهو محرر يقال: حررت العبد إذا أعتقته وخلصته من الرق.

قال الكلبي ومحمد بن إسحاق وغيرهما: كان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم، ثم يخير إن أحب أقام وإن أحب ذهب حيث شاء وإن أراد أن يخرج بعد التخيير لم يكن له ذلك، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلا ومن نسله محررًا لبيت المقدس، ولم يكن محررًا إلا الغلمان، ولا تصلح له الجارية لما يصيبها من الحيض والأذى، فحررت أم مريم ما في بطنها، وكانت القصة في ذلك أن زكريا وعمران تزوجا أختين، وكانت أشياع بنت قافوذا أم يحيى عند زكريا، وكانت حنة بنت قافوذا أم مريم عند عمران، وكان قد أمسك عن حنة الولد حتى أسنت وكانوا أهل بيت من الله بمكان، فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا فتحركت بذلك نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولدًا وقالت: اللهم لك علي إن رزقتني ولدًا أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمته، فحملت بمريم فحررت ما في بطنها، ولم تعلم ما هو فقال لها زوجها: ويحك ما صنعت، أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى لا تصلح لذلك؟ فوقعا جميعا في همٍّ من ذلك فهلك عمران وحنة حامل بمريم

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( 36 )

( فَلَمَّا وَضَعَتْهَا ) أي ولدتها إذا هي جارية، والهاء في قوله « وضعتها » راجعة إلى النذير لا إلى ما ولد لذلك أنث ( قَالَتْ ) حنة وكانت ترجو أن يكون غلامًا ( رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ) اعتذارًا إلى الله عز وجل ( وَاللَّه أَعْلَم بِمَا وَضَعَتْ ) بجزم التاء إخبارًا عن الله عز وجل وهي قراءة العامة وقرأ ابن عامر وأبو بكر ويعقوب وضعت برفع التاء جعلوها من كلام أم مريم ( وَلَيْسَ الذَّكَر كَالأنْثَى ) في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها لعورتها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس ( وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ) ومريم بلغتهم العابدة والخادمة، وكانت مريم أجمل النساء في وقتها وأفضلهن ( وَإِنِّي أُعِيذُهَا ) أمنعها وأجيرها ( بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا ) أولادها ( مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) فالشيطان الطريد اللعين، والرجيم المرمي بالشهب.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب عن الزهري، حدثني سعيد بن المسيب، قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل الصبي صارخا من الشيطان غير مريم وابنها » ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: « وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه بأصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب » .

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 37 )

قوله ( فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ) أي تقبل الله مريم من حنة مكان المحرر، وتقبل بمعنى قبل ورضي، والقبول مصدر قبل يقبل قبولا مثل الولوع والوزوع ولم يأت غير هذه الثلاثة. وقيل: معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها ( وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ) معناه: وأنبتها فنبتت نباتًا حسنًا وقيل هذا مصدر على غير [ اللفظ ] وكذلك قوله ( فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ) [ ومثله شائع كقولك تكلمت كلاما وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ( فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ) ] أي سلك بها طريق السعداء ( وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ) يعني سوَّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في العام ( وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ) قال أهل الأخبار: أخذت حنة مريم حين ولدتها فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار، أبناء هارون وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافس فيها الأحبار لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم فقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها، عندي خالتها، فقالت له الأحبار: لا نفعل ذلك، فإنها لو تركت لأحق الناس لها لتركت لأمها التي ولدتها لكنا نقترع عليها فتكون عند من خرج سهمه، فانطلقوا وكانوا [ تسعة وعشرين ] رجلا إلى نهر جار، قال السدي: هو نهر الأردن فألقوا أقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء فصعد فهو أولى بها.

وقيل: كان على كل قلم اسم واحد منهم.

وقيل : كانوا يكتبون التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم في الماء [ فارتز ] قلم زكريا فارتفع فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت في النهر، قاله محمد بن إسحاق وجماعة.

وقيل: جرى قلم زكريا مصعدًا إلى أعلى الماء وجرت أقلامهم بجري الماء.

وقال السدي وجماعة: بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين، وجرت أقلامهم مع جرية الماء فذهب بها الماء فسهمهم وقرعهم زكريا، وكان زكريا رأس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى ( وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ) قرأ حمزة والكسائي وعاصم بتشديد الفاء فيكون زكريا في محل النصب أي ضمنها الله زكريا وضمها إليه بالقرعة، وقرأ الآخرون بالتخفيف فيكون زكريا في محل الرفع أي ضمها زكريا إلى نفسه وقام بأمرها، وهو زكريا بن آذن بن مسلم بن صدوق، من أولاد سليمان بن داود عليهما السلام.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: زكريا مقصورا والآخرون يمدونه.

فلما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها بيتا ، واسترضع لها وقال محمد بن إسحاق ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا في المسجد، وجعل بابه في وسطها لا يرقى إليها إلا بالسلم مثل باب الكعبة لا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ) وأراد بالمحراب الغرفة، والمحراب أشرف المجالس ومقدمها، وكذلك هو من المسجد، ويقال للمسجد أيضا محراب قال المبرد: لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرجة، وقال الربيع بن أنس: كان زكريا إذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب فإذا دخل عليها غرفتها ( وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ) أي فاكهة في غير حينها، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ( قَالَ يَا مَرْيَم أَنَّى لَكِ هَذَا ) قال أبو عبيدة: معناه من أين لك هذا؟ وأنكر بعضهم عليه، وقال: معناه من أي جهة لك هذا؟ لأن « أنى » للسؤال عن الجهة وأين للسؤال عن المكان ( قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) أي من قطف الجنة، قال الحسن: حين ولدت مريم لم تلقم ثديا قط، كان يأتيها رزقها من الجنة، فيقول لها زكريا: أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله تكلمت وهي صغيرة ( إِنَّ اللَّهَ يَرْزُق مَنْ يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ )

وقال محمد بن إسحاق: ثم أصابت بني إسرائيل أزمة وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها فخرج على بني إسرائيل فقال يا بني إسرائيل: تعلمون والله لقد كبرت سني وضعفت عن حمل مريم بنت عمران فأيكم يكفلها بعدي؟ قالوا: والله لقد جهدنا وأصابنا من السنة ما ترى، فتدافعوها بينهم ثم لم يجدوا من حملها بدا، فتقارعوا عليها بالأقلام فخرج السهم على رجل نجار من بني إسرائيل يقال له: يوسف بن يعقوب وكان ابن عم مريم فحملها، فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه فقالت له: يا يوسف أحسن بالله الظن فإن الله سيرزقنا، فجعل يوسف يرزق بمكانها منه، فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها فإذا أدخله عليها في الكنيسة أنماه الله، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلا من الرزق، ليس بقدر ما يأتيها به يوسف، فيقول: يا مريم أنى لك هذا قالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب .

قال أهل الأخبار فلما رأى ذلك زكريا قال: إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب لقادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي ولدا في غير حينه من الكبر فطمع في الولد، وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد.

 

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ( 38 ) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ( 39 )

قال الله تعالى ( هُنَالِكَ ) أي عند ذلك ( دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ) فدخل المحراب [ وأغلق الباب ] وناجى ربه ( قَالَ رَبِّ ) أي يا رب ( هَبْ لِي ) أعطني ( مِنْ لَدُنْكَ ) أي من عندك ( ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) أي ولدا مباركًا تقيًا صالحًا رضيًا، والذرية تكون واحدًا وجمعًا ذكرًا وأنثى، وهو هاهنا واحد، بدليل قوله عز وجل فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ( 5 - مريم ) وإنما قال: طيبة لتأنيث لفظ الذرية ( إِنَّكَ سَمِيع الدُّعَاءِ ) أي سامعه، وقيل مجيبه، كقوله تعالى: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ( 25 - يس ) أي فأجيبوني

( فَنَادَتْه الْمَلائِكَةُ ) قرأ حمزة والكسائي فناداه بالياء، والآخرون بالتاء، فمن قرأ بالتاء فلتأنيث لفظ الملائكة وللجمع مع أن الذكور إذا تقدم فعلهم وهم جماعة كان التأنيث فيها أحسن كقوله تعالى : قَالَتِ الأَعْرَابُ ( 14 - الحجرات ) وعن إبراهيم قال: كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما يُذَكِّر الملائكة في القرآن. قال أبو عبيدة: إنما نرى عبد الله اختار ذلك خلافا للمشركين في قولهم الملائكة بنات الله تعالى، وروى الشعبي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا اختلفتم في التاء والياء فاجعلوها ياءً وذكِّروا القرآن.

وأراد بالملائكة هاهنا: جبريل عليه السلام وحده كقوله تعالى في سورة النحل يُنَـزِّلُ الْمَلائِكَةَ يعني جبريل بِالرُّوحِ بالوحي، ويجوز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم: سمعت هذا الخبر من الناس، وإنما سمع من واحد، نظيره قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ( 173 - آل عمران ) يعني نعيم بن مسعود إِنَّ النَّاسَ يعني أبا سفيان بن حرب، وقال المفضل بن سلمة: إذا كان القائل رئيسا يجوز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه، وكان جبريل عليه السلام رئيس الملائكة وقلَّ ما يبعث إلا ومعه جمع، فجرى على ذلك.

قوله تعالى : ( وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ) أي في المسجد وذلك أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان، فيفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول، فبينما هو قائم يصلي في المحراب، يعني في المسجد عند المذبح يصلي، والناس ينتظرون أن يأذن لهم في الدخول فإذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع منه فناداه، وهو جبريل عليه السلام يا زكريا ( إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ) قرأ ابن عامر وحمزة ( إن الله ) بكسر الألف على إضمار القول تقديره: فنادته الملائكة فقالت ( إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ ) وقرأ الآخرون بالفتح بإيقاع النداء عليه، كأنه قال: فنادته الملائكة بأن الله يبشرك، قرأ حمزة يبشرك وبابه بالتخفيف كل القرآن إلا قوله: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ( 54 - الحجر ) فإنهم اتفقوا على تشديدها ووافقه الكسائي هاهنا في الموضعين وفي سبحان والكهف وعسق ووافق ابن كثير وأبو عمرو في « عسق » والباقون بالتشديد، فمن قرأ بالتشديد فهو من بشر يبشر تبشيرا، وهو أعرب اللغات وأفصحها. دليل التشديد قوله تعالى فَبَشِّرْ عِبَادِ ( الزمر - 17 ) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ( 112 - الصافات ) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ ( 55 - الحجر ) وغيرها من الآيات، ومن خفف فهو من بشر يبشر وهي لغة تهامة، وقرأه ابن مسعود رضي الله عنه ( بِيَحْيَى ) هو اسم لا يُجر لمعرفته وللزائد في أوله مثل يزيد ويعمر، وجمعه يحيون، مثل موسون وعيسون واختلفوا في أنه لم سُمي يحيى؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: لأن الله أحيا به عقر أمه، قال قتادة: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان وقيل: لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية ( مُصَدِّقًا ) نصب على الحال ( بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ) يعني عيسى عليه السلام، سمي عيسى كلمة الله لأن الله تعالى قال له: كن من غير أب فكان، فوقع عليه اسم الكلمة لأنه بها كان، وقيل : سمي كلمة لأنه يهتدى به كما يهتدى بكلام الله تعالى، وقيل: هي بشارة الله تعالى مريم بعيسى عليه السلام بكلامه على لسان جبريل عليه السلام. وقيل: لأن الله تعالى أخبر الأنبياء بكلامه في كتبه أنه يخلق نبيا بلا أب، فسماه كلمة لحصوله بذلك الوعد. وكان يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدقه، وكان يحيى عليه السلام أكبر من عيسى بستة أشهر، وكانا ابني الخالة، ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليه السلام. وقال أبو عبيدة ( بكلمة من الله ) أي بكتاب من الله وآياته، تقول العرب: أنشدني كلمة فلان أي قصيدته.

قوله تعالى : ( وَسَيِّدًا ) فعيل من ساد يسود وهو الرئيس الذي يتبع وينتهى إلى قوله، قال المفضل: أراد سيدا في الدين. قال الضحاك: السيد الحسن الخلق. قال سعيد بن جبير: السيد الذي يطيع ربه عز وجل. وقال سعيد بن المسيب: السيد الفقيه العالم، وقال قتادة: سيد في العلم والعبادة والورع، وقيل: الحليم الذي لا يغضبه شيء. قال مجاهد: الكريم على الله تعالى، وقال الضحاك : السيد التقي، قال سفيان الثوري: الذي لا يحسد وقيل: الذي يفوق قومه في جميع خصال الخير، وقيل: هو القانع بما قسم الله له. وقيل: السخي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من سيدكم يا بني سلمة » ؟ قالوا: جد بن قيس على أنّا نبخِّله قال: « وأي داء أدوأ من البخل، لكن سيدكم عمرو بن الجموح » .

قوله تعالى: ( وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) الحصور أصله من الحصر وهو الحبس. والحصور في قول ابن مسعود رضي الله عنه وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة رضي الله عنهم وعطاء والحسن: الذي لا يأتي النساء ولا يقربهن، وهو على هذا القول فعول بمعنى فاعل يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات [ وقيل : هو الفقير الذي لا مال ] له فيكون الحصور بمعنى المحصور يعني الممنوع من النساء. قال سعيد بن المسيب: كان له مثل هدبة الثوب وقد تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره. وفيه قول آخر: أن الحصور هو الممتنع من الوطء مع القدرة عليه. واختار قوم هذا القول لوجهين ( أحدهما ) : لأن الكلام خرج مخرج الثناء، وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء، ( والثاني ) : أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء.

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ( 40 )

قوله تعالى ( قَالَ رَبِّ ) أي يا سيدي، قال لجبريل عليه السلام، هذا قول الكلبي وجماعة، وقيل: قاله لله عز وجل ( أَنَّى يَكُونُ ) أين يكون ( لِي غُلامٌ ) أي ابن ( وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ) هذا من المقلوب أي وقد بلغت الكبر وشخت كما يقال بلغني الجهد أي أنا في الجهد، وقيل: معناه وقد نالني الكبر وأدركني وأضعفني. قال الكلبي: كان زكريا يوم بُشِّر بالولد ابن ثنتين وتسعين سنة، وقيل: ابن تسع وتسعين سنة. وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة فذلك قوله تعالى: ( وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ) أي عقيم لا تلد يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر، وقد عقر بضم القاف يعقر عقرًا، وعقارة ( قَالَ كَذَلِكَ اللَّه يَفْعَل مَا يَشَاء ) فإن قيل لم قال زكريا بعدما وعده الله تعالى: ( أنى يكون لي غلام ) أكان شاكا في وعد الله وفي قدرته؟ قيل : إن زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله إنما هو من الشيطان، ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور، فقال ذلك دفعًا للوسوسة، قاله عكرمة والسدي، وجواب آخر: وهو أنه لم يشك في وعد الله إنما شك في كيفيته أي كيف ذلك؟

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( 41 ) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ( 42 )

قوله تعالى ( قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) أي علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة شكرا لك ( قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ) تكف عن الكلام ( ثَلاثَةَ أَيَّام ) وتقبل بكليتك على عبادتي، لا أنه حبس لسانه عن الكلام، ولكنه نهي عن الكلام وهو صحيح سوي، كما قال في سورة مريم الآية ( 10 ) أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا يدل عليه قوله تعالى: ( وَسَبِّحْ بِالْعَشِي ِّوَالإبْكَارِ ) فأمره بالذكر ونهاه عن كلام الناس .

وقال أكثر المفسرين: عقل لسانه عن الكلام مع الناس ثلاثة أيام، وقال قتادة: أمسك لسانه عن الكلام عقوبة له لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام، وقوله ( إِلا رَمْزًا ) أي إشارة، والإشارة قد تكون باللسان وبالعين وباليد، وكانت إشارته بالإصبع المسبحة، وقال الفراء: قد يكون الرمز باللسان من غير أن يبين، وهو الصوت الخفي أشبه الهمس، وقال عطاء: أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزا ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ ) قيل: المراد بالتسبيح الصلاة، والعشي ما بين زوال الشمس إلى غروب الشمس ومنه سمي صلاة الظهر والعصر صلاتي العشي، والإبكار ما بين صلاة الفجر إلى الضحى .

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ ) يعني جبريل ( يَا مَرْيَم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ ) اختارك ( وَطَهَّرَك ) قيل من مسيس الرجال وقيل من الحيض والنفاس، قال السدي: كانت مريم لا تحيض، وقيل: من الذنوب ( وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) قيل: على عالمي زمانها وقيل: على جميع نساء العالمين في أنها ولدت بلا أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء، وقيل: بالتحرير في المسجد ولم تحرر أنثى.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أحمد بن رجاء، أخبرنا النضر عن هشام أخبرنا أبي قال: سمعت عبد الله بن جعفر قال: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة رضي الله عنهما » ورواه وكيع وأبو معاوية عن هشام بن عروة وأشار وكيع إلى السماء والأرض .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا آدم، أنا شعبة، عن عمرو بن مرة عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » .

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا جدي عبد الرحمن بن عبد الصمد البزار، أخبرنا محمد بن زكريا العُذافري، أخبرنا إسحاق الديري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وآسية امرأة فرعون » .

يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ( 43 )

قوله تعالى ( يَا مَرْيَم اقْنُتِي لِرَبِّكِ ) قالت لها الملائكة شفاهًا أي أطيعي ربك، وقال مجاهد أطيلي القيام في الصلاة لربك [ والقنوت الطاعة ] وقيل: القنوت طول القيام قال الأوزاعي: لما قالت لها الملائكة ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دما وقيحا ( وَاسْجُدِي وَارْكَعِي ) قيل: إنما قدم السجود على الركوع لأنه كان كذلك في شريعتهم وقيل: بل كان الركوع قبل السجود في الشرائع كلها وليس الواو للترتيب بل للجمع، ويجوز أن يقول الرجل: رأيت زيدا وعمرا، وإن كان قد رأى عمرا قبل زيد ( مَعَ الرَّاكِعِينَ ) ولم يقل مع الراكعات ليكون أعم وأشمل فإنه يدخل فيه الرجال والنساء وقيل: معناه مع المصلين في الجماعة.

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( 44 ) إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( 45 )

قوله تعالى: ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم ( ذلك ) الذي ذكرت من حديث زكريا ويحيى ومريم وعيسى ( من أنباء الغيب ) أي من أخبار الغيب ( نوحيه إليك ) رد الكناية إلى ذلك فلذلك ذكره ( وَمَا كُنْتَ ) يا محمد ( لَدَيْهِمْ إْذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ ) سهامهم في الماء للاقتراع ( أَيُّهُمْ يَكْفُل مَرْيَمَ ) يحضنها ويربيها ( وَمَا كُنْت لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) في كفالتها .

قوله تعالى: ( إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَة يَا مَرْيَم إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْه اسْمُه الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَمَ ) إنما قال: اسمه رد الكناية إلى عيسى واختلفوا في أنه لم سمي مسيحا، منهم من قال: هو فعيل بمعنى المفعول يعني أنه مسح من الأقذار وطهر من الذنوب، وقيل: لأنه مسح بالبركة، وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، وقيل مسحه جبريل بجناحه حتى لم يكن للشيطان عليه سبيل، وقيل: لأنه كان مسيح القدم لا أخمص له، وسمي الدجال مسيحا لأنه كان ممسوح إحدى العينين، وقال بعضهم هو فعيل بمعنى الفاعل، مثل عليم وعالم. قال ابن عباس رضي الله عنهما سمي مسيحا لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برأ، وقيل: سمي بذلك لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم في مكان، وعلى هذا القول تكون الميم فيه زائدة. وقال إبراهيم النخعي: المسيح الصديق. ويكون المسيح بمعنى الكذاب وبه سمي الدجال والحرف من الأضداد ( وَجِيهًا ) أي شريفا رفيعا ذا جاه وقدر ( فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) عند الله

 

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ( 46 )

( وَيُكَلِّم النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ) صغيرا قبل أوان الكلام كما ذكره في سورة مريم قال : إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ ( الآية :30 ) وحكي عن مجاهد قال: قالت مريم: كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدثني وحدثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع قوله ( وَكَهْلا ) قال مقاتل: يعني إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء وقال الحسين بن الفضل: ( وكهلا ) بعد نـزوله من السماء. وقيل: أخبرها أنه يبقى حتى يكتهل، وكلامه بعد الكهولة إخباره عن الأشياء المعجزة، وقيل: ( وَكَهْلا ) نبيًا بشرها بنبوة عيسى عليه السلام وكلامه في المهد معجزة وفي الكهولة دعوة. وقال مجاهد: ( وَكَهْلا ) أي حليمًا. والعرب تمدح الكهولة لأنها الحالة الوسطى في احتناك السن واستحكام العقل وجودة الرأي والتجربة ( وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) أي: هو من العباد الصالحين.

قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 47 ) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ( 48 ) وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 49 )

( قَالَتْ رَبِّ ) يا سيدي تقوله لجبريل. وقيل: تقول لله عز وجل ( أَنَّى يَكُون لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ) يصبني رجل، قالت ذلك تعجبًا إذ لم تكن جرت العادة بأن يولد ولد لا أب له ( قَال َكَذَلِكِ اللَّه يَخْلُق مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا ) أي كون الشيء ( فَإِنَّمَا يَقُول لَه كُنْ فَيَكُونُ ) كما يريد .

قوله تعالى: ( وَيُعَلِّمُه الْكِتَابَ ) قرأ أهل المدينة وعاصم ويعقوب بالياء لقوله تعالى: ( كَذَلِكِ اللَّه يَخْلُق مَا يَشَاءُ ) وقيل: رده على قوله: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ

( وَيُعَلِّمُهُ ) وقرأ الآخرون بالنون على التعظيم كقوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ قوله: ( الْكِتَابَ ) أي الكتابة والخط ( وَالْحِكْمَةَ ) العلم والفقه ( وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ ) علمه الله التوراة والإنجيل

( وَرَسُولا ) أي ونجعله رسولا ( إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ) قيل: كان رسولا في حال الصبا، وقيل: إنما كان رسولا بعد البلوغ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى عليهما السلام فلما بعث قال: ( أَنِّي ) قال الكسائي: إنما فتح لأنه أوقع الرسالة عليه، وقيل: معناه بأني ( قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ ) علامة ( مِنْ رَبِّكُمْ ) تصدق قولي وإنما قال: بآية وقد أتى بآيات لأن الكل دل على شيء واحد وهو صدقه في الرسالة، فلما قال ذلك عيسى عليه السلام لبني إسرائيل قالوا: وما هي قال: ( أَنِّي ) قرأ نافع بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الباقون بالفتح على معنى بأني ( أَخْلُق ) أي أصور وأقدر ( لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) قرأ أبو جعفر كهيئة الطائر هاهنا وفي المائدة، والهيئة الصورة المهيأة من قولهم: هيأت الشيء إذا قدرته وأصلحته ( فَأَنْفُخ فِيهِ ) أي في الطير ( فَيَكُون طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ) قراءة الأكثرين بالجمع لأنه خلق طيرا كثيرا، وقرأ أهل المدينة ويعقوب فيكون طائرًا على الواحد هاهنا. وفي سورة المائدة ذهبوا إلى نوع واحد من الطير لأنه لم يخلق غير الخفاش وإنما خص الخفاش، لأنه أكمل الطير خلقًا لأن لها ثديًا وأسنانًا وهي تحيض. قال وهب: كان يطير مادام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا، ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق، وليعلم أن الكمال لله عز وجل ( وَأُبْرِئ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ ) أي أشفيهما وأصححهما، واختلفوا في الأكمه، قال ابن عباس وقتادة: هو الذي ولد أعمى، وقال الحسن والسدي: هو الأعمى. وقال عكرمة: هو الأعمش. وقال مجاهد: هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، ( وَالأبْرَصَ ) الذي به وضح، وإنما خص هذين لأنهما داءان عياءان، وكان الغالب في زمن عيسى عليه السلام الطب، فأراهم المعجزة من جنس ذلك. قال وهب: ربما اجتمع عند عيسى عليه السلام من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ومن لم يطق مشى إليه عيسى عليه السلام وكان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان.

قوله تعالى: ( وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما قد أحيا أربعة أنفس، عازر وابن العجوز، وابنة العاشر، وسام بن نوح، فأما عازر فكان صديقا له فأرسلت أخته إلى عيسى عليه السلام: أن أخاك عازر يموت وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام، فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، فانطلقت معهم إلى قبره، فدعا الله تعالى فقام عازر وودكه يقطر فخرج من قبره وبقي وولد له .

وأما ابن العجوز مر به ميتًا على عيسى عليه السلام على سرير يحمل فدعا الله عيسى فجلس على سريره، ونـزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له .

وأما ابنة العاشر كان [ أبوها ] رجلا يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس، فدعا الله عز وجل [ باسمه الأعظم ] فأحياها [ الله تعالى ] وبقيت [ بعد ذلك زمنا ] وولد لها . وأما سام بن نوح عليه السلام فإن عيسى عليه السلام جاء إلى قبره فدعا باسم الله الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة، ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا ولكن دعوتك باسم الله الأعظم، ثم قال له: مت قال: بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل.

قوله تعالى: ( وَأُنَبِّئُكُمْ ) وأخبركم ( بِمَا تَأْكُلُونَ ) مما لم أعاينه ( وَمَا تَدَّخِرُونَ ) ترفعونه ( فِي بُيُوتِكُمْ ) حتى تأكلوه وقيل: كان يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما يأكل اليوم وبما ادخره للعشاء.

وقال السدي: كان عيسى عليه السلام في الكتَّاب يحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم ويقول للغلام: انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا، ورفعوا لك كذا وكذا، فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون: من أخبرك بهذا؟ . فيقول: عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر فجمعوهم في بيت فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا: ليسوا هاهنا، فقال: فما في هذا البيت؟ قالوا خنازير، قال عيسى كذلك يكونون ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير ففشى ذلك في بني إسرائيل فهمت به بنو إسرائيل، فلما خافت عليه أمه حملته على [ حُمير ] لها وخرجت ( هاربة منهم ) إلى أهل مصر، وقال قتادة: إنما هذا في المائدة وكان خوانا ينـزل عليهم أينما كانوا كالمن والسلوى، وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا لغد فخانوا وخبئوا فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وبما ادخروا منها فمسخهم الله خنازير.

قوله تعالى ( إِنَّ فِي ذَلِكَ ) الذي ذكرت ( لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )

وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( 50 ) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 51 ) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( 52 )

( وَمُصَدِّقًا ) عطف على قوله ورسولا ( لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأحِلَّ لَكُم ْبَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) من اللحوم والشحوم، وقال أبو عبيدة: أراد بالبعض الكل يعني: كل الذي حرم عليكم، وقد يذكر البعض ويراد به الكل كقول لبيد:

تَــرَّاكُ أَمْكِنــةٍ إذا لــم أَرْضَهَــا أو تَـرْتَبِطْ بعـضَ النُّفُـوسِ حِمامُهـا

يعني: كل النفوس .

قوله تعالى : ( وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) يعني ما ذكر من الآيات وإنما وحدها لأنها كلها جنس واحد في الدلالة على رسالته ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ )

قوله تعالى : ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُم الْكُفْرَ ) أي وجد قاله الفراء، وقال أبو عبيدة: عرف، وقال مقاتل: رأى ( مِنْهُم الْكُفْرَ ) وأرادوا قتله استنصر عليهم و ( قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ) قال السدي: كان سبب ذلك أن عيسى عليه السلام لما بعثه الله عز وجل إلى بني إسرائيل وأمره بالدعوة نفته بنو إسرائيل وأخرجوه، فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض، فنـزل في قرية على رجل فأضافهما وأحسن إليهما، وكان لتلك المدينة جبار متعد فجاء ذلك الرجل يوما مهتمًا حزينًا فدخل منـزله ومريم عند امرأته فقالت لها مريم: ما شأن زوجك أراه كئيبا، قالت: لا تسأليني، قالت: أخبريني لعل الله يفرج كربته، قالت: إن لنا ملكا يجعل على كل رجل منا يومًا أن يطعمه وجنوده ويسقيهم الخمر فإن لم يفعل عاقبه، واليوم نوبتنا وليس لذلك عندنا سعة، قالت: فقولي له لا يهتم فإني آمر ابني فيدعو له فيكفى ذلك، فقالت مريم لعيسى عليه السلام في ذلك، فقال عيسى: إن فعلت ذلك وقع شر، قالت: فلا تبال فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا، قال عيسى عليه السلام فقولي له إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماءً ثم أعلمني ففعل ذلك، فدعا الله تعالى عيسى عليه السلام، فتحول ماء القدور مرقًا ولحمًا وماء الخوابي خمرًا لم ير الناس مثله قط فلما جاء الملك أكل فلما شرب الخمر قال: من أين هذا الخمر قال: من أرض كذا، قال [ الملك ] فإن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال: هي من أرض أخرى، فلما خلط على الملك واشتد عليه قال: فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، وإنه دعا الله فجعل الماء خمرًا وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيام، وكان أحب الخلق إليه، فقال: إن رجلا دعا الله حتى جعل الماء خمرا [ ليستجاب له ] حتى يحيي ابني، فدعا عيسى فكلمه في ذلك فقال عيسى: لا تفعل فإنه إن عاش وقع شر، فقال الملك: لا أبالي أليس أراه قال عيسى: إن أحييته تتركوني وأمي نذهب حيث نشاء، قال: نعم فدعا الله فعاش الغلام فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح، وقالوا: أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكل أبوه فاقتتلوا فذهب عيسى وأمه فمر بالحواريين وهم يصطادون السمك، فقال: ما تصنعون؟ فقالوا: نصطاد السمك قال: أفلا تمشون حتى نصطاد الناس، قالوا: ومن أنت قال: أنا عيسى بن مريم عبد الله ورسوله من أنصاري إلى الله فآمنوا به وانطلقوا معه.

قوله تعالى: ( مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ) قال السدي وابن جريج: مع الله تعالى تقول العرب: الذود إلى الذود أبل أي مع الذود وكما قال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ( 2 - النساء ) أي مع أموالكم. وقال الحسن وأبو عبيدة: إلى بمعنى في أي من أعواني في الله أي في ذات الله وسبيله، وقيل إلى في موضعه معناه من يضم نصرته إلى نصرة الله لي واختلفوا في الحواريين قال مجاهد والسدي: كانوا صيادين يصطادون السمك سموا حواريين لبياض ثيابهم، وقيل: كانوا ملاحين. وقال الحسن: كانوا قصارين سموا بذلك لأنهم كانوا يحورون الثياب أي يبيضونها. وقال عطاء: سلمت مريم عيسى عليه السلام إلى أعمال شتى فكان آخر ما دفعته إلى الحواريين، وكانوا قصارين وصباغين فدفعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر، فقال لعيسى: إنك قد تعلمت هذه الحرفة وأنا خارج في سفر لا أرجع إلى عشرة أيام وهذه ثياب الناس مختلفة الألوان، وقد أعلمت على كل واحد منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فيجب أن تكون فارغًا منها وقت قدومي، وخرج فطبخ عيسى جبًا واحدًا على لون واحد وأدخل جميع الثياب وقال: كوني بإذن الله على ما أريد منك، فقدم الحواري والثياب كلها في الجب، فقال: ما فعلت؟ فقال: فرغت منها، قال: أين هي؟ قال: في الجب، قال: كلها، قال: نعم قال: لقد أفسدت تلك الثياب فقال: قم فانظر، فأخرج عيسى ثوبا أحمر، وثوبا أصفر، وثوبا أخضر، إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها، فجعل الحواري يتعجب فعلم أن ذلك من الله، فقال للناس: تعالوا فانظروا فآمن به هو وأصحابه فهم الحواريون، وقال الضحاك: سموا حواريين لصفاء [ قلوبهم ] وقال ابن المبارك: سموا به لما عليهم من أثر العبادة ونورها، وأصل الحور عند العرب شدة البياض، يقال: رجل أحور وامرأة حوراء أي شديدة بياض العين، وقال الكلبي وعكرمة: الحواريون هم الأصفياء وهم كانوا أصفياء عيسى عليه السلام، وكانوا اثني عشر رجلا قال روح بن القاسم: سألت قتادة عن الحواريين قال: هم الذين يصلح لهم الخلافة، وعنه أنه قال: الحواريون هم الوزراء، وقال الحسن: الحواريون الأنصار، والحواري الناصر، والحواري في كلام العرب خاصة الرجل الذي يستعين به فيما ينوبه .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا الحميدي، أخبرنا سفيان، أخبرنا محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم « إن لكل نبي حواريًا وحواريي الزبير » .

قال سفيان الحواري الناصر، قال معمر: قال قتادة: إن الحواريين كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهم أجمعين.

( قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْن أَنْصَار اللَّهِ ) أعوان دين الله ورسوله ( آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ ) يا عيسى ( بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )

 

رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْـزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( 53 )

( رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْـزَلْتَ ) من كتابك ( وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ) عيسى ( فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق. وقال عطاء: مع النبيين لأن كل نبي شاهد أمته.

قال ابن عباس رضي الله عنهما مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لأنهم يشهدون للرسل بالبلاغ.

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( 54 )

قوله تعالى: ( وَمَكَرُوا ) يعني كفار بني إسرائيل الذي أحس عيسى منهم الكفر وبروا في قتل عيسى عليه السلام، وذلك أن عيسى عليه السلام بعد إخراج قومه إياه وأمه عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطئوا على الفتك به فذلك مكرهم، قال الله تعالى: ( وَمَكَرَ اللَّه وَاللَّه خَيْر الْمَاكِرِينَ ) فالمكر من المخلوقين: الخبث والخديعة والحيلة، والمكر من الله: استدراج العبد وأخذه بغتة من حيث لا يعلم كما قال: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ( 182 - الأعراف ) وقال الزجاج: مكر الله عز وجل مجازاتهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الابتداء لأنه في مقابلته كقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ( 15 - البقرة ) وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( 142 - النساء ) ومكر الله تعالى خاصة بهم في هذه الآية، وهو إلقاؤه الشبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى عليه السلام حتى قتل.

قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عيسى استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحرة، والفاعل ابن الفاعلة، وقذفوه وأمه فلما سمع ذلك عيسى عليه السلام دعا عليهم ولعنهم فمسخهم الله خنازير. فلما رأى ذلك يهوذا رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه السلام، وثاروا إليه ليقتلوه فبعث الله إليه جبريل فأدخله في خوخة في سقفها روزنة فرفعه الله إلى السماء من تلك الروزنة، فأمر يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له: ططيانوس أن يدخل الخوخة ويقتله، فلما دخل لم ير عيسى، فأبطأ عليهم فظنوا أنه يقاتله فيها، فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام، فلما خرج ظنوا أنه عيسى عليه السلام فقتلوه وصلبوه، قال وهب: طرقوا عيسى في بعض الليل، ونصبوا خشبة ليصلبوه، فأظلمت الأرض، فأرسل الله الملائكة فحالت بينهم وبينه، فجمع عيسى الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة، فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، فأتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال لهم: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه. ولما دخل البيت ألقى الله عليه شبه عيسى، فرفع عيسى وأخذ الذي دلهم عليه فقال: أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وقتلوه وصلبوه، وهم يظنون أنه عيسى، فلما صلب شبه عيسى، جاءت مريم أم عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأها الله من الجنون تبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى عليه السلام فقال لهما: علام تبكيان؟ إن الله تعالى قد رفعني ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبه لهم، فلما كان بعد سبعة أيام قال الله عز وجل لعيسى عليه السلام: اهبط على مريم المجدلانية اسم موضع في جبلها، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحزن حزنها ثم ليجتمع لك الحواريون فبثهم في الأرض دعاة إلى الله عز وجل فأهبطه الله عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورًا، فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله عز وجل إليه وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى، فلما أصبح الحواريون حدَّث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم فذلك قوله تعالى ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه وَاللَّه خَيْر الْمَاكِرِينَ )

وقال السدي : إن اليهود حبسوا عيسى في بيت وعشرة من الحواريين فدخل عليهم رجل منهم فألقى الله عليه شبهه، وقال قتادة ذكر لنا أن نبي الله عيسى عليه السلام قال لأصحابه أيكم يقذف عليه شبهي فإنه مقتول، فقال رجل من القوم: أنا يا نبي الله فقتل ذلك الرجل ومنع الله عيسى عليه السلام ورفعه إليه وكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش، وكان إنسيا ملكيا سمائيا أرضيا، قال أهل التواريخ: حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وولدت عيسى ببيت لحم من أرض أوري شلم لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل فأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة، ورفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين، وعاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين.

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 55 )

( إِذْ قَالَ اللَّه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ) اختلفوا في بعض التوفي هاهنا، قال الحسن والكلبي وابن جريج: إني قابضك ورافعك في الدنيا إليَّ من غير موت، يدل عليه قوله تعالى: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ( 117 - المائدة ) أي قبضتني إلى السماء وأنا حي، لأن قومه إنما تنصروا بعد رفعه إلى السماء لا بعد موته، فعلى هذا للتوفي تأويلان، أحدهما: إني رافعك إلي وافيًا لم ينالوا منك شيئا، من قولهم توفيت كذا واستوفيته إذا أخذته تامًا والآخر: أني [ متسلمك ] من قولهم توفيت منه كذا أي تسلمته، وقال الربيع بن أنس: المراد بالتوفي النوم [ وكل ذي عين نائم ] وكان عيسى قد نام فرفعه الله نائما إلى السماء، معناه: أني منومك ورافعك إلي كما قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ( 60 - الأنعام ) أي ينيمكم.

وقال بعضهم: المراد بالتوفي الموت، روي [ عن ] علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه: أني مميتك يدل عليه قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ( 11 - السجدة ) فعلى هذا له تأويلان: أحدهما ما قاله وهب: توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم رفعه الله إليه، وقال محمد بن إسحاق: إن النصارى يزعمون أن الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه، والآخر ما قاله الضحاك وجماعة: إن في هذه الآية تقديمًا وتأخيرًا معناه أني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنـزالك من السماء.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، أخبرنا علي بن الجعد، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « والذي نفس محمد بيده ليوشكن أن ينـزل فيكم ابن مريم حكمًا عادلا يكسر الصليب، ويقتل الخنـزير ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد » .

ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في نـزول عيسى عليه السلام قال: « وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون » .

وقيل للحسين بن الفضل هل تجد نـزول عيسى في القرآن؟ قال نعم: وَكَهْلا ولم يكتهل في الدنيا وإنما معناه وكهلا بعد نـزوله من السماء.

قوله تعالى: ( وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي مخرجك من بينهم ومنجيك منهم ( وَجَاعِل الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) قال قتادة والربيع والشعبي ومقاتل والكلبي: هم أهل الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينه في التوحيد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهو فوق الذين كفروا ظاهرين قاهرين بالعزة والمنعة والحجة، وقال الضحاك: يعني الحواريين فوق الذين كفروا، وقيل: هم أهل الروم، وقيل: أراد بهم النصارى فهم فوق اليهود إلى يوم القيامة، فإن اليهود قد ذهب ملكهم، وملك النصارى دائم إلى قريب من قيام الساعة، فعلى هذا يكون الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين. ( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ) في الآخرة ( فَأَحْكُم بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) من أمر الدين وأمر عيسى .

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 56 ) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( 57 ) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( 58 ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 59 ) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 60 )

( فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا ) بالقتل والسبي والجزية والذلة ( وَالآخِرَةِ ) أي وفي الآخرة بالنار ( وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ )

( وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ) قرأ الحسن وحفص بالياء، والباقون بالنون أي نوفي أجور أعمالهم ( وَاللَّه لا يُحِبّ الظَّالِمِينَ ) أي لا يرحم الكافرين ولا يثني عليهم بالجميل.

قوله تعالى : ( ذَلِكَ ) أي هذا الذي ذكرته لك من الخبر عن عيسى ومريم والحواريين ( نَتْلُوه عَلَيْكَ ) [ نخبرك به بتلاوة جبريل عليك ] ( مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ) يعني القرآن والذكر ذي الحكمة، وقال مقاتل: الذكر الحكيم أي المحكم الممنوع من الباطل وقيل: الذكر الحكيم هو اللوح المحفوظ، وهو معلق بالعرش من درة بيضاء. وقيل من الآيات أي العلامات الدالة على نبوتك لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارئ كتاب أو من يوحى إليه وأنت أمي لا تقرأ .

قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ) الآية نـزلت في وفد نجران وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك تشتم صاحبنا؟ قال: وما أقول ? قالوا: تقول إنه عبد الله قال: أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فأنـزل الله تعالى ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ ) في كونه خلقه من غير أب كمثل آدم لأنه خُلق من غير أب وأم ( خَلَقَه مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ ) يعني لعيسى عليه السلام ( كُنْ فَيَكُونُ ) يعني فكان فإن قيل ما معنى قوله ( خَلَقَه مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَه كُنْ فَيَكُونُ ) ولا تكوين بعد الخلق؟ قيل معناه ثم خلقه ثم أخبركم أني قلت له: كن فكان من غير ترتيب في الخلق كما يكون في الولادة وهو مثل قول الرجل: أعطيتك اليوم درهما ثم أعطيتك أمس درهما أي ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهما. وفيما سبق من التمثيل دليل على جواز القياس لأن القياس هو رد فرع إلى أصل بنوع شبه وقد رد الله تعالى خلق عيسى إلى آدم عليهم السلام بنوع شبه.

قوله تعالى : ( الْحَقّ مِنْ رَبِّكَ ) أي هو الحق وقيل جاءك الحق من ربك ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) الشاكين , الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( 61 )

قوله عز وجل: ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ ) أي جادلك في عيسى أو في الحق ( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ) بأن عيسى عبد الله ورسوله ( فَقُلْ تَعَالَوْا ) وأصله تعاليوا تفاعلوا من العلو فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، قال الفراء: بمعنى تعال كأنه يقول: ارتفع. قوله ( نَدْعُ ) جزم لجواب الأمر وعلامة الجزم سقوط الواو ( أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) قيل: أبناءنا أراد الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة. وأنفسنا عنى نفسه وعليا رضي الله عنه والعرب تسمي ابن عم الرجل نفسه، كما قال الله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ( 11 - الحجرات ) يريد إخوانكم وقيل هو على العموم الجماعة أهل الدين ( ثُمَّ نَبْتَهِلْ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي نتضرع في الدعاء، وقال الكلبي: نجتهد ونبالغ في الدعاء، وقال الكسائي وأبو عبيدة: نلتعن والابتهال الالتعان يقال: عليه بهلة الله أي لعنته: ( فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) منا ومنكم في أمر عيسى، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غدا، فخلا بعضهم ببعض فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ قال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدًا نبي مرسل، والله ما لاعن قوم نبيًا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم ذلك لنهلكن فإن أبيتم إلا الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضنا للحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول لهم: « إذا أنا دعوت فأمنوا » فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض منكم نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا يا أبا القاسم: قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونثبت على ديننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم » فأبوا فقال: « فإني أنابذكم » فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكنا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ألفًا في صفر وألفًا في رجب، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال: « والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا » .

 

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 62 ) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( 63 ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( 64 )

قال الله تعالى: ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَص الْحَقُّ ) النبأ الحق ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ ) و « من » صلة تقديره وما إله إلا الله ( وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيمُ )

( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أعرضوا عن الإيمان ( فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ) الذين يعبدون غير الله، ويدعون الناس إلى عبادة غير الله.

قوله تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) الآية قال المفسرون: قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا في إبراهيم عليه السلام، فزعمت النصارى أنه كان نصرانيا وهم على دينه وأولى الناس به، وقالت اليهود: بل كان يهوديا وهم على دينه وأولى الناس به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان إبراهيم حنيفا مسلما وأنا على دينه فاتبعوا دينه دين الإسلام، فقالت اليهود: يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى ربا، وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير، فأنـزل الله تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ ) والعرب تسمي كل قصة لها شرح كلمة ومنه سميت القصيدة كلمة ( سَوَاءٍ ) عدل بيننا وبينكم مستوية، أي أمر مستو يقال: دعا فلان إلى السواء، أي إلى النصفة، وسواء كل شيء وسطه ومنه قوله تعالى: فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ( 55 - الصافات ) وإنما قيل للنصف سواء لأن أعدل الأمور وأفضلها أوسطها وسواء نعت لكلمة إلا أنه مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث، فإذا فتحت السين مددت، وإذا كسرت أو ضممت قصرت كقوله تعالى: مَكَانًا سُوًى ( 58 - طه ) ثم فسر الكلمة فقال: ( أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ ) ومحل أن رفع على إضمار هي، وقال الزجاج: رفع بالابتداء، وقيل: محله نصب بنـزع حرف الصفة معناه بأن لا نعبد إلا الله وقيل: محله خفض بدلا من الكلمة أي تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله ( وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) كما فعلت اليهود والنصارى، قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ( 31 - التوبة ) وقال عكرمة: هو سجود بعضهم لبعض، أي لا تسجدوا لغير الله، وقيل: معناه لا نطيع أحدا في معصية الله ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا ) فقولوا أنتم لهم اشهدوا ( بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) مخلصون بالتوحيد.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهو بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ودعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية بن خليفة الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا هو :

« بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الإريسيين ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) . »

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 65 ) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 66 )

قوله تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْـزِلَتِ التَّوْرَاة وَالإنْجِيل إِلا مِنْ بَعْدِهِ ) تزعمون أنه كان على دينكم، وإنما دينكم اليهودية والنصرانية، وقد حدثت اليهودية بعد نـزول التوراة والنصرانية بعد نـزول الإنجيل، وإنما أنـزلت التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم بزمان طويل، وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى ألفا سنة ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) بطلان قولكم؟

قوله تعالى: ( هَا أَنْتُمْ ) بتليين الهمزة حيث كان مدني، وأبو عمرو والباقون بالهمز، واختلفوا في أصله فقال بعضهم: أصله: أأنتم وها تنبيه وقال الأخفش: أصله أأنتم فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم هرقت الماء وأرقت ( هَؤُلاءِ ) أصله أولاء دخلت عليه هاء التنبيه وهي في موضع النداء، يعني يا هؤلاء أنتم ( حَاجَجْتُمْ ) جادلتم ( فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ) يعني في أمر موسى وعيسى وادعيتم أنكم على دينهما وقد أنـزلت التوراة والإنجيل عليكم ( فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا ليس لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ) وليس في كتابكم أنه كان يهوديا أو نصرانيا، وقيل حاججتم فيما لكم به علم يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم وجدوا نعته في كتابهم، فجادلوا فيه بالباطل، فلم تحاجّون في إبراهيم وليس في كتابكم، ولا علم لكم به؟ ( وَاللَّه يَعْلَم وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ثم برَّأ الله تعالى إبراهيم مما قالوا: فقال:

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 67 ) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ( 68 )

( مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) والحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى الدين المستقيم، وقيل: الحنيف: الذي يوحِّد ويحج ويضحي ويختن ويستقبل الكعبة. وهو أسهل الأديان وأحبها إلى الله عز وجل.

قوله تعالى: ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) أي: من اتبعه في زمانه، ( وَهَذَا النَّبِيُّ ) يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) معه، يعني من هذه الأمة ( وَاللَّه وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ )

روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ورواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب بإسناده، حديث هجرة الحبشة، لما هاجر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان من أمر بدر ما كان فاجتمعت قريش في دار الندوة وقالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثأرًا ممن قتل منكم ببدر، فاجمعوا مالا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ولينتدب لذلك رجلان من ذوي رأيكم فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد مع الهدايا الأدم وغيره، فركبا البحر وأتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له: إن قومنا لك ناصحون شاكرون ولصلاحك محبون وإنهم بعثونا إليك لنحذِّرك هؤلاء الذين قدموا عليك، لأنهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء، وإنا كنا قد ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد، ولا يخرج منهم أحد قد قتلهم الجوع والعطش فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم، وقالا وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يُحَيُّونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك، قال: فدعاهم النجاشي فلما حضروا، صاح جعفر بالباب: يستأذن عليك حزب الله، فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه، ففعل جعفر فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته، فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال: ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به النجاشي، فساءهما ذلك ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له، فقال عمرو بن العاص: ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك، فقال لهم النجاشي: ما منعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا: نسجد لله الذي خلقك وملَّكك، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان، فبعث الله فينا نبيا صادقا فأمرنا بالتحية التي رضيها الله وهي السلام تحية أهل الجنة، فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل قال: أيكم الهاتف: يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر: أنا، قال: فتكلم، قال: إنك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا. فقال عمرو لجعفر: تكلم، فقال جعفر للنجاشي: سل هذين الرجلين أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا أَبَقْنَا من أربابنا فارددنا إليهم، فقال النجاشي: أعبيد هم أم أحرار؟ فقال عمرو: بل أحرار كرام، فقال النجاشي: نجوا من العبودية. ثم قال جعفر: سلهما هل أهرقنا دما بغير حق فيقتص منا؟ قال النجاشي: إن كان قنطارا فعلي قضاؤه، فقال عمرو: لا ولا قيراطًا، قال النجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو: كنا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا فتركوا ذلك وابتغوا غيره فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا، فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعتموه أصدقني، قال جعفر: أما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان، كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة، وأما الدين الذي تحوَّلنا إليه فدين الله الإسلام جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب عيسى ابن مريم موافقا له، فقال النجاشي: يا جعفر تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك، ثم أمر النجاشي فضرب بالناقوس فاجتمع إليه كل قسيس وراهب، فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي: أنشدكم الله الذي أنـزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيًا مرسلا فقالوا: اللهم نعم، قد بشرنا به عيسى وقال: من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي، فقال النجاشي لجعفر: ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه؟ فقال: يقرأ علينا كتاب الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ويأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له، فقال: اقرأ علي مما يقرأ عليكم فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع وقالوا: زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فأراد عمرو أن يُغْضب النجاشي فقال: إنهم يشتمون عيسى وأمه، فقال النجاشي: ما تقولون في عيسى وأمه فقرأ عليهم سورة مريم فلما أتى جعفر على ذكر مريم وعيسى عليهما السلام رفع النجاشي نُفثَهُ من سواكه قدر ما تُقْذَى العين فقال: والله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا، ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي [ يقول ] : آمنون من سبكم أو آذاكم غرم، ثم قال: أبشروا ولا تخافوا فلا دَهْوَرة اليوم على حزب إبراهيم، قال عمرو: يا نجاشي ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن تبعهم. فأنكر ذلك المشركون وادعوا في دين إبراهيم، ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال: إنما هديتكم لي رشوة فاقبضوها فإن الله ملَّكني ولم يأخذ مني رشوة، قال جعفر: فانصرفنا فكنا في خير دار وأكرم جوار، وأنـزل الله تعالى ذلك اليوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومتهم في إبراهيم وهو بالمدينة قوله عز وجل ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه وَهَذَا النَّبِيّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّه وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ ) .

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 69 ) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ( 70 )

قوله عز وجل ( وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) نـزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود إلى دينهم، فنـزلت ( وَدَّتْ طَائِفَةٌ ) [ تمنت جماعة من أهل الكتاب ] يعني اليهود ( لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ) عن دينكم ويردونكم إلى الكفر ( وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )

( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ) يعني القرآن وبيان نعت محمد صلى الله عليه وسلم ( وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ) أن نعته في التوراة والإنجيل مذكور.

 

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 71 ) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 72 )

( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ) تخلطون الإسلام باليهودية والنصرانية، وقيل: لم تخلطون الإيمان بعيسى عليه السلام وهو الحق بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الباطل؟ وقيل: التوراة التي أنـزلت على موسى بالباطل الذي حرفتموه وكتبتموه بأيديكم ( وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ودينه حق.

قوله تعالى ( وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا ) الآية. قال الحسن والسدي : تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عيينة وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد ثم اكفروا آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدًا ليس بذلك، وظهر لنا كذبه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم واتهموه وقالوا: إنهم أهل الكتاب وهم أعلم منَّا به فيرجعون عن دينهم .

وقال مجاهد ومقاتل والكلبي هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود، فقال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بالذي أنـزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم فيرجعون إلى قبلتنا، فأطلع الله تعالى رسوله على سرهم وأنـزل ( وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ ) أوله سمي وجهًا لأنه أحسنه وأول ما يواجه الناظر فيراه ( وَاكْفُرُوا آخِرَه لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) فيشكون ويرجعون عن دينهم.

وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 73 )

قوله تعالى ( وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ) هذا متصل بالأول من قول اليهود بعضهم لبعض ( وَلا تُؤْمِنُوا ) أي لا تصدقوا ( إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ) وافق ملتكم واللام في « لمن » صلة، أي لا تصدقوا إلا من تبع دينكم اليهودية كقوله تعالى: قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ ( 72 - النمل ) أي: ردفكم. ( قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ) هذا خبر من الله عز وجل أن البيان بيانه ثم اختلفوا: فمنهم من قال: كلام معترض بين كلامين، وما بعده متصل بالكلام الأول، إخبار عن قول اليهود بعضهم لبعض، ومعناه: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والكتاب والحكمة والآيات من المنِّ والسلوى وفَلْق البحر وغيرها من الكرامات. ولا تؤمنوا أن يحاجّوكم عند ربكم لأنكم أصح دينًا منهم. وهذا معنى قول مجاهد.

وقيل: إن اليهود قالت لسفلتهم ( وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ) ( أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ) من العلم أي: لئلا يؤتى أحد، و « لا » فيه مضمرة، كقوله تعالى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ( النساء :176 ) أي: لئلا تضلوا، يقول: لا تصدقوهم لئلا يعلموا مثل ما علمتم فيكون لكم الفضل عليهم في العلم، ولئلا يحاجوكم عند ربكم فيقولوا: عرفتم أن ديننا حق، وهذا معنى قول ابن جريج.

وقرأ الحسن والأعمش ( إنْ يُؤْتَى ) بكسر الألف، فيكون قول اليهود تامًا عند قوله: ( إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ) وما بعده من قول الله تعالى يقول: قل يا محمد ( إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى ) أن بمعنى الجحد، أي ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ( أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ) يعني: إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولوا: نحن أفضل منكم، فقوله عز وجل ( عِنْدَ رَبِّكُمْ ) أي عند فضل ربكم بكم ذلك، وهذا معنى قول سعيد بن جبير والحسن والكلبي ومقاتل. وقال الفراء: ويجوز أن يكون أو بمعنى حتى كما يقال: تعلق به أو يعطيك حقك أي حتى يعطيك حقك، ومعنى الآية: ما أعطي أحد مثل ما أعطيتم يا أمة محمد من الدين والحجة حتى يحاجوكم عند ربكم.

وقرأ ابن كثير ( آنْ يُؤْتَى ) بالمد على الاستفهام وحينئذ يكون فيه اختصار تقديره: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة تحسدونه ولا تؤمنون به، هذا قول قتادة والربيع وقالا هذا من قول الله تعالى يقول: قل لهم يا محمد ( إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ) بأن أنـزل كتابا مثل كتابكم وبعث نبيًا حسدتموه وكفرتم به.

( قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَاللَّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) قوله أو يحاجوكم على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين وتكون « أو » بمعنى أن لأنهما حرفا شرط وجزاء يوضع أحدهما موضع الآخر أي وإن يحاجوكم يا معشر المؤمنين عند ربكم فقل يا محمد : إن الهدى هدى الله ونحن عليه، ويجوز أن يكون الجميع خطابا للمؤمنين، ويكون نظم الآية : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر المؤمنين حسدوكم فقل ( إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ ) وإن حاجوكم ( قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ )

ويجوز أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) وقوله تعالى: ( وَلا تُؤْمِنُوا ) كلام الله يثبِّت به قلوب المؤمنين لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم، يقول لا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلا من تبع دينكم، ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين والفضل، ولا تصدقوا أن يحاجوكم في دينكم عند ربكم أو يقدروا على ذلك فإن الهدى هدى الله، و ( إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) فتكون الآية كلها خطاب الله للمؤمنين عند تلبيس اليهود لئلا يرتابوا .

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 74 ) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 75 )

قوله تعالى: ( يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ ) أي بنبوته ( مَنْ يَشَاء وَاللَّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )

قوله تعالى: ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْه بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ) الآية نـزلت في اليهود أخبر الله تعالى أن فيهم أمانة وخيانة، والقنطار عبارة عن المال الكثير، والدينار عبارة عن المال القليل، يقول: منهم من يؤدي الأمانة وإن كثرت، ومنهم من لا يؤديها وإن قلت قال مقاتل: ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْه بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ) هم مؤمنو أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه، ( وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْه بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ) يعني: كفار اليهود، ككعب بن الأشرف وأصحابه، وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله عز وجل ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْه بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ) يعني: عبد الله بن سلام، أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأدَّاها إليه، ( وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْه بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ) يعني: فنحاص بن عازُورَاء، استودعه رجل من قريش دينارا فخانه، قوله ( يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ) قرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة ( يُؤَدِّهْ ) ( لا يُؤدهْ ) و ( نُصْلهْ ) و ( نُؤتِهْ ) و ( نُولِّهْ ) ساكنة الهاء وقرأ أبو جعفر وقالون ويعقوب بالاختلاس كسرا، والباقون بالإشباع كسرا، فمن سكن الهاء قال لأنها وضعت في موضع الجزم وهو الياء الذاهبة، ومن اختلس فاكتفى بالكسرة عن الياء، ومن أشبع فعلى الأصل، لأن الأصل في الهاء الإشباع، ( إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ) قال ابن عباس مُلِحًّا يريد يقوم عليه يطالبه بالإلحاح، وقال الضحاك: مواظبًا أي تواظب عليه بالاقتضاء، وقيل: أراد أودعته ثم استرجعته وأنت قائم على رأسه ولم تفارقه ردّه إليك، فإن فارقته وأخرته أنكره ولم يؤدهِ ( ذَلِكَ ) أي : ذلك الاستحلال والخيانة، ( بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) أي : في مال العرب إثم وحَرَجٌ كقوله تعالى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وذلك أن اليهود قالوا: أموال العرب حلال لنا، لأنهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم في كتابنا، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم.

وقال الكلبي: قالت اليهود إن الأموال كلها كانت لنا فما في يد العرب منها فهو لنا وإنما ظلمونا وغصبونا فلا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم.

وقال الحسن وابن جريج ومقاتل: بايع اليهود رجالا من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم بقية أموالهم فقالوا: ليس لكم علينا حق، ولا عندنا قضاء لأنكم تركتم دينكم، وانقطع العهد بيننا وبينكم وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتبهم فكذبهم الله عز وجل وقال عز من قائل: ( وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ثم قال ردا عليهم:

بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( 76 )

( بَلَى ) أي: ليس كما قالوا بل عليهم سبيل، ثم ابتدأ فقال ( مَنْ أَوْفَى ) أي: ولكن من أوفى ( بِعَهْدِهِ ) أي: بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وأداء الأمانة، وقيل: الهاء في عهده راجعة إلى الموفي ( وَاتَّقَى ) الكفر والخيانة ونقض العهد، ( فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبّ الْمُتَّقِينَ )

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا قبيصة بن عقبة، أنا سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مُرّة عن مسروق عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خَصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر » .

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 77 )

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا ) قال عكرمة : نـزلت في رءوس اليهود، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم وبدّلوه وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا أنه من عند الله لئلا يفوتهم المآكل والرشا التي كانت لهم من أتْباعهم.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا موسى بن إسماعيل، أنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من حلف علي يمين صَبْرٍ يقتطع بها مالَ امرِئٍ مسلم لقيَ الله يومَ القيامة وهو عليه غضبان » فأنـزل الله تعالى تصديق ذلك ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا ) إلى آخر الآية، فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ فقالوا: كذا وكذا، فقال: فيّ أنـزلتْ كانتْ لي بئرٌ في أرض ابن عم لي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثتهُ فقال: « هات بينتَكَ أو يمينه » قلت: إذًا يحلفُ عليها يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من حلف على يمين صَبْرٍ وهو فيها فاجرٌ يقتطع بها مالَ امرئٍ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان » .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا قتيبة بن سعيد أنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل بن حجر، عن أبيه قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كِنْدة إلى النبي، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها، ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: « ألك بينة » ؟ قال: لا قال: « فلك يمينه » قال: يا رسول الله إن الرجل فاجرٌ لا يبالي على ما يحلف عليه، قال: « ليس لك منه إلا ذلك » فانطلق ليحلف له، فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمَا لَئِن حلف على ماله ليأكله ظلما ليَلْقَيَنَّ الله وهو عنه مُعْرِض » ورواه عبد الملك بن عمير عن علقمة، وقال هو امرؤ القيس بن عابس الكندي وخصمه ربيعة بن عبدان.

وروي لما همّ أن يحلف نـزلت هذه الآية فامتنع امرؤ القيس أن يحلف، وأقر لخصمه بحقه ودفعه إليه. أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي، أنا أبو مصعب عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن سعيد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من اقتطع حقَّ امرئٍ مسلم بيمينه حرّم الله عليه الجنة وأوجب له النار » قالوا: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: « وإن كان قضيبا من أراك » قالها ثلاث مرات .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمرو بن محمد، أنا هشيم بن محمد أنا العوام بن حوشب عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي أوفى أنّ رجلا أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أُعطي بها ما لم يعط ليُوقع فيها رجلا من المسلمين، فنـزلت: ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ ) أي: يستبدلون ( بِعَهْدِ اللَّهِ ) وأراد الأمانة، ( وَأَيْمَانِهِمْ ) الكاذبة ( ثَمَنًا قَلِيلا ) أي: شيئا قليلا من حطام الدنيا، ( أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ ) لا نصيب لهم ( فِي الآخِرَةِ ) ونعيمها، ( وَلا يُكَلِّمُهُم اللَّهُ ) كلاما ينفعهم ويسرهم، وقيل: هو بمعنى الغضب، كما يقول الرجل: إني لا أكلم فلانا إذا كان غضب عليه، ( وَلا يَنْظُر إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أي: لا يرحمهم ولا يحسن إليهم ولا يُنيلهم خيرًا، ( وَلا يُزَكِّيهِمْ ) أي: لا يثني عليهم بالجميل ولا يطهرهم من الذنوب، ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغفار بن محمد الفارسي، أنا محمد بن عيسى الجلودي، أنا إبراهيم بن محمد، أنا سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا محمد بن جعفر، عن شعبة عن علي بن مُدرك عن أبي زرعة عن خرشة بن الحر عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم » قال: قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال أبو ذر: خابوا وخسروا مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: « المُسبل والمنّان والمنفق سلعته بالحَلِف الكاذب » في رواية: « المسبل إزاره » .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أسيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي أنا أبو نصر محمد بن حمدويه المروزي، أنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل حلف يمينا على مال مسلم فاقتطعه، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد صلاة العصر أنه أعطي بسلعته أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل منع فضل مالهِ فإن الله تعالى يقول: اليوم أمنعك فضل ما لم تعمل يداك » .

 

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 78 ) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ( 79 )

قوله تعالى: ( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا ) يعني: من أهل الكتاب لفريقا أي: طائفة، وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحييّ بن أخطب وأبو ياسر وشعبة بن عمر الشاعر، ( يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ ) أي: يعطفون ألسنتهم بالتحريف والتغيير وهو ما غيروا من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك، يقال: لوى لسانه على كذا أي: غيره، ( لِتَحْسَبُوهُ ) أي: لتظنوا ما حرفوا ( مِنَ الْكِتَابِ ) الذي أنـزله الله تعالى، ( وما هو من الكتاب وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ) عمدًا، ( وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) أنهم كاذبون، وقال الضحاك عن ابن عباس: إن الآية نـزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرَّفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه.

قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَه اللَّه الْكِتَابَ ) الآية قال مقاتل والضحاك: ما كان لبشر يعني: عيسى عليه السلام، وذلك أن نصارى نجران كانوا يقولون: إن عيسى أمرهم أن يتخذوه ربًّا فقال تعالى: ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ ) يعني: عيسى ( أَنْ يُؤْتِيَه اللَّه الْكِتَابَ ) الإنجيل .

وقال ابن عباس وعطاء: ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ ) يعني محمدا ( أَنْ يُؤْتِيَه اللَّه الْكِتَابَ ) أي القرآن، وذلك أن أبا رافع القرظي من اليهود، والرئيس من نصارى أهل نجران قالا يا محمد تريد أن نعبدك ونتخذك ربًّا فقال: معاذ الله أن نأمر بعبادة غير الله ما بذلك أمرني الله، ولا بذلك أمرني فأنـزل الله تعالى هذه الآية ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ ) أي ما ينبغي لبشر، كقوله تعالى: مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا ( سورة النور الآية: 16 ) أي ما ينبغي لنا، والبشر: جميع بني آدم لا واحد له من لفظه، كالقوم والجيش ويوضع موضع الواحد والجمع، ( أَنْ يُؤْتِيَه اللَّه الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ ) الفهم والعلم وقيل: إمضاء الحكم عن الله عز وجل، ( وَالنُّبُوَّةَ ) المنـزلة الرفيعة بالأنبياء، ( ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا ) أي: ولكن يقول كونوا، ( رَبَّانِيِّينَ )

واختلفوا فيه قال علي وابن عباس والحسن: كونوا فقهاء علماء وقال قتادة: حكماء وعلماء وقال سعيد بن جبير: العالم الذي يعمل بعلمه، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: فقهاء معلمين.

وقيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وقال عطاء: علماء حكماء نُصحاء لله في خلقه، قال أبو عبيدة: سمعت رجلا عالمًا يقول: الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي، العالم بأنباء الأمة ما كان وما يكون، وقيل: الربانيون فوق الأحبار، والأحبار: العلماء، والربانيون: الذين جمعوا مع العلم البصارة بسياسة الناس.

قال المؤرّج : كونوا ربانيين تدينون لربكم، من الربوبية، كان في الأصل رَبيّ فأدخلت الألف للتفخيم، ثم أدخلت النون لسكون الألف، كما قيل: صنعاني وبهراني.

وقال المبرد: هم أرباب العلم سُموا به لأنهم يربون العلم، ويقومون به ويربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها، وكل من قام بإصلاح شيء وإتمامه فقد ربَّه يربه، واحدها: « ربان » ( كما قالوا: ريان ) وعطشان وشبعان وعُريان ثم ضُمت إليه ياء النسبة كما قالوا: لحياني ورقباني.

وحكي عن علي رضي الله عنه أنه قال: هو الذي يرب علمه بعمله ، قال محمد بن الحنفية لما مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة. ( بِمَا كُنْتُمْ ) أي: بما أنتم، كقوله تعالى: مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ( سورة مريم الآية 29 ) أي: من هو في المهد ( تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ ) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي « تعلِّمُون » بالتشديد من التعليم وقرأ الآخرون « تعلَمُون » بالتخفيف من العلم كقوله: ( وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ) أي: تقرؤون.

وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( 80 ) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( 81 )

قوله ( وَلا يَأْمُرَكُمْ ) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ويعقوب بنصب الراء عطفا على قوله: ثم يقول، فيكون مردودا على البشر، أي: ولا يأمُرَ ذلك البشر، وقيل: على إضمار « أن » أي: ولا أن يأمُرَكم ذلك البشر، وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف، معناه: ولا يأمُرُكم الله، وقال ابن جريج وجماعة: ولا يأمرُكم محمد، ( أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ) كفعل قريش والصابئين حيث قالوا: الملائكة بنات الله واليهود والنصارى حيث قالوا في المسيح وعُزير ما قالوا، ( أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) قاله على طريق التعجب والإنكار، يعني: لا يقول هذا.

قوله عز وجل: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ) قرأ حمزة « لما » بكسر اللام وقرأ الآخرون بفتحها فمن كسر اللام فهي لام الإضافة دخلت على ما، ومعناه الذي يريد للذي آتيتكم أي: أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي آتاهم من الكتاب والحكمة يعني أنهم أصحاب الشرائع ومن فتح اللام فمعناه: للذي آتيتكم بمعنى الخبر وقيل: بمعنى الجزاء أي: لئن آتيتكم ومهما آتيتكم وجواب الجزاء قوله ( لَتُؤْمِنُنَّ )

قوله: ( لَمَا آتَيْتُكُمْ ) قرأ نافع وأهل المدينة « آتيناكم » على التعظيم كما قال: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ( النساء :163 ) وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ( سورة مريم 12 ) وقرأ الآخرون بالتاء لموافقة الخط ولقوله: ( وَأَنَا مَعَكُمْ )

واختلفوا في المَعْنِىِّ بهذه الآية: فذهب قوم إلى أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين خاصة أن يُبلِّغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده، وأن يُصدِّق بعضهم بعضًا وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه، وإن لم يدركه أن يأمرَ قومَه بنصرته إن أدركوه، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.

( وقال الآخرون: بما أخذ الله الميثاق منهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ) فعلى هذا اختلفوا: منهم من قال: إنما أخذ الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسَل منهم النبيين، وهذا قول مجاهد والربيع، ألا ترى إلى قوله ( ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ) وإنما كان محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثًا إلى أهل الكتاب دون النبيين يدل عليه أن في قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) وأما القراءة المعروفة ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ) فأراد: أن الله أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا الميثاق على أممهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويُصدِّقوه وينصروه إن أدركوه.

وقال بعضهم: أراد أخذ الله الميثاق على النبيين، وأممهم جميعا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد مع المتبوع عهد على الأتباع، وهذا معنى قول ابن عباس، وقال علي بن أبي طالب: لم يبعث الله نبيا آدم ومن بعده إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد، وأخذ العهد على قومه ليؤمِنُنَّ به ولئن بُعث وهم أحياء لينصرنه.

قوله: ( ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم، ( لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ) يقول الله تعالى للأنبياء حين استخرج الذرية من صلب آدم عليه السلام، والأنبياء فيهم كالمصابيح والسرج، وأخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ( قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ) أي: قبلتم على ذلكم عهدي، والإصر: العهد الثقيل، ( قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ ) الله تعالى: ( فَاشْهَدُوا ) أي: فاشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم، ( وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) عليكم وعليهم، وقال ابن عباس: فاشهدوا، أي: فاعلموا، وقال سعيد بن المسيب قال الله تعالى للملائكة فاشهدوا عليهم كنايةً عن غير مذكور.

فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 82 )

( فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ ) الإقرار، ( فَأُولَئِكَ هُم الْفَاسِقُونَ ) العاصون الخارجون عن الإيمان.

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( 83 )

قوله عز وجل: ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ) وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فادّعى كل واحد أنه على دين إبراهيم عليه السلام واختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم عليه السلام » فغضبوا وقالوا: لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فأنـزل الله تعالى: ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ) قرأ أبو جعفر وأهل البصرة وحفص عن عاصم ( يَبْغُون ) بالياء لقوله تعالى ( وَأُولَئِكَ هُم الْفَاسِقُونَ ) وقرأ الآخرون بالتاء لقوله تعالى لَمَا آتَيْتُكُمْ ، ( وَلَه أَسْلَمَ ) خضع وانقاد، ( مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ) فالطوع: الانقياد والاتباع بسهولة، والكره: ما كان بمشقة وإباءٍ من النفس.

واختلفوا في قوله ( طَوْعًا وَكَرْهًا ) قال الحسن : أسلم أهل السماوات طوعا وأسلم من في الأرض بعضهم طوعا وبعضهم كرها، خوفا من السيف والسبي، وقال مجاهد: طوعا المؤمن، وكرها ذلك الكافر، بدليل: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ( الرعد: 15 ) وقيل: هذا يوم الميثاق حين قال لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ( الأعراف: 172 ) فقال بعضهم: طوعا وبعضهم: كرها، وقال قتادة: المؤمن أسلم طوعا فنفعه، والكافر أسلم كرها في وقت البأس فلم ينفعه، قال الله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ( غافر: 85 ) وقال الشعبي: هو استعاذتهم به عند اضطرارهم كما قال الله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ( العنكبوت: 65 ) .

وقال الكلبي: طوعا الذي ( ولد ) في الإسلام، وكرها الذين أجبروا على الإسلام ممن يُسبى منهم فيجاء بهم في السلاسل، ( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) قرأ بالياء حفص عن عاصم ويعقوب كما قرأ ( يَبْغُونَ ) بالياء وقرأ الباقون بالتاء فيهما إلا أبا عمرو فإنه قرأ ( يَبْغُونَ ) بالياء و ( تُرْجَعُونَ ) بالتاء، وقال: لأن الأول خاص والثاني عام، لأن مرجع جميع الخلق إلى الله عز وجل.

 

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 84 ) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 85 ) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 86 ) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 87 ) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ( 88 ) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 89 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ( 90 )

قوله تعالى: ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّق بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْن لَه مُسْلِمُونَ ) ذكر الملل والأديان واضطراب الناس فيها، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: ( آمَنَّا بِاللَّهِ ) الآية.

قوله: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) نـزلت في اثني عشر رجلا ارتدُّوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا، منهم الحارث بن سويد الأنصاري، فنـزلت فيهم ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْه وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )

( كَيْفَ يَهْدِي اللَّه قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ) لفظة استفهام ومعناه جحد، أي: لا يهدي الله، وقيل معناه: كيف يهديهم الله في الآخرة إلى الجنة والثواب ( وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُم الْبَيِّنَات وَاللَّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )

( خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّف عَنْهُم الْعَذَاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) وذلك: أن الحارث بن سويد لما لحق بالكفار ندم، فأرسل إلى قومه: أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لي من توبة؟ ففعلوا ذلك فأنـزل الله تعالى: ( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) لما كان منه، فحملها إليه رجل من قومه وقرأها عليه فقال الحارث: إنك - والله - ما علمت لصدوق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله عز وجل لأصدق الثلاثة، فرجع الحارث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه.

قوله عز وجل: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا ) قال قتادة والحسن: نـزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.

وقال أبو العالية: نـزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما رأوه بعد إيمانهم بنعته وصفته في كتبهم ثم ازدادوا كفرا يعني: ذنوبا في حال كفرهم.

قال مجاهد: نـزلت في جميع الكفار أشركوا بعد إقرارهم بأن الله خالقهم، ثم ازدادُوا كفرا أي: أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه .

قال الحسن: ازدادوا كفرًا كلما نـزلت آية كفروا بها، فازدادوا كفرًا وقيل: ازدادوا كفرًا بقولهم: نتربص بمحمد ريبَ المنون.

قال الكلبي: نـزلت في الأحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد، لما رجع الحارث إلى الإسلام أقاموا هم على الكفر بمكة وقالوا: نقيم على الكفر ما بدا لنا فمتى أردنا الرجعة ينـزل فينا ما نـزل في الحارث، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فمن دخل منهم في الإسلام قُبلت توبتهُ ونـزل فيمن مات منهم كافرا

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ) الآية.

فإن قيل: قد وعد الله قبول توبة من تاب، فما معنى قوله: ( لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُم الضَّالُّونَ ) قيل: لن تُقبل توبتُهم إذا ( رجعوا في حال المعاينة ) كما قال: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ سورة النساء الآية ( 18 ) .

وقيل هذا في أصحاب الحارث بن سويد حيث أمسكوا عن الإسلام، وقالوا: نتربص بمحمد فإن ساعده الزمان نرجع إلى دينه، لن يقبل منهم ذلك لأنهم متربصون غير محققين، وأولئك هم الضالون.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 91 )

قوله عز وجل: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْء الأرْضِ ) أي: قدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها، ( ذَهَبًا ) نصب على التفسير، كقولهم: عشرون درهمًا. ( وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ) قيل: معناه لو افتدى به، والواو زائدة مقحمة، ( أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ )

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن بشار، أخبرنا غندر، أخبرنا شعبة، عن أبي عمران قال: سمعت أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله لأهونِ أهل النار عذابا يوم القيامة: لو أنّ لك ما في الأرض من شيء أكنتَ تفدي به؟ فيقول: نعم فيقول: أردتُ منك أهونَ من ذلك وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي » .

 

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 92 )

قوله تعالى: ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ ) يعني: الجنة، قاله ابن عباس وابن مسعود ومجاهد، وقال مقاتل بن حيان: التقوى، وقيل: الطاعة، وقيل: الخير، وقال الحسن: أن تكونوا أبرارًا.

أخبرنا محمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن حماد قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البِرَّ وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزالُ الرجلُ يصدقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يُكتَبَ عند الله صديقًا، وإياكم والكذبَ فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزالُ الرجلُ يكذبُ ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتبَ عند الله كذابا » .

قوله تعالى: ( حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) أي: من أحبِّ أموالكم إليكم، روى الضحاك عن ابن عباس: أن المراد منه أداء الزكاة.

وقال مجاهد والكلبي: هذه الآية نسختها آية الزكاة، وقال الحسن: كل إنفاق يبتغي به المسلم وجه الله حتى الثمرة ينال به هذا البِّر وقال عطاء: لن تنالوا البِّر أي: شرف الدين والتقوى حتى تتصدقُوا وأنتم أصحاء أشحاء.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول « كان أبو طلحة الأنصاري أكثر أنصاريّ بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بِيْرُحَاء وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّبٍ، قال أنس: فلما نـزلت هذه الآية ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه: ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) وإن أحب أموالي إلي بيرُحاء وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذُخَرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخٍ بخٍ ذلك مالٌ رابح. أو قال: ذلك مال رابح وقد سمعتُ ما قلتَ فيها وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة أفعلُ يا رسول الله فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه » .

وروي عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فُتحتْ فدعا بها فأعجبته، فقال: إن الله عز وجل يقول: ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) فأعتقها عمر .

وعن حمزة بن عبد الله بن عمر قال: خطرت على قلب عبد الله بن عمر هذه الآية ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) قال ابن عمر: فذكرتُ ما أعطاني الله عز وجل، فما كان شيء أعجب إليّ من فلانة، هي حرة لوجه الله تعالى، قال: لولا أنني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها .

( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) أي: يعلمه ويجازي به.