الجزء الرابع

 

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 93 ) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 94 )

قوله تعالى: ( كُلّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ ) سبب نـزول هذه الآية: أن اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تزعم أنك على ملة إبراهيم؟ وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها، فلست على ملته! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كان ذلك حلالا لإبراهيم عليه السلام » فقالوا: كلُّ ما نحرمه اليوم كان ذلك حرامًا على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنـزل الله تعالى هذه الآية ( كُلّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ) يريد: سِوَى الميتة والدم، فإنه لم يكن حلالا قط.

( إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسِهِ ) وهو يعقوب عليه السلام ( مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ ) يعني: ليس الأمر على ما قالوا من حرمة لحوم الإبل وألبانها على إبراهيم، بل كان الكلُّ حلالا له ولبني إسرائيل، وإنما حرّمها إسرائيل على نفسه قبل نـزول التوراة، يعني: ليست في التوراة حرمتُها.

واختلفوا في الطعام الذي حرّمه يعقوب على نفسه وفي سببه، قال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبي: كان ذلك الطعام: لحمان الإبل وألبانها، وروي أن يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سُقْمُه فنذر لئن عافاه الله من سقمه ليُحرِّمَنِّ أحبَّ الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها فحرّمهما.

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك: هي العروق.

وكان السبب في ذلك أنه اشتكى عرق النَّسا وكان أصل وجعه فيما روى جُويبر ومقاتل عن الضحاك: أن يعقوب كان نذر إن وهبه الله اثنى عشر ولدًا وأتى بيت المقدس صحيحًا أن يذبح آخرهم فتلقاه مَلك [ من الملائكة ] فقال: يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع، فعالجه فلم يصرعْ واحدٌ منهما صاحبَه فغمزه المَلك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك، ثم قال له: أمَا إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحًا ذبحت آخر ولدك، فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجًا، فلما قدمها يعقوب أراد ذبح ولده ونسي قول الملَكِ فأتاه الملَكُ وقال: إنما غمزتك للمخرج وقد وُفي نذرُك فلا سبيل لك إلى ولدك .

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو: وكان رجلا بطيشًا قويًا فلقيه ملك فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب، ثم صعد إلى السماء ويعقوب عليه السلام ينظر إليه، فهاج به عرق النسا ولقي من ذلك بلاءً وشدةً وكان لا ينام بالليل من الوجع، ويبيت وله زقاء، أي: صياح، فحلف يعقوب لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقًا ولا طعاما فيه عرق، فحرمه على نفسه، فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق يخرجونها من اللحم.

وروى جُويبر عن الضحاك عن ابن عباس: لمّا أصاب يعقوب عرق النس وصف له الأطباء أن يجتنب لحمان الإبل فحرمها يعقوب على نفسه.

وقال الحسن: حرّم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبدًا لله تعالى: فسأل ربَّه أن يجيز له ذلك فحرمه الله على ولده .

ثم اختلفوا في حال هذا الطعام المحرم على بني إسرائيل بعد نـزول التوراة، وقال السدي: حرّم الله عليهم في التوراة ما كانوا يحرمونه قبل نـزولها، وقال عطية: إنما كان محرّمًا عليهم بتحريم إسرائيل فإنه كان قد قال: لئن عافاني الله لا يأكله لي ولدٌ، ولم يكن محرّمًا عليهم في التوراة، وقال الكلبي: لم يحرمه الله ( عليهم ) في التوراة وإنما حُرم عليهم بعد التوراة بظلمهم، كما قال الله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( سورة النساء الآية 160 ) وقال الله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ إلى أن قال: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( سورة الأنعام الآية ( 146 ) وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبًا عظيمًا حرّم الله عليهم طعامًا طيبًا أو صبّ عليهم رِجْزًا وهو الموت.

وقال الضحاك: لم يكن شيء من ذلك حرامًا عليهم ولا حرمه الله في التوراة، وإنما حرموه على أنفسهم اتّباعًا لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه إلى الله، فكذّبهم الله عز وجل فقال: ( قُلْ ) يا محمد ( فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا ) حتى يتبين أنه كما قلتم، ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) فلم يأتوا. فقال الله عز وجل :

فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون

قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 95 ) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ( 96 ) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( 97 )

( قُلْ صَدَقَ اللَّه فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) وإنما دعاهم إلى اتباع ملة إبراهيم لأن في اتباع ملة إبراهيم اتباعه صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا ) سبب [ نـزول هذه الآية ] أن اليهود قالوا للمسلمين: بيت المقدس قبلتنا، وهو أفضل من الكعبة وأقدم، وهو مهاجر الأنبياء، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل، فأنـزل الله تعالى: ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ )

( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَام إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَه كَانَ آمِنًا ) وليس شيء من هذه الفضائل لبيت المقدس.

واختلف العلماء في قوله تعالى: ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ) فقال بعضهم: هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق [ السماء ] والأرض، خلقه الله قبل الأرض بألفي عام، وكانت زَبْدَةٌ بيضاءَ على الماء فدُحيت الأرض من تحته، هذا قول عبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة والسدي.

وقال بعضهم: هو أول بيت بني في الأرض، رُوي عن علي بن الحسين: أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتًا وهو البيت المعمور، وأمر الملائكة أن يطوفوا به، ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتا على مثاله وقدره، فبنوا واسمه الضراح، وأمر مَنْ في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.

ورُوي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام، وكانوا يحجونه، فلما حجه آدم، قالت الملائكة: بر حجك يا آدم حججنا هذا البيت قبلك بألف عام، ويرُوى عن ابن عباس أنه قال: أراد به أنه أول بيت بناه آدم في الأرض، وقيل: هو أول بيت مبارك وضع [ في الأرض ] هدىً للناس، يروى ذلك عن علي بن أبي طالب، قال الضحاك: أول بيت وُضع فيه البركة وقيل: أول بيت وضع للناس يُحجُّ إليه . وقيل : أول بيت جعل قبلة للناس. وقال الحسن والكلبي: معناه: أول مسجد ومتعَبِّدٍ وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ يعني المساجد .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا عبد الواحد، أنا الأعمش، أخبرنا إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه، قال سمعت أبا ذر يقول: قلت يا رسول الله أيُّ مسجد وُضع في الأرض أولا؟ قال: « المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أينما أدركتْكَ الصلاة بعدُ فصلِّ فإن الفضل فيه » .

قوله تعالى: ( لَلَّذِي بِبَكَّةَ ) قال جماعة: هي مكة نفسها، وهو قول الضحاك، والعرب تعاقبت بين الباء والميم، فتقول: سَبَّدَ رأسه وسمَّده وضربة لازبٍ ولازم، وقال الآخرون: بكة موضع البيت ومكة اسم البلد كله.

وقيل: بكة موضع البيت والمطاف، سميت بكة: لأن الناس يتباكون فيها، أي يزدحمون يبك بعضُهم بعضًا، ويصلي بعضهم بين يدي بعض ويمر بعضهم بين يدي بعض.

وقال عبد الله بن الزبير: سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة، أي تدقها فلم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله.

وأما مكة سميت بذلك لقلة مائها من قول العرب: مَكَّ الفصيل ضرْعَ أمه وأمتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن، وتدعى أم رحم لأن الرحمة تنـزل بها.

( مُبَارَكًا ) نصب على الحال أي: ذا بركة ( وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ) لأنه قبلة المؤمنين ( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ) قرأ ابن عباس ( آيَةٍ بَيِّنَةٍ ) على الواحدان، وأراد مقام إبراهيم وحده، وقرأ الآخرون ( آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) بالجمع فذكر منها مقام إبراهيم [ وهو الحجر ] الذي قام عليه إبراهيم، وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، ومن تلك الآيات: الحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها، وقيل: مقام إبراهيم جميع الحرم، ومن الآيات في البيت أن الطير تطير فلا تعلو فوقه، وأن الجارحة إذا قصدت صيدًا فإذا دخل الصيدُ الحرم كفَّتْ عنه، وإنه بلد صدر إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار، وإن الطاعة والصدقة فيها تُضاعف بمائة ألف.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، أخبرنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، أنا مالك بن أنس عن زيد بن رباح وعبيد الله بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله الأغرّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام » .

قوله عز وجل: ( وَمَنْ دَخَلَه كَانَ آمِنًا ) أن يحاج فيه، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال: رب اجعلْ هذا بلدًا آمنا، وكانت العرب في الجاهلية يقتل بعضهم بعضا ويغير بعضهم على بعض ومن دخل الحرم أمن من القتل والغارة، وهو المراد من الآية على قول الحسن وقتادة وأكثر المفسرين قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( سورة العنكبوت الآية 67 ) وقيل: المراد به أن من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمنًا، كما قال تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ( سورة الفتح الآية 27 ) وقيل: هو خبر بمعنى الأمر تقديره: ومن دخله فأمنُّوه، كقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ( البقرة :197 ) أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أن من وجب عليه القتل قصاصًا أو حدًا فالْتجأ إلى الحرم فلا يُستوفَى منه فيه، ولكنه [ لا يُطعم ] ولا يُبايع ولا يُشاري حتى يخرج منه فيقتل، قاله ابن عباس، وبه قال أبو حنيفة، وذهب قوم إلى أن القتل الواجب بالشرع يُستوفى فيه أما إذا ارتكب الجريمة في الحرم يستوفى فيه عقوبته بالاتفاق.

وقيل: معناه ومن دخله معظّمًا له متقربًا إلى الله عز وجل كان آمنًا يوم القيامة من العذاب.

قوله عز وجل: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ) أي: ولله فرضٌ واجبٌ على الناس حجُّ البيت، قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص ( حِجّ الْبَيْتِ ) بكسر الحاء في هذا الحرف خاصةً، وقرأ الآخرون بفتح الحاء، وهي لغة أهل الحجاز، وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد.

والحج أحد أركان الإسلام، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الله بن موسى، أنا حنظلة بن أبي سفيان، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله، وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة والحج وصوم رمضان . »

قال أهل العلم: ولِوُجوب الحج خمسُ شرائط: الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والاستطاعة، فلا يجب على الكافر ولا على المجنون، ولو حجا بأنفسهما لا يصح لأن الكافر ليس من أهل القربة ولا حكم [ لفعل ] المجنون، ولا يجب على الصبي ولا على العبد، ولو حج صبي يعقل، أو عبد يصح حجهما تطوعًا لا يسقط به فرض الإسلام عنهما فلو بلغ الصبي، أو عُتق العبد بعدما حج واجتمع في حقه شرائط [ وجوب ] الحج وجب عليه أن يحج ثانيًا، ولا يجب على غير المستطيع، لقوله تعالى: ( مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ) غير أنه لو تكلف فحج يسقط عنه فرض الإسلام.

والاستطاعة نوعان، أحدهما: أن يكون مستطيعًا [ بنفسه ] والآخر: أن يكون مستطيعًا بغيره، أما الاستطاعة بنفسه أن يكون قادرًا بنفسه على الذهاب ووَجَد الزادَ والراحلة، أخبرنا عبد الواحد بن محمد الكسائي الخطيب، ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، ثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع بن سليمان، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سعيد بن سالم، عن إبراهيم بن يزيد، عن محمد بن عباد بن جعفر، قال: قعدنا إلى عبد الله ابن عمر فسمعته يقول: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الحاج؟ قال: « الشعث التفل » فقام رجل آخر فقال: يا رسول الله: أي الحج أفضل؟ قال: « العجُّ والثج » فقام رجل آخر فقال: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: « زاد وراحلة » .

وتفصيله: أن يجدَ راحلةً تصلح لمثله، ووجدَ الزادَ للذهاب والرجوع، فاضلا عن نفقة عياله ومن تلزمه نفقتهم وكسوتهم لذهابه ورجوعه، وعن دَيْن يكون عليه، ووجد رفقة يخرجُون في وقت جرت عادة أهل بلده بالخروج في ذلك الوقت، فإن خرجوا قبله أو أخروا الخروج إلى وقت لا يصلون إلا أن يقطعوا كل يوم أكثر من مرحلة لا يلزمهم الخروج [ في ذلك الوقت ] ويشترط أن يكون الطريق آمنًا فإن كان فيه خوف من عدوٍ مسلمٍ أو كافرٍ أو رَصديّ يطلب شيئا لا يلزمه، ويُشترط أن تكون المنازل المأهولة معمورة يجد فيها الزاد والماء، فإن كانَ زمان جُدوبةٍ تفرّق أهلها أو غارتْ مياهها فلا يلزمه، ولو لم يجد الراحلة لكنه قادر على المشي، أو لم يجد الزاد ولكن يمكنه أن يكتسب في الطريق لا يلزمه الحج، ويستحب لو فعل، وعند مالك يلزمه.

أما الاستطاعة بالغير هو: أن يكون الرجل عاجزًا بنفسه، بأن كان زَمِنًا أو به مرض غير مرجو الزوال، لكن له مال يمكنَّه أن يستأجر من يحج عنه، يجب عليه أن يستأجر، أو لم يكن له مال لكن بذل له ولدُه أو أجنبيّ الطاعةَ في أن يحج عنه، يلزمه أن يأمره إذا كان يعتمدُ صِدقَه، لأن وجوب الحج [ يتعلق ] بالاستطاعة، ويقال في العرف: فلان مستطيع لبناء دار وإن كان لا يفعله بنفسه، وإنما يفعله بماله أو بأعوانه.

وعند أبي حنيفة لا يجب الحج ببذل الطاعة، وعند مالك لا يجب على المعضوب في المال.

وحُجّةُ من أوجبه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أنه قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خَثْعَم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: « نعم » .

قوله تعالى: ( وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) قال ابن عباس والحسن وعطاء: جَحَدَ فَرْضَ الحج، وقال مجاهد: من كفر بالله واليوم الآخر.

وقال سعيد بن المسيب: نـزلت في اليهود حيث قالوا: الحج إلى مكة غير واجب.

وقال السدي: هو من وجد ما يحج به ثم لم يحج حتى مات فهو كفرٌ به أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو الحسن الكَلَمَاتي، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر، أخبرنا سهل بن عمار، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا شريك، عن الليث عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من لم تَحْبسْه حاجةٌ ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر، ولم يحجَّ فليمتْ إنْ شاء يهوديا وإنْ شاء نصرانيًا » .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ( 98 ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 99 )

قوله تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ )

( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) أي: لم تصرفون عن دين الله، ( مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا ) تطلبونها، ( عِوَجًا ) زيغًا وميلا يعني: لم تصدون عن سبيل الله باغين لها عوجًا؟ قال أبو عبيدة: العِوج - بالكسر - في الدينِ والقولِ والعملِ والعَوَجُ - بالفتح - في الجدار، وكل شخص قائم، ( وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) [ أن في التوراة مكتوبًا ] نعت محمد صلى الله عليه وسلم وإن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ( 100 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) قال زيد بن أسلم: إن شاسَ بن قيس اليهودي - وكان شيخا عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين - مرَّ على نفر من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون، فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة، قال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شابا من اليهود كان معه فقال: اعمد إليهم واجلس معهم ثم ذكرهم يومَ بُعاثٍ وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان بُعاث يومًا اقتتلت فيه الأوس مع الخزرجِ وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل وتكلم فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيّين على الرُّكَب، أوسَ بن قبطي أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثم قال أحدهِما لصاحبه: إن شئتم والله رددتها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعا وقالا قد فعلنا السلاحَ السلاحَ موعدكم الظاهرة، وهي حرة فخرجوا إليها، وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم. فقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألف بينكم؟ ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا، الله الله !! فعرف القوم أنها نـزغُة من الشيطان وكيدٌ من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين فأنـزل الله تعالى فيهم هذه الآية .

( يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ) قال جابر: فما رأيت قط يومًا أقبح أولا وأحسن آخرًا من ذلك اليوم، ثم قال الله تعالى على وجه التعجب:

 

وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 101 )

( وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ ) يعني: ولِمَ تكفرون؟ ( وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَات اللَّهِ ) القرآن، ( وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ) محمد صلى الله عليه وسلم.

قال قتادة في هذه الآية علمان بيِّنان: كتابُ الله ونبيُّ الله أما نبيُّ الله فقد مضَى وأمّا كتاب الله فأبقاه بين أظهركم رحمةً من الله ونعمة.

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أنا أبو الفضل الحسن بن يعقوب بن يوسف العدل، أخبرنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب العبدي أنا أبو جعفر بن عوف أخبرنا أبو حيان يحيى بن سعيد بن حبان [ عن يزيد بن حيان ] قال: سمعت زيد بن أرقم قال: « قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يُوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه، وإني تارك فيكم الثقلين أولهما: كتابُ الله فيه الهدى والنور، فتمسكوا بكتاب الله وخذوا به فحثّ عليه ورغّب فيه ثم قال: وأهلُ بيتيّ أُذكِّرُكُمُ الله في أهل بيتي . »

قوله تعالى ( وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ ) أي: يمتنع بالله ويستمسك بدينه وطاعته، ( فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) طريقا واضح، وقال ابن جريج ومن يعتصم بالله أي: يُؤمن بالله، وأصل العصمة: المنع، فكل مانع شيئا فهو عاصم له.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( 102 )

قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) قال مقاتل بن حيان: كان بين الأوس والخزرج عداوة في الجاهلية وقتال حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأصلح بينهم فافتخر بعده منهم رجلان: ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج، فقال الأوسي: منّا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنّا حنظلة غسيل الملائكة، ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حميُّ الدبر، ومنّا سعد بن معاذ الذي اهتز [ لموته ] عرش الرحمن ورضي الله بحكمه في بني قريظة.

وقال الخزرجي: منّا أربعة أحكموا القرآن: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، ومنّا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم، فجرى الحديث بينهما فغضبا وأنشدا الأشعار وتفاخرا، فجاء الأوس والخزرج ومعهم السلاح فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنـزل الله تعالى هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) .

وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس: هو أن يُطَاع فلا يُعصى، قال مجاهد: أن تُجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لَوْمَةُ لائمٍ وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم. وعن أنس أنه قال: لا يتقي الله عبد حقَّ تقاته حتى يخزن لسانه.

قال أهل التفسير: فلما نـزلت هذه الآية شقَّ ذلك عليهم، فقالوا: يا رسول الله ومَنْ يقْوى على هذا؟ فأنـزل الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( التغابن 16 ) فنسخت هذه الآية وقال مقاتل: ليس في آل عمران من المنسوخ إلا هذا. .

( وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) أي: مؤمنون، وقيل مخلصون مفوضون أموركم إلى الله عز وجل وقال الفضيل: مُحسنون الظّنَّ بالله.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو بكر العبدوسي، أخبرنا أبو بكر بن محمد بن حمدون بن خالد بن يزيد، أخبرنا سليمان بن سيف، أخبرنا وهب بن جرير، أنا شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا أيها الناس اتقوا الله حقَّ تقاته فلو أن قطرةً من الزقوم قُطرتْ على الأرض لأمرَّتْ على أهل الدنيا معيشتَهم، فكيف بمن هو طعامه وليس له طعام غيره » ؟ .

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 103 )

قوله عز وجل: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ) الحبل: السبب الذي [ يُتوصّل ] به إلى البغية وسمي الإيمان حبلا لأنه سبب يتوصل به إلى زوال الخوف.

واختلفوا في معناه هاهنا، قال ابن عباس: معناه تمسكوا بدين الله، وقال ابن مسعود: هو الجماعة، وقال: عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر الله به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خيرٌ مما تحبون في الفرقة. وقال مجاهد وعطاء: بعهد الله، وقال قتادة والسدي: هو القرآن، ورُوي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين، والشفاء النافع، وعصمةٌ لمن تمسّك به ونجاةٌ لمن تبعه » وقال مقاتل بن حيان: بحبل الله: أي بأمر الله وطاعته، ( وَلا تَفَرَّقُوا ) كما [ افترقت ] اليهود والنصارى، أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تُشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا وأن تُناصِحوُا من وَلَّى اللهُ أمرَكم، ويسخط لكم: قِيْلَ وقال، وإضاعةَ المال وكثرةَ السؤال » .

قوله تعالى: ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ) قال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره من أهل الأخبار: كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعتْ بينهما عداوةٌ بسبب قتيل، فتطاولت تلك العداوة والحربُ بينهم عشرين ومائة سنة إلى أن أطفأ الله عز وجل ذلك بالإسلام وألف [ بينهم ] برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكان سبب ألفتهم أن سويد بن الصامت أخا بني عمرو بن عوف وكان شريفا يسميه قومه الكامل لجلَدِهِ ونسبه، قدم مكة حاجًا أو معتمرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بُعث وأُمر بالدعوة، فتصدى له حين سمع به ودعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام فقال له سويد: فلعلّ الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ وما الذي معك قال: مجلّة لقمان يعني حكمته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ] اعرضها علي فعرضها، فقال: إنَّ هذا لكَلامٌ حسن، معي أفضل من هذا قرآن أنـزله الله عليّ نورًا وهدىً فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم [ يَبْعُدْ ] منه وقال: إن هذا [ لقول ] حسن، ثم انصرف إلى المدينة فلم يلبث أن قتلته الخزرج قبل يوم بُعاث فإنَّ قومه ليقولون: قد قتل وهو مسلم.

ثم قدم أبو الحيسر أنس بن رافع ومعه فئة من بني الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحِلْفَ من قريش على قوم من الخزرج، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم فجلس إليهم، فقال: هل لكم إلى خيرٍ مما جئْتُم له؟ فقالوا: وما ذلك؟ قال: أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن لا يشركوا بالله شيئا، وأنـزل علي الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا: أي قوم هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك.

فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزازَ نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فلقي عند العقبة رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرًا، وهم ستة نفر: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث وهو ابن عفراء، ورافع بن مالك العجلاني، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنتم؟ قالوا: نفرٌ من الخزرج، قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم: قال: أفلا تجلسون حتى أكلّمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرضَ عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.

قالوا: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهودًا كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وهم كانوا أهل أوثان وشرك، وكانوا إذا كان منهم شيء قالوا: إن نبيا الآن مبعوثٌ قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرَم، فلمّا كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذي تَوعَّدَكُم به يهود، فلا يسبقُنكَّم إليه، فأجابوه وصدقوه وأسلموا، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك.

ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا به صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا المدينة ذَكَرُوا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دارٌ من دُور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا وهم: أسعد بن زرارة، وعوف، ومعاذ ابنا عفراء، ورافع بن مالك بن العجلان، وذكوان بن عبد القيس، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، وعباس بن عبادة، وعقبة بن عامر، وقطبة بن عامر، وهؤلاء خزرجيّون وأبو الهيثم بن التيهان، وعويمر بن ساعدة من الأوس، فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، على أن لا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا، إلى آخر الآية فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئًا من ذلك فأُخذتم بحدّه في الدنيا فهو كفارةٌ له، وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم، قال: وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب.

قال: فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويُفقهَهم في الدين، وكان مُصعب يُسمى بالمدينة المقرئ، وكان منـزله على أسعد بن زرارة، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطًا، من حوائط بني ظفر، فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حُضير: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءَنا فازجرهما، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي ولولا ذاك لكفيتكه، وكان سعد بن معاذ وأُسَيْد بن حضير سَيِّدَيْ قومِهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في الحائط، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فأصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلسْ أكلمه قال: فوقف عليهما متشتّمًا فقال: ما جاء بكم إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أوَ تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كُفّ عنك ما تكره، قال: أنصفتَ ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقالا والله لَعَرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به، في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له : تغتسلُ وتُطهرُ ثوبَيك ثم تشهد شهادة الحق [ ثم تصلي ركعتين فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق ] ثم قام وركع ركعتين ثم قال لهما: إنَّ ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمّتُ الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسًا وقد نهيتُهما فقالا فافعل ما أحببت، وقد حُدثتُ أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زُرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك فقام سعد [ مغضبًا ] مبادرًا للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدًا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما مَتشتمًا ثم قال لأسعد بن زرارة: لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد قومه، إن يتبعك لم يخالفك منهم أحد، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرًا ورغبتَ فيه قبلتَه، وإن كرهتَه عَزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن قالا : فعرفنا والله في وجهه الإسلام: قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا تغتسل وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم [ تصلي ] ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أُسَيْد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبةً قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجلُ ولا امرأةٌ إلا مسلم أو مسلمة، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منـزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر، وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدرٌ وأُحد والخندق.

قالوا: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية.

قال كعب بن مالك - وكان قد شهد ذلك - فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه وكنا نكتم عمن معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه، وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عمّا أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة، وكان نقيبا، فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا، حتى اجتمعنا في الشِّعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع إحدى نساء بني سلمة، فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها - إن محمدًا صلى الله عليه وسلم منّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا وهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده، وأنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عزٍ ومنعةٍ.

قال: فقلنا قد سمعنا ما قلت: فتكلمْ يا رسول الله وخذْ لنفسك ولربِّك ما شئت.

قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه [ أنفسكم ونساءكم ] وأبناءكم، قال: فأخذ البراء بن مَعْرُور بِيدِهِ ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أُزُرَنَا فبايعنا يا رسول الله، فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.

قال: [ فاعترض ] القول - والبراءَ يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا يعني العهود، وإنا قاطعوها فهل عسيتَ إن فعلنا نحن ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، فتبسّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: الدم الدم والهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أحاربُ من حاربتم وأسالم من سالمتم.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم » فأخرجوا اثني عشر نقيبًا تسعةً من الخزرج وثلاثةً من الأوس.

قال عاصم بن عمرو بن قتادة: إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عُبادة بن نَضْلة الأنصاري: يا معشر الخزرج هل تدرون علاما تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة واشرافكم قتلى أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خِزْيٌ في الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتُموه إليه من تهلكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة.

قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفيَّنا؟ قال: « الجنة » قال: ابسطْ يَدكَ فبسطَ يده فبايعوه، وأول من ضرب على يده البراء بن مَعْرُور ثم تتابع القوم، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمعتُه قط: يا أهل الجباجب هل لكم في مُذَمَّمٍ والصُّباة قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عدو الله، هذا أزبّ العقبة، اسمع أي عدو الله أما والله لأفرغنّ لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفضوا إلى رحالكم.

فقال العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت [ لنميلن ] غدًا على أهل منًى بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم نُؤْمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم.

قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جِلّةُ قريش حتى جاؤونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم [ منكم ] قال: فانبعث مَنْ هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله: ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا، ولم يعلموا، وبعضُنا ينظر إلى بعض، وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة [ المخزومي ] وعليه نعلان جديدان، قال فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا يا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش، قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي وقال: والله لتنتعلنهما قال يقول أبو جابر رضي الله عنه: مه والله أحْفَظْتَ الفتى فاردد إليه نعليه، قال: لا أردهما فألٌ - والله - صالح والله لئن صدق الفأل [ لأسلبنه ] .

قال: ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وقد شدّدوا العقد، فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: « إن الله تعالى قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون فيها » فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار.

فأول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ثم عامر بن ربيعة ثم عبد الله بن جحش ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرْسالا إلى المدينة فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرَجَها بالإسلام، وأصلح ذات بينهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم .

قال الله تعالى: ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) يا معشر الأنصار ( إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً ) قبل الإسلام ( فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ) بالإسلام، ( فَأَصْبَحْتُمْ ) أي فصرتم، ( بِنِعْمَتِهِ ) برحمته وبدينه الإسلام، ( إِخْوَانًا ) في الدِّين والولاية بينكم ( وَكُنْتُمْ ) يا معشر الأوس والخزرج ( عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ) أي على طرف حفرة مثل شفا البئر معناه: كنتم على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم، ( فَأَنْقَذَكُمْ ) الله ( مِنْهَا ) بالإيمان، ( كَذَلِكَ يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 104 )

( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ) أي: كونوا أمةً، ( من ) صلة ليست للتبعيض، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ ( الحج : 30 ) لم يُرِدْ اجتناب بعض الأوثان بل أراد فاجتنبوا الأوثان، واللام في قوله ( وَلْتَكُنْ ) لام الأمر، ( يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ) إلى الإسلام، ( وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُم الْمُفْلِحُونَ )

أخبرنا إسماعيل عبد القاهر، قال أنا عبد الغافر بن محمد، قال أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، ثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر محمد بن أبي شيبة، أخبرنا وكيع، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال قال أبو سعيد رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان » .

أخبرنا أبو عبد الله بن الفضل الخرقي، قال أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني، أخبرنا علي بن حجر، أخبرنا إسماعيل بن جعفر، أنا عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي، عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشِكَنَّ الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده ثم لتدْعُنّه فلا يستجاب لكم » .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أنا علي بن الحسين الدراوردي أخبرنا أبو النعمان، أخبرنا عبد العزيز بن مسلم القِسمليّ، أنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعذابه » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمرو بن حفص بن غياث، أخبرنا أبي أنا الأعمش حدثني الشعبي أنه سمع النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « مثل المداهن في حدود الله تعالى والواقع فيها، كمثل قوم اسْتَهَمُوا على سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: مالك؟ فقال تأذيتم بي ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنْجوه ونَجَّوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم » .

وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 105 )

قوله تعالى: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُم الْبَيِّنَاتُ ) قال أكثر المفسرين: هم اليهود والنصارى، وقال بعضهم: المبتدعة من هذه الأمة، وقال أبو أمامة رضي الله عنه هم الحرورية بالشام.

قال عبد الله بن شداد: وقف أبو أمامة وأنا معه على رأس الحرورية بالشام فقال: هم كلاب النار، كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم ثم قرأ ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُم الْبَيِّنَاتُ ) إلى قوله تعالى أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو الحسن بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الله بن الزبير، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من سرّه بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة ، فإن الشيطان مع الفذ ، وهو من الاثنين أبعد » .

قوله تعالى: ( وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 106 )

( يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ ) ( يَوْمَ ) نصب على الظرف أي: في يوم وانتصاب الظرف على التشبيه بالمفعول، يريد: تبيض وجوه المؤمنين وتسودُّ وجوه الكافرين وقيل: تبيض وجوه المخلصين وتسود وجوه المنافقين.

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ هذه الآية قال تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة.

قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس إذا كان يوم القيامة رفع لكل قوم ما كانوا يعبدونه، فيسعى كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، وهو قوله تعالى: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ( النساء : 115 ) فإذا انتهوا إليه حزنوا فتسودُّ وجوههم من الحزن، وبقي أهل القبلة واليهود والنصارى لم يعرفوا شيئا مما رفع لهم فيأتيهم الله فيسجد له من كان يسجد في الدنيا مطيعًا مؤمنًا ويبقى أهل الكتاب والمنافقون لا يستطيعون السجود، ثم يؤذن لهم فيرفعون رؤوسهم ووجوه المؤمنين مثل الثلج بياضًا والمنافقون وأهل الكتاب إذا نظروا إلى وجوه المؤمنين حزنُوا حزنًا شديدًا فاسودتْ وجوهُهم فيقولون: ربنا ما لنا مسودة وجوهنا فوالله ما كنا مشركين؟ فيقول الله للملائكة: « انظر كيف كذبوا على أنفسهم » ( الأنعام - 24 ) .

قال أهل المعاني: ابيضاض الوجوه: إشراقها واستبشَارُها وسُرورها بعلِمها وبثوابِ الله، واسودِادها: حزنها وكآبتها وكسوفُها بعملها وبعذاب الله، يدل عليه قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ( يونس : 26 ) وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ( يونس - 27 ) وقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( القيامة : 22 - 24 ) وقال وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ( عبس : 38 - 40 ) .

( فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) معناه: يقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟ ( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ )

فإن قيل: كيف قال: أكفرتم بعد إيمانكم وهم لم يكونوا مؤمنين؟ حُكي عن أُبي بن كعب أنه أراد به: الإيمان يوم الميثاق، حين قال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى يقول: أكفرتم بعد إيمانكم يوم الميثاق؟ وقال الحسن: هم المنافقون تكلموا بالإيمان بألسنتهم، وأنكروا بقلوبهم.

وعن عكرمة: أنهم أهل الكتاب، آمنوا بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبعث فلما بُعث كفروا به.

وقال قوم: هم من أهل قبلتنا، وقال أبو أمامة: هم الخوارج، وقال قتادة: هم أهل البدع.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا سعيد بن أبي مريم، عن نافع بن عمر، حدثني ابن أبي مليكة، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني فرطكم على الحوض حتى أنظر مَنْ يرِدُ علي منكم وسيُؤخذ ناسٌ دوني فأقول: يا رب مني ومن أمتي فيقال لي هل شعرتَ بما عملوا بعدك؟ والله ما برحُوا يرجعون على أعقابهم » . .

وقال الحارث الأعور: سمعت عليًا رضي الله عنه على المنبر يقول: إن الرجل ليخرج من أهله فما يؤوب إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به الجنة وإن الرجل ليخرج من أهله فما يعود إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به النار ثم قرأ ( يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ ) الآية ثم نادى: هم الذين كفروا بعد الإيمان - وربِّ الكعبة.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني، أنا عبد الله بن عمر الجوهري، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني، أنا علي بن حجر، أنا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يُصبح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرًا ويُمسي مؤمنًا ويُصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا » . .

وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 107 ) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ( 108 )

قوله تعالى: ( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ) هؤلاء أهل الطاعة، ( فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ) جنة الله . ( هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين )

 

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 109 )

( ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور )

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ( 110 )

( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) قال عكرمة ومقاتل: نـزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حُذيفة رضي الله عنهم، وذلك أن مالك بن الصيف ووهب بن يهودا اليهوديين قالا لهم: نحن أفضل منكم ودينُنَا خير مما تدعونَنا إليه، فأنـزل الله تعالى هذه الآية.

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقال جويبر عن الضحاك: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة الرواة والدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم.

وروي عن عمر بن الخطاب قال: كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح، أنا أبو القاسم البغوي، أنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة عن أبي حمزة: سمعت زهدم بن مضرب بن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم » . قال عمران: لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثا وقال: إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتُمنون ويشهدون ولا يُستشهدون وينذرون ولا يُوفون ويظهر فيهم السِّمَن « . »

وبهذا الإسناد عن علي بن الجعد أخبرنا شعبة وأبو معاوية عن الأعمش عن ذكوان عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه » .

وقال الآخرون: هم جميع المؤمنين من هذه الأمة.

وقوله ( كُنْتُمْ ) أي: أنتم كقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا ( الأعراف :86 ) وقال في موضع آخر: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ( الأنفال :26 ) وقيل: معناه كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ وقال قوم: قوله ( لِلنَّاسِ ) « من » صلة قولهِ « خير أمة » أي: أنتم خير الناس للناس.

قال أبو هريرة معناه: كنتم خير الناس تجيئون بهم في السلاسل فتدخلونهم في الإسلام .

قال قتادة: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يُؤْمرْ نبي قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفار فيُدخلونهم في دينهم فهم خير أمة للناس.

وقيل « للناس » صلة قوله « أخرجت » معناه: ما أخرج الله للناس أمة خيرًا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الحافظ، أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد بن حبيش المقري، أنا علي بن زنجويه، أخبرنا سلمة بن شبيب أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) قال: « إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو معشر إبراهيم بن محمد الفيركي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن زكريا بن يحيى، أخبرنا أبو الصلت، أخبرنا حماد بن زيد، أخبرنا علي بن زيد عن أبي نَضْرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي أخْيَرُها وأكرمُها على الله عز وجل » .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد، أنا الفضل، بن الفضل أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب، قال عبد الرحمن يعني ابن المبارك أخبرنا حماد بن يحيى الأبَحُّ أنا ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أولهُ خيْرَ أم آخره » .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو محمد المخلدي، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي، أخبرنا محمد بن عيسى التنيسي، أخبرنا عمرو بن أبي سلمة، أخبرنا صدقة بن عبد الله، عن زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الجنة حُرّمَت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم كلهم حتى تدخلها أمتي » .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، قال: أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد، أخبرنا أبو القاسم عمر بن محمد بن عبد الله بن حاتم الترمذي، أخبرنا جدي لأمي محمد بن عبد الله بن مرزوق، أنا عفّان بن مسلم، أنا عبد العزيز بن مسلم، أخبرنا أبو سنان يعني ضرار بن مرة، عن محارب بن دثار، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أهل الجنة عشرون ومائةُ صف ثمانون من هذه الأمة » .

قوله تعالى: ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْل الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُم الْفَاسِقُونَ ) أي: الكافرون.

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ( 111 ) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ( 112 ) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ( 113 ) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 114 ) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( 115 )

قوله تعالى : ( لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى ) قال مقاتل: إن رؤوس اليهود عمدُوا إلى مَنْ آمن منهم عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم فأنـزل الله تعالى: ( لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى ) يعني لا يضروكم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود إلا أذىً باللسان: وعيدًا وطعنًا وقيل: كلمة كفر تتأذون بها ( وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُم الأدْبَارَ ) منهزمين، ( ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) بل يكون لكم النصر عليهم.

( ضُرِبَتْ عَلَيْهِم الذِّلَّة أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ) حيث ما وجدوا ( إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ ) يعني : أينما وجدوا استُضعفُوا وقُتلوا وسبوا فلا يأمنُون « إلا بحبل من الله » : عهدٍ من الله تعالى بأن يسلموا، ( وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ) المؤمنين ببذل جزية أو أمان يعني: إلا أن يعتصموا بحبل فيأمنوا.

قوله تعالى: ( وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ) رجعوا به ، ( وَضُرِبَت عَلَيْهِم الْمَسْكَنَة ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ )

قوله تعالى: ( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل: لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا شرارُنا ولولا ذلك لما تركوا دين آبائهم فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

واختلفوا في وجهها فقال قوم: فيه اختصار تقديره: ليسوا سواء من أهل الكتاب أمةٌ قائمة وأخرى غير قائمة، فترك الأخرى اكتفاءً بذكر أحد الفريقين وقال الآخرون: تمام الكلام عند قوله ( لَيْسُوا سَوَاءً ) وهو وقف لأنه قد جرى ذكر الفريقين من أهل الكتاب في قوله تعالى: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [ ثم قال: ( لَيْسُوا سَوَاءً ) يعني: المؤمنين والفاسقين ] ثم وصف الفاسقين فقال: ( لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى ) ووصف المؤمنين بقوله ( أُمَّةٌ قَائِمَةٌ )

وقيل: قوله ( مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) ابتداء بكلام آخر، لأن ذكر الفريقين قد جرى، ثم قال: ليس هذان الفريقان سواء ثم ابتدأ فقال: من أهل الكتاب.

قال ابن مسعود رضي الله عنه معناه: لا يستوي اليهود وأمة محمد صلى الله عليه وسلم القائمة بأمر الله الثابتة على الحق، المستقيمة، وقوله تعالى: ( أُمَّةٌ قَائِمَةٌ ) قال ابن عباس: أي مهتدية قائمة على أمر الله لم يُضيِّعُوه ولم يتركوه.

وقال مجاهد: عادلة. وقال السدي: مطيعة قائمة على كتاب الله وحدوده، وقيل: قائمة في الصلاة. وقيل: الأمة الطريقة.

ومعنى الآية: أي ذو أمة أي: ذو طريقة مستقيمة.

( يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ ) يقرؤون كتاب الله وقال مجاهد: يتبعون ( آنَاءَ اللَّيْلِ ) ساعاته، واحدها: إنيٌ مثل نحى وأنحاء، وإنيً وآناء مثل: مِعىً وأمعاء وإِني مثل منا وأمناء.

( وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) أي: يصلون لأن التلاوة لا تكون في السجود.

واختلفوا في معناها فقال بعضهم: هي في قيام الليل، وقال ابن مسعود هي صلاة العتمة يصلونها ولا يصليها من سواهم من أهل الكتاب.

وقال عطاء: « ليسوا سواء من أهل الكتاب أمةٌ قائمة » الآية يريد: أربعين رجلا من أهل نجران من العرب واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى وصدّقوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وكان من الأنصار فيهم عدة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم منهم أسعد بن زرارة والبراء بن معْرُور ومحمد بن سلمة ومحمود ابن مسلمة وأبو قيس صرمة بن أنس كانوا موحدين، يغتسلون من الجنابة، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية حتى جاءهم الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم فصدقوه ونصروه.

قوله تعالى: ( يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين )

( وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ) قرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء فيهما إخبار عن الأمة القائمة وقرأ الآخرون بالتاء فيهما لقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وأبو عمرو يرى القراءتين جميعا ومعنى الآية: وما تفعلوا من خير فلن تعدموا ثوابه بل يشكر لكم وتجازون عليه، ( وَاللَّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ) بالمؤمنين .

 

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 116 ) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 117 )

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) أي: لا تدفع أموالهم بالفدية ولا أولادهم بالنصرة شيئا من عذاب الله، وخصهما بالذكر لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال وتارة بالاستعانة بالأولاد. ( وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) وإنما جعلهم من أصحابها لأنهم أهلها لا يخرجون منها ولا يفارقونها، كصاحب الرجل لا يفارقه.

( مَثَل مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قيل: أراد نفقات أبي سفيان وأصحابه ببدرٍ وأحد على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مقاتل: نفقة اليهود على علمائهم، قال مجاهد: يعني جميع نفقات الكفار [ في الدنيا ] وصدقاتهم وقيل: أراد إنفاق المرائي الذي لا يبتغي به وجه الله تعالى، ( كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ) [ حكي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها السموم الحارة التي تقتل وقيل: ] فيها صر أي: صوتٌ، وأكثر المفسرين قالوا: فيها برد شديد، ( أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ) زرع قوم، ( ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) بالكفر والمعصية ومنع حق الله تعالى، ( فَأَهْلَكَتْهُ )

فمعنى الآية: مثل نفقات الكفار في ذهابها وقت الحاجة إليها كمثل زرع أصابته ريح باردة فأهلكته أو نار فأحرقته فلم ينتفع أصحابه منه بشيء، ( وَمَا ظَلَمَهُم اللَّهُ ) بذلك، ( وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) بالكفر والمعصية.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ( 118 ) هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 119 )

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ) الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رجال من المسلمين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع، فأنـزل الله تعالى هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم.

وقال مجاهد: نـزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ) أي: أولياء وأصفياء من غير أهل ملتكم، وبطانة الرجل: خاصته تشبيها ببطانة الثوب التي تلي بطنه لأنهم يستبطنون أمره ويطلعون منه على ما لا يطلع عليه غيرهم.

ثم بين العلّة في النهي عن مباطنتهم فقال جل ذكره ( لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا ) أي: لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يُورثكم الشَّر والفساد، والخَبَالُ: الشّرُّ والفساد، ونصب « خَبَالا » على المفعول الثاني لأن يألو يتعدى إلى مفعولين وقيل: بنـزع الخافض، أي بالخبال كما يقال أوجعته ضربا، ( وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ ) أي: يودّون ما يشق عليكم من الضر والشر والهلاك. والعنت: المشقة ( قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء ) أي: البغض، معناه ظهرتْ أمارة العداوة، ( مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) بالشتيمة والوقيعة في المسلمين، وقيل: بإطلاع المشركين على أسرار المؤمنين ( وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ ) من العداوة والغيظ ، ( أَكْبَرُ ) أعظم، ( قَدْ بَيَّنَّا لَكُم الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ )

( هَا أَنْتُمْ ) ها تنبيه وأنتم كناية للمخاطبين من الذكور، ( أُولاءِ ) اسم للمشار إليهم يريد أنتم أيها المؤمنون، ( تُحِبُّونَهُمْ ) أي: تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من القرابة والرضاع والمصاهرة، ( وَلا يُحِبُّونَكُمْ ) هم لما بينكم من مخالفة الدين، قال مقاتل: هم المنافقون يحبهم المؤمنون لما أظهروا من الإيمان، ولا يعلمون ما في قلوبهم، ( وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ) يعني: بالكتب كلها وهم لا يؤمنون بكتابكم، ( وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا ) وكان بعضهم مع بعض ( عَضُّوا عَلَيْكُم الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ) يعني: أطراف الأصابع واحدتها أنملة بضم الميم وفتحها، من الغيظ لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم، وعض الأنامل عبارة عن شدة الغيظ وهذا من مجاز الأمثال، وإن لم يكن ثم عض، ( قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ) أي: ابقوا إلى الممات بغيظكم، ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) أي: بما في القلوب من خير وشر.

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( 120 ) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 121 )

وقوله تعالى: ( إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ ) أي: تصبكم أيها المؤمنون بظهوركم على عدوكم وغنيمة تنالونها منهم، وتتابع الناس في الدخول في دينكم، وخصب في معايشكم ( تَسُؤْهُمْ ) تحزنهم، ( وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ ) مساءةٌ بإخفاق سرية لكم أو إصابة عدوٍ منكم، أو اختلاف يكون بينكم أو جدبٍ أو نكبة تصبكم ( يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا ) على أذاهم ( وَتَتَّقُوا ) وتخافوا ربكم ( لا يَضُرُّكُمْ ) أي: لا ينقصكم، ( كَيْدُهُمْ شَيْئًا ) قرأ ابن كثير ونافع وأهل البصرة ( لا يَضُرُّكُمْ ) بكسر الضاد خفيفة يقال: ضار يضير ضيرا، وهو جزم على جواب الجزاء، وقرأ الباقون بضم الضاد وتشديد الراء من ضَرّ يضُرّ ضّرًا مثل ردّ يردُّ رّدًا وفي رفعه وجهان. أحدهما: أنه أراد الجزم وأصله يضرركم فأدغمت الراء في الراء ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الثانية اتباعا، والثاني: أن يكون لا بمعنى ليس ويضمر فيه الفاء تقديره: وإن تصبروا وتتقوا فليس يضركم كيدهم شيئا، ( إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) عالم.

قوله تعالى: ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ) قال الحسن: هو يوم بدر، وقال مقاتل: يوم الأحزاب، وقال سائر المفسرين: هو يوم أحد لأن ما بعده إلى قريب من آخر السورة في حرب أحد.

قال مجاهد والكلبي والواقدي: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منـزل عائشة رضي الله عنها فمشى على رجليه إلى أُحد فجعل يصفُّ أصحابه للقتال كما يقوم القدح .

قال محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما: إن المشركين نـزلوا بأحد يوم الأربعاء فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنـزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أُبي بن سلول ولم يدعُهُ قط قبلها فاستشاره، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منّا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا، فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشرِّ مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين. فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي.

وقال بعض أصحابه: يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم وضَعُفْنَا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني رأيت في منامي بقرا تذبح، فأوّلتُها خيرًا، ورأيتُ في ذُباب سيفي ثَلْمًا فأولتها هزيمةً ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة » وكان يعجبه أن يدخلوا عليه بالمدينة فيقاتلوا في الأزقة فقال رجال من المسلمين ممن فاتهم يوم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أُحد: اخرج بنا إلى أعدائنا. فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من حبهم للقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمَتَه، فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا، وقالوا: بئس ما صنعنا، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه، فقاموا واعتذروا إليه وقالوا: اصنع ما رأيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمَته فيضعها حتى يقاتل » .

وكان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس فراح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، بعدما صلى بأصحابه الجمعة وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إليهم، فأصبح بالشعب من أُحد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة، فكان من حرب أُحد ما كان، فذلك قوله تعالى : ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ) أي: واذكر إذا غدوت من أهلك ( تُبَوِّئ الْمُؤْمِنِينَ ) أي: تنـزل المؤمنين ( مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ) أي: مواطن، ومواضع للقتال، يقال: بوأتُ القوم إذا وطنتهم وتبؤوا هم إذا تواطنوا قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ( يونس - 93 ) وقال أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ( يونس - 87 ) وقيل تتخذ معسكرا، ( وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ )

 

إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 122 )

( إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ) أي: تَجْبُنا وتضْعُفا وتتخلفّا والطائفتان بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، ودنا جناحي العسكر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد في ألف رجل، وقيل: في تسعمائة وخمسين رجلا فلما بلغوا الشَّوْط انخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس ورجع في ثلاث مائة وقال: علام نقتل أنفسَنا وأولادَنا؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال: أنشدكم بالله في نبيكم وفي أنفسكم، فقال عبد الله بن أُبي: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، وهمَّتْ بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أُبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا فذكرهم الله عظيم نعمتهِ فقال عز وجل ( إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّه وَلِيُّهُمَا ) ناصرهما وحافظهما.

( وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن يوسف عن ابن عيينة عن عمرو عن جابر قال: نـزلت هذه الآية فينا ( إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّه وَلِيُّهُمَا ) بنو سلمة وبنو حارثة، وما أحب أنها لم تنـزل والله يقول: ( وَاللَّه وَلِيُّهُمَا ) .

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 123 ) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ( 124 )

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ نَصَرَكُم اللَّه بِبَدْرٍ ) وبدر موضع بين مكة والمدينة وهو اسم لموضع، وعليه الأكثرون وقيل: اسم لبئر هناك، وقيل: كانت بدر بئرًا لرجل يقال له بدر، قاله الشعبي وأنكر الآخرون عليه.

يذكر الله تعالى في هذه الآية منَّتَه عليهم بالنصرة يومَ بدر، ( وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) جمع: ذليل وأراد به قلة العدد فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فنصرهم الله مع قلة عددهم، ( فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )

( إِذْ تَقُول لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ ) اختلفوا في هذه الآية فقال قتادة: كان هذا يوم بدر أمدهم الله تعالى بألفٍ من الملائكة كما قال: فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ ( الأنفال - 9 ) ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف كما ذكر هاهنا ( بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْـزَلِينَ )

بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ( 125 )

( بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) فصبروا يوم بدر فاتقوا فأمدهم الله بخمسة آلاف كما وعد قال الحسن: وهؤلاء الخمسة آلاف رِدْءُ المؤمنين إلى يوم القيامة.

وقال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون، إنما يكونون عددًا ومددًا.

قال محمد بن إسحاق: لما كان يوم أُحد انجلى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتًى شابٌ يتنبَّل له كلما فني النبل أتاه به فنثره فقال ارم أبا إسحاق مرتين، فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل يُعرف.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد العزيز بن عبد الله، أنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشَدِّ القتالِ ما رأيتهما قبل ولا بعد .

ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال أخبرنا محمد بن بشر وأبو أسامة، عن مسعر، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سعد يعني ابن أبي وقاص قال: « رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد » يعني: جبريل وميكائيل .

وقال الشعبي: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم بدر: أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين فشق ذلك عليهم، فأنـزل الله تعالى: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ إلى قوله ( مُسَوِّمِينَ ) فبلغ كرزًا الهزيمةُ فرجع فلم يأتهم ولم يمدّهم فلم يمدّهم الله أيضا بالخمسة آلاف، وكانوا قد أمدوا بألف.

وقال الآخرون: إنما وعد الله تعالى المسلمين يوم بدر إن صبروا على طاعته واتقوا محارمه: أن يمدَّهم أيضًا في حروبهم كلهِّا فلم يصبروا إلا في يوم الأحزاب، فأمدّهم الله حتى حاصروا قُريظة والنضير، قال عبد الله بن أبي أوفى: كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله فلم يُفتح علينا فرجعنا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسْلٍ فهو يغسل رأسه إذْ جاءه جبريل عليه السلام، فقال: وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله، ثم نادى فينا فقمنا حتى أتينا قريظة والنضير فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة، ففتح لنا فتحا يسيرا.

وقال الضحاك وعكرمة: كان هذا يوم أُحد وَعَدهم الله المدَد إن صبرُوا فلم يصبروا فلم يمُدوا به .

قوله تعالى: أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ والإمداد: إعانة الجيش بالجيش، وقيل: ما كان على جهة القوة والإعانة يقال فيه: أمده إمدَادًا وما كان على جهة الزيادة يقال: مدّه مّدًا، ومنه قوله تعالى: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ ( لقمان - 27 ) وقيل: المدّ في الشر والإمدادُ في الخير، يدل عليه قوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( البقرة - 15 ) وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ( مريم - 79 ) وقال في الخير: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وقال: وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ( الإسراء - 6 ) .

قوله تعالى: بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ قرأ ابن عامر بتشديد الزاي على التكثير لقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ( سورة الأنعام - 111 ) وقرأ الآخرون بالتخفيف دليله قوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ ( الفرقان - 21 ) وقوله: وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ( التوبة - 26 ) .

ثم قال: ( بَلَى ) نمدُّكم ( إِنْ تَصْبِرُوا ) لعدوكم ( وَتَتَّقُوا ) أي: مخالفة نبيكم ( وَيَأْتُوكُمْ ) يعني المشركين ( مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والحسن وأكثر المفسرين: من وجههم هذا، وقال مجاهد والضحاك: من غضبهم هذا، لأنهم إنما رجعوا للحرب يوم أحد من غضبهم ليوم بدر، ( يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ ) لم يرد خمسة آلاف سوى ما ذكر من ثلاثة آلاف بل أراد معهم وقوله ( مُسَوِّمِينَ ) أي: معلمين قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو وقرأ الآخرون بفتحها فمن كسر الواو فأراد أنهم سَوّموا خيلهم ومن فتحها أراد به أنفسهم، والتسويم: الإعلام من السَّومة وهي العلامة.

واختلفوا في تلك العلامة فقال عروة بن الزبير: كانت الملائكة على خيل بُلق عليهم عمائم صُفر، وقال علي وابن عباس رضي الله عنهم: كانت عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم، ( وقال هشام بن عروة والكلبي: عمائم صفر مرخاة على أكتافهم ) وقال الضحاك وقتادة: كانوا قد أعلموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: « تَسوَّمُوا فإن الملائكة قد تسوّمتْ بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم » .

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 126 ) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ( 127 ) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ( 128 ) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 129 )

قوله تعالى: ( لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) يقول: لقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفًا أي: لكي يهلك طائفة من الذين كفروا وقال السدي: معناه ليهدم ركنًا من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقُتل من قادتهم وسادتهم يوم بدر سبعون وأُسر سبعون ومن حَمَلَ الآية على حرب أُحد فقد قتل منهم يومئذ ستة عشر وكانت النصرة للمسلمين حتى خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فانقلب عليهم، ( أَوْ يَكْبِتَهُمْ ) قال الكلبي: يهزمهم وقال يمان: يصرعهم لوجوههم، قال السدي: يلعنهم، وقال أبو عبيدة: يهلكهم، وقيل: يحزنهم، والمكبوت: الحزين وقيل أصله: يكبدهم أي: يصيب الحزن والغيظ أكبادَهم، والتاء والدال يتعاقبان كما يقال سَبَتَ رأسه وسَبَده: إذا حلقه، وقيل: يكبتهم بالخيبة، ( فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ) لم ينالوا شيئا مما كانوا يرجون من الظفر بكم.

قوله تعالى : ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ) الآية، اختلفوا في سبب نـزول هذه الآية فقال قوم: نـزلت في أهل بئر معونة، وهم سبعون رجلا من القراء، بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أُحد ليُعلِّموا الناس القرآن والعلمَ أميرهم المنذر بن عمرو، فقتلهم عامر بن الطفيل فَوَجَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وَجْدًا شديدًا، وقنت شهرًا في الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللّعن والسّنين فنـزلت: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ )

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا حبان بن موسى، أخبرنا عبد الله يعني ابن المبارك، أخبرنا معمر، عن الزهري، حدثني سالم، عن أبيه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: « اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد » فأنـزل الله تعالى ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) .

وقال قوم: نـزلت يوم أُحد، أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أخبرنا مسلم بن الحجاج، أخبرنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُسرت رباعيتُه يوم أُحد وشُجَّ في رأسه، فجعل يسلتُ الدم عنه ويقول: « كيف يُفلحُ قومٌ شجوا [ رأس ] نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى [ الله عز وجل ] فأنـزل الله تعالى: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ) . »

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: « اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية » فنـزلت: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) فأسلموا وحسن إسلامهم .

وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن إسحاق لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يوم أُحد ما بأصحابهم من جدع الآذان والأنوف وقطع المذاكير، قالوا: لئن أدالنا الله تعالى منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا، ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أَحدٌ من العرب بأَحَد فأنـزل الله تعالى هذه الآية.

وقيل: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم بالاستئصال فنـزلت هذه الآية وذلك لعلمه فيهم بأن كثيرًا منهم يسلمون. فقوله تعالى: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ) أي: ليس إليك، فاللام بمعنى « إلى » كقوله تعالى: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ ( سورة آل عمران - 193 ) أي: إلى الإيمان: قوله تعالى: ( أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) ( قال بعضهم: معناه حتى يتوب عليهم ) أو: إلى أن يتوب عليهم، وقيل: هو نسق على قوله « ليقطعَ طَرفًا » وقوله: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ) اعتراض بين نظم الكلام ونظم الآية ليقطعَ طرفًا من الذين كفروا أو يكبتَهم أو يتوبَ عليهم أو يعذبَهم فإنهم ظالمون، ليس لك من الأمر شيء، بل الأمرُ أمري في ذلك كله.

ثم قال: ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِر لِمَنْ يَشَاء وَيُعَذِّب مَنْ يَشَاء وَاللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 130 ) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 131 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ) أراد به ما كانوا يفعلونه عند حلول أجل الدَّين من زيادة المال وتأخير الطلب، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) في أمر الرِّبا فلا تأكلوه، ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )

ثم خوفهم فقال: ( وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ )

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 132 )

( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) لكي ترحموا.

 

وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( 133 )

( وَسَارِعُوا ) قرأ أهل المدينة والشام سارعوا بلا واو، ( إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي بادروا وسابقوا إلى الأعمال التي تُوجب المغفرة.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: إلى الإسلام، وروي عنه: إلى التوبة، وبه قال عكرمة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إلى أداء الفرائض، وقال أبو العالية: إلى الهجرة، وقال الضحاك: إلى الجهاد، وقال مقاتل: إلى الأعمال الصالحة. رُوي عن أنس بن مالك أنها التكبيرة الأولى.

( وَجَنَّةٍ ) أي وإلى جنة ( عَرْضُهَا السَّمَاوَات وَالأرْضُ ) أي: عرضها كعرض السموات والأرض، كما قال في سورة الحديد: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ( سورة الحديد - 21 ) أي: سَعَتُها، وإنما ذكر العرض على المبالغة لأن طول كل شيء في الأغلب أكثر من عرضه يقول: هذه صفة عَرْضِها فكيف طُولها؟ قال الزهري: إنما وصف عرضها فأما طولُها فلا يعلمه إلا الله، وهذا على التمثيل لا أنها كالسموات والأرض لا غير، معناه: كعرض السموات السبع والأرضين السبع عند ظنكم كقوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ ( سورة هود - 107 ) يعني: عند ظنكم وإلا فهما زائلتان، وروي عن طارق بن شهاب أن ناسًا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب وعنده أصحابه رضي الله عنهم وقالوا: أرأيتم قوله ( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَات وَالأرْضُ ) فأين النار؟ فقال عمر: أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار، وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا: إنه لمثلها في التوراة ومعناه أنه حيث يشاء الله.

فإن قيل: قد قال الله تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( سورة الذاريات - 22 ) وأراد بالذي وعَدَنا: الجنة فإذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون عرضُها السموات والأرض؟ وقيل: إن باب الجنة في السماء وعرضها السموات والأرض كما أخبر، وسُئل أنس بن مالك رضي الله عنه عن الجنة: أفي السماء أم في الأرض؟ فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة؟ قيل: فأين هي؟ قال: فوق السموات السبع تحت العرش. وقال قتادة: كانوا يرون أن الجنة فوق السموات السبع وأن جهنم تحت الأرضين السبع ( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) .

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( 134 )

( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ) أي: في اليُسر والعُسر فأول ما ذكر من أخلاقهم الموجبة للجنة ذكر السَّخَاوةَ وقد جاء في الحديث . أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو عمرو الفراتي، أخبرنا أبو العباس أحمد بن إسماعيل العنبري، أخبرنا أبو عبد الله بن حازم البغوي بمكة، أخبرنا أبو صالح بن أيوب الهاشمي، أخبرنا إبراهيم بن سعد، أخبرنا سعيد بن محمد، عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « السَّخيُّ قريبٌ من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيدٌ من النار، والبخيلُ بعيد من الله بعيدٌ من الجنة بعيد من الناس قريب من النار، والجاهل السخي أحب إلى الله من عابد بخيل » .

( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) أي: الجارعين الغيظَ عند امتلاء نفوسهم منه، والكظم: حبس الشيء عند امتلائه وكظم الغيظ أن يمتلئ غيظًا فيردّه في جوفه ولا يُظهره. ومنه قوله تعالى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ( سورة غافر - 18 ) أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو عمرو الفراتي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الإسفرايني، أخبرنا أبو عبد الله بن محمد زكريا العلاني، أخبرنا رَوح بن عبد المؤمن، أخبرنا أبو عبد الرحمن المُقْري أخبرنا سعيد بن أبي أيوب قال: حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كظم غيظًا وهو يقدر على أن ينفذَه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من أيّ الحور شاء « . . »

( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) قال الكلبي عن المملوكين سوء الأدب، وقال زيد بن أسلم ومقاتل: عمّن ظلمهم وأساء إليهم. ( وَاللَّه يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ ) .

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 135 )

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) الآية قال ابن مسعود: قال المؤمنون: يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدَعْ أنفك وأذنك، افعل كذا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

وقال عطاء: نـزلت في نبهان التمار وكنيته أبو معبد أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرًا فقال لها إن هذا التمر ليس بجيد، وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمّها إلى نفسه وقبَّلها فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له، فنـزلت هذه الآية .

وقال مقاتل والكلبي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاريَّ على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم فلما أرادت المرأة أن تأخذ منه دخل على أثرها وقبّل يدها، ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حاله فقالت: لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال، والأنصاري يسيح في الجبال تائبًا مستغفرًا، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجا. فقال الأنصاري: هلكتُ: وذكر له القصة فقال أبو بكر: ويحك أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي مالا يغار للمقيم، ثم أتيا عمر رضي الله عنه فقال مثل ذلك، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل مقالتهما، فأنـزل الله تعالى هذه الآية ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ) يعني: قبيحة خارجة عما أذن الله تعالى له فيه، وأصل الفحش القبح والخروج عن الحدّ قال جابر: الفاحشة الزنا.

( أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) ما دون الزنا من القبلة والمعانقة والنظر واللمس.

وقال مقاتل والكلبي: الفاحشة ما دون الزنا من قبلة أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل أو ظلموا أنفسهم بالمعصية.

وقيل: فعلوا فاحشة الكبائر، أو ظلموا أنفسهم بالصغائر.

وقيل: فعلوا فاحشة فعلا أو ظلموا أنفسهم قولا.

( ذَكَرُوا اللَّهَ ) أي: ذكروا وعيد الله، وأن الله سائلهم، وقال مقاتل بن حيان: ذكروا الله باللسان عند الذنوب.

( فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِر الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ ) أي: وهل يغفر الذنوب إلا الله .

( وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا ) أي: لم يُقيموا ولم يثبتوا عليه ولكن تابوا وأنابوا واستغفروا، وأصل الإصرار: الثبات على الشيء وقال الحسن: إتيان العبد ذنبًا عمدًا إصرارٌ حتى يتوب.

وقال السدي: الإصرار: السكوت وترك الاستغفار. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرَّياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أنا يحيى بن يحيى، أنا عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن عثمان بن واقد العمري، عن أبي نصيرة، قال : لقيت مولى لأبي بكر رضي الله عنه فقلت له: أسمعتَ من أبي بكر شيئا؟ قال: نعم سمعتُه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أصرَّ مَنِ استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة » .

( وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) قال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي: وهم يعلمون أنها معصية، وقيل: وهم يعلمون أن الإصرار ضار، وقال الضحاك: وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنوب، وقال الحسين بن الفضل وهم يعلمون أن لهم ربا يغفر الذنوب، وقيل: وهم يعلمون أنّ الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثُرت وقيل: وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم.

أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( 136 )

( أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْر الْعَامِلِينَ ) ثوابُ المطيعين. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الريّاني، أنا حميد بن زنجويه، أنا عفان بن مسلم، أنا أبو عَوانة ، أنا عثمان بن المغيرة عن علي بن ربيعة الأسدي، عن أسماء بن الحكم الفزاري، قال: سمعت عليًا رضي الله عنه يقول: إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله يقول: « ما مِنْ عبدٍ مؤمنٍ يُذنبُ ذنبًا فيُحسِنُ الطهورَ ثم يقومُ فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفرَ الله له » ورواه أبو عيسى عن قتيبة عن أبي عَوانة وزاد: ثم قرأ: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو منصور السمعاني، أنا أبو جعفر الريَّاني، أنا حميد بن زنجويه، أنا هشام بن عبد الملك، أخبرنا همام، عن إسحاق، عن عبد الله بن أبي طلحة، قال: كان قاض بالمدينة يقال له عبد الرحمن بن أبي عَمْرة فسمعتُه يقول: سمعتُ أبا هريرة يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن عبدًا أذنب ذنبًا فقال: أيْ ربِّ اذنبتُ ذنبًا فاغفرْهُ لي قال: فقال ربُّه عز وجل: علم عبدي أنّ له ربًا يغفر الذنب ويأخُذُ به، فغفر له فمكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا آخر فقال: ربِّ أذنبتُ ذنبًا فاغفرْهُ لي فقال ربه عز وجل: علم عبدي أنّ له ربًا يغفر الذنبَ ويأخُذُ بهِ قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو منصور السمعاني، أنا أبو جعفر الريَّاني، أنا حميد بن زنجويه، أخبرنا النعمان السدوسي، أخبرنا المهدي بن ميمون، أخبرنا غيلان بن جرير، عن شهر بن حَوْشَب عن معدي كرب عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: « قال يا ابن آدم إنك ما دعوتَني ورَجُوتَني غفرت لك على ما كان فيك، ابنَ آدم إنّك إن تلقاني بِقُرَابِ الأرض خَطَايا لقيتُكَ بِقُرَابها مغفرة بعد أن لا تُشرِكَ بي شيئا، ابنَ آدم إنّكَ إن تُذنبْ حتى تبلغَ ذنوبك عنانَ السماء ثم تستغفرني أغفرُ لك » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين الحسني الشرفي، أنا أبو الأزهر، أحمد بن الأزهر أخبرنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، حدثني أبي عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: « من علم أني ذُو قُدْرَةٍ على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يُشركْ بي شيئا » قال ثابت البناني: بلغني أن إبليس بكى حين نـزلت هذه الآية وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً إلى آخرها.

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 137 ) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ( 138 )

قوله تعالى: ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ) قال عطاء: شرائع، وقال الكلبي: مضتْ لكل أمة سُنّة ومنهاج إذا اتبعوها رضي الله عنهم، وقال مجاهد: قد خلت من قبلكم سُنَنٌ بالهلاك فيمن كذّب قبلكم، وقيل: سُنَنٌ أي: أمم والسُّنّةُ: الأمّةُ قال الشاعر:

مـا عـاين النـاسُ من فضل كفضلكم ولا رأوا مثلكــم فـي سـالف السّـنَن

وقيل معناه: أهل السنن، والسنة هي : الطريقة المتبعة في الخير والشر، يقال: سَنَّ فلانُ سُنَّةً حسنةً وسُنَّةً سيئةً إذا عمل عملا اقْتُدِي به مِنْ خيرٍ وشر.

ومعنى الآية: قد مضتْ وسلفتْ مني سننٌ فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة، بإمهالي واستدراجي إيَّاهم حتى يبلغ الكتاب فيهم أجلي الذي أجلتُه لإهلاكهم، وإدالة أنبيائي عليهم. ( فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُكَذِّبِينَ ) أي: آخر أمر المكذبين، وهذا في حرب أحد، يقول الله عز وجل: فأنا أُمهلهم وأستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلت في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وأوليائه وإهلاك أعدائه .

( هَذَا ) أي: هذا القرآن، ( بَيَانٌ لِلنَّاسِ ) عامة، ( وَهُدًى ) من الضلالة، ( وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) خاصة.

وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 139 ) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( 140 )

قوله تعالى: ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا ) هذا حثُّ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد، زيادة على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أُحد يقول الله تعالى: ولا تهنوا أي: لا تَضْعُفُوا ولا تجبنوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح، وكان قد قتل يومئذ من المهاجرين خمسة منهم: حمزة بن عبد المطلب ومصعبُ بن عُمير، وقتل من الأنصار سبعون رجلا.

( وَلا تَحْزَنُوا ) فإنكم ( أَنْتُم الأعْلَوْنَ ) أي تكون لكم العاقبةُ بالنصرة والظفر، ( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) يعني: إذ كنتم مؤمنين : أي: لأنكم مؤمنون، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشّعب فأقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا يعلون علينا، اللهم لا قوةَ لنا إلا بك وثابَ نفرٌ من المسلمين رماةٌ فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم فذلك قوله تعالى: ( وَأَنْتُم الأعْلَوْنَ ) وقال الكلبي: نـزلت هذه الآية بعد يوم أُحد حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بطلب القوم ما أصابهم من الجراح فاشتد ذلك على المسلمين فأنـزل الله تعالى هذه الآية، دليله قوله تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ( النساء - 104 ) .

( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر « قرح » بضم القاف حيث جاء، وقرأ الآخرون بالفتح وهما لغتان معناهما واحد كالجهد والجهد وقال الفراء القرح بالفتح: الجراحة وبالضم: ألم الجراحة هذا خطاب مع المسلمين حيث انصرفوا من أحد مع الكآبة والحزن، يقول الله تعالى: ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ) يوم أُحد، ( فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ) يوم بدر، ( وَتِلْكَ الأيَّام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) فيومٌ لهم ويومٌ عليهم أُديل المسلمون على المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسَرُوا سبعين وأُديل المشركون من المسلمين يوم أُحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمسًا وسبعين.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عمرو بن خالد، أنا زهير، أخبرنا أبو إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرّجّالة يوم أُحد وكانوا خمسين رجلا عبدَ الله بن جُبير، فقال: « إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسلَ إليكم وإن رأيتُمونا هزمنا القومَ وأوطأناهم فلا تبرحُوا حتى أُرسل إليكم فهزموهم قال: فأنا والله رأيتُ النساء يتشددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جُبير: الغنيمة أيْ قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جُبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله لنأتينّ الناسَ فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صُرفتْ وجُوهُهم فأقبلوا منهزمين. فذاك إذ يدعوهم الرسول في أُخراهُم فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين. »

وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين، سبعين أسيرًا وسبعين قتيلا فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال: أمّا هؤلاء فقد قُتلوا فما مَلَك عمرُ نفسه فقال: كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءُك قال: يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال إنكم ستجدون في القوم مُثلةً لم آمر بها ولم تسؤني، ثم أخذ يرتجز: اعل هُبَلُ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تُجيبوه « ؟ قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجلُّ » قال: إن لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ألا تَجيبوه » ؟ قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم « »

وُروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي حديثه قال أبو سفيان: يوم بيوم وإن الأيام دَول والحرب سجال، فقال عمر رضي الله عنه: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار « . »

قال الزجاج: الدولة تكون للمسلمين على الكفار، لقوله تعالى: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ وكانت يوم أَحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: ( وَلِيَعْلَمَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا ) يعني: إنما كانت هذه المُداولة ليعلم ( أي: ليرى الله ) الذين آمنوا فيميز المؤمن من المنافق، ( وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ) يُكرم أقوامًا بالشهادة، ( وَاللَّه لا يُحِبّ الظَّالِمِينَ ) .

 

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ( 141 )

( وَلِيُمَحِّصَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا ) أي: يُطهرهم من الذنوب، ( وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) يُفنيهم ويُهلكهم معناه: أنهم إن قتلوكم فهو تطهيرٌ لكم، وإن قتلتموهم فهو محقهم واستئصالُهم.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( 142 ) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ( 143 ) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ( 144 )

( أَمْ حَسِبْتُمْ ) أحسبتم؟ ( أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ ) [ أي: ولم يعلم الله ] ( الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ )

( وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ ) وذلك أن قوما من المسلمين تمنَّوا يومًا كيوم بدر ليقاتُلوا ويستشهِدُوا فأراهم الله يوم أُحد وقوله ( تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ ) أي: سببَ الموت وهو الجهاد من قبل أن تلقوه، ( فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ ) يعني: أسبابه.

فإن قيل: ما معنى قوله ( وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) بعد قوله: ( فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ ) قيل: ذكره تأكيدًا وقيل: الرؤية قد تكون بمعنى العلم، فقال: ( وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) ليعلم أن المراد بالرؤية النظر، وقيل: وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

قوله عز وجل: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) قال أصحاب المغازي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نـزل بالشّعب من أُحد في سبعمائة رجل، وجعل عبد الله بن جُبير وهو أخو خَوات بن جبير على الرّجالة وكانوا خمسين رجلا وقال: أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، فإن كانت لنا أو علينا فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم فإنّا لن نـزال غالبين ما ثبتم مكانكم فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار فقاتلوا حتى حميت الحرب فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا فقال من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى يثخن، فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري فلما أخذه اعتم بعمامة حمراء وجعل يتبختر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنها لَمشيةٌ يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع » ففلق به هام المشركين وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم.

وروينا عن البراء بن عازب قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خَلاخِلهنَّ وأسوقهن رافعاتٍ ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة والله لنأتينّ الناس فلَنُصيبنّ من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم.

وقال الزبير بن العوام: فرأيت هندًا وصواحباتها هاربات مصعدات في الجبل، باديات خدامهنّ ما دون أخذهن شيء فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا أصحابهم ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب .

فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة، ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم فهزموهم وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورَباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرق عنه أصحابه ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة يعلوها، وكان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع فجلس تحته طلحه فنهض حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أوجَبَ طلحةُ » ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد، وأعطتْها وحشيًا وبقرتْ عن كبدة حمزة ولاكتها فلم تستطع أن تُسيغها فلفظتها، وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم فذبَّ مُصعب بن عمير - وهو صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمئة، وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى المشركين وقال: إني قتلت محمدًا وصاح صارخٌ ألا إنّ محمدًا قد قتل، ويقال: إن ذلك الصارخ كان إبليس، فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: « إلي عباد الله ( إليَّ عبادَ الله ) فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فَحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقتْ سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته، وقال له: إرم فداك أبي وأمي، وكان أبو طلحة رجلا راميًا شديدا النـزع كسر يومئذٍ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر بجعبة من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة، وكان إذا رمى أشرف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نبله وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست حين وقَى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حين وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها، فعادت كأحسن ما كانت. »

فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبي بن خلف الجمحي، وهو يقول: لا نجوتُ إن نجوتَ فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منّا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: دعوه حتى إذا دَنَا منه وكان أُبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: عندي رمكة أعلفها كل يوم فَرْقَ ذُرة أقتُلُكَ عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه فخدشهً خدشة فتدهدًأ عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور، ويقول: قتلني محمد، فأخذه أصحابه وقالوا: ليس عليك بأس قال: بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومُضر لقتلتهم، أليس قال لي: أقتلك؟ فلو بزق عليّ بعد تلك المقالة لقتلني، فلم يلبث إلا يوما حتى مات بموضع يقال له سَرِف.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمرو بن علي، أنا أبو عاصم، عن ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اشتدّ غضبُ الله على من قتله نبي واشتدّ غضبُ الله على من دَمىَّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قالوا: وفشا في الناس أن محمدًا قد قُتل فقال بعض المسلمين: ليتَ لنا رسولا إلى عبد الله بن أُبي فيأخذ لنا أمانًا من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمدا قد قتل فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنس بن النضر عمُّ أنس بن مالك: يا قوم إن كان قتل محمد فإن ربَّ محمد لم يُقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُوتُوا على ما مات عليه ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المنافقين، ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس فأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك، قال عرفتُ عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليّ أن اسكتْ فانحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم النبي صلى الله عليه وسلم على الفِرار فقالوا: يا نبي الله فديناك بآبائنا وأُمهاتنا، أتانا الخبرُ بأنك قد قُتلت فرُعبت قلوبنا فولّينا مدبرين فأنـزل الله تعالى هذه الآية ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ )

ومحمد هو المستغرق لجميع المحامد، لأنّ الحمد لا يستوجبه إلا الكامل والتحميد فوق الحمد، فلا يستحقه إلا المستولي على الأمر في الكمال، وأكرم الله نبيَّه وصفيه باسمين مشتقين من اسمه جلّ جلاله ( محمد وأحمد ) وفيه يقول حسان بن ثابت:

ألــم تَــرَ أن اللــه أرسـل عبـدَه ببرهانــه واللــه أعــلى وأمجـدُ

وشــقَّ لــه مــن اسـمه ليجلَّـه فـذو العـرشِ محـمـود وهـذا محمد

قوله تعالى: ( أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) رجعتم إلى دينكم الأول، ( وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىعَقِبَيْهِ ) فيرتّد عن دينه، ( فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ) بارتداده وإنّما يضرُّ نفسه، ( وَسَيَجْزِي اللَّه الشَّاكِرِينَ )

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ( 145 )

( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ ) قال الأخفش: اللام في ( لِنَفْسٍ ) منقولة تقديره: وما كانت نفس لتموت، ( إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ) بقضاء الله وقدره، وقيل: بعلمه وقيل: بأمره، ( كِتَابًا مُؤَجَّلا ) أي: كتَبَ لكل نفس أجلا لا يقدر أحدٌ على تغييره وتأخيره، ونصب الكتاب على المصدر، أي: كتب كتابًا، ( وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ) يعني: من يرد بطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاء لعمله، يريد نؤته منها ما نشاء بما قدرناه له كما قال: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ( سورة الإسراء - 18 ) نـزلت في الذين تركوا المركز يوم أُحد طلبا للغنيمة، ( وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ) أي أراد بعمله الآخرة، قيل: أراد الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا. ( وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) أي: المؤمنين المطيعين.

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداوودي، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن موسى بن الصلت أنا أبو إسحاق إبراهيم عبد الصمد الهاشمي، أنا أبو يحيى محمد بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن المقرئ، أنا أبي، أنا الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقرَ بين عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له » .

أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن محمد بن علي بن توبة الزرّاد، أخبرنا أبو بكر محمد بن إدريس بن محمد الجرجاني، وأبو أحمد محمد بن أحمد المعلم الهروي، قالا أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني، أخبرنا أبو العباس الحسن بن سفيان النسوي، أخبرنا حيان بن موسى وعبد الله بن أسماء ابن أخي جويرية بن أسماء، قال أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى فمن كانتْ هجرتُه إلى الله ورسولهِ فهجرتهُ إلى الله ورسوله ومن كانتْ هجرتهُ إلى دنيا يُصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرتهُ إلى ما هاجر إليه « . »

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ( 146 )

قوله تعالى: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَه رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ) قرأ ابن كثير « وكائن » بالمد والهمزة على وزن فاعل وتليين الهمزة أبو جعفر، وقرأ الآخرون « وكأيّن » بالهمز والتشديد على وزن كعين، ومعناه: وكم، وهي كاف التشبيه ضُمت إلى أي الاستفهامية، ولم يقع للتنوين صورةٌ في الخط إلا في هذا الحرف خاصة ويقف بعض القراء على « وكأيّ » بلا نون والأكثرون على الوقوف بالنون قوله ( قَاتَل ) قرأ ابن كثير ونافع وأهل البصرة بضم القاف وقرأ الآخرون ( قَاتَل ) فمن قرأ ( قَاتَل ) فلقوله : ( فَمَا وَهَنُوا ) ويستحيل وصفهم بأنهم لم يهنوا بعدما قتلوا لقول سعيد بن جبير: ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال ولأنّ ( قَاتَل ) أعم.

قال أبو عبيد: إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قُتل داخلا فيه، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه غيرهم، فكان ( قَاتَل ) أعم.

ومن قرأ « قتل » ) فله ثلاثة أوجه: أحدها:

أن يكون القتل راجعا إلى النبي وحده، فيكون تمام الكلام عند قوله « قتل » ويكون في الآية إضمار معناه: ومعه ربيون كثير، كما يقال: قتل فلان معه جيشٌ كثير أي: ومعه.

والوجه الثاني: أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين ويكون المراد: بعض من معه، تقول العرب قتلنا بني فلان وإنما قتلوا بعضهم ويكون قوله ( فَمَا وَهَنُوا ) راجعًا إلى الباقين.

والوجه الثالث: أن يكون القتل للربيين لا غير.

وقوله ( رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: جموع كثيرة، وقال ابن مسعود: الربيون الألوف، وقال الكلبي الرَّبِّية الواحدة: عشرة آلاف، وقال الضحاك: الربية الواحدة: ألف، وقال الحسن: فقهاء علماء وقيل: هم الأتباع والربانيون الولاة، والربيون الرعية، وقيل: منسوب إلى الرب وهم الذين يعبدون الرب، ( فَمَا وَهَنُوا ) أي: فما جَبُنُوا، ( لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا ) عن الجهاد بما نالهم من ألم الجراح وقَتْل الأصحاب. ( وَمَا اسْتَكَانُوا ) قال مقاتل: وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم وقال السدي: وما ذلوأ قال عطاء وما تضرعوا وقال أبو العالية: وما جبنوا ولكنهم صبروا على أمر رَبهّم وطاعة نبيهم وجهاد عدوهم، ( وَاللَّه يُحِبّ الصَّابِرِينَ )

وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 147 ) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( 148 )

قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ ) نصب على خبر كان والاسم في أن قالوا، ومعناه: وما كان قولهم عند قتل نبيهم، ( إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ) أي: الصغائر، ( وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا ) أي: الكبائر، ( وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ) كي لا تزول، ( وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) يقول فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد.

( فَآتَاهُم اللَّه ثَوَابَ الدُّنْيَا ) النصرة والغنيمة، ( وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ ) الأجر والجنة، ( وَاللَّه يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ( 149 ) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ( 150 ) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ( 151 ) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( 152 )

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا ) يعني: اليهود والنصارى وقال علي رضي الله عنه يعني: المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم.

( يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) يُرجعوكم إلى أول أمركم الشرك بالله، ( فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ) مغبونين.

ثم قال: ( بَلِ اللَّه مَوْلاكُمْ ) ناصُركم وحافظكُم على دينكم، ( وَهُوَ خَيْر النَّاصِرِينَ )

( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) وذلك أن أبا سفيان والمشركين لمّا ارتحلوا يوم أُحد متوجهين نحو مكة انطلقوا حتى إذا بلغوا بعض الطريق ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاسْتَأْصِلُوهم فلمّا عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرُّعب حتى رجعوا عما همُّوا به.

سنلقي أي: سنقذف في قلوب الذين كفروا الرعب الخوف وقرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي ويعقوب ( الرُّعُبَ ) بضم العين وقرأ الآخرون بسكونها، ( بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ) حُجةً وبُرهانًا، ( وَمَأْوَاهُم النَّار وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ) مقام الكافرين.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُم اللَّه وَعْدَهُ ) قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من أُحد وقد أصابهم ما أصابهم، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا؟ وقد وعدنا الله النصر فأنـزل الله تعالى:

( وَلَقَدْ صَدَقَكُم اللَّه وَعْدَهُ ) بالنصر والظفر وذلك أن النصر والظفر كان للمسلمين في الابتداء، ( إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أُحدًا خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل عينين، وهو جبل عن يساره وأقام عليه الرماة وأمّر عليهم عبد الله بن جُبير وقال لهم: احموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غَنِمْنَا فلا تشركونا وإن رأيتمونا نُقتل فلا تَنْصرونا، وأقبل المشركون فأخذوا في القتال فجعل الرماة يرشقون خيل المشركين بالنبل والمسلمون يضربونهم بالسيوف، حتى ولّوا هاربين فذلك قوله تعالى ( إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ) أي تقتلونهم قتلا ذريعا بقضاء الله.

قال أبو عبيدة: الحسُّ: هو الاستئصال بالقتل.

( حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ ) أي: إن جبنتُم وقيل: معناه فلما فشلتم، ( وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ ) والواو زائدة في ( وَتَنَازَعْتُم ) يعني: حتى إذا فشلتم تنازعتم، وقيل: فيه تقديم وتأخير تقديره: حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلْتُم ومعنى التنازع الاختلاف.

وكان اختلافهم أن الرماة اختلفوا حين انهزم المشركون فقال بعضهم: انهزم القوم فما مقامنا؟ وأقبلوا على الغنيمة وقال بعضهم: لا تجاوزوا أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عبد الله بن جُبير في نفر يسير دون العشرة.

فلما رأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ذلك حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه، وأقبلوا على المسلمين وحالت الريح فصارت دَبُوَرًا بعد ما كانت صبَا وانتقضت صفوف المسلمين واختلطوا فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضا ما يشعرون من الدهش، ونادى إبليس أن محمدًا قد قُتل وكان ذلك سبب الهزيمة للمسلمين.

قوله تعالى: ( وَعَصَيْتُمْ ) يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم وخالفتمُ أمره، ( مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ ) الله ( مَا تُحِبُّونَ ) يا معشر المسلمين من الظفر والغنيمة، ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيد الدُّنْيَا ) يعني: الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب، ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيد الآخِرَةَ ) يعني: الذين ثبتوا مع عبد الله بن جُبير حتى قُتلوا قال عبد الله بن مسعود: ما شعرت أن أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أُحد ونـزلت هذه الآية ( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ) أي: ردّكم عنهم بالهزيمة، ( لِيَبْتَلِيَكُم ) ليمتحنكم وقيل: لُينـزل البلاء عليكم ( وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ) يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، ( وَاللَّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ )

إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 153 )

( إِذْ تُصْعِدُونَ ) يعني: ولقد عفا عنكم إذ تُصْعِدُون هاربين، وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلمي والحسن وقتادة ( تُصْعِدُونَ ) بفتح التاء والعين والقراءة المعروفة بضم التاء وكسر العين.

والإصعاد: السيرُ في مستوى الأرض والصُّعود: الارتفاع على الجبال والسطوح، قال أبو حاتم: يقال أصعدتَ إذا مضيتَ حيالَ وجهك وصعدتَ إذا ارتقيتَ في جبل أو غيره، وقال المبرد: أصعد إذا أبعد في الذهاب، وكلتا القراءتين صواب فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد وقال المفضل: صعد وأصعد وصعَّد بمعنى واحد.

( وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَد ) أي: لا تعرجون ولا تقيمون على أحد ولا يلتفت بعضكم إلى بعض، ( وَالرَّسُول يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ) أي: في آخركم ومن ورائكم إليّ عبادَ الله فأنا رسول الله من يكرُّ فله الجنة ، ( فَأَثَابَكُمْ ) فجازاكم جعل الإثابة بمعنى العقاب، وأصلها في الحسنات لأنه وضعها موضع الثواب كقوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ جعل البشارة في العذاب ومعناه: جعل مكان الثواب الذي كنتم ترجون ( غمًّا بغم ) وقيل: الباء بمعنى على أي: غمًا على غمٍّ وقيل: غمَّا متصلا بغمٍّ فالغمُّ الأول: ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والغمُّ الثاني: ما نالهم من القتل والهزيمة.

وقيل: الغم الأولُّ ما أصابهم من القتل والجراح، والغم الثاني: ما سمعوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد قتل فأنساهم الغمَّ الأول.

وقيل: الغم الأول: إشراف خالد بن الوليد عليهم بخيل المشركين، والغم الثاني: حين أشرف عليهم أبو سفيان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهمًا في قوسه وأراد أن يرميه، فقال أنا رسول الله ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرح النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قُتلوا فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب، فلما نظر المسلمون إليهم أهمّهمْ ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لهم أن يعلونا اللّهم إن تقتل هذه العصابة لا تُعبد في الأرض، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنـزلوهم.

وقيل: إنهم غمّوا الرسول بمخالفة أمره، فجازاهم الله بذلك الغمَّ غمَّ القتل والهزيمة.

قوله تعالى: ( لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ) من الفتح والغنيمة، ( وَلا مَا أَصَابَكُمْ ) أي: ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة، ( وَاللَّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )

 

ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 154 )

( ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ ) يا معشر المسلمين، ( مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا ) يعني: أمنًا والأمنَ الأمَنَةَ بمعنى واحد وقيل: الأمنَ يكون مع زوال سبب الخوف والأمَنَةُ مع بقاء سبب الخوف وكان سبب الخوف هنا قائما، ( نُعَاسًا ) بدل من الأمنة ( يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ) قرأ حمزة والكسائي « تغشى » بالتاء ردًّا إلى الأمَنَةِ وقرأ الآخرون بالياء ردًّا على النعاس.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمنّهم يومئذ بنُعاس يغشاهم وإنما ينعس من يأمن، والخائف لا ينام.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن، أنا حسين بن محمد، أخبرنا شيبان عن قتادة أخبرنا أنس أن أبا طلحة قال: غشيَنَا النعاسُ ونحن في مصافنّا يوم أحد قال: فجعل سيفي يسقط من يدي فآخذه ويسقط وآخذه « . »

وقال ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أُحد فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا وهو يميل تحت جُحفتهِ من النعاس .

وقال عبد الله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدّ علينا الحرب، أرسل الله علينا النوم والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم، يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فذلك قوله تعالى: ( يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ) يعني: المؤمنين، ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) يعني: المنافقين: قيل: أراد الله به تمييز المنافقين من المؤمنين فأوقع النعاسَ على المؤمنين حتى أمِنُوا ولم يُوقع على المنافقين فبقوا في الخوف وقد أهمّتْهم أنفسُهم أي: حملتهم على الهمِّ يقال: أمرٌ مهمُّ.

( يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ) أي: لا ينصر محمدًا، وقيل: ظنوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد قتل، ( ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ) أي: كظن أهل الجاهلية والشرك، ( يَقُولُونَ هَلْ لَنَا ) ما لنا لفظهُ استفهام ومعناه: حجدٌ، ( مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ ) يعني: النصر، ( قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّه لِلَّهِ ) قرأ أهل البصرة برفع اللام على الابتداء وخبره في ( لِلَّه ) وقرأ الآخرون بالنصب على البدل وقيل: على النعت.

( يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) وذلك أن المنافقين قال بعضهم لبعض: لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمدٍ إلى قتال أهل مكة ولم يُقتل رؤساؤنا، وقيل: لو كنا على الحق ما قتلنا هاهنا.

قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: يظنون بالله غيرَ الحق ظنَّ الجاهلية يعني: التكذيب بالقدر وهو قولهم ( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) ( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ ) قضي ، ( عَلَيْهِم الْقَتْل إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) مصارعهم ، ( وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ) وليمتحن الله ، ( مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ) يخرج ويظهر ( مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) بما في القلوب من خير وشر.

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 155 )

( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ ) أي انهزموا، ( مِنْكُمْ ) يا معشر المسلمين ، ( يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أُحد وكان قد انهزم أكثر المسلمين ولم يبقَ مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة عشر رجلا ستة من المهاجرين: وهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم.

قوله تعالى: ( إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُم الشَّيْطَانُ ) أي: طلب زلّتهم كما يقال: استعجلت فلانًا إذا طلبت عجلته وقيل: حملهم على الزَّلَة وهي الخطيئة وقيل: أزلَّ واستزلَّ بمعنى واحد، ( بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ) أي : بشؤْم ذُنوبهم، قال بعضهم: بتركهم المركز، وقال الحسن: ما كسبوا هو قبولهم من الشيطان ما وسوس إليهم من الهزيمة، ( وَلَقَدْ عَفَا اللَّه عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 156 ) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( 157 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا ) يعني: المنافقين عبد الله بن أُبي وأصحابه، ( وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ ) في النفاق والكفر وقيل: في النسب، ( إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْض ) أي: سافروا فيها لتجارة أو غيرها، ( أَوْ كَانُوا غُزًّى ) أي: غزاة جمع غاز فقتلوا، ( لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّه ذَلِكَ ) يعني: قولهم وظنهم، ( حَسْرَةً ) غمًّا ( فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّه يُحْيِي وَيُمِيت وَاللَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي « يعملون » بالياء وقرأ الآخرون بالتاء.

( وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ ) قرأ نافع وحمزة والكسائي « مِتَّمْ » بكسر الميم وقرأ الآخرون بالضم فمن ضمه فهو من مات يموت كقولك: من قال يقول قلتُ بضم القاف ومن كسره فهو من مات يمات كقولك من خاف يخاف: خفتُ، ( لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ ) في العاقبة، ( وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) من الغنائم قراءة العامة، « تجمعون » بالتاء لقوله ( وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ ) وقرأ حفص عن عاصم ( يَجْمَعُونَ ) بالياء يعني: خير مما يجمع الناس.

 

وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ( 158 ) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ( 159 )

( وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ) في العاقبة.

قوله تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ) أي: فبرحمة من الله و « ما » صلة كقوله فَبِمَا نَقْضِهِمْ ( لِنْتَ لَهُمْ ) أي: سَهُلتْ لهم أخلاقُك وكثرةُ احتمالك ولم تسرع إليهم فيما كان منهم يوم أُحد، ( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا ) يعني: جافيًا سيّء الخلق قليل الاحتمال، ( غَلِيظَ الْقَلْبِ ) قال الكلبي: فظًّا في القول غليظ القلب في الفعل، ( لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) أي: لنفروا وتفرقوا عنك، يقال: فضضتُهم فانفضُّوا أي فرقتهم فتفرقُوا ( فَاعْف عَنْهُمْ ) تجاوز عنهم ما أتوا يوم أُحد، ( وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) حتى أشفعك فيهم، ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْر ) أي: استخرج آراءهم واعلم ما عندهم من قول العرب: شُرتُ الدابة وشَورتُها إذا استخرجت جريَها وشرتُ العسلَ وأشرتهُ إذا أخذتهُ من موضعه واستخرجتهُ.

واختلفوا في المعنى الذي لأجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه ونـزول الوحي عليه ووجوب طاعته على الخلق فيما أحبُّوا وكرهوا.

فقال بعضهم: هو خاص في المعنى أي: وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله تعالى عهد، قال الكلبي: يعني ناظرْهم في لقاء العدو ومكايد الحرب عند الغزو.

وقال مقاتل وقتادة: أمر الله تعالى بمشاورتـهم تطييبًا لقلوبهم، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم، فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم.

وقال الحسن: قد علم الله عز وجل أنه ما به إلى مشاورتـهم حاجة ولكنه أراد أن يستنّ به من بعده.

أخبرنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبد الله الفارسي: أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم بن علي الصالحاني، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، أخبرنا علي بن العباس المقانعي أخبرنا أحمد بن ماهان ، أخبرني أبي، أخبرنا طلحة بن زيد، عن عقيل عن الزهري عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: « ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم » .

قوله تعالى : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) لا على مشاورتهم أي: قُمْ بأمر الله وثق به واستعنه، ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) .

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 160 )

( إِنْ يَنْصُرْكُم اللَّهُ ) يُعنكْمُ الله ويمنعكم من عدوكم، ( فَلا غَالِبَ لَكُمْ ) مثل يوم بدر، ( وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ ) يترككم فلم ينصركم كما كان بأُحد والخذلان: القعودُ عن النُّصرة والإسلامُ للهلَكة، ( فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ) أي: من بعد خذلانه، ( وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) قيل: التوكل أن لا تعصي الله من أجل رزقك وقيل: أن لا تطلب لنفسك ناصرًا غير الله ولا لرزقك خازنًا غيره ولا لعملك شاهدا غيره.

أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن شجاع البزَّار ببغداد، أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد الهيثم الأنباري، أخبرنا محمد بن أبي العوام أخبرنا وهب بن جرير، أخبرنا هشام بن حسان عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يدخل سبعون ألفًا من أمتي الجنة بغير حساب » قيل: يا رسول الله مَنْ هم؟ قال: « هم الذين لا يكتوون ولا يسَتْرقُون ولا يتطيرّون وعلى ربهم يتوكلون » فقال عكاشة بن محصن: يا رسول الله ادعُ الله أن يجعلني منهم قال: « أنت منهم » ثم قام آخر فقال: يا رسول الله أدعُ الله أن يجعلني منهم فقال: « سبقك بها عكاشة » .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، أنا عبد الله بن المبارك، عن حياة بن شريح، حدثني بكر بن عمرو، عن عبد الله بن هبيرة، أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لو أنكم تتوكّلوُن على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِماصًا وتروح بطانا » .

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 161 )

قوله عز وجل: ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ) الآية روى عكرمة ومقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن هذه الآية نـزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال الكلبي ومقاتل: نـزلت في غنائم أُحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة وقالوا: نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر، فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: « ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركزَ حتى يأتيكم أمري » ؟ قالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم » فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

وقال قتادة: ذُكر لنا أنها نـزلت في طائفة غلّت من أصحابه . .

وقيل: إن الأقوياء ألحوا عليه يسألونه من المغنم، فأنـزل الله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ) فيعطي قومًا ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بينهم بالسوية .

وقال محمد بن إسحاق بن يسار : هذا في الوحي، يقول: ما كان لنبي أن يكتم شيئا من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة.

قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة وعاصم « يغل » ) بفتح الياء وضم الغين معناه: أن يخون والمراد منه الأمة وقيل: اللام فيه منقولة معناه: ما كان النبي ليَغُل وقيل: معناه ما كان يظن به ذلك ولا يليق به، وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الغين، وله وجهان أحدهما: أن يكون من الغلول أيضًا أي: ما كان لنبي أن يُخان يعني: أن تخونه أُمّتُه والوجه الآخر: أن يكون من الإغلال، معناه: ما كان لنبي أن يخون أي يُنسب إلى الخيانة.

( وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قال الكلبي: يمثل له ذلك الشيء في النار ثم يقال له: انـزلْ فخذْه فينـزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ موضعه وقع في النار ثم يُكلف أن ينـزل إليه، فيخرجه ففعل ذلك به.

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد الفقيه، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث مولى بن مطيع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع، قال فوجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى وكان رفاعة بن زيد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبدًا أسود يقال له مِدْعَمٌ قال فخرجنا حتى إذا كنّا بوادي القرى فبينما مِدْعَمٌ يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عَائر فأصابه فقتله فقال الناس: هنيئًا له الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم تشتعل عليه نارا » فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بِشرَاكٍ أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « شِراك من نار أو شراكان من نار » .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أخبرنا إبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حيان، عن أبي عمرة الأنصاري، عن زيد بن خالد الجهني، قال: توفي رجل يوم خيبر فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « صلوا على صاحبكم » فتغيرت وجوه الناس لذلك فزعم زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن صاحبكم قد غلّ في سبيل الله » قال: ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرزات اليهود يساوين درهمين .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب المروزي، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع بن سليمان، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يُقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قَدِمَ قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: « ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي، فهلا جلسَ في بيت أمه أو في بيت أبيه فينظر أيُهْدَى إليه أم لا فوالذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرًا له رُغاء أو بقرة لها خُوار أو شاة لها تَيْعر » ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه ثم قال: « اللهمَّ هل بلغتُ » .

وروى قيس بن أبي حازم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: « لا تصيبن شيئًا بغير إذني فإنه غلول، ومن يغْلُلْ يأت بما غَلَّ يوم القيامة » .

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا وجدتم الرجل قد غلّ فاحرقوا متاعَه واضربُوه » .

وروي عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقُوا متاع الغالّ وضربوه » . قوله تعالى: ( وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )

أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 162 ) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( 163 )

( أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ ) وترك الغلول ، ( كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّه ) فعل ، ( وَمَأْوَاه جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )

( هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ) يعني: ذو درجات عند الله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني من اتّبع رضوانَ الله ومن باءَ بسخَطٍ من الله مختلفو المنازل عند الله فلمن اتبع رضوان الله الثواب العظيم، ولمن باء بسخط من الله العذابُ الأليم. ( وَاللَّه بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ )

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 164 ) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 165 )

( لَقَدْ مَنَّ اللَّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) قيل: أراد به العرب لأنه ليس حيٌّ من أحياء العرب إلا وله فيهم نسب إلا بني ثعلبة دليله قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ وقال الآخرون: أراد به جميع المؤمنين ومعنى قوله تعالى: ( مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) أي: بالإيمان والشفقة لا بالنسب ودليله قوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاته وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) وقد كانوا ، ( مِنْ قَبْلُ ) أي: من قبل بعثه ( لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ )

( أَوَلَمَّا ) أي: حين ( أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ) بأُحد، ( قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا ) يوم بدر وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أُحد سبعين وقتل المسلمون منهم ببدر سبعين وأسروا سبعين، ( قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا ) من أين لنا هذا القتلُ والهزيمةُ ونحن مسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا؟ ( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ) روى عبيدة السلماني عن علي رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا فتضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا، لا بل نأخذ فداءهم فنقوى بها على قتال عدونا، ويستشهد منا عدتهم [ فقتل منهم يوم أُحد ] سبعون عدد أسارى أهل بدر فهذا معنى قوله تعالى: ( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ) أي: بأخذكم الفداء واختياركم القتل، ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

 

وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ( 166 ) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ( 167 ) الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 168 ) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( 169 )

( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) بأحد من القتل والجرح والهزيمة، ( فَبِإِذْنِ اللَّهِ ) أي: بقضائه وقدره، ( وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي: ليُميزّ وقيل ليرى.

( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي: لأجل دين الله وطاعته، ( أَوِ ادْفَعُوا ) عن أهلكم وحريمكم، وقال السدي: أي كثّروا سوادَ المسلمين ورابطوا إن لم تُقاتلوا يكونُ ذلك دفعاً وقمعا للعدو، ( قَالُوا لَوْ نَعْلَم قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ ) وهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه الذين انصرفوا عن أُحد وكانوا ثلاثمائة قال الله تعالى: ( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ ) أي: إلى الكفر يومئذ أقربُ ( مِنْهُمْ لِلإيمَانِ ) أي: إلى الإيمان ، ( يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم ) يعني: كلمة الإيمان ( مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّه أَعْلَم بِمَا يَكْتُمُونَ )

( الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ ) في النسب لا في الدين وهم شهداء أُحد ( وَقَعَدُوا ) يعني: قعد هؤلاء القائلون عن الجهاد ( لَوْ أَطَاعُونَا ) وانصرفوا عن محمد صلى الله عليه وسلم وقعدوا في بيوتهم ( مَا قُتِلُوا قُلْ ) يا محمد، ( فَادْرَءُوا ) فادفعوا ، ( عَنْ أَنْفُسِكُم الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) إن الحذر لا يغني عن القدر.

قوله تعالى: ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ) الآية قيل: نـزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين .

وقال الآخرون: نـزلت في شهداء أحد وكانوا سبعين رجلا أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا محمد بن حماد، أنا أبو معاوية عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبد الله ( هو ابن مسعود ) رضي الله عنهما عن هذه الآية: ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) الآية قال أما أنّا قد سألنا عن ذلك فقال: « أرواحهم كطير خضر » ويروى « في جوف طير خضر لها قناديلُ معلقة بالعرش تسرحُ من الجنة في أيها شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربُّك اطلاعة فقال: سلوني ما شئتم فقالوا : يا رب كيف نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا؟ فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا شيئا قالوا: إنا نسألك أن تردَّ أرواحنا إلى أجسادنا نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تُركوا » .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا عبد الله بن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان، أنا جيعوية أنا صالح بن محمد، أنا سليمان بن عمرو، عن إسماعيل بن أمية، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما أصيب إخوانُكم يوم أُحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طيرٍ خُضرٍ ترد أنهارَ الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيثُ شاءتْ وتأوي إلى قناديلَ من ذهب تحت العرش، فلما رأوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم ورأوا ما أعدَّ الله لهم من الكرامة قالوا: ياليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله بنا كي يرغبوا في الجهاد ولا يتكلوا عنه فقال الله عز وجل أنا مخبرٌ عنكم ومبلغٌ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنـزل الله تعالى ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ) إلى قوله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ . »

سمعت عبد الواحد بن أحمد المليحي، قال: سمعت الحسن بن أحمد القتيـبي قال: سمعتُ محمد بن عبد الله بن يوسف قال: سمعت محمد بن إسماعيل البكري، قال: سمعت يحيى بن حبيب بن عربي قال: سمعتُ موسى بن إبراهيم قال: سمعت طلحة بن خراش قال: سمعتُ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: « يا جابر ما لي أراك منكسرا » ؟ قلتُ يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينًا قال: « أفلا أبشرك بما لقي الله به أباكَ » ؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: « ما كلم الله تعالى أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وإنه أحيا أباك فكلّمه كفاحًا قال: يا عبدي تمنَّ عليّ أعطِك قال: يا ربِّ أحيني فأقتل فيك الثانية، قال الرب تبارك وتعالى: إنه قد سبق منّي أنهم لا يرجعون فأنـزلت فيهم ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ) . »

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنا أبو الحسن الطيسفوني، أنا عبد الله بن عمر الجوهري، أنا أحمد بن علي الكشميهني، أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر، أنا حميد عن أنس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من عبد يموتُ له عند الله خيرٌ يحبُّ أن يرجع إلى الدنيا وأنّ له الدنيا وما فيها، إلا الشهيد لما يَرَى من فضلِ الشهادة، فإنه يحبُّ أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرةً أخرى » .

وقال قوم: نـزلت هذه الآية في شهداء بئر معونة وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك وغيرهم من أهل العلم قال: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر، مُلاعِبُ الأسِنَّة وكان سيد بني عامر بن صعصعة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأهدى إليه هدية فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها وقال لا أقبل هدية مشرك، فأسِلْم إن أردتَ أن أقبل هديتَك؟ ثم عرض عليه الإسلام وأخبره بما له فيه وما أعدّ الله للمؤمنين وقرأ عليه القرآن فلم يُسلم، ولم يبعد وقال: يا محمد إن الذي تدعو إليه حسنٌ جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فيدعونهم إلى أمرك رجوتُ أن يستجيبوا لك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني أخشى عليهم أهل نجد » .

فقال أبو البراء: أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك.

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من خيار المسلمين منهم الحارث بن الصِّمَّة وحرام بن مِلْحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن يزيد ابن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه، وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أُحد، فساروا حتى نـزلوا بئر معونة وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم فلما نـزلوها قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء؟ فقال حرام بن مِلحان: أنا فخرج بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء فلما أتاهم حرام بن مِلحان لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حرام بن ملحان: يا أهل بئر معونة إني رسولُ رسولِ الله إليكم إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال: الله أكبر فزتُ وربِّ الكعبة.

ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا: لن نخفر أبا براء قد عقد لهم عقدًا وجوارًا ثم استصرخ عليهم قبائل من بني سُلَيْم - عُصَيَّة ورِعْلا وذكوان - فأجابوه فخرجوا حتى غشوا القومَ فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قُتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق فارتثَّ من بين القتلى فضلوه فيهم فعاش حتى قُتل يوم الخندق، وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلم ينبههما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على المعسكر! فقالا والله إن لهذا الطير لشأنًا فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري لعمرو بن أمية الضمري: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره فقال الأنصاري الله أكبر لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل القوم حتى قتل وأخذوا عمرو بن أمية الضمري أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجزَّ ناصيتهَ وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمِّه فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هذا عمل أبي براء قد كنتُ لهذا كارها متخوفا » فبلغ ذلك أبا براء فشقّ عليه إخفارُ عامر إياه وما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره.

وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة، فروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول: مَنِ الرجلُ منهم لما قتل رأيته رُفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه؟ قالوا: هو عامر بن فهيرة، ثم بعد ذلك حمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه على فرسه فقتله .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الأعلى بن حماد، أنا يزيد بن زريع، أنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك: « أن رِعْلا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو لهم فأمدَّهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، وكانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب على رِعْلٍ وذكوان وعصية وبني لحيان. »

قال أنس رضي الله عنه: فقرأنا، فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رَفع: « بَلِّغُوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا » ثم نسخت ( فرفع بعدما قرأناه ) زمانا وأنـزل الله تعالى: ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ) الآية.

وقيل: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة تحسروا على الشهداء، وقالوا: نحن في النعمة وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور، فأنـزل الله تعالى تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم ( وَلا تَحْسَبَنَّ ) ولا تظننّ ( الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) قرأ ابن عامر « قتلوا » بالتشديد، والآخرون بالتخفيف « أمواتا » كأموات من لم يُقْتلْ في سبيل الله ( بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) قيل أحياء في الدِّين وقيل: في الذكر، وقيل: لأنهم يُرزقون ويأكلون ويتمتعون كالأحياء، وقيل: لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة، وقيل: لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض.

وقال عبيدة بن عمير: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أُحد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، ألا فأتوهم وزوروهم وسلِّموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يُسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه » . ( يُرْزَقُونَ ) من ثمار الجنة وتحفها.

فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 170 )

( فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُم اللَّه مِنْ فَضْلِهِ ) رزقه وثوابه، ( وَيَسْتَبْشِرُونَ ) ويفرحون ( بِالَّذِين َلَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ ) من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد لعلمهم أنهم إذا استشهدوا ولحقوا بهم ونالوا من الكرامة ما نالوا فهم لذلك مستبشرون، ( أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ( 171 ) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 172 )

( يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ ) أي: وبأن الله، وقرأ الكسائي بكسر الألف على الاستئناف .

( لا يُضِيع أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، حدثنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « تكَفَّلَ الله لمن جاهد في سبيله لا يُخرجُه من بيته إلا الجهادُ في سبيله وتصديقُ كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرجَ منه مع ما نال من أجر وغنيمة » .

وقال: « والذي نفسي بيده لا يُكْلَمُ أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يُكْلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعبُ دمًا اللون لون الدم والريح ريح المسك » .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسن بن محمد القاضي، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أنا علي بن الحسن الدارابجردي أنا عبد الله بن يزيد المقرئ، أنا سعيد، حدثني محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الشهيدُ لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألمَ القَرْصَةِ » .

قوله تعالى: ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ) الآية، وذلك أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أُحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم وتلاوموا وقالوا: لا محمدًا قتلتم ولا الكواعب أردفتم، قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم؟ ارجعوا فاستأصلوهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يُرهب العدو ويُريهم من نفسه وأصحابه قوةً فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان، فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من الجرح والقرح الذي أصابهم يوم أُحد ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا يخرجَنَّ معنا أَحدٌ إلا من حضر يومنا بالأمس فكلّمه جابر بن عبد الله، فقال: يا رسول الله إن أبي كان قد خلفني على أخوات لي سبع، وقال لي يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجلَ فيهنَّ ولست بالذي أوثرك على نفسي في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلفْ على أخواتك، فتخلفتُ عليهن فأذِنَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه.

وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرْهبًا للعدو وليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم فينصرفوا.

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا رضي الله عنهم حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال .

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعبد الله بن الزبير: يا ابن أختي أما والله إن أباك وجدك - تعني أبا بكر والزبير - لَمِنَ الذين قال الله عز وجل فيهم: ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُم الْقَرْحُ ) فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة - مسلمهم وكافرهم - عيبة نصحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتُهم معه لا يُخفونَ عنه شيئًا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد والله لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله تعالى كان قد أعفاك منهم، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لقد أصبنا جُلَّ أصحابه وقادتهم لنكرنَّ على بقيتهم فلنفرغنَّ منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدًا قال: ما وراءك يا معبدَ ؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقًا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ونَدِموا على صنيعهم، وفيهم من الحنق عليكم شيءٌ لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول ؟ قال: والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل، قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني والله أنهاك عن ذلك فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتًا:

كـادَتْ تُهَـدُّ مِـنَ الأصـواتِ رَاحلَتي إذْ سَــالَتِ الأرضُ بـالجُرْدِ الأبـابيلِ

فذكر أبياتا فردّ ذلك أبا سفيان ومن معه.

ومرّ به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة قال: ( ولم؟ قالوا: نريد الميرة ) قال: فهل أنتم مبلّغون عني محمدًا رسالة وأحمل لكم إبلكم هذه زبيبًا بعكاظ غدًا إذا وافيتمونا؟ قالوا: نعم، قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم وانصرف أبو سفيان إلى مكة، ومرّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: « حَسْبُنا الله ونِعْمَ الوكيل » ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد الثالثة . هذا قول أكثر المفسرين.

وقال مجاهد وعكرمة: نـزلت هذه الآية في غزوة بدر الصغرَى وذلك أن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال: يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ذلك بيننا وبينك إن شاء الله » فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نـزل مجنة من ناحية مرّ الظهران ثم ألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع فلقي نُعَيْمَ بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرًا فقال له أبو سفيان: يا نعيم إني واعدتُ محمدًا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى وإنّ هذه عام جدب ولا يُصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأةً ولأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي فَالْحَقْ بالمدينة فثبِّطْهم وأعلمْهم أنِّي في جمع كثير لا طاقة لهم بنا، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يدي سهيل بن عمرو ويضمنها قال: فجاء سهيل فقال له نعيم يا أبا يزيد: أتضمن لي هذه القلائص وأنطلق إلى محمد وأثبّطه؟ قال: نعم فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال: أين تريدون؟ فقالوا: واعدَنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها فقال: بئس الرأي رأيتم أتوكم في دياركم وقرارِكم فلم يفلت منكم إلا الشريدُ، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم، والله لا يفلت منكم أحد، فكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفس محمد بيده لأخرجَنَّ ولو وحدي » فأما الجبان فإنه رجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقال: « حسبنا الله ونعم الوكيل » .

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى وافوا بدرًا الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يريدون أن يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنون: حسبنا الله ونعم الوكيل، حتى بلغوا بدرًا وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة فلم يلقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدًا من المشركين ووافقوا السوق وكانت معهم تجارات ونفقات فباعوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين فذلك قوله تعالى: ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ) أي أجابوا ومحل « الذين » خفض على صفة المؤمنين تقديره: إن الله لا يُضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله والرسول، ( مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُم الْقَرْحُ ) أي: نالتهم الجراح تم الكلام هاهنا ثم ابتداء فقال: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ ) بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته إلى الغزو، ( وَاتَّقَوْا ) معصيته ( أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ( 173 )

( الَّذِينَ قَالَ لَهُم النَّاسُ ) ومحل « الذين » خفض أيضا مردودُ على الذين الأول وأراد بالناس: نعيم بن مسعود، في قول مجاهد وعكرمة فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم وحده وقال محمد بن إسحاق وجماعة: أراد بالناس الركب من عبد القيس، ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ) يعني أبا سفيان وأصحابه، ( فَاخْشَوْهُمْ ) فخافوهم واحذروهم فإنه لا طاقة لكم بهم، ( فَزَادَهُمْ إِيمَانًا ) تصديقًا ويقينًا وقوةً ( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ) أي: كافينا الله، ( وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) أي: الموكول إليه الأمور فعيل بمعنى مفعول.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أحمد بن يونس، أخبرنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( حَسْبُنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) .

 

فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ( 174 )

( فَانْقَلَبُوا ) فانصرفوا، ( بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ) بعافية لم يلقوا عدوا ( وَفَضْلٍ ) تجارة وربح وهو ما أصابوا في السوق ( لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ) يصبهم أذى ولا مكروه، ( وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّه ) في طاعة الله وطاعة رسوله وذلك أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوًا فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم، ( وَاللَّه ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ )

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 175 ) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 176 ) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 177 ) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 178 )

قوله تعالى: ( إِنَّمَا ذَلِكُم الشَّيْطَانُ ) يعني: ذلك الذي قال لكم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ من فعل الشيطان ألقي في أفواههم ليرهبوهم ويجبنُوُا عنهم، ( يُخَوِّف أَوْلِيَاءَهُ ) أي يخوفكم بأوليائه، وكذلك هو في قراءة أبي بن كعب يعني: يخوّف المؤمنين بالكافرين قال السدي: يعظّم أولياءَهُ في صدورهم ليخافوهم يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود « يخوفكم أولياءه » ( فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ ) في ترك أمري ( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) مصدقين بوعدي فإني متكفل لكم بالنصرة والظفر.

قوله عز وجل: ( وَلا يَحْزُنْكَ ) قرأ نافع « يحزنك » بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك جميع القرآن إلا قوله لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ ضدّه أبو جعفر وهما لغتان: حزن يحزن وأحزن يحزن إلا أن اللغة الغالبة حزن يحزن، ( الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) قال الضحاك: هم كفار قريش وقال غيره: هم المنافقون يسارعون في الكفر بمظاهرة الكفار. ( إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ) بمسارعتهم في الكفر، ( يُرِيد اللَّه أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ ) نصيبًا في ثوابِ الآخرة، فلذلك خَذَلهم حتى سارعوا في الكفر، ( وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )

( إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا ) استبدلوا ( الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ) وإنما يضرون أنفسهم، ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )

( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) قرأ حمزة هذا والذي بعده بالتاء فيهما، وقرأ الآخرون بالياء فمن قرأ بالياء « فالذين » في محل الرفع على الفاعل وتقديره ولا يحسبن الكفار إملاءنا لهم خيرًا، ومن قرأ بالتاء يعني: ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا، وإنما نصب على البدل من الذين، ( أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ ) والإملاء الإمهال والتأخير، يقال: عشت طويلا حميدًا وتمليت حينًا ومنه قوله تعالى: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ( مريم - 46 ) أي: حينا طويلا ثم ابتدأ فقال: ( إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ) نمهلهم ( لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ )

قال مقاتل: نـزلت في مشركي مكة وقال عطاء: في قريظة والنضير.

أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله القفال، أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البَرْوَنْجِرْدِيّ، أنا أبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي، أنا محمد بن يونس أنا أبو داود الطيالسي، أنا شعبة عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: « من طال عمُرُه وحَسُنَ عمَلُه » قيل: فأي الناس شر؟ قال: « من طال عمرُه وساء عمَلُه » .

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 179 )

قوله تعالى: ( مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) اختلفوا فيها، فقال الكلبي: قالت قريش: يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض، فأخبرنا بمن يُؤمن بك وبمن لا يُؤمن بك فأنـزل الله تعالى هذه الآية.

وقال السدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عُرضتْ علي أمتي في صورها في الطين كما عُرِضتْ على آدم وأُعْلِمْتُ من يؤمن بي ومن يكفر بي » فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء: زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد، ونحن معه وما يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا أنبأتكم به » فقام عبد الله بن حذافة السهمي: فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: حذافة فقام عمر فقال: يا رسول الله رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبالقرآن إمامًا وبك نبيًا فاعفُ عنا عفا الله عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « فهل أنتم منتهون » ؟ ثم نـزل عن المنبر فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

واختلفوا في حكم الآية ونظمها، فقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين: الخطاب للكفار والمنافقين يعني ( مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) يا معشر الكفار والمنافقين من الكفر والنفاق ( حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ )

وقال قوم: الخطاب للمؤمنين الذين أخبر عنهم، معناه: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق، فرجع من الخبر إلى الخطاب .

( حَتَّى يَمِيزَ ) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بضم الياء والتشديد وكذلك التي في الأنفال، وقرأ الباقون بالخفيف يقال: ماز الشيء يميزُه ميزًا وميزّه تمييزًا إذا فرّقه فامتاز، وإنما هو بنفسه، قال أبو معاذ إذا فرقت بين شيئين قلت: مزت ميزًا، فإذا كانت أشياء قلت: ميزتها تمييزًا وكذلك إذا جعلت الشيء الواحد شيئين قلت: فَرَقَت بالتخفيف ومنه فرق الشعر، فإن جعلته أشياء قلت: فرَّقته تفريقًا، ومعنى الآية حتى يميزَ المنافق من المخلص، فميز الله المؤمنين من المنافقين يوم أحد حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال قتادة: حتى يميز الكافر من المؤمن بالهجرة والجهاد.

وقال الضحاك: ( مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) في أصلاب الرجال وأرحام النساء يا معشر المنافقين والمشركين حتى يفرق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين وقيل: ( حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ ) وهو المذنب ( مِنَ الطَّيِّبِ ) وهو المؤمن يعني: حتى يحط الأوزار عن المؤمن بما يصيبه من نكبة ومحنة ومصيبة، ( وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ) لأنه لا يعلم الغيب أحدٌ غيره، ( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) فيُطلعه على بعض علم الغيب، نظيره قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ( سورة الجن الآيتان: 27،26 ) .

وقال السدي: معناه وما كان الله ليطلع محمدًا صلى الله عليه وسلم على الغيب ولكن الله اجتباه، ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ )

وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 180 )

( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُم اللَّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ ) أي: ولا يحسبن الباخلون البخل خيرًا لهم، ( بَلْ هُوَ ) يعني: البخل، ( شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ) أي: سوف يطوقون ( مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) يعني: يجعل ما منعه من الزكاة حيَّةً تُطَوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فوقه إلى قدمه وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي وائل والشعبي والسدي.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا علي بن عبد الله المديني، أنا هاشم بن القاسم، أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاتَه مُثّلَ له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرعَ له زبيبتان يُطَوَّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنـزك، ثم تلا ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ) الآية » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمرو بن حفص بن غياث، أنا أبي، أنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إليه يعني: النبي صلى الله عليه وسلم قال . « والذي نفسي بيده، أو والذي لا إله غيره، أو كما حلف ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يُؤدي حقها إلا أُتي بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحُه بقرونها كلّما جازت أُخراها رُدتْ عليه أولاها حتى يُقضَى بين الناس » .

قال إبراهيم النخعي: معنى الآية يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقًا من النار قال مجاهد: يَكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم.

وروى عطية عن ابن عباس: أن هذه الآية نـزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وأراد بالبخل كتمان العلم كما قال في سورة النساء الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ( النساء - 37 ) .

ومعنى قوله « سيطُوقون ما بخلوا به يوم القيامة » أي: يحملون وزرَه وإثمهُ كقوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ( الأنعام - 31 ) .

( وَلِلَّهِ مِيرَاث السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يعني: أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم، نظيره قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ( مريم - 40 ) ( وَاللَّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) قرأ أهل البصرة ومكة يعلمون بالياء وقرأ الآخرون بالتاء.

 

فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ( 174 )

( فَانْقَلَبُوا ) فانصرفوا، ( بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ) بعافية لم يلقوا عدوا ( وَفَضْلٍ ) تجارة وربح وهو ما أصابوا في السوق ( لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ) يصبهم أذى ولا مكروه، ( وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّه ) في طاعة الله وطاعة رسوله وذلك أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوًا فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم، ( وَاللَّه ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ )

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 175 ) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 176 ) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 177 ) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 178 )

قوله تعالى: ( إِنَّمَا ذَلِكُم الشَّيْطَانُ ) يعني: ذلك الذي قال لكم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ من فعل الشيطان ألقي في أفواههم ليرهبوهم ويجبنُوُا عنهم، ( يُخَوِّف أَوْلِيَاءَهُ ) أي يخوفكم بأوليائه، وكذلك هو في قراءة أبي بن كعب يعني: يخوّف المؤمنين بالكافرين قال السدي: يعظّم أولياءَهُ في صدورهم ليخافوهم يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود « يخوفكم أولياءه » ( فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ ) في ترك أمري ( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) مصدقين بوعدي فإني متكفل لكم بالنصرة والظفر.

قوله عز وجل: ( وَلا يَحْزُنْكَ ) قرأ نافع « يحزنك » بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك جميع القرآن إلا قوله لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ ضدّه أبو جعفر وهما لغتان: حزن يحزن وأحزن يحزن إلا أن اللغة الغالبة حزن يحزن، ( الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) قال الضحاك: هم كفار قريش وقال غيره: هم المنافقون يسارعون في الكفر بمظاهرة الكفار. ( إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ) بمسارعتهم في الكفر، ( يُرِيد اللَّه أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ ) نصيبًا في ثوابِ الآخرة، فلذلك خَذَلهم حتى سارعوا في الكفر، ( وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )

( إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا ) استبدلوا ( الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ) وإنما يضرون أنفسهم، ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )

( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) قرأ حمزة هذا والذي بعده بالتاء فيهما، وقرأ الآخرون بالياء فمن قرأ بالياء « فالذين » في محل الرفع على الفاعل وتقديره ولا يحسبن الكفار إملاءنا لهم خيرًا، ومن قرأ بالتاء يعني: ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا، وإنما نصب على البدل من الذين، ( أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ ) والإملاء الإمهال والتأخير، يقال: عشت طويلا حميدًا وتمليت حينًا ومنه قوله تعالى: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ( مريم - 46 ) أي: حينا طويلا ثم ابتدأ فقال: ( إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ) نمهلهم ( لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ )

قال مقاتل: نـزلت في مشركي مكة وقال عطاء: في قريظة والنضير.

أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله القفال، أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البَرْوَنْجِرْدِيّ، أنا أبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي، أنا محمد بن يونس أنا أبو داود الطيالسي، أنا شعبة عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: « من طال عمُرُه وحَسُنَ عمَلُه » قيل: فأي الناس شر؟ قال: « من طال عمرُه وساء عمَلُه » .

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 179 )

قوله تعالى: ( مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) اختلفوا فيها، فقال الكلبي: قالت قريش: يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض، فأخبرنا بمن يُؤمن بك وبمن لا يُؤمن بك فأنـزل الله تعالى هذه الآية.

وقال السدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عُرضتْ علي أمتي في صورها في الطين كما عُرِضتْ على آدم وأُعْلِمْتُ من يؤمن بي ومن يكفر بي » فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء: زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد، ونحن معه وما يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا أنبأتكم به » فقام عبد الله بن حذافة السهمي: فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: حذافة فقام عمر فقال: يا رسول الله رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبالقرآن إمامًا وبك نبيًا فاعفُ عنا عفا الله عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « فهل أنتم منتهون » ؟ ثم نـزل عن المنبر فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

واختلفوا في حكم الآية ونظمها، فقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين: الخطاب للكفار والمنافقين يعني ( مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) يا معشر الكفار والمنافقين من الكفر والنفاق ( حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ )

وقال قوم: الخطاب للمؤمنين الذين أخبر عنهم، معناه: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق، فرجع من الخبر إلى الخطاب .

( حَتَّى يَمِيزَ ) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بضم الياء والتشديد وكذلك التي في الأنفال، وقرأ الباقون بالخفيف يقال: ماز الشيء يميزُه ميزًا وميزّه تمييزًا إذا فرّقه فامتاز، وإنما هو بنفسه، قال أبو معاذ إذا فرقت بين شيئين قلت: مزت ميزًا، فإذا كانت أشياء قلت: ميزتها تمييزًا وكذلك إذا جعلت الشيء الواحد شيئين قلت: فَرَقَت بالتخفيف ومنه فرق الشعر، فإن جعلته أشياء قلت: فرَّقته تفريقًا، ومعنى الآية حتى يميزَ المنافق من المخلص، فميز الله المؤمنين من المنافقين يوم أحد حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال قتادة: حتى يميز الكافر من المؤمن بالهجرة والجهاد.

وقال الضحاك: ( مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) في أصلاب الرجال وأرحام النساء يا معشر المنافقين والمشركين حتى يفرق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين وقيل: ( حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ ) وهو المذنب ( مِنَ الطَّيِّبِ ) وهو المؤمن يعني: حتى يحط الأوزار عن المؤمن بما يصيبه من نكبة ومحنة ومصيبة، ( وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ) لأنه لا يعلم الغيب أحدٌ غيره، ( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) فيُطلعه على بعض علم الغيب، نظيره قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ( سورة الجن الآيتان: 27،26 ) .

وقال السدي: معناه وما كان الله ليطلع محمدًا صلى الله عليه وسلم على الغيب ولكن الله اجتباه، ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ )

وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 180 )

( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُم اللَّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ ) أي: ولا يحسبن الباخلون البخل خيرًا لهم، ( بَلْ هُوَ ) يعني: البخل، ( شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ) أي: سوف يطوقون ( مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) يعني: يجعل ما منعه من الزكاة حيَّةً تُطَوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فوقه إلى قدمه وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي وائل والشعبي والسدي.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا علي بن عبد الله المديني، أنا هاشم بن القاسم، أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاتَه مُثّلَ له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرعَ له زبيبتان يُطَوَّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنـزك، ثم تلا ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ) الآية » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمرو بن حفص بن غياث، أنا أبي، أنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إليه يعني: النبي صلى الله عليه وسلم قال . « والذي نفسي بيده، أو والذي لا إله غيره، أو كما حلف ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يُؤدي حقها إلا أُتي بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحُه بقرونها كلّما جازت أُخراها رُدتْ عليه أولاها حتى يُقضَى بين الناس » .

قال إبراهيم النخعي: معنى الآية يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقًا من النار قال مجاهد: يَكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم.

وروى عطية عن ابن عباس: أن هذه الآية نـزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وأراد بالبخل كتمان العلم كما قال في سورة النساء الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ( النساء - 37 ) .

ومعنى قوله « سيطُوقون ما بخلوا به يوم القيامة » أي: يحملون وزرَه وإثمهُ كقوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ( الأنعام - 31 ) .

( وَلِلَّهِ مِيرَاث السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يعني: أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم، نظيره قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ( مريم - 40 ) ( وَاللَّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) قرأ أهل البصرة ومكة يعلمون بالياء وقرأ الآخرون بالتاء.

 

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ( 181 )

قوله تعالى: ( لَقَدْ سَمِعَ اللَّه قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْن أَغْنِيَاءُ ) قال الحسن ومجاهد: لما نـزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا قالت اليهود: إن الله فقير استقرض منّا ونحن أغنياء، وذكر الحسن: أن قائل هذه المقالة حيي بن أخطب .

وقال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق: كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فدخل أبو بكر رضي الله عنه ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسًا كثيرًا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم، ومعه حبر آخر يقال له أشيع. فقال أبو بكر لفنحاص: اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدًا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة فآمِنْ وصَدِّقْ وأقْرِضِ الله قرضًا حسنًا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثوابَ.

فقال فنحاص: يا أبا بكر تزعم أن ربَّنا يستقرضُ أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني؟ فإن كان ما تقول حقًا فإن الله إذًا لفقير ونحن أغنياء، وأنه ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيًا ما أعطانا الربا.

فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب وجه فنحاص ضربةً شديدةً وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربتُ عُنقَك يا عُدوَّ الله فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: « ما حملك على ما صنعت » ؟ فقال: يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيمًا زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فغضبتُ لله فضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص، فأنـزل الله تعالى ردًّا على فنحاص وتصديقًا لأبي بكر رضي الله عنه: ( لَقَدْ سَمِعَ اللَّه قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْن أَغْنِيَاءُ ) « »

( سَنَكْتُب مَا قَالُوا ) من الإفك والفرية على الله ( فنجازيهم به ) وقال مقاتل: سنحفظ عليهم، وقال الواقدي: سنأمر الحفظة بالكتابة، نظيره قوله تعالى: وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ، ( وَقَتْلَهُم الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُول ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) قرأ حمزة « سيكتب » بضم الياء، « وقتلهم » برفع اللام « ويقول » بالياء « و ( ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) أي: النار وهو بمعنى المحرق كما يقال: لهم عذاب أليم أي: مؤْلم. »

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 182 ) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 183 )

( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ) فيُعذب بغير ذنب.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا ) الآية قال الكلبي: نـزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوت وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد تزعم أن الله تعالى بعثك إلينا رسولا وأنـزل عليك الكتاب وأن الله تعالى قد عهد إلينا في التوراة ( أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ ) يزعم أنه جاء من عند الله، ( حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُه النَّارُ ) فإن جئتنا به صدقناك؛ قال فأنـزل الله تعالى: ( الَّذِينَ قَالُوا ) أي: سمع الله قول الذين قالوا ومحل ( الَّذِينَ ) خفض ردًّا على ( الَّذِينَ ) الأول، ( إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا ) أي: أمرنا وأوصانا في كتبه أن لا نؤمن برسول أي: لا نصدق رسولا يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار فيكون دليلا على صدقه، والقربان: كل ما يتقرّب به العبد إلى الله تعالى من نسيكةٍ وصدقةٍ وعملٍ صالحٍ فُعْلان من القربة وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل وكانوا إذا قربوا قربانًا أو غنموا غنيمةً جاءت نارٌ بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وحفيف فتأكله وتحرق ذلك القربان وتلك الغنيمة فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم يُقبل بقيت على حالها.

وقال السدي: إن الله تعالى أمر بني إسرائيل من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم، ( قُلْ ) يا محمد ( قَدْ جَاءَكُمْ ) يا معشر اليهود ( رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ ) القربان ( فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ ) يعني: زكريا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء، وأراد بذلك أسلافهم فخاطبهم بذلك لأنهم رضوا بفعل أسلافهم ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) معناه تكذيبهم مع علمهم بصدقك، كقتل آبائهم الأنبياء، مع الإتيان بالقربان والمعجزات، ثم قال معزيا لنبيه صلى الله عليه وسلم:

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ( 184 ) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ( 185 )

( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ) قرأ ابن عامر « وبالزبر » أي: بالكتب المزبورة يعني: المكتوبة، واحدها زبور مثل: رسول ورُسُل، ( وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) الواضح المضيء.

قوله عز وجل: ( كُلّ نَفْسٍ ) منفوسة، ( ذَائِقَة الْمَوْتِ ) وفي الحديث: « لمّا خلق الله تعالى آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها فوعدَها أن يرُدَّ فيها ما أخذ منها فما من أحد إلا يدفن في التربة التي خلق منها » ، ( وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ ) توفون جزاء أعمالكم، ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ( فَمَنْ زُحْزِحَ ) نُجيِّ وأزيل، ( عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ) ظفر بالنجاة ونجا من الخوف، ( وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلا مَتَاع الْغُرُورِ ) يعني منفعة ومتعة كالفأس والقدر والقصعة ثم تزول ولا تبقى.

وقال الحسن: كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل له.

قال قتادة: هي متاع متروكة يوشك أن تضمحل بأهلها فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم والغرور: الباطل.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أخبرنا محمد بن يحيى، أخبرنا بن هارون، أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ ولا أذن سمعتْ ولا خطر على قلب بشر » واقرءوا إن شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( السجدة - 17 ) وإنَّ في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا إن شئتم: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ( الواقعة - 30 ) ولموضعُ سوطِ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها واقرءوا إن شئتم ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغُرور ) .

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( 186 )

( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) الآية قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريج: نـزلت الآية في أبي بكر وفنحاص بن عازوراء. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص بن عازوراء سيد بني قينقاع ليستمدّه، وكتب إليه كتابًا وقال لأبي بكر رضي الله عنه « لا تفتاتَنَّ عليّ بشيء حتى ترجع » فجاء أبو بكر رضي الله عنه وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال: قد احتاج ربُّك إلى أن نمده، فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: « لا تفتاتَنَّ علي بشيء حتى ترجع » فكف فنـزلت هذه الآية .

وقال الزهري: نـزلت في كعب بن الأشرف فإنه كان يهجو رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ويسبُّ المسلمين، ويحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ويشبب بنساء المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « من لي بابن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله » ؟.

فقال محمد بن مسلمة الأنصاري: أنا لك يا رسول الله، أنا أقتله قال: « فافعل إن قدرت على ذلك » .

فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثًا لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق نفسه، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه وقال له: لم تركتَ الطعامَ والشرابَ؟ قال: يا رسول الله قلت قولا ولا أدري هل أفي به أم لا فقال: إنما عليك الجهد.

فقال: يا رسول الله إنه لا بد لنا من أن نقول قال: قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك، فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسَلْكانُ بن سلام وأبو نائلة، وكان أخا كعب من الرضاعة، وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأبو عيسى بن جُبير فمشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجّههم، وقال: « انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم » ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في ليلة مقمرة.

فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه فقدّموا أبا نائلة فجاءه فتحدث معه ساعة وتناشدا الشعر، وكان أبو نائلة يقول الشعر، ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكْتُمْ عليّ قال أفعل قال: كان قدوم هذا الرجل بلادنا بلاءً عادتنا العربُ ورمونا عن قوس واحدة، وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس، فقال كعب: أنا ابن الأشرف أمَا والله لقد كنت أخبرتك يا بن سلامة أن الأمر سيصير إلى هذا، فقال أبو نائلة: إن معي أصحابا أردنا أن تبيعنا طعامَك ونرهنك ونوثّق لك وتحسن في ذلك قال: أترهنوني أبناءكم قال : إنا نستحي إن يعير أبناؤنا فيقال هذا رهينةُ وَسْقٍ وهذا رهينة وسْقَينْ قال: ترهنوني نساءكم قالوا: كيف نرهُنك نساءنا وأنت أجمل العرب ولا نأمنك وأية امرأة تمتنع منك لجمالك؟ ولكنا نرهنك الحلقة يعني: السلاح وقد علمت حاجتنا إلى السلاح، قال: نعم وأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا رآه فوعده أن يأتيه فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره.

فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ليلا فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس، فوثب من ملحفته فقالت امرأته: أسمع صوتا يقطر منه الدم، وإنك رجل محارب وإن صاحب الحرب لا ينـزل في مثل هذه الساعة فكلِّمْهم من فوق الحصن فقال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة وإن هؤلاء لو وجدوني نائمًا ما أيقظوني، وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب، فنـزل إليهم فتحدث معهم ساعة ثم قالوا: يا بن الأشرف هل لك إلى أن نتماشى إلى شعب العجوز نتحدث فيه بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم؟ فخرجوا يتماشون وكان أبو نائلة قال: لأصحابه إني فاتل شعره فأشّمه فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، ثم إنه شامَ يدَه في فودِ رأسه ثم شَمَّ يدَه فقال: ما رأيت كالليلة طيبَ عروس قط، قال: إنه طيب أم فلان يعني امرأته، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعة فعاد لمثلها ثم أخذ بفودي رأسه حتى استمكن ثم قال: اضربوا عدو الله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحةً لم يبق حولَنَا حصن إلا أوقدت عليه نار، قال فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله، وقد أُصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا، فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث ونـزفه الدم، فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارَنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه وتفل على جُرح صاحبنا.

فرجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود وقعتنا بعدو الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه » فوثب مُحَيَّصَةُ بن مسعود على سُنَيْنَة رجل من تجار اليهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله وكان حُوَيِّصَة بن مسعود إذْ ذَاك لم يُسْلم وكان أسنَّ من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أيْ عدو الله قتلته أما والله لرُبّ شحم في بطنك من ماله.

قال محيصة: والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك، قال: لو أمركَ محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم قال والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب؟ ! فأسلم حويصة وأنـزل الله تعالى في شأن كعب: ( لَتُبْلَوُنّ ) لتخبرنّ اللام للتأكيد وفيه معنى القسم، والنون لتأكيد القسم ( فِي أَمْوَالِكُمْ ) بالجوائح والعاهات والخسران ( وَأَنْفُسِكُمْ ) بالأمراض وقيل: بمصائب الأقارب والعشائر، قال عطاء: هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم ورِبَاعَهم وعذّبُوهم وقال الحسن: هو ما فرض عليهم في أموالهم وأنفسهم من الحقوق، كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة، ( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) يعني: اليهود والنصارى، ( وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ) يعني: مشركي العرب، ( أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا ) على أذاهم ( وَتَتَّقُوا ) الله ، ( فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ) من حق الأمور وخيرها وقال عطاء: من حقيقة الإيمان.

 

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ( 187 )

( وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر بالياء فيهما لقوله تعالى: ( فَنَبَذُوه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ) وقرأ الآخرون بالتاء فيها على إضمار القول، ( فَنَبَذُوه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ) أي: طرحوه وضيّعوه وتركوا العمل به، ( وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا ) يعني: المآكل والرُّشا، ( فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) قال قتادة: هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئا فليُعَلِّمْه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة.

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) الآية.

حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي، أخبرنا أبو معاذ الشاه بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو بكر عمر بن سهل بن إسماعيل الدينوري، أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتيّ، أخبرنا أبو حذيفة موسى بن مسعود أخبرنا إبراهيم بن طهمان عن سماك بن حرب، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سُئل عن علم يَعْلَمَه فكتمه أُلِجْمَ يوم القيامة بلجام من نار » .

وقال الحسن بن عمارة: أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت: إن رأيتَ أن تحدثني؟ فقال: أما علمتَ أني قد تركتُ الحديث؟ فقلت: إمّا أن تحدثني وإما أن أحدثك فقال: حدثني فقلت: حدثني الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار قال: سمعتُ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعَلِّموا قال: فحدثني أربعين حديثا .

لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 188 )

قوله : ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ) الآية قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( لا تَحْسَبَنَّ ) بالتاء، أي: لا تحسبن يا محمد الفارحين وقرأ الآخرون بالياء « لا يحسبن » الفارحُون فرحَهم مُنْجيا لهم من العذاب ( فلا يحسبنهم ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالياء وضم الباء خبرًا عن الفارحين، أي فلا يحسبُنّ أنفسهم، وقرأ الآخرون بالتاء وفتح الباء أي: فلا تحسبنّهم يا محمد وأعاد قوله ( فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ ) تأكيدًا وفي حرف عبد الله بن مسعود ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ ) غير تكرار.

واختلفوا فيمن نـزلت هذه الآية أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا سعيد بن أبي مريم، أنا محمد بن جعفر، حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فنـزلت ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ) الآية .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا إبراهيم بن موسى، أنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم: أخبرني ابن أبي مليكة أن علقمة بن وقاص أخبره أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه إنمّا دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه فأخبروه بغيره فأروه أن قد استُحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس رضي الله عنهما وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كذلك حتى قوله: ( يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ) .

قال عكرمة: نـزلت في فنحاص وأُشيَع وغيرهما من الأحبار يفرحون بإضلالهم الناس وبنسبة الناس إياهم إلى العلم وليسوا بأهل العلم . وقال مجاهد: هم اليهود فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه .

وقال سعيد بن جبير: هم اليهود فرحوا بما أعطى الله آل إبراهيم وهم برآء من ذلك .

وقال قتادة ومقاتل: أتت يهود خيبر نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: نحن نعرفك ونصدقك وإنا على رأيكم ونحن لكم ردء، وليس ذلك في قلوبهم فلما خرجوا قال لهم المسلمون: ما صنعتم؟ قالوا: عرفناه وصدقناه فقال لهم المسلمون: أحسنتم هكذا فافعلوا فحمدوهم ودعوا لهم فأنـزل الله تعالى هذه الآية وقال: ( يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ) قال الفراء بما فعلوا كما قال الله تعالى: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ( مريم - 27 ) أي: فعلت، ( وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ ) بمنجاة، ( مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 189 ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ ( 190 )

( وَلِلَّهِ مُلْك السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يصرفها كيف يشاء ، ( وَاللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ ) أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفرايني، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ، أنا أحمد بن عبد الجبار، أنا ابن فضيل، عن حصين بن عبد الرحمن، عن حبيب بن أبي ثابت، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه رَقَدَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه استيقظ فتسوّك ثم توضأ وهو يقول: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) حتى ختم السورة ثم قام فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاثَ مرات ست ركعات كل ذلك يستاك ثم يتوضأ ثم يقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث ركعات ثم أتاه المؤذن فخرج إلى الصلاة وهو يقول: « اللهم اجعل في بصري نورًا وفي سمعي نورًا وفي لساني نورًا واجعل خلفي نورًا وأمامي نورًا واجعل من فوقي نورًا ومن تحتي نورًا اللهم أعطني نورا » .

ورواه كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما وزاد: « اللهم اجعل في قلبي نورًا وفي بصري نورًا وفي سمعي نورًا وعن يميني نورًا وعن يساري نورًا » .

قوله تعالى: ( لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ ) ذوي العقول ثم وصفهم فقال:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( 191 ) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ( 192 )

( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ) قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم والنخعي وقتادة: هذا في الصلاة يصلي قائمًا فإن لم يستطع فقاعدًا فإن لم يستطع فعلى جنب.

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، أنا هناد أنا وكيع عن إبراهيم بن طهمان، عن حسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، عن عمران بن حصين قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض فقال: « صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب » . .

وقال سائر المفسرين أراد به المداومة على الذكر في عموم الأحوال لأن الإنسان قلَ ما يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث، نظيره في سورة النساء فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ( النساء - 103 ) ، ( وَيَتَفَكَّرُون َفِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) وما أبدع فيهما ليَدُلّهم ذلك على قدرة الله ويعرفوا أن لها صانعًا قادرًا مدبرًا حكيمًا قال ابن عون: الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة، ( رَبَّنَا ) أي: ويقولون ربنا ( مَا خَلَقْتَ هَذَا ) ردّه إلى الخلق فلذلك لم يقل هذه ، ( بَاطِلا ) أي: عبثا وهزلا بل خلقته لأمر عظيم وانتصب الباطل بنـزع الخافض، أي: بالباطل، ( سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار )

( رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ) أي: أهنته، وقيل: أهلكته، وقيل: فضحته، لقوله تعالى: وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي ( هود - 78 ) فإن قيل: قد قال الله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ( التحريم - 8 ) ومن أهل الإيمان من يدخل النار وقد قال: ( إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ) قيل: قال أنس وقتادة معناه: إنك من تخلد في النار فقد أخزيته وقال سعيد بن المسيب هذه خاصة لمن لا يخرج منها فقد روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: « أن الله يدخل قومًا النارَ ثم يخرجون منها » . ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ )

رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ( 193 ) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( 194 )

( رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا ) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم قاله ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما، وأكثر الناس، وقال القرظي: يعني القرآن فليس كل أحد يلقى النبي صلى الله عليه وسلم، ( يُنَادِي لِلإيمَانِ ) أي إلى الإيمان، ( أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ) أي: في جملة الأبرار.

( رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ ) أي: على ألِسنَةِ رسلك، ( وَلا تُخْزِنَا ) ولا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنا ، ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِف الْمِيعَادَ )

فإن قيل: ما وجه قولهم: ( رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ ) وقد علموا أن الله لا يخلف الميعاد؟ قيل: لفظه دعاء ومعناه خبر أي: لتؤتينا ما وعدتنا على رُسلك تقديره: ( فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا ) ( وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) لتؤتِيَنا ما وعدتنا على رُسلك من الفضل والرحمة وقيل: معناه ربنا واجلعنا ممن يستحقون ثوابَك وتؤتيهم ما وعدتهم على ألْسنَةِ رسلك لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها، وقيل: إنما سألوه تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء، قالوا: قد عَلِمنَا أنك لا تخلف ولكن لا صبرَ لنا على حلمك فعجِّل خزيهم وانصرنا عليهم.

 

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ( 195 )

قوله تعالى: ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي ) أي: بأني، ( لا أُضِيعُ ) لا أحُبط ، ( عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ ) أيها المؤمنون ( مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ) قال مجاهد: قالت أم سلمة يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فأنـزل الله تعالى هذه الآية ( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) قال الكلبي: في الدين والنصرة والموالاة، وقيل: كلكم من آدم وحواء، وقال الضحاك: رجالكم شكل نسائكم ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعة، كما قال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ( التوبة - 71 ) .

( فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي ) أي: في طاعتي وديني، وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة، ( وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ) قرأ ابن عامر وابن كثير « وقتلوا » بالتشديد وقال الحسن: يعني أنهم قطعوا في المعركة، والآخرون بالتخفيف وقرأ أكثر القراء: ( وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ) يريد أنهم قاتلوا العدو ثم أنهم قتلوا وقرأ حمزة والكسائي ( وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا ) وله وجهان أحدهما: معناه وقاتل من بقي منهم، ومعنى قوله ( وَقُتِلُوا ) أي: قُتل بعضهم تقول العرب قتلنا بني فلان وإنما قتلوا بعضهم والوجه الآخر ( وَقُتِلُوا ) وقد قاتلوا، ( لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) نصب على القطع قاله الكسائي، وقال المبرد: مصدر أي: لأثيبنهم ثوابا، ( وَاللَّه عِنْدَه حُسْن الثَّوَابِ )

لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ( 196 ) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 197 ) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ ( 198 )

قوله عز وجل: ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّب الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ) نـزلت في المشركين، وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله تعالى فيما نَرَى من الخير ونحن في الجهد؟ فأنـزل الله تعالى هذه الآية ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّب الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ) وضربهم في الأرض وتصرفهم في البلاد للتجارات وأنواع المكاسب فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه غيره.

( مَتَاعٌ قَلِيلٌ ) أي: هو متاع قليل وبُلْغَةٌ فانية ومُتْعَةٌ زائلة، ( ثُمَّ مَأْوَاهُمْ ) مصيرهم ، ( جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) الفراش .

( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا نُـزُلاً ) جزاء وثوابا، ( مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) نصب على التفسير وقيل: جعل ذلك نـزلا ( وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ ) من متاع الدنيا.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد العزيز بن عبد الله، أنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد بن حُنَيْن أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَشْرُبَةٍ وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وإن عند رجليه قرظًا مصبورًا، وعند رأسه أُهب معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت فقال: ما يُبكيك؟ فقلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله؟ فقال: « أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة » ؟ .

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 199 )

قوله عز وجل: ( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ ) الآية قال ابن عباس وجابر وأنس وقتادة: نـزلت في النجاشي ملك الحبشة، واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه اخرجوا فصلوا على أخٍ لكم مات بغير أرضكم النجاشي، فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات، واستغفر له فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

وقال عطاء: نـزلت في أهل نجران أربعين رجلا [ من بني حارث بن كعب ] اثنين وثلاثين من أرض الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن جريج: نـزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه .

وقال مجاهد: نـزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم ، ( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ ) ( وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ ) يعني: القرآن، ( وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ ) يعني: التوراة والإنجيل، ( خَاشِعِينَ لِلَّهِ ) خاضعين متواضعين لله، ( لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا ) يعني: لا يحرفون كُتبَهم ولا يكتُمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل الرياسة والمأكلة كفعل غيرهم من رؤساء اليهود، ( أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 200 )

قوله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ) قال الحسن: اصبروا على دينكم ولا تدعوه لشدة ولا رخاء، وقال قتادة: اصبروا على طاعة الله.

وقال الضحاك ومقاتل بن سليمان: على أمر الله.

وقال مقاتل بن حيان: على أداء فرائض الله تعالى، وقال زيد بن أسلم: على الجهاد. وقال الكلبي: على البلاء، وصابروا يعني: الكفارَ، ورابطوا يعني: المشركين، قال أبو عبيدة، أي داوموا واثبتوا، والربطُ الشَّدُّ، وأصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم، ثم قيل: لكل مقيم في ثغر يدفعُ عمن وراءه، وإن لم يكن له مركب.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الله بن منير، سمع أبا النضر، أنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « رباط يوم في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضع سَوط أحدكم من الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها » . .

أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجُورْبَذي، أنا يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن شريح، عن عبد الكريم بن الحارث، عن أبي عبيدة بن عقبة، عن شرحبيل بن السِّمط عن سلمان الخير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من رابط يومًا وليلةً في سبيل الله كان له أجرُ صيام شهر مقيم، ومن مات مرابطًا جرى له مثل ذلك الأجر، وأجري عليه من الرزق، وأُمن من الفتان » .

وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أنا زاهر بن أحمد الفقيه، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ألا أخبركم بما يمحو الله الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط » .

( وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم ْتُفْلِحُونَ ) قال بعض أرباب اللسان: اصبروا على النعماء وصابرُوا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء.

 

سورة النساء - مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( 1 ) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ( 2 )

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) يعني: آدم عليه السلام، ( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) يعني: حواء، ( وَبَثَّ مِنْهُمَا ) نشر وأظهر، ( رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ ) أي: تتساءلون به، وقرأ أهل الكوفة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين، كقوله تعالى: وَلا تَعَاوَنُوا ، ( وَالأرْحَام ) قراءة العامة بالنصب، أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقرأ حمزة بالخفض، أي: به وبالأرحام كما يقال: سألتك بالله والأرحام، والقراءة الأولى أفصح لأن العرب لا تكاد تنسق بظاهر على مكنى، إلا أن تعيد الخافض فتقول: مررتُ به وبزيد، إلا أنه جائز مع قلّته، ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) أي: حافظا.

قوله تعالى: ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) قال مقاتل والكلبي: نـزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنـزلت هذه الآية، فلما سمعها العمُّ قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير، فدفع إليه ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يَحُلّ دَارَه » ، يعني: جنته، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ثبت الأجر وبقي الوزر » فقالوا: كيف بقي الوزر؟ فقال: « ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده » .

وقوله ( وَآتُوا ) خطاب للأولياء والأوصياء، واليتامى: جمع يتيم، واليتيم: اسم لصغير لا أب له ولا جد، وإنما يدفع المال إليهم بعد البلوغ، وسماهم يتامى هاهنا على معنى أنهم كانوا يتامى.

( وَلا تَتَبَدَّلُوا ) أي: لا تستبدلوا، ( الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) أي: مالهم الذي هو حرام عليكم بالحلال من أموالكم، واختلفوا في هذا التبدل، قال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي: كان أولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم ويجعلونه مكان الرديء، فربما كان أحدهما يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ويجعل مكانها المهزولة، ويأخذ الدرهم الجيد ويجعل مكانه الزيف، ويقول: درهمٌ بدرهم، فنُهوا عن ذلك.

وقيل: كان أهل الجاهلية لا يُورِّثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبرُ الميراثَ، فنصيبه من الميراث طيب، وهذا الذي يأخذه خبيث، وقال مجاهد: لا تتعجل الرزقَ الحرام قبل أن يأتيَك الحلال.

( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ) أي: مع أموالكم، كقوله تعالى: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ أي: مع الله، ( إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ) أي: إثما عظيما.

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا ( 3 )

وقوله تعالى: ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) الآية. اختلفوا في تأويلهم، فقال بعضهم: معناه إن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهنّ إذا نكحتموهن فانكحوا غيرهن من الغرائب مثنى وثُلاث ورُباعَ.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، قال: كان عروة بن الزبير يحدث أنه سأل عائشة رضي الله عنها ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) قالت: هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن يتزوجَها بأدنى من سنة نسائها، فنهوا عن نكاحهنّ إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهنّ من النساء، قالت عائشة رضي الله عنها: ثم استفتى الناس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ إلى قوله تعالى وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ . فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال أو مال، رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها بإكمال الصداق، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء، قال: فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يُقسطوا لها الأوْفَى من الصداق ويُعطوها حقَّها.

قال الحسن: كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه كراهية أن يدخله غريبٌ فيشاركه في مالها، ثم يسيء صحبتها ويتربص بها أن تموت ويرثها، فعاب الله تعالى ذلك، وأنـزل الله هذه الآية.

وقال عكرمة: كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر فإذا صار معدما من مُؤَنِ نسائه مالَ إلى مالِ يتيمه الذي في حجره فأنفقه، فقيل لهم: لا تزيدوا على أربع حتى لا يحوجكم إلى أخذ أموال اليتامى، وهذه رواية طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقال بعضهم: كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء، فيتزوجون ما شاءوا وربما عدلوا وربما لم يعدلوا، فلما أنـزل الله تعالى في أموال اليتامى وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ أنـزل هذه الآية ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ) يقول كما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن فلا تتزوجوا أكثر مما يُمكنكم القيام بحقهن، لأن النساء في الضعف كاليتامى، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي ، ثم رخص في نكاح أربع فقال: ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا ) فيهن ( فَوَاحِدَة ) وقال مجاهد: معناه إن تحرجتم من ولاية اليتامى وأموالهم إيمانًا فكذلك تحرجوا من الزنا فانكحوا النساء الحلال نكاحًا طيبًا ثم بين لهم عددًا، وكانوا يتزوجون ما شاءوا من غير عدد، قوله تعالى: ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) أي: مَنْ طَابَ كقوله تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ( الشمس - 5 ) أي ومن بناها قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء - 23 ) والعرب تضع « من » و « ما » كل واحدة موضع الأخرى، كقوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ ( النور - 45 ) ، وطابَ أي: حلّ لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، معدولات عن اثنين، وثلاث، وأربع، ولذلك لا ينصرفنَ، والواو بمعنى أو، للتخيير، كقوله تعالى: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ( سبأ - 46 ) : أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ( غافر - 1 ) وهذا إجماع أن أحدًا من الأمة لا يجوز له أن يزيد على أربع نسوة، وكانت الزيادة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، لا مشاركة معه لأحد من الأمة فيها، وروي أن قيس بن الحارث كان تحته ثمان نسوة فلما نـزلت هذه الآية قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: غاف أربعا وأمسك أربعا غافر « فجعلت أقول للمرأة التي لم تلد يا فلانة أدبري والتي قد ولدت يا فلانة أقبلي . وروي أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: » أمسك أربعا وفارق سائرهن « . »

وإذا جمع الحرُّ بين أربع نسوة حرائر يجوز، فأما العبد فلا يجوز له أن ينكح أكثر من امرأتين عند أكثر أهل العلم أخبرنا عبد الوهاب بن أحمد الخطيب، أنا عبد العزيز أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عتبة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ينكح العبد امرأتين ويطلق طلقتين وتعتد الأمة بحيضتين، فإن لم تكن تحيض فبشهرين أو شهر ونصف « وقال ربيعة: يجوز للعبد أن ينكح أربع نسوة كالحر. »

( فَإِنْ خِفْتُمْ ) خشيتم، وقيل: علمتم، ( أَلا تَعْدِلُوا ) بين الأزواج الأربع، ( فَوَاحِدَة ) أي فانكحُوا واحدةً. وقرأ أبو جعفر ( فَوَاحِدَةٌ ) بالرفع، ( أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) يعني السراري لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق ما يلزم في الحرائر، ولا قسم لهن، ولا وقف في عددهن، وذكر الأيمان بيان، تقديره: أو ما ملكتم، وقال بعض أهل المعاني: أو ما ملكت أيمانكم أي: ما ينفذ فيه إقسامكم، جعله من يمين الحلف، لا يمين الجارحة، ( ذَلِكَ أَدْنَى ) أقرب، ( أَلَّا تَعُوِلُوا ) أي: لا تَجوُرَوا ولا تميلوا، يقال: ميزان عائل، أي: جائر مائل، هذا قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: أن لا تضلوا، وقال الفراء: أن لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم، وأصل العول: المجاوزة، ومنه عول الفرائض، وقال الشافعي رحمه الله: أن لا تكْثُر عيالكم، وما قاله أحد، إنما يقال من كثرة العيال : أعال يعيل إعالة، إذا كثر عياله. وقال أبو حاتم: كان الشافعي رضي الله عنه أعلم بلسان العرب منّا ولعله لغة، ويقال: هي لغة حمير، وقرأ طلحة بن مصرف ( أن لا تعيلوا ) وهي حجة لقول الشافعي رضوان الله عليه.

وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ( 4 )

( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) قال الكلبي ومجاهد: هذا الخطاب للأولياء، وذلك أن وليّ المرأة كان إذا زوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيرًا، وإن كان زوجها غريبًا حملوها إليه على بعير ولم يعطوها من مهرها غير ذلك. فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله.

[ قال الحضرمي: كان أولياء النساء يُعطي هذا أُخته على أن يعطيه الآخرُ أُخته، ولا مهرَ بينهما، فنُهوا عن ذلك وأمروا بتسمية المهر في العقد. أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « نهى عن الشِّغَار » .

والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوج الرجل الآخر ابنته، وليس بينهما صداق « »

وقال الآخرون: الخطاب للأزواج أمروا بإيتاء نسائهم الصداق، وهذا أصح، لأن الخطاب فيما قبل مع الناكحين، والصَّدُقَات: المهور، واحدها صدقة ( نِحْلَة ) قال قتادة: فريضةً، وقال ابن جريج: فريضة مسماة، قال أبو عبيدة: ولا تكون النحلة إلا مسماة معلومة، وقال الكلبي: عطية وهبة، وقال أبو عبيدة: عن طيب نفس ] ، وقال الزجاج: تدينا.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج » .

( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا ) يعني: فإن طابت نفوسُهن بشيء من ذلك فوهبنً منكم، فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها فخرجت النفس مفسرا، فلذلك وحد النفس، كما قال الله تعالى: وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا ( هود - 77 ) ( العنكبوت - 33 ) وَقَرِّي عَيْنًا ( مريم - 26 ) وقيل: لفظها واحد ومعناها جمع، ( فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ) سائغًا طيبًا، يقال هنأ في الطعام يهنأ بفتح النون في الماضي وكسرها في الباقي ، وقيل: الهنأ: الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء، والمريء: المحمود العاقبة التام الهضم الذي لا يضر، قرأ أبو جعفر ( هَنِيئًا مَرِيئًا ) بتشديد الياء فيهما من غير همز، وكذلك « بري » ، « وبريون » ، « وبريا » « وكهية » والآخرون يهمزونها.

وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا ( 5 )

قوله تعالى: ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ) اختلفوا في هؤلاء السفهاء فقال قوم: هم النساء، وقال الضحاك: النساء من أسفه السفهاء، وقال مجاهد: نهى الرجال أن يُؤتوا النساء أموالهم وهنّ سفهاء، مَنْ كُنّ، أزواجا أو بناتٍ أو أمهاتٍ، وقال آخرون: هم الأولاد، قال الزهري: يقول لا تعطِ ولدَك السفيه مالك الذي هو قيامك بعد الله تعالى فيفسده، وقال بعضهم: هم النساء والصبيان، وقال الحسن: هي امرأتك السفيهة وابنك السفيه، وقال ابن عباس: لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك فيكونوا هم الذين يقومون عليك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في رزقهم ومَؤنتهم، قال الكلبي: إذا علم الرجل أنّ امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد فلا ينبغي أن يسلط واحدًا منهما على ماله فيفسده. وقال سعيد بن جبير وعكرمة: هو مال اليتيم يكون عندك، يقول لا تؤته إيّاه وأنفق عليه حتى يبلغ، وإنّما أضاف إلى الأولياء فقال: ( أَمْوَالَكُم ) لأنهم قوامها ومدبروها.

والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله هو المستحق للحَجْرِ عليه، وهو أن يكون مبذرًا في ماله أو مفسدا في دينه، فقال جل ذكره: ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ ) أي: الجهال بموضع الحق أموالكم التي جعل الله لكم قياما.

قرأ نافع وابن عامر ( قِيَامًا ) بلا ألف، وقرأ الآخرون ( قِيَامًا ) وأصله: قواما، فانقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها، وهو ملاك الأمر وما يقوم به الأمر. وأراد هاهنا قِوام عيشكم الذي تعشيون به. قال الضحاك: به يقام الحج والجهاد وأعمال البِّر وبه فكاك الرقاب من النار.

( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ) أي: أطعموهم، ( وَاكْسُوهُمْ ) لمن يجب عليكم رزقه ومؤنته، وإنما قال ( فِيهَا ) ولم يقل: منها، لأنه أراد: اجعلوا لهم فيها رزقا فإن الرزق من الله: العطيةُ من غير حدٍّ، ومن العباد أجراء موقتٌ محدود. ( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا ) عِدَة جميلة، وقال عطاء: إذا ربحتُ أعطيتُك وإن غنمتُ جعلتُ لك حظًا، وقيل: هو الدعاء، وقال ابن زيد: إن لم يكن ممن تجب عليكم نفقته، فقل له: عافاك الله وإيّانا، بارك الله فيك، وقيل: قولا لينا تطيبُ به أنفسُهم.

وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ( 6 )

قوله تعالى: ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى ) الآية نـزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفي وترك. ابنه ثابتا وهو صغير، فجاء عمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنـزل الله تعالى هذه الآية ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى ) اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحفظهم أموالَهم، ( حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ) أي: مبلغ الرجال والنساء، ( فَإِنْ آنَسْتُم ) أبصرتم، ( مِنْهُمْ رُشْدًا ) فقال المفسرون يعني: عقلا وصلاحًا في الدين وحفظًا للمال وعلمًا بما يصلحه. وقال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي : لا يدفع إليه ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده.

والابتلاء يختلف باختلاف أحوالهم فإن كان ممن يتصرف في السوق فيدفع الولي إليه شيئًا يسيرا من المال وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في السوق فيتخبره في نفقة داره، والإنفاق على عبيده وأُجرائه، وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها، فإذا رأى حسن تدبيره، وتصرفه في الأمور مرارًا يغلب على القلب رشده، دفعَ المالَ إليه.

واعلم أن الله تعالى علق زوال الحَجْرِ عن الصغير وجواز دفع المال إليه بشيئين : بالبلوغ والرَّشد، فالبلوغ يكون بأحد ( أشياء أربعة ) ، اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء، واثنان تختصان بالنساء:

فما يشترك فيه الرجال والنساء أحدهما السن، والثاني الاحتلام، أما السن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة حكم ببلوغه غلامًا كان أو جارية، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عُرضْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فردَّني، ثم عُرضتَ عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ، قال نافع: فحدثتُ بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز، فقال: هذا فرق بين المقاتلة والذريّة، وكتب أن يفرض لابن خمس عشرة سنة في المقاتلة، ومن لم يبلغها في الذرية. وهذا قول أكثر أهل العلم.

وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة، وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة.

وأما الاحتلام فنعني به نـزول المني سواء كان بالاحتلام أو بالجماع، أو غيرهما، فإذا وجدت ذلك بعد استكمال تسع سنين من أيهما كان حُكم ببلوغه، لقوله تعالى: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ في الجزية حين بعثه إلى اليمن: « خُذْ من كل حالم دينارا » .

وإما الإنبات، وهو نبات الشعر الخشن حول الفرج: فهو بلوغ في أولاد المشركين، لما روي عن عطية القرظي قال: كنت من سبي قريظة، فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكنت ممن لم ينبت .

وهل يكون ذلك بلوغًا في أولاد المسلمين؟ فيه قولان، أحدهما: يكون بلوغًا كما في أولاد الكفار، والثاني: لا يكون بلوغا لأنه يمكن الوقوف على مواليد المسلمين بالرجوع إلى آبائهم، وفي الكفار لا يوقف على مواليدهم، ولا يقبل قول آبائهم فيه لكفرهم، فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغًا في حقهم.

وأما ما يختص بالنساء: فالحيض والحَبَل، فإذا حاضت المرأة بعد استكمال تسع سنين يُحكم ببلوغها، وكذلك إذا ولدت يُحكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل.

وأما الرشد: فهو أن يكون مصلحًا في دينه وماله، فالصلاح في الدين هو أن يكون مجتنبًا عن الفواحش والمعاصي التي تسقط العدالة، والصلاح في المال هو أن لا يكون مبذرًا، والتبذير: هو أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيويّة ولا مثوبة أخرويّة، أو لا يُحسنُ التصرفَ فيها، فيغبن في البيوع فإذا بلغ الصبي وهو مفسد في دينه وغير مصلح لماله، دام الحجر عليه، ولا يدفع إليه ماله ولا ينفذ تصرفه.

وعند أبي حنيفة رضي الله عنه إذا كان مصلحًا لماله زال الحجر عنه وإن كان مفسدا في دينه، وإذا كان مفسدا لماله قال: لا يدفع إليه المال حتى يبلغ خمسًا وعشرين سنة، غير أن تصرّفه يكون نافذًا قبله. والقرآن حجة لمن استدام الحجر عليه، لأن الله تعالى قال: ( حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، والفاسق لا يكون رشيدًا وبعد بلوغه خمسًا وعشرين سنة، وهو مفسد لماله بالاتفاق غير رشيد، فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن.

وإذا بلغ وأونس منه الرشد، زال الحجر عنه، ودفع إليه المال رجلا كان أو امرأة تزوج أو لم يتزوج.

وعند مالك رحمه الله تعالى: إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج، فإذا تزوجت دفع إليها، ولكن لا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج، ما لم تكبر وتُجرَّب.

فإذا بلغ الصبي رشيدًا وزال الحجر عنه ثم عاد سفيهًا، نظر: فإن عاد مبذرًا لماله حجر عليه، وإن عاد مفسدًا في دينه فعلى وجهين: أحدهما: يعاد الحجر عليه كما يستدام الحجر عليه إذا بلغ بهذه الصفة، والثاني: لا يعاد لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء .

وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال، والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة رضي الله عنهم ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين ألف درهم، فقال علي: لآتين عثمان فلأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك [ فقال الزبير: أنا شريكك في بيعتك، فأتى علي عثمان وقال : احجر على هذا ] ، فقال الزبير: أنا شريكه، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير ، فكان ذلك اتفاقا منهم على جواز الحجر حتى احتال الزبير في دفعه.

قوله تعالى: ( وَلا تَأْكُلُوهَا ) يا معشر الأولياء ( إِسْرَافًا ) بغير حق، ( وَبِدَارًا ) أي مبادرة ( أَنْ يَكْبَرُوا ) ( أَن ) في محل النصب، يعني: لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذرًا من أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم، ثم بين ما يحل لهم من مالهم فقال: ( وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ) أي ليمتنع من مال اليتيم فلا يرزأه قليلا ولا كثيرًا، والعفة: الامتناع مما لا يحل ( وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا ) محتاجا إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده فليأكل بالمعروف.

أخبرنا محمد بن الحسن المروزي، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر السجزي، أخبرنا الإمام أبو سليمان الخطابي، أخبرنا أبو بكر بن داسة التمار، أخبرنا أبو داؤد السجستاني، أخبرنا حميد بن مسعدة، أن خالد بن الحارث حدثهم أخبرنا حسين يعني المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير وليس لي شيء ولي يتيمٌ؟ فقال: « كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل » .

واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء؟ فذهب بعضهم إلى أنه يقضي إذا أيسر، وهو المراد من قوله ( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) فالمعروف القرض، أي: يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه، فإذا أيسر قضاه، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أنـزلت نفسي من مال الله تعالى بمنـزلة مال اليتيم: إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرتُ قضيتُ .

وقال الشعبي: لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة.

وقال قوم: لا قضاء عليه.

ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف، فقال عطاء وعكرمة: يأكل بأطراف أصابعه، ولا يسرف ولا يكتسي منه، ولا يلبس الكتان ولا الحُلل، ولكن ما سد الجوعة ووَارَى العورة.

وقال الحسن وجماعة: يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه، فأما الذهب والفضة فلا؛ فإن أخذ شيئا منه رده.

وقال الكلبي: المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم، وليس له أن يأكل من ماله شيئا.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه قال سمعت القاسم بن محمد يقول: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن لي يتيما وإن له إبلا أفأشرب من لبن إبله؟ فقال: إن كنت تبغي ضالة إبله وتَهْنَأ جرباها وتليطُ حوضها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مُضرٍ بنسلٍ ولا ناهكٍ في الحلْبِ .

وقال بعضهم: والمعروف أن يأخذ من جميع ماله بقدر قيامه وأجرة عمله، ولا قضاء عليه، وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم.

قوله تعالى : ( فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ) هذا أمر إرشاد، ليس بواجب، أمر الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعدما بلغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة، ( وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) محاسبا ومجازيا وشاهدا.

 

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ( 7 ) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا ( 8 )

قوله تعالى: ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) الآية، نـزلت في أوس بن ثابت الأنصاري، توفي وترك امرأة يقال لها أم كُجّة وثلاث بنات له منها. فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووَصِيّاه سويدٌ وعَرْفَجة، فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا، وكانوا في الجاهلية لا يورِّثون النساء ولا الصغار، وإن كان الصغير ذكرًا وإنما كانوا يورِّثون الرجال، ويقولون: لا نعطي إلا من قاتل وحاز الغنيمة، فجاءت أم كُجّة فقالت: يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات وترك عليّ بنات وأنا امرأته، وليس عندي ما أنفق عليهن، وقد ترك أبوهن مالا حسنًا، وهو عند سويد وعرفجة، ولم يعطياني ولا بناتي شيئا وهنَّ في حِجْري، لا يطعمن ولا يسقين، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله ولدها لا يركب فرسًا ولا يحمل كلا ولا يَنْكَأَ عدوًا، فأنـزل الله عز وجل، ( لِلرِّجَال ) يعني: للذكور من أولاد الميت وأقربائه ( نَصِيبٌ ) حظ ( مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) من الميراث ، ( وَلِلنِّسَاء ) للإناث منهم، ( نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ ) أي: من المال، ( أَوْ كَثُرَ ) منه ( نَصِيبًا مَفْرُوضًا ) نصب على القطع، وقيل: جعل ذلك نصيبًا فأثبت لهنّ الميراث، ولم يبين كم هو، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سُويد وعرفجة « لا تفرقا من مال أوس بن ثابت شيئًا، فإن الله تعالى جعل لبناته نصيبا مما ترك، ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينـزل فيهن » ، فأنـزل الله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فلما نـزلت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة « أن ادفع إلى أم كُجّة الثُّمن مما ترك وإلى بناته الثلثين، ولكما باقي المال » .

قوله تعالى: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ) يعني: قسمةَ المواريث، ( أُولُو الْقُرْبَى ) الذين لا يرثُون، ( وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ ) أي: فارضخوا لهم من المال قبل القسمة، ( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا )

اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: هي منسوخة، وقال سعيد بن المسيب والضحاك: كانت هذه قبل آية الميراث، فلما نـزلت آية الميراث جعلت المواريث لأهلها، ونسخت هذه الآية.

وقال الآخرون: هي محكمة، وهو قول ابن عباس والشعبي والنخعي والزهري، وقال مجاهد: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم .

وقال الحسن: كانوا يعطون التابوت والأواني ورثَّ الثياب والمتاع والشيء الذي يستحيا من قسمته.

وإن كان بعض الورثة طفلا فقد اختلفوا فيه، فقال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: إن كانت الورثة كبارًا رضخوا لهم، وإن كانت صغارًا اعتذروا إليهم، فيقول الولي والوصي: إني لا أملك هذا المال إنما هو للصغار، ولو كان لي منه شيء لأعطيتُكم، وإن يكبروا فسيعرفون حقوقك، هذا هو القول بالمعروف.

وقال بعضهم: ذلك حق واجب في أموال الصغار والكبار، فإن كانوا كبارًا تولوا إعطاءهم، وإن كانوا صغارا أعطى وليهم. روى محمد بن سيرين أن عبيدة السلماني قسم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت فصنع طعاما لأهل هذه الآية، وقال: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي.

وقال قتادة عن يحيى بن يعمر: ثلاث آيات محكمات مدنيات تركهن الناس، هذه الآية وآية الاستئذان : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( النور - 58 ) الآية، وقوله تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( الحجرات - 13 ) الآية.

وقال بعضهم - وهو أولى الأقاويل - : إن هذا على الندب والاستحباب، لا على الحتم والإيجاب.

وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ( 9 )

قوله تعالى : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا ) أولادًا صغارًا، خافوا عليهم، الفقر، هذا في الرجل يحضره الموت، فيقول من بحضرته: انظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئا، قدم لنفسك، أعتق وتصدق وأعط فلانا كذا وفلانا كذا، حتى يأتي على عامة ماله، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأمرهم أن يأمروه أن ينظر لولده ولا يزيد في وصيته على الثلث، ولا يُجحف بورثته كما لو كان هذا القائل هو الموصي يسره أن يحثه من بحضرته على حفظ ماله لولده، ولا يدعهم عالًة مع ضعفهم وعجزهم.

وقال الكلبي: هذا الخطاب لولاة اليتامى يقول: من كان في حجره يتيم فليحسنْ إليه وليأت إليه في حقه ما يجب أن يفعل بذريته من بعده.

قوله تعالى: ( فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ) أي: عدلا والسديد: العدل، والصواب من القول، وهو أن يأمره بأن يتصدق بما دون الثلث ويخلف الباقي لولده.

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ( 10 )

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ) قال مقاتل بن حيان: نـزلت في رجل من بني غطفان، يقال له مَرْثَد بن زيد وَلِيَ مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله، فأنـزل الله تعالى فيه ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ) حرامًا بغير حق، ( إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) أخبر عن مآله، أي عاقبته تكون كذلك، ( وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) قراءة العامة بفتح الياء، أي: يدخلونها يقال: صَلي النار يصلاها صلا قال الله تعالى: إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات - 163 ) ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بضم الياء، أي: يدخلون النار ويحرقون، نظيره قوله تعالى : فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ( النساء - 30 ) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( المدثر - 26 ) وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: « رأيت ليلة أسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل، إحداهما قالصة على منخريه والأخرى على بطنه، وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما » .

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 11 )

قوله تعالى: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) الآية، اعلم أن الوراثة كانت في الجاهلية بالذكورة والقوة فكانوا يُورِّثون الرجال دون النساء والصبيان، فأبطل الله ذلك بقوله: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ الآية، وكانت أيضًا في الجاهلية وابتداء الإسلام بالمحالفة، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ( النساء - 33 ) ثم صارت الوراثة بالهجرة، قال الله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ( الأنفال - 72 ) فنسخ ذلك كله وصارت الوراثة بأحد الأمور الثلاثة بالنسب أو النكاح أو الولاء، فالمعنيُّ بالنسب أن القرابة يرث بعضهم من بعض، لقوله تعالى وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ( الأحزاب - 6 ) ، والمعنيُّ بالنكاح: أن أحد الزوجين يرث صاحبه، وبالولاء: أن المُعْتِقَ وعصباته يرثون المُعْتَقَ، فنذكر بعون الله تعالى فصلا وجيزا في بيان من يرث من الأقارب. وكيفية توريث الورثة فنقول:

إذا مات ميت وله مال فيبُدأ بتجهيزه ثم بقضاء ديونه ثم بإنفاذ وصاياه فما فضل يقسم بين الورثة. ( ثم الورثة ) على ثلاثة أقسام: منهم من يرث بالفرض ومنهم من يرث بالتعصيب، ومنهم من يرث بهما جميعا، فمن يرث بالنكاح لا يرث إلا بالفرض، ومن يرث بالولاء لا يرث إلا بالتعصيب، أما من يرث بالقرابة فمنهم من يرث بالفرض كالبنات والأخوات والأمهات والجدات، وأولاد الأم، ومنهم من يرث بالتعصيب كالبنين والأخوة وبني الأخوة والأعمام وبنيهم، ومنهم من يرث بهما كالأب يرث بالتعصيب إذا لم يكن للميت ولد، فإن كان للميت ابن: يرث الأب بالفرض السدس، وإن كان للميت بنت فيرث الأب السدس بالفرض ويأخذ الباقي بعد نصيب البنت بالتعصيب، وكذلك الجد، وصاحب التعصيب من يأخذ جميع المال عند الانفراد ويأخذ ما فضل عن أصحاب الفرائض.

وجملة الورثة سبعة عشر: عشرة من الرجال وسبع من النساء، فمن الرجال: الابن وابن الابن وإن سفل والأب والجد أبو الأب وإن علا والأخ سواء كان لأب وأم أو لأب أو لأم، وابن الأخ للأب والأم أو للأب وإن سفل والعم للأب والأم أو للأب وأبناؤهما وإن سفلوا، والزوج ومولى العتاق، ومن النساء البنت وبنت الابن وإن سفلت، والأم والجدة أم الأم وأم الأب، والأخت سواء كانت لأب وأم أو لأب أو لأم، والزوجة ومولاة العتاق.

وستة من هؤلاء لا يلحقهم حجب الحرمان بالغير : الأبوان والولدان، والزوجان، لأنه ليس بينهم وبين الميت واسطة.

والأسباب التي توجب حرمان الميراث أربعة: اختلاف الدين والرق والقتل وعمي الموت.

ونعني باختلاف الدين أن الكافر لا يرث المسلم والمسلم لا يرث الكافر، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أنا ابن عيينة عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم » .

فأما الكفار فيرث بعضهم من بعض مع اختلاف مللهم، لأن الكفر كله ملة واحدة، لقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ( الأنفال - 73 ) .

وذهب بعضهم إلى أن اختلاف الملل في الكفر يمنع التوارث حتى لا يرث اليهودي النصراني ولا النصراني المجوسي، وإليه ذهب الزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يتوارث أهل ملتين شتى » ، وتأَوَّله الآخرون على الإسلام مع الكفر فكله ملة واحدة فتوريث بعضهم من بعض لا يكون فيه إثبات التوارث بين أهل ملتين شتى.

والرقيق لا يرث أحدًا ولا يرثه أحد لأنه لا ملك له، ولا فرق فيه بين القن والمدبَّر والمكاتَب وأمّ الولد.

والقتل يمنع الميراث عمدًا كان أو خطأ لما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « القاتل لا يرث » .

ونعني بعمي الموت أن المتوارثَين إذا عمي موتهما بأن غرقا في ماء أو انهدم عليهما بناء فلم يدر أيهما سبق موته فلا يورَّث أحدهما من الآخر، بل ميراث كل واحد منهما لمن كانت حياته يقينا بعد موته من ورثته.

والسهام المحدودة في الفرائض ستة: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس.

فالنصف فرض ثلاثة: فرض الزوج عند عدم الولد وفرض البنت الواحدة للصلب أو بنت الابن عند عدم ولد الصلب، وفرض الأخت الواحدة للأب والأم أو للأب إذا لم يكن ولد لأب وأم.

والربع فرض الزوج إذا كان للميتة ولد وفرض الزوجة إذا لم يكن للميت ولد.

والثمن: فرض الزوجة إذا كان للميت ولد.

والثلثان فرض البنتين للصلب فصاعدا ولبنتي الابن فصاعدا عند عدم ولد الصلب، وفرض الأختين لأب وأم أو للأب فصاعدا.

والثلث فرض ثلاثة: فرض الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا اثنان من الأخوات والأخوة، إلا في مسألتين: إحداهما زوج وأبوان، والثانية زوجة وأبوان، فإن للأم فيهما ثلث ما بقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة، وفرض الاثنين فصاعدا من أولاد الأم، ذكَرُهم وأنثاهم فيه سواء، وفرض الجد مع الإخوة إذ لم يكن في المسألة صاحب فرض، وكان الثلث خيرا للجد من المقاسمة مع الإخوة.

وأما السدس ففرض سبعة: فرض الأب إذا كان للميت ولد، وفرض الأم إذا كان للميت ولد أو اثنان من الإخوة والأخوات، وفرض الجد إذا كان للميت ولد ومع الإخوة والأخوات إذا كان في المسألة صاحب فرض، وكان السدس خيرًا للجد من المقاسمة مع الإخوة، وفرض الجدة والجدات وفرض الواحد من أولاد الأم ذكرًا أو أنثى، وفرض بنات الابن إذا كان للميت بنت واحدة للصلب تكملة الثلثين، وفرض الأخوات للأب إذا كان للميت أخت واحدة لأب وأم تكملة الثلثين.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا مسلم بن إبراهيم، أنا وهيب أنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأوْلَى رجِلِ ذكر » .

وفي الحديث دليل على أن بعض الورثة يحجب البعض، والحجب نوعان حجب نقصان وحجب حرمان:

فأما حجب النقصان فهو أن الولد وولد الابن يحجب الزوج من النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن، والأم من الثلث إلى السدس، وكذلك الاثنان فصاعدا من الإخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس.

وحجب الحرمان هو أن الأم تُسقط الجدات، وأولاد الأم - وهم الأخوة والأخوات للأم - يسقطون بأربعة: بالأب والجد وإن علا وبالولد وولد الابن وإن سفل، وأولاد الأب والأم يسقطون بثلاثة بالأب والابن وابن الابن وإن سفلوا، ولا يسقطون بالجد على مذهب زيد بن ثابت، وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم، وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله.

وأولاد الأب يسقطون بهؤلاء الثلاثة وبالأخ للأب والأم، وذهب قوم إلى أن الأخوة جميعًا يسقطون بالجد كما يسقطون بالأب، وهو قول أبي بكر الصديق وابن عباس ومعاذ وأبي الدرداء وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال الحسن وعطاء وطاوس وأبو حنيفة رحمهم الله.

وأقرب العصبات يُسقط الأبعد من العصوبة، وأقربهم الابن ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأب ثم الجد أبو الأب وإن علا فإن كان مع الجد أحد من الإخوة أو الأخوات للأب والأم أو للأب فيشتركان في الميراث، فإن لم يكن جد فالأخ للأب والأم ثم الأخ للأب ثم بنو الإخوة يقدم أقربهم سواء كان لأب وأم أو لأب، فإن استويا في الدرجة فالذي هو لأب وأم أولى ثم العم للأب والأم ثم العم للأب ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة، ثم عم الأب ثم عم الجد على هذا الترتيب.

فإن لم يكن أحد من عصبات النسب وعلى الميت ولاء فالميراث للمعتق، فإن لم يكن حيًا فلعصبات المعتق.

وأربعة من الذكور يعصبون الإناث، الابن وابن الابن والأخ للأب والأم والأخ للأب، حتى لو مات عن ابن وبنت أو عن أخ وأخت لأب وأم أو لأب فإنه يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا يفرض للبنت والأخت.

وكذلك ابن الابن يعصب من في درجته من الإناث، ومن فوقه إذا لم يأخذ من الثلثين شيئا حتى لو مات عن بنتين وبنت ابن فللبنتين الثلثان ولا شيء لبنت الابن، فإن كان في درجتها ابن ابن أو أسفل منها ابن ابن ابن كان الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين.

والأخت للأب والأم وللأب تكون عصبة مع البنت حتى لو مات عن بنت وأخت كان النصف للبنت والباقي للأخت، فلو مات عن بنتين وأخت فللبنتين الثلثان والباقي للأخت.

والدليل عليه ما أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا آدم، أنا شعبة، أنا أبو قيس، قال: سمعت هذيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن ابنة وبنت ابن وأخت فقال: للبنت النصف وللأخت النصف، وائتِ ابنَ مسعود فسيتابعني فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم: للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحَبر فيكم .

رجعنا إلى تفسير الآية: واختلفوا في سبب نـزولها. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أبو الوليد، أنا شعبة عن محمد بن المنكدر: سمعت جابرًا يقول جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصبَّ علي من وضَوئه فعقلت، فقلت: يا رسول الله لِمَنِ الميراث إنما يرثني كلالة؟ فنـزلت آية الفرائض .

وقال مقاتل والكلبي: نـزلت في أم كُجّة امرأة أوس بن ثابت وبناته .

وقال عطاء: استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أُحد وترك امرأة وبنتين وأخًا، فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتي سعد [ فقالت: يا رسول الله إن هاتين ابنتا سعد وإنّ سعد ] قُتل يوم أحد شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك » ، فنـزل ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ ) إلى آخرها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّهما فقال له: « أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك » ، فهذا أول ميراث قسم في الإسلام.

قوله عز وجل: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) أي: يعهد إليكم ويفرض عليكم في أولادكم، أي: في أمر أولادكم إذا متم، للذكر مثل حظ الأنثيين. ( فَإِنْ كُنَّ ) يعني: المتروكات من الأولاد، ( نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ) أي: ابنتين فصاعدًا ( فَوْق ) صلة، كقوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ ( الأنفال - 12 ) ، ( فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ ) يعني: البنت، ( وَاحِدَة ) قراءة العامة بالنصب على خبر كان، ورفعها أهل المدينة على معنى: إن وقعت واحدة، ( فَلَهَا النِّصْفُ وَلأبَوَيْهِ ) يعني لأبوي الميت، كناية عن غير مذكور، ( لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ) أراد أن الأب والأم يكون لكل واحد منهما سدس الميراث عند وجود الولد أو ولد الابن، والأب يكون صاحب فرض ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ ) قرأ حمزة والكسائي ( فَلأمِّه ) بكسر الهمزة استثقلالا للضمة بعد الكسرة، وقرأ الآخرون بالضم على الأصل ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) اثنان أو أكثر ذكورًا أو إناثًا ( فَلأمِّهِ السُّدُسُ ) والباقي يكون للأب إن كان معها أب، والإخوة لا ميراث لهم مع الأب، ولكنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يحجب الإخوة الأم من الثلث إلى السدس إلا أن يكونوا ثلاثة، وقد تفرد به، وقال: لأن الله تعالى قال: ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ ) ولا يقال للاثنين إخوة، فنقول اسم الجمع قد يقع على التثنية لأن الجمع ضم شيء إلى شيء وهو موجود في الاثنين كما قال الله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم - 4 ) ذكر القلب بلفظ الجمع، وأضافه إلى الاثنين

قوله تعالى: ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر ( يُوصِي ) بفتح الصاد على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، وكذلك الثانية، ووافق حفص في الثانية، وقرأ الآخرون بكسر الصاد لأنه جرى ذكْرُ الميت من قبل، بدليل قوله تعالى: ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا ) و ( تُوصُون )

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه « إنكم تقرؤون الوصية قبل الدين، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدَّين قبل الوصية » . وهذا إجماع أن الدين مُقدّم على الوصية. ومعنى الآية الجمع لا الترتيب، وبيان أن الميراث مؤخر عن الدين والوصية جميعًا، معناه: من بعد وصية إن كانت، أو دين إن كان، فالإرث مؤخر عن كل واحد منهما.

( آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ) يعني: الذين يرثونكم آباؤكم وأبناؤكم، ( لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ) أي: لا تعلمون أنهم أنفع لكم في الدين والدنيا فمنكم من يظن أن الأب أنفع له، فيكون الابن أنفع له، ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له، وأنا العالم بمن هو أنفع لكم، وقد دبَّرت أمركم على ما فيه المصلحة فاتبعوه، وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أطوعكم لله عز وجل من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة، والله تعالى يُشَفَّع المؤمنين بعضهم في بعض، فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة رفع إليه ولده وإن كان الولد أرفع درجة رفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم، ( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ) أي: ما قدر من المواريث، ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا ) بأمور العباد، ( حَكِيمًا ) بنصب الأحكام.

 

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( 12 )

قوله تعالى: ( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) وهذا في ميراث الأزواج، ( وَلَهُنَّ الرُّبُعُ ) يعني: للزوجات الربع، ( مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) هذا في ميراث الزوجات وإذا كان للرجل أربع نسوة فهن يشتركن في الربع والثمن.

قوله تعالى : ( وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ) تُورث كلالة، ونظم الآية: وإن كان رجل أو امرأة يُورث كلالة وهو نصب على المصدر، وقيل: على خبر ما لم يُسَمّ فاعلُه، وتقديره: إن كان رجل يورث ماله كلالة.

واختلفوا في الكلالة فذهب أكثر الصحابة إلى أن الكلالة من لا وَلَدَ له ولا والِدَ له. وروي عن الشعبي قال: سئل أبو بكر رضي الله عنه عن الكلالة فقال: إني سأقول فيها قولا برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد، فلما استخلف عمر رضي الله عنهما قال: إني لأستحيي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر رضي الله عنه .

وذهب طاوس إلى أن الكلالة من لا ولد له، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأحد القولين عن عمر رضي الله عنه ، واحتج من ذهب إلى هذا بقول الله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وبيانه عند العامة مأخوذٌ من حديث جابر بن عبد الله، لأن الآية نـزلت فيه ولم يكن له يوم نـزولها أب ولا ابن، لأن أباه عبد الله بن حرام قتل يوم أُحد، وآية الكلالة نـزلت في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم، فصار شأن جابر بيانًا لمراد الآية لنـزولها فيه.

واختلفوا في أن الكلالة اسم لمن؟ منهم من قال: اسم للميت، وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما، لأنه مات عن ذهاب طرفيه، فَكَلَّ عمود نَسَبِه، ومنهم من قال: اسم للورثة، وهو قول سعيد بن جبير، لأنهم يتكللون الميت من جوانبه، وليس في عمود نسبه أَحدٌ، كالإكليل يحيط بالرأس ووسط الرأس منه خالٍ، وعليه يدل حديث جابر رضي الله عنه حيث قال: إنما يرثني كلالة، أي: يرثني ورثة ليسوا بولدٍ ولا والدٍ،.

وقال النضر بن شميل: الكلالة اسم للمال، وقال أبو الخير: سأل رجل عقبة عن الكلالة فقال: ألا تعجبون من هذا يسألني عن الكلالة، وما أعضل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما أعضلت بهم الكلالة.

وقال عمر رضي الله عنه « ثلاث لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بيَّنهن لنا أحب إلينا من الدنيا وما فيها: الكلالة والخلافة وأبواب الرّبا » .

وقال معدان بن أبي طلحة: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة، ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعُته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي في الكلالة، حتى طعن بأصبعه في صدري قال: « يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء » وإني إن أعشْ أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن .

وقوله ألا تكفيكَ آية الصيف؟ أراد: أن الله عز وجل أنـزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول سورة النساء والأخرى في الصيف، وهي التي في آخرها، وفيها من البيان ما ليس في آية الشتاء، فلذلك أحاله عليها.

قوله تعالى: ( وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ) أراد به الأخ والأخت من الأم بالاتفاق، قرأ سعد بن أبي وقاص « وله أخ أو أخت من أم » ولم يقلْ لهما مع ذكر الرجل والمرأة من قبل، على عادة العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما، وكانا في الحكم سواء ربّما أضافت إلى أحدهما، وربّما أضافت إليهما، كقوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ( البقرة - 45 ) ، ( فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ) فيه إجماع أن أولاد الأم إذا كانوا اثنين فصاعدا يشتركون في الثلث ذكَرُهم وأنثاهم، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته: ألا إن الآية التي أنـزل الله تعالى في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنـزلها في الولد والوالد. والآية الثانية في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنـزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ) أي: غير مُدخل الضرَرَ على الورثة بمجاوزته الثلث في الوصية، قال الحسن هو أن يوصي بدين ليس عليه، ( وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ) قال قتادة: كره الله الضِّرار في الحياة وعند الموت، ونهى عنه وقدم فيه.

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 13 ) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 14 )

( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) يعني: ما ذكر من الفروض المحدودة، ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )

( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ) قرأ أهل المدينة وابن عامر « نُدخله جنات، ونُدخله نارا » ، وفي سورة الفتح ( ندخله ) و ( نعذبه ) وفي سورة التغابن ( نكفر ) و ( ندخله ) وفي سورة الطلاق ( ندخله ) بالنون فيهن، وقرأ الآخرون بالياء.

 

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا ( 60 )

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ) الآية قال الشعبي: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد، لأنه عرف أنه لا يأخذ الرّشوة ولا يميل في الحكم، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود لعلمه أنهم يأخذون الرشوة ويميلون في الحكم، فاتفقَا على أن يأتيَا كاهنًا في جُهينة فيتحاكما إليه، فنـزلت هذه الآية .

قال جابر: كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها واحد في جُهينة وواحد في أسلم، وفي كل حي كهان.

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نـزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر، كان بينه وبين يهودي خصومة فقال اليهودي: ننطلق إلى محمد، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف، وهو الذي سماه الله الطاغوت، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي، فلما خرجا من عنده لزمه المنافق، وقال: انطلق بنا إلى عمر رضي الله عنه، فأتيا عمر، فقال اليهودي: اختصمتُ أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك، فقال عمر رضي الله عنه للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، قال لهما رويدكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت وأخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج فضرب به المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرضَ بقضاء الله وقضاء رسوله. فنـزلت هذه الآية. وقال جبريل: إن عمر رضي الله عنه فرّق بين الحق والباطل، فسُمي الفاروق .

وقال السدي: كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضُهم وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النضير قتل به أو أخذ ديته مائة وسق من تمر، وإذا قتل رجلُ من بني النضير رجلا من قريظة لم يقتل به وأعطى ديته ستين وسقًا، وكانت النضير وهم حلفاء الأوس أشرف وأكثر من قريظة وهم حلفاء الخزرج، فلما جاء الله بالإسلام وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فاختصموا في ذلك، فقالت بنو النضير: كنّا وأنتم قد اصطلحنا على أن نقتل منكم ولا تقتلون منّا، وديتُكم ستون وسْقًا وديتُنَا مائة وسْق، فنحن نعطيكم ذلك، فقالت الخزرج: هذا شيء كنتم فعلتموه في الجاهلية لكثرتكم وقِلَّتِنا فقهرتُمونا، ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد فلا فضل لكم علينا، فقال المنافقون منهم: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي، وقال المسلمون من الفريقين: لا بلْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى المنافقون وانطلقوا إلى أبي بردة ليحكم بينهم، فقال: أعظموا اللقمة، يعني الحظ، فقالوا: لك عشرة أوسق، قال: لا بل مائة وسق ديتي، فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم، فأنـزل الله تعالى آية القصاص، وهذه الآية: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ) يعني الكاهن أو كعب بن الأشرف، ( وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا )

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ( 61 ) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ( 62 )

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ) أي: يُعرضون عنك إعراضا.

( فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ ) هذا وعيد، أي: فكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة، ( بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) يعني: عقوبةَ صدودِهم، وقيل: هي كل مُصيبة تُصيب جميع المنافقين في الدنيا والآخرة، وتم الكلام هاهنا، ثم عاد الكلام إلى ما سبق، يُخبر عن فعلهم فقال: ( ثُمَّ جَاءُوكَ ) يعني: يتحاكمون إلى الطاغوت، ( ثُمَّ جَاءُوكَ ) [ يحيونك ويحلفون ] .

وقيل: أراد بالمصيبة قتل عمر رضي الله عنه المنافق، ثم جاءوا يطلبون ديته، ( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا ) ما أردنا بالعدُول عنه في المحاكمة أو بالترافع إلى عمر، ( إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ) قال الكلبي: إلا إحسانًا في القول، وتوفيقًا: صوابًا، وقال ابن كيسان: حقًا وعدلا نظيره: « ليَحْلِفُنّ إن أردنا إلا الحسنى » ، وقيل: هو إحسان بعضهم إلى بعض، وقيل: هو تقريب الأمر من الحق، لا القضاء على أمر الحكم، والتوفيق: هو موافقة الحق، وقيل: هو التأليف والجمع بين الخصمين.

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا ( 63 ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ( 64 ) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( 65 )

( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) مِنَ النفاق، أي: علم أنّ ما في قلوبهم خلاف ما في ألسنتهم، ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) أي: عن عُقوبتهم وقيل: فأعرض عن قبول عذرهم وعظهم باللسان، وقل لهم قولا بليغًا، وقيل: هو التخويف بالله، وقيل: أن توعدهم بالقتل إن لم يتوبوا، قال الحسن: القول البليغ أن يقول لهم: إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قُتلتم لأنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ، وقال الضحاك: ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ ) في الملأ ( وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا ) في السّر والخلاء، وقال: قيل هذا منسوخ بآية القتال.

وله عز وجل ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) أي: بأمر الله لأنّ طاعة الرسول وجبت بأمر الله، قال الزجاج: ليطاع بإذن الله لأن الله قد أذن فيه وأمر به، وقيل: إلا ليُطاع كلام تام كاف، بإذن الله تعالى أي: بعلم الله وقضائه، أي: وقوعُ طاعته يكون بإذن الله، ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) بتحاكمهم إلى الطاغوت ( جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا )

قوله تعالى: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) الآية.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير: أنّ الزبير رضي الله عنه كان يحدِّث أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج مِنَ الحرة كانا يسقيان به. كلاهما، فقال رسول الله للزبير: اسقِ يا زبير، ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري، ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلونّ وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال للزبير: اسقِ ثم احبس الماءَ حتى يبلغ الجدر، فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقَّه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد به سعة له وللأنصاري، فلمّا أحْفَظَ الأنصاريُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقّه في صريح الحكم.

قال عروة: قال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية إلا نـزلت في ذلك ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) الآية .

وروي أن الأنصاري الذي خاصم الزبير كان اسمه حاطب بن أبي بلتعة فلما خَرَجَا مرَّ على المقداد فقال: لمن كان القضاء، فقال الأنصاري: قضَى لابن عمته ولَوَى شدقه ففطن له يهودي كان مع المقداد، فقال: قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاءٍ يقضي بينهم، وأيْمُ الله لقد أذنبنا ذنبًا مرّة في حياة موسى عليه السلام فدعا موسى إلى التوبة منه، فقال: اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنّا، فقال ثابت بن قيس بن شماس: أمّا والله إنّ الله ليعلم مني الصدقَ ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت، فأنـزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) .

وقال مجاهد والشعبي: نـزلت في بِشْر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر رضي الله عنه .

قوله تعالى: ( فَلا ) أي: ليس الأمر كما يزعمون أنهم مؤمنُون ثم لا يرضون بحكمك، ثم استأنف القَسَم ( وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ) ويجوز أن يكون ( لا ) في قوله ( فَلا ) صلة، كما في قوله فَلا أُقْسِمُ حتى يُحكِّمُوك: أي يجعلوك حكمًا، ( فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) أي: اختلف واختلط من أمورهم والْتَبَسَ عليهم حُكمه، ومنه الشجر لالتفاف أغصانه بعضها ببعض، ( ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا ) قال مجاهد: شكًّا، وقال غيره: ضِيقًا، ( مِمَّا قَضَيْتَ ) قال الضحاك: إثْمًا، أي: يأثمون بإنكارهم ما قضيت، ( وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) أي: وينقادوا لأمرك انقيادًا .

 

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ( 66 ) وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ( 67 ) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( 68 ) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ( 69 )

قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا ) أي: فرضنا وأوجبنا، ( عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) كما أمرنا بني إسرائيل ( أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ ) كما أمرنا بني إسرائيل بالخروج من مصر، ( مَا فَعَلُوهُ ) معناه: أنّا ما كتبنا عليهم إلا طاعة الرسول والرضَى بحكمه، ولو كتبْنَا عليهم القتل والخروج عن الدور ما كان يفعله، ( إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) نـزلت في ثابت بن قيس وهو من القليل الذي استثنى الله، قال الحسن ومقاتل لما نـزلت هذه الآية قال عمر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليل، والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « إنّ من أمتي لرجالا الإيمانُ في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي » .

قرأ ابن عامر وأهل الشام ( إِلا قَلِيلا ) بالنصب على الاستثناء، وكذلك هو في مصحف أهل الشام، وقيل: فيه إضمار، تقديره: إلا أن يكون قليلا منهم، وقرأ الآخرون قليل بالرفع على الضمير الفاعل في قوله ( فَعَلُوه ) تقديره: إلا نفر قليل فعلوه، ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ ) مِنْ طاعة الرسول والرضى بحكمه، ( لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ) تحقيقًا وتصديقًا لإيمانهم.

( وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ) ثوابًا وافرًا.

( وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) أي: إلى الصراط المستقيم.

قوله تعالى: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) الآية، نـزلتْ في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما غيَّر لونك » ؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اسْتَوْحَشْتُ وحشةً شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرتُ الآخرة فأخاف أن لا أراك لأنك ترفع مع النبيين، وإنّي إن دخلت الجنة كنتُ في منـزلة أدنى من منـزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنـزلت هذه الآية .

وقال قتادة: قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يكون الحال في الجنة وأنتَ في الدرجات العُلَى ونحن أسفل منك؟ فكيف نراك؟ فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ ) في أداء الفرائض، ( وَالرَّسُول ) في السنن ( فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) أي لا تفوتهم رؤية الأنبياء ومجالستهم لا أنهم يرفعون إلى درجة الأنبياء، ( وَالصِّدِّيقِينَ ) أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والصدّيق المبالغ في الصدق، ( وَالشُّهَدَاء ) قيل: هم الذين استشهدوا في يوم أُحد، وقيل: الذين استشهدوا في سبيل الله، وقال عكرمة: النبيون هاهنا: محمد صلى الله عليه وسلم والصديقون أبو بكر، والشهداء عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ( وَالصَّالِحِينَ ) سائر الصحابة رضي الله عنهم، ( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) يعني: رفقاء الجنّة، والعرب تضع الواحد موضع الجمع، كقوله تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ( الحج - 5 ) أي: أطفالا وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي: الأدبار.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي، أنا أبو العباس السراج، أنا قتيبة بن سعد، أنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس أنّ رجلا قال: يا رسول الله الرجل يحبُّ قومًا ولمّا يلحق بهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « المرء مَعَ من أحبَّ » .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي وأبو عمرو محمد بن عبد الرحمن النسوي قالا أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، أنا أبو العباس الأصم، أنا أبو يحيى زكريا بن يحيى المروزي، أنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: « وما أعددت لها » ؟ قال: فلم يذكر كثيرًا، إلا أنه يحب الله ورسولَه قال: « فأنتَ مع من أحببت » .

ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ( 70 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ( 71 ) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ( 72 )

( ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ) أي: بثواب الآخرة، وقيل: بمن أطاع رسول الله وأحبَّه، وفيه بيان أنهم لن ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم، وإنّما نالوُها بفضل الله عز وجل.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا عبد الرحيم بن منيب، أنا يعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قارِبُوا وسَدِّدُوا واعلمُوا أنه لا ينجو أحدُ منكم بِعَمَلِهِ » ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: « ولا أنا إلا أن يتغمدَنِي الله برحمة منه وفضل » .

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ) من عدوِّكم، أي: عدّتكم وآلتكم من السلاح، والحِذْرُ والحَذَرُ واحد، كالمِثْل والمَثَل والشِّبْهِ والشَّبَهِ، ( فَانْفِرُوا ) اخْرُجُوا ( ثُبَاتٍ ) أي: سرايا متفرقين سرية بعد سرية، والثبات جماعات في تفرقة واحدتها ثبة، ( أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ) أي: مجتمعين كلكم مع النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: ( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ) نـزلت في المنافقين

وإنما قال ( مِنْكُم ) لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسبِ وإظهارِ الإسلام، لا في حقيقة الإيمان، ( لَيُبَطِّئَنّ ) أي: ليتأخرنّ، وليتثاقلنَّ عن الجهاد، وهو عبد الله بن أبَيّ المنافق، واللام في ( لَيُبَطِّئَنّ ) لام القسم، والتبطئة: التأخر عن الأمر، يقال: ما أبطأ بك؟ أي: ما أخَّرَك عنّا؟ ويقال: أبْطَأَ إبطاءً وبطَّأَ يبطِّئُ تَبْطِئةً . ( فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ) أي: قتلٌ وهزيمة، ( قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ ) بالقُعود، ( إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ) أي: حاضرًا في تلك الغزاة فيصيبني ما أصابهم.

وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ( 73 ) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( 74 )

( وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ ) فتح وغنيمة ( لَيَقُولَنَّ ) هذا المنافق، وفيه تقديم وتأخير، وقوله ( كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ) متصل بقوله فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ تقديره: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ، كأنْ لمْ تكنْ بينكُمْ وبينَهُ مودةٌ أي: معرفة.

قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب ( تَكُن ) بالتاء، والباقون بالياء، أي: ولئن أصابكم فضلُ من الله لَيَقُولَنَّ: ( يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ ) في تلك الغزاة، ( فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ) أي: آخذ نصيبًا وافرًا من الغنيمة، وقوله ( فَأَفُوزَ ) نصب على جواب التمني بالفاء، كما تقول: وددت أن أقوم فيتبعني الناس.

قوله تعالى : ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ) قيل: نـزلت في المنافقين، ومعنى يشرون أي: يشترون، يعني الذين يختارون الدنيا على الآخرة، معناه: آمنوا ثم قاتلوا، وقيل: نـزلت في المؤمنين المخلصين، معناه فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون أي: يبيعُون الحياة الدنيا بالآخرة ويختارُون الآخرة ( وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ ) يعني يستشهد، ( أَوْ يَغْلِبْ ) يظفر، ( فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ ) في كلا الوجهين ( أَجْرًا عَظِيمًا ) ويدغم أبو عمرو والكسائي الباء في الفاء حيث كَان .

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « تكَفَّلَ الله لمن جاهدَ في سبيله لا يُخرجُهُ من بيتهِ إلا الجهادُ في سبيلهِ وتصديق كلمتهِ أن يُدخلَه الجنةَ أو يرجعَه إلى مسكنهِ الذي خرجَ منه معَ ما نال من أجرٍ أو غنيمة » .

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر الجوهري، أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر، أنا إسماعيل بن جعفر، أنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: « مَثَلُ المجاهد في سبيل الله كمثل القانتِ الصائمِ الذي لا يفتُرُ من صلاةٍ ولا صيامٍ حتى يُرجعهُ الله إلى أهلهِ بما يرجعُه من غنيمةٍ وأجرٍ، أو يتوفاه فيدخله الجنة » .

 

وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ( 20 )

( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ ) أراد بالزوج الزوجة ولم يكن من قبلها نشوز ولا فاحشة، ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ) وهو المال الكثير، صداقا، ( فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ ) من القنطار، ( شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ ) استفهام بمعنى التوبيخ، ( بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) انتصابهما من وجهين أحدهما بنـزع الخافض، والثاني بالإضمار تقديره: تصيبون في أخذه بهتانًا وإثمًا ثم قال: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ

وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( 21 ) وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا ( 22 )

( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ) على طريق الاستعظام، ( وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ) أراد به المجامعة، ولكن الله حييٌ يُكني، وأصل الإفضاء: الوصول إلى الشيء من غير واسطة.

( وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة: هو قول الوَلي عند العقد: زوجتُكَها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقال الشعبي وعكرمة: هو ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله تعالى واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله تعالى » .

قوله عز وجل: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) كان أهل الجاهلية ينكحون أزواج آبائهم، قال الأشعث بن سوار: تُوفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت: إني اتخذتك ولدًا وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره، فأتته فأخبرته، فأنـزل الله تعالى: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ) ، قيل: بعد ما سلف، وقيل: معناه لكن ما سلف، أي: ما مضى في الجاهلية فهو معفو عنه، ( إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ) أي: إنه فاحشة، و « كان » فيه صلة، والفاحشة أقبح المعاصي، ( وَمَقْتًا ) أي: يُورث مقت الله، والمقت: أشدّ البُغض، ( وَسَاءَ سَبِيلا ) وبئس ذلك طريقًا وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه ( مقيت ) وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية .

أخبرنا محمد بن الحسن المروزي، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمرو السجزي، أنا الإمام أبو سليمان الخطابي، أنا أحمد بن هشام الحضرمي، أنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي، عن حفص بن غياث، عن أشعث بن سوار، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: مرّ بي خالي ومعه لواء فقلت: أين تذهب؟ قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه « . »

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 23 )

قوله تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ) الآية، بين الله تعالى في هذه الآية المحرمات بسبب الوُصْلة، وجملة المحرمات في كتاب الله تعالى أربع عشرة: سبعٌ بالنسب، وسبعٌ بالسبب.

فأما السبع بالسبب فمنها اثنتان بالرضاع وأربع بالصهرية والسابعة المحصنات، وهن ذوات الأزواج.

وأما السبع بالنسب فقوله تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ) وهي جمع أُمّ فيدخل فيهن الجدات وإن علونَ من قِبَل الأم ومن قِبَل الأب، ( وَبَنَاتُكُم ) جمع: البنت، فيدخل فيهن بنات الأولاد وإن سَفُلْنَ، ( وَأَخَوَاتُكُمْ ) جمع الأخت سواء كانت من قِبَل الأب والأم أو من قِبَل أحدهما، ( وَعَمَّاتُكُم ) جمع العمة، ويدخل فيهن جميع أخوات آبائك وأجدادك وإن علون، ( وَخَالاتُكُم ) جمع خالة، ويدخل فيهن جميع أخوات أمهاتك وجداتك، ( وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ ) ويدخل فيهنّ بنات أولاد الأخ والأخت وإن سَفُلْنَ، وجملته: أنه يحرم على الرجل أصوله وفصوله وفصول أول أصوله وأول فصلِ من كل أصل بعده، والأصول هي الأمهات والجدات، والفصول البنات وبنات الأولاد، وفصول أول أصوله هي الأخوات وبنات الإخوة والأخوات، وأول فصل من كل أصل بعده هن العمات والخالات وإن علون.

وأما المحرمات بالرضاع فقوله تعالى: ( وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ )

وجملته: أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن سليمان بن يسار عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يحرم من الرَّضاعة ما يحرم من الوِلادة » .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، قال: أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة، فقالت عائشة رضي الله عنها فقلت: يا رسول الله لو كان فلان حيًا - لعمها من الرضاعة - أيدخل علي؟ فقال رسول الله صلى الله « نعم إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة » .

وإنما تثبت حرمة الرضاع بشرطين، أحدهما: أن يكون قبل استكمال المولود حولين، لقوله تعالى وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( البقرة - 233 ) وروي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يحرمُ من الرضاعِ إلا ما فتقَ الأمعاء » . وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا رضاعَ إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم » ، وإنما يكون هذا في حال الصغر.

وعند أبي حنيفة رضي الله عنه: مدة الرضاع ثلاثون شهرًا، لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ( الأحقاف - 15 ) ، وهو عند الأكثرين لأقل مدة الحمل، وأكثر مدة الرضاع وأقل مدة الحمل ستة أشهر.

والشرط الثاني أن يوجد خمس رضعات متفرقات، يروى ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وبه قال عبد الله بن الزبير وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى.

وذهب أكثر أهل العلم إلى أن قليل الرضاع وكثيره يحرِّم، وهو قول ابن عباس وابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب وإليه ذهب سفيان الثوري، ومالك، والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وأصحاب الرأي .

واحتج من ذهب إلى أن القليل لا يحرم بما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، أنا أبو العباس الأصم، أنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنا أنس بن عياض، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تُحرم المصة من الرضاع والمصتان » هكذا روى بعضُهم هذا الحديث ، ورواه عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصحيح .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنـزل الله في القرأن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن .

وأما المحرمات بالصهرية فقوله: ( وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ) وجملته: أَن كل من عقد النكاح على امرأة تحرم على الناكح أمهات المنكوحة وجداتها وإن علون من الرضاعة والنسب بنفس العقد.

( وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) والربائب جمع: ربيبة: وهي بنت المرأة، سُميت رَبيبة لتربيته إيّاها، وقوله: ( فِي حُجُورِكُمْ ) أي: في تربيتكم، يقال: فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته، ( دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) أي: جامعتموهن.

ويحرم عليه أيضا بناتُ المنكوحة وبنات أولادها، وإن سَفُلْنَ من الرضاع والنسب بعد الدخول بالمنكوحة، حتى لو فارق المنكوحة قبل الدخول بها أو ماتَتْ جاز له أن ينكح بنتها، [ ولا يجوز له أن ينكح أُمَّها ] لأن الله تعالى أطلق تحريم الأمهات وقال في تحريم الربائب.

( فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) يعني: في نكاح بناتهن إذا فارقتُمُوهن أو متْنَ، وقال علي رضي الله عنه: أم المرأة لا تحرم إلا بالدخول بالبنت كالربيبة.

( وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) يعني: أزواج أبنائكم، واحدتُها: حَلِيلة، والذكر حَلِيل، سميا بذلك لأن كُلّ واحد منهما [ حلال لصاحبه، وقيل: سميا بذلك لأن كل واحد منهما ] يَحلُّ حيث يحلُّ صاحبه من الحلول وهو النـزول، وقيل: إن كلَّ واحد منهما يحلّ إزارَ صاحبه من الحلَ وهو ضدّ العَقْل.

وجملته: أنه يحرم على الرجل حلائل أبنائه وأبناء أولاده وإن سَفُلُوا من الرضاع والنسب بنفس العقد، وإنما قال « من أصلابكم » ليعلم أن حليلة المتبنَّي لا تحرم على الرجل الذي تبناه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة زيد بن حارثة، وكان زيد تبنَّاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

والرابع من المحرمات بالصهرية: حليلةُ الأب والجدّ وإن علا فيحرم على الولد ووَلَدِ الولد بنفس العقد سواء كان الأب من الرضاع أو من النسب، لقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وقد سبق ذكره.

وكل امرأة تحرم عليك بعقد النكاح تحرم بالوطء في ملك اليمين، والوطء بشبهة النكاح، حتى لو وطئ امرأة بالشبهة أو جارية بملك اليمين فتحرم على الواطئ أمُّ الموطوءة وابنتها وتحرم الموطوءة على أب الواطئ وعلى ابنه.

ولو زنى بامرأة فقد اختلف فيه أهل العلم: فذهبت جماعة إلى أنه لا تحرم على الزاني أمُّ المزني بها وابنتها، وتحرم الزانيةُ على أب الزاني وابنه، وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب وعُروة والزهري، وإليه ذهب مالك والشافعي رحمهم الله تعالى.

وذهب قومٌ إلى التحريم، يُروَى ذلك عن عِمرانَ بن حصين وأبي هريرة رضي الله عنهما، وبه قال جابر بن زيد والحسن وهو قول أصحاب الرأي.

ولو لمس امرأة بشهوة أو قبَّلَها، فهل يُجعل ذلك كالدخول في إثبات حرمة المصاهرة؟ وكذلك لو لمس امرأة بشهوة فهل يجعل كالوطء في تحريم الربيبة؟ فيه قولان، أصحهما وهو قول أكثر أهل العلم: أنه تثبت به الحرمة، والثاني: لا تثبت كما لا تثبت بالنظر بالشهوة.

قوله تعالى: ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ ) لا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في النكاح سواء كانت الأخوّة بينهما بالنسب أو بالرضاع، فإذا نكح امرأة ثم طلقها بائنًا جاز له نكاح أختها، وكذلك لو ملك أختين بملك اليمين لم يجز له أن يجمع بينهما في الوطء، فإذا وطئ إحداهما لم يحل له وطء الأخرى حتى يُحرّم الأولى على نفسه.

وكذلك لا يجوز أن يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها، لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يُجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها » .

قوله تعالى : ( إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ) يعني: لكن ما مضى فهو معفوٌ عنه، لأنهم كانوا يفعلونه قبل الإسلام، وقال عطاء والسدي: إلا ما كان من يعقوب عليه السلام فإنه جمع بين ليَّا أم يهوذا وراحيل أم يوسف، وكانتا أختين. ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا )