الجزء السابع

 

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ( 82 )

قوله عز وجل: ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) يعني: مشركي العرب, ( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ) لم يرد به جميع النصارى لأنهم في عداوتهم المسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وإحراق مصاحفهم, لا ولاء, ولا كرامة لهم, بل الآية فيمن أسلم منهم مثل النجاشي وأصحابه, [ وقيل: نـزلت في جميع اليهود وجميع النصارى, لأن اليهود أقسى قلبا والنصارى ألين قلبا منهم, وكانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود ] .

قال أهل التفسير: ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم, فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم, فافتتن من افتتن, وعصم الله منهم من شاء, ومنع الله تعالى رسوله بعمه أبي طالب, فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يُؤمرْ بعدُ بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة, وقال: « إن بها ملكا صالحا لا يَظلم ولا يُظلم عنده أحد, فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا » وأراد به النجاشي, واسمه أصحمة وهو بالحبشة عطية, وإنما النجاشي اسم الملك, كقولهم قيصر وكسرى, فخرج إليهم سرا أحد عشر رجلا وأربع نسوة, وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم, والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود, [ وعبد الرحمن بن عوف ] وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو, ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية, وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي [ حثمة ] وحاطب بن عمرو و [ سهل ] بن بيضاء رضي الله عنهم, فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذه الهجرة الأولى ثم خرج جعفر بن أبي طالب, وتتابع المسلمون إليها وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان.

فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردوهم إليهم, فعصمه الله, وذُكرت القصة في سورة آل عمران.

فلما انصرفا خائبين, أقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا أمره, وذلك في سنة ستة من الهجرة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان - وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها فمات زوجها, - ويبعث إليه من عنده من المسلمين فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية يقال لها أبرهة تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها, فأعطتها أوضاحا لها سرورا بذلك, فأذنت لخالد بن سعيد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار, وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي رحمه الله فأنفذ إليها النجاشي أربعمائة دينار على يد أبرهة, فلما جاءتها بها أعطتها خمسين دينارا فردته وقالت: أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئا, وقالت: أنا صاحبة دهن الملك وثيابه, وقد صدَّقت محمدا صلى الله عليه وسلم وآمنت به, وحاجتي منك أن تقرئيه منك السلام, قالت نعم: وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عليها وعندها فلا ينكر.

قالت أم حبيبة: فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر, فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم, فدخلت عليه وكان يسألني عن النجاشي فقرأت عليه من أبرهة السلام فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما السلام, وأنـزل الله عز وجل: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً يعني: أبا سفيان مودة, يعني: بتزويج أم حبيبة, ولما جاء أبا سفيان تزويج أم حبيبة, قال: ذلك الفحل لا يُقرع أنفه .

وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ابنه أزهى بن أصحمة بن أبجر في ستين رجلا من الحبشة, وكتب إليه: يا رسول الله أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت لله رب العالمين, وقد بعثت إليك ابني أزهى, وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليك يا رسول الله, فركبوا سفينة في أثر جعفر وأصحابه حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا, ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف, منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من [ أهل ] الشام, فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها, فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا, وقال: آمنوا, وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينـزل على عيسى عليه السلام, فأنـزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ) يعني: وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم السبعون, وكانوا أصحاب الصوامع.

وقال مقاتل والكلبي كانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من الحبشة, وثمانية روميون من أهل الشام.

[ وقال عطاء: كانوا ثمانين رجلا أربعون من أهل نجران من بني الحرث بن كعب, واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام ] .

وقال قتادة: نـزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام, فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم صدقوه وآمنوا به فأثنى الله عز وجل بذلك عليهم . ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ) أي علماء, قال قطرب: القس والقسيس العالم بلغة الروم, ( وَرُهْبَانًا ) الرهبان العبّاد أصحاب الصوامع, واحدهم راهب, مثل فارس وفرسان, وراكب وركبان, وقد يكون واحدا وجمعه رهابين, مثل قربان وقرابين, ( وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق.

 

وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( 83 )

( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ) محمد صلى الله عليه وسلم, ( تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ ) تسيل, ( مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء: يريد النجاشي ولأصحابه قرأ عليهم جعفر بالحبشة كهيعص, فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة. ( يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم, دليله قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ( البقرة, 143 ) .

وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ( 84 ) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ( 85 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 86 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 87 )

( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ ) وذلك أن اليهود عيّروهم وقالوا لهم: لِمَ آمنتم؟ فأجابوهم بهذا, ( وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ) أي: في أمة محمد صلى الله عليه وسلم, بيانه أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ( الأنبياء, 105 ) .

( فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ ) أعطاهم الله, ( بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ) وإنما أنجح قولهم وعلق الثواب بالقول لاقترانه بالإخلاص, بدليل قوله: ( وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ) يعني: الموحدين المؤمنين, وقوله من قبل: تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يدل على أن الإخلاص والمعرفة بالقلب مع القول يكون إيمانا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ) الآية قال أهل التفسير: ذكّر النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوما ووصف القيامة, فرقّ له الناس وبكوا, فاجتمع عشرة من أصحابه في بيت عثمان بن مظعون الجمحي, وهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه, وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر, وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة, والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي, ومعقل بن مقرِّن رضي الله عنهم, وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويجبُّوا مذاكيرهم, ويصوموا الدهر, ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش, ولا يأكلوا اللحم والودك, ولا يقربوا النساء والطيب, ويسيحوا في الأرض, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه, فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية, واسمها الخولاء, وكانت عطارة: أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهت أن تبدي على زوجها, فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان بشيء فقد صدقك, فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما دخل عثمان أخبرته بذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ) ؟ قالوا: بلى يا رسول الله, وما أردنا إلا الخير, فقال صلى الله عليه وسلم: ( إني لم أؤمر بذلك ) , ثم قال: ( إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا, فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر, وآكل اللحم والدسم وآتي النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني ) , ثم جمع الناس وخطبهم فقال: ( ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات [ النساء ] ؟ أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء, ولا اتخاذ الصوامع, وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد, اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا, وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة, وصوموا رمضان واستقيموا يُستقم لكم, فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد, شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم, فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع ) , فأنـزل الله عز وجل هذه الآية .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد حدثني ابن أنعم عن سعد بن مسعود أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ائذن لنا في الاختصاء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس منا من خصى ولا اختصى, خصاء أمتي الصيام ) , فقال: يا رسول الله ائذن لنا في السياحة, فقال: ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ) , فقال: يا رسول الله ائذن لنا في الترهب, فقال: ( إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد وانتظار الصلاة ) .

ورُوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال: يا رسول الله إني أصبت من اللحم فانتشرت وأخذتني شهوة, فحرّمت اللحم, فأنـزل الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ) يعني: اللذات التي تشتهيها النفوس, مما أحل لكم من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة, ( وَلا تَعْتَدُوا ) أي: ولا تجاوزوا الحلال إلى الحرام, وقيل: هو جبّ المذاكير ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )

وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 88 )

( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا ) قال عبد الله بن المبارك: الحلال ما أخذته من وجهه, والطيب ما غذى وأنمى, فأما الجوامد كالطين والتراب وما لا يغذي فمكروه إلا على وجه التداوي.

( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب أنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا أحمد بن إبراهيم الدورقي وسلمة بن شبيب ومحمود بن غيلان قالوا: أخبرنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ) .

لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 89 )

قوله عز وجل: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نـزلت: لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ , قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه, فأنـزل الله: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ ) قرأ حمزة والكسائي [ وأبو بكر ] ( عقدتم ) بالتخفيف, وقرأ ابن عامر ( عاقدتم ) بالألف وقرأ الآخرون ( عقدتم ) بالتشديد, أي: وكدتم, والمراد من الآية قصدتم وتعمدتم, ( فَكَفَّارَتُهُ ) أي: كفارة ما عقدتم الأيمان إذا حنثتم, ( إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ) واختلفوا في قدره: فذهب قوم إلى أنه يطعم كل مسكين مدا من الطعام بمد النبي صلى الله عليه وسلم, وهو رطل وثلث من غالب قوت البلد, وكذلك في جميع الكفارات, وهو قول زيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر, وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم وسليمان بن اليسار وعطاء والحسن.

وقال أهل العراق: عليه لكل مسكين مُدّان, وهو نصف صاع, يروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما.

وقال أبو حنيفة: إن أطعم من الحنطة فنصف صاع, وإن أطعم من غيرها فصاع, وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد والحكم.

ولو غدّاهم وعشاهم لا يجوز, وجوّز أبو حنيفة, ويُروى ذلك عن علي رضي الله عنه.

ولا تجوز الدراهم والدنانير ولا الخبز ولا الدقيق, بل يجب إخراج الحب إليهم, وجوّز أبو حنيفة رضي الله عنه كل ذلك.

ولو صرف الكل إلى مسكين واحد [ لا يجوز ] وجوز أبو حنيفة أن يصرف طعام عشرة إلى مسكين واحد في عشرة أيام, ولا يجوز أن يصرف إلا إلى مسلم حر محتاج, فإن صرف إلى ذمي أو عبد أو غني لا يجوز, وجوّز أبو حنيفة صرفها إلى أهل الذمة, واتفقوا على أن صرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز.

قوله تعالى: ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) أي: من خير قوت عيالكم, وقال عبيدة السلماني: الأوسط الخبز والخل, والأعلى الخبز واللحم, والأدنى الخبز البحت والكل [ يجزئ ] .

قوله تعالى: ( أَوْ كِسْوَتُهُمْ ) كل من لزمته كفارة اليمين فهو فيها مخيّر إن شاء أطعم عشرة من المساكين, وإن شاء كساهم, وإن شاء أعتق رقبة, فإن اختار الكسوة, فاختلفوا في قدرها:

فذهب قوم إلى أنه يكسو كل مسكين ثوبا واحدا مما يقع عليه اسم الكسوة, إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو كساء ونحوها, وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعطاء وطاووس, وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى.

وقال مالك: يجب لكل إنسان ما تجوز فيه صلاته, فيكسو الرجال ثوبا واحدا والنساء ثوبين درعا وخمارا.

وقال سعيد بن المسيب لكل مسكين ثوبان.

قوله عز وجل: ( أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) وإذا اختار العتق يجب إعتاق رقبة مؤمنة, وكذلك جميع الكفارات مثل كفارة القتل والظهار والجماع في نهار رمضان يجب فيها إعتاق رقبة مؤمنة, وأجاز أبو حنيفة رضي الله عنه والثوري رضي الله عنه إعتاق الرقبة الكافرة في جميعها إلا في كفارة القتل, لأن الله تعالى قيّد الرقبة فيها بالإيمان, قلنا: المطلق يُحمل على المقيد [ كما أن الله تعالى قيّد الشهادة بالعدالة في موضع فقال: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ , ( الطلاق, 2 ) , وأطلق في موضع, فقال: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ( البقرة, 282 ) , ثم العدالة شرط في جميعها حملا للمطلق على المقيد ] كذلك هاهنا, ولا يجوز إعتاق المرتد بالاتفاق عن الكفارة.

ويشترط أن يكون سليم الرق حتى لو أعتق عن كفارته مكاتبا أو أم ولد أو عبدا اشتراه بشرط العتق أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة, يُعتق ولكن لا يجوز عن الكفارة, وجوّز أصحاب الرأي عتق المكاتب إذا لم يكن أدى شيئا من النجوم, وعتق القريب عن الكفارة ويشترط أن تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل ضررا بيّنا حتى لا يجوز مقطوع إحدى اليدين, أو إحدى الرجلين, ولا الأعمى ولا الزَّمِن ولا المجنون المطبق, ويجوز الأعور والأصم ومقطوع الأذنين والأنف لأن هذه العيوب لا تضر بالعمل ضررا بينا.

وعند أبي حنيفة رضي الله عنه كل عيب يفوِّت جنسا من المنفعة [ على الكمال ] يمنع الجواز, حتى جوز مقطوع إحدى اليدين, ولم يجوز مقطوع الأذنين.

قوله عز وجل: ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ) إذا عجز الذي لزمته كفارة اليمين عن الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة, يجب عليه صوم ثلاثة أيام, والعجز أن لا يفضل من ماله عن قوته وقوت عياله وحاجته ما يطعم أو يكسو أو يعتق فإنه يصوم ثلاثة أيام.

وقال بعضهم: إذا ملك ما يمكنه الإطعام وإن لم يفضل عن كفايته فليس له الصيام, وهو قول الحسن وسعيد بن جبير.

واختلفوا في وجوب التتابع في هذا الصوم: فذهب جماعة إلى أنه لا يجب فيه التتابع بل إن شاء تابع وإن شاء فرّق, والتتابع أفضل وهو أحد قولي الشافعي, وذهب قوم إلى أنه يجب فيه التتابع قياسا على كفارة القتل والظهار, وهو قول الثوري وأبي حنيفة, ويدل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه صيام ثلاثة أيام متتابعات. ( ذَلِكَ ) أي: ذلك الذي ذكرت, ( كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ) وحنثتم, فإن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث.

واختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث: فذهب قوم إلى جوازه, لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه, وليفعل الذي هو خير » . وهو قول عمر [ وابن عمر ] وابن عباس وعائشة وبه قال الحسن وابن سيرين, وإليه ذهب مالك والأوزاعي والشافعي, إلا أن الشافعي يقول: إن كفّر بالصوم قبل الحنث لا يجوز لأنه بدني, إنما يجوز بالإطعام أو الكسوة أو العتق كما يجوز تقديم الزكاة على الحول, ولا يجوز تعجيل صوم رمضان قبل وقته, وذهب قوم إلى أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث, وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه.

قوله عز وجل ( وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ) قيل: أراد به ترك الحلف, أي: لا تحلفوا, وقيل: وهو الأصح, أراد به: إذا حلفتم فلا تحنثوا, فالمراد منه حفظ اليمين عن الحنث هذا إذا لم تكن يمينه على ترك مندوب أو فعل مكروه, فإن حلف على فعل مكروه أو ترك مندوب, فالأفضل أن يحنث نفسه ويكفّر, لما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا حجاج بن منهال أنا جرير بن حازم عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة, فإنك إن أوتيتها عن مسألة وُكِلْتَ إليها, وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها, وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفّر عن يمينك وأتِ الذي هو خير » .

قوله تعالى: ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 90 ) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ( 91 )

قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ) أي: القمار ( وَالأنْصَابُ ) يعني: الأوثان, سُميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها, واحدها نصب بفتح النون وسكون الصاد, ونُصب بضم النون مخففا ومثقلا ( وَالأزْلامُ ) يعني: الأقداح التي كانوا يستقسمون بها واحدها زَلَم ( رِجْسٌ ) خبيث مستقذر, ( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) من تزيينه, ( فَاجْتَنِبُوهُ ) رد الكناية إلى الرجس, ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )

( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) أما العدواة في الخمر فإن الشاربين إذا سكروا عربدوا وتشاجروا, كما فعل الأنصاري الذي شج سعد بن أبي وقاص بلحي الجمل أما العداوة في الميسر, قال قتادة: كان الرجل يقامر على الأهل والمال ثم يبقى حزينا مسلوب الأهل والمال مغتاظا على [ حرفائه ] . ( وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ) وذلك أن من اشتغل بشرب الخمر أو القمار ألهاه ذلك عن ذكر الله, وشوش عليه صلاته كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف, تقدم رجل ليصلي بهم صلاة المغرب بعدما شربوا فقرأ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ : أعبد ما تعبدون, بحذف لا ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) أي: انتهوا, استفهام ومعناه أمر, كقوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ؟ ( سورة الأنبياء, 80 ) .

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 92 ) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( 93 )

( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ) المحارم والمناهي, ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )

وفي وعيد شارب الخمر أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الفوراني أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ثنا أبو الحسن محمد بن محمود المحمودي أنا أبو العباس الماسرجسي بنيسابور أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أخبرنا صالح بن قدامة حدثنا أخي عبد الملك بن قدامة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « كل مسكر حرام, وإن ختما على الله أن لا يشربه عبد في الدنيا إلا سقاه الله تعالى يوم القيامة من طينة الخبال, هل تدرون ما طينة الخبال؟ » قال: « عرق أهل النار » .

وأخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة » .

وأخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أحمد بن أبي أخبرنا أبو العباس الأصم أنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي من أهل مصر عن عبد الله بن عمر أنه قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: « لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها » .

قوله عز وجل: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ) سبب نـزول هذه الآية أن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا لما نـزل تحريم الخمر: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر [ ويأكلون ] من مال الميسر؟ فأنـزل الله تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ) وشربوا من الخمر وأكلوا من مال الميسر, ( إِذَا مَا اتَّقَوْا ) الشرك, ( وَآمَنُوا ) وصدّقوا, ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا ) الخمر والميسر بعد تحريمهما, ( وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا ) ما حرّم الله عليهم أكله وشربه, ( وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) وقيل: معنى الأول إذ ما اتقوا الشرك, وآمنوا وصدقوا ثم اتقوا, أي: داوموا على ذلك التقوى, ( وَآمَنُوا ) ازدادوا إيمانا, ثم اتقوا المعاصي كلها وأحسنوا, وقيل: أي: اتقوا بالإحسان, وكل محسن متق, ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 94 )

قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ) الآية, نـزلت عام الحديبية وكانوا محرمين ابتلاهم الله بالصيد, وكانت الوحوش تغشى رحالهم من كثرتها فهمّوا بأخذها فنـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ ) ليختبركم الله, وفائدة البلوى إظهار المطيع من العاصي, وإلا فلا حاجة له إلى البلوى بشيء من الصيد, وإنما بَعَّض, فقال ( بِشَيْءٍ ) لأنه ابتلاهم بصيد البر خاصة. ( تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ) يعني: الفرخ والبيض وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد, ( وَرِمَاحُكُمْ ) يعني: الكبار من الصيد, ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ ) ليرى الله, لأنه قد علمه, ( مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ) أي: يخاف الله ولم يره, كقوله تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ( الأنبياء, 49 ) أي: يخافه فلا يصطاد في حال الإحرام ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ ) أي: صاد بعد تحريمه, ( فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [ يوجع ] ظهره وبطنه جلدا, ويسلب ثيابه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( 95 )

قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) أي: محرمون بالحج والعمرة, وهو جمع حرام, يقال: رجل حرام وامرأة حرام, وقد يكون [ من ] دخول الحرم, يقال: أحرم الرجل إذا عقد الإحرام, وأحرم إذا دخل الحرم. نـزلت في رجل يقال له أبو اليَسَر شدَّ على حمار وحش وهو محرم فقتله.

قوله تعالى: ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ) اختلفوا في هذا العمد فقال قوم: هو العمد بقتل الصيد مع نسيان الإحرام, أما إذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم عليه, وأمره إلى الله لأنه أعظم من أن يكون له كفارة, وهو قول مجاهد والحسن.

وقال آخرون: هو أن يعمد المحرم قتل الصيد ذاكرا لإحرامه فعليه الكفارة.

واختلفوا فيما لو قتله خطأ, فذهب أكثر الفقهاء إلى أن العمد والخطأ سواء في لزوم الكفارة, قال الزهري: على المتعمد بالكتاب وعلى المخطئ بالسنة, وقال سعيد بن [ جبير ] لا تجب كفارة الصيد بقتل الخطأ, بل يختص بالعمد.

قوله عز وجل: ( فَجَزَاءٌ مِثْلُ ) قرأ أهل الكوفة ويعقوب « فجزاءٌ » منون, ( مِثْلُ ) رفع على البدل من الجزاء, وقرأ الآخرون بالإضافة ( فَجَزَاءٌ مِثْلُ ) ( مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) معناه أنه يجب عليه مثل ذلك الصيد من النعم, وأراد به ما يقرب من الصيد المقتول شبها من حيث الخلقة لا من حيث القيمة.

( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) أي: يحكم بالجزاء رجلان عدلان, وينبغي أن يكونا فقيهين ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به, وممن ذهب إلى إيجاب المثل من النعم عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر وابن عباس, وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم, حكموا في بلدان مختلفة وأزمان شتى بالمثل من النعم, يحكم حاكم في النعامة ببدنة وهي لا تساوي بدنة, وفي حمار الوحش ببقرة [ وهي لا تساوي بقرة ] وفي الضبع بكبش وهي لا تساوي كبشا, فدل على أنهم نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبها من حيث الخلقة [ لا من حيث القيمة ] وتجب في الحمام شاة, وهو كل ما عب وهدر من الطير, كالفاختة والقمري.

ورُوي عن عمر وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قضوا في حمام مكة بشاة, أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الضبع بكبش, وفي الغزال بعنـز وفي الأرنب بعناق, وفي اليربوع بجفرة .

قوله تعالى: ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ) أي: يُهدي تلك الكفارة إلى الكعبة, فيذبحها بمكة ويتصدق بلحمها على مساكين الحرم, ( أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ) قال الفراء رحمه الله: العِدْل بالكسر: المثل من جنسه, والعَدْل بالفتح: المثل من غير جنسه, وأراد به: أنه في جزاء الصيد مخيّر بين أن يذبح المثل من النعم, فيتصدق بلحمه على المساكين الحرم, وبين أن يقوّم المثل دراهم, والدراهم طعاما, فيتصدق بالطعام على المساكين الحرم, أو يصوم عن كل مدٍّ من الطعام يوما وله أن يصوم حيث شاء لأنه لا نفع فيه للمساكين.

وقال مالك: إن لم يخرج المثل يقوّم الصيد ثم يجعل القيمة طعاما فيتصدق به, أو يصوم.

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يجب المثل من النعم, بل يقوّم الصيد فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النعم, وإن شاء إلى الطعام فيتصدق به, وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر أو صاع من غيره يوما.

وقال الشعبي والنخعي جزاء الصيد على الترتيب والآية حجة لمن ذهب إلى التخيير.

قوله تعالى: ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ) أي: جزاء معصيته, ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ) يعني: قبل التحريم, ونـزول الآية, قال السدي: عفا الله عما سلف في الجاهلية, ( وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ) في الآخرة. ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ) وإذا تكرر من المحرم قتل الصيد فيتعدد عليه الجزاء عند عامة أهل العلم, قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا قتل المحرم صيدا متعمدا يسأل هل قتلت قبله شيئا من الصيد؟ فإن قال نعم لم يحكم عليه, وقيل له: اذهب ينتقم الله منك, وإن قال لم أقتل قبله شيئا حكم عليه, فإن عاد بعد ذلك لم يحكم عليه, ولكن يملأ ظهره وصدره ضربا وجيعا, وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وج وهو واد بالطائف .

واختلفوا في المحرم هل يجوز له أكل لحم الصيد أو لا؟ فذهب قوم إلى أنه لا يحل له بحال, ويروى ذلك عن ابن عباس, وهو قول طاووس وبه قال سفيان الثوري, واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا, وهو بالأبواء أو بودّان, فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي, قال: « إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم » .

وذهب الأكثرون إلى أنه يجوز للمحرم أكله إذا لم يصطد بنفسه ولا اصطيد لأجله أو بإشارته, وهو قول عمر وعثمان وأبي هريرة, وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير, وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي, وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم على الصعب بن جثامة لأنه ظن أنه صيد من أجله.

والدليل على جوازه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله التيمي عن نافع مولى أبي قتادة عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة, تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه وسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا فسألهم رمحه فأبوا فأخذه ثم شدّ على الحمار فقتله, فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأبى بعضهم فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك, فقال: « إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى » .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لحم الصيد لكم في الإحرام حلال, ما لم تصيدوه أو يُصاد لكم » قال أبو عيسى: المطلب لا نعرف له سماعا من جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

وإذا أتلف المحرم شيئا من الصيد لا مثل له من النعم مثل بيض أو طائر دون الحمام ففيه قيمة يصرفها إلى الطعام, فيتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما, واختلفوا في الجراد فرخص فيه قوم للمحرم وقالوا هو من صيد البحر, روي ذلك عن كعب الأحبار, والأكثرون على أنها لا تحل, فإن أصابها فعليه صدقة, قال عمر: في الجراد تمرة, ورُوي عنه وعن ابن عباس: قبضة من طعام.

 

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 96 ) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 97 )

قوله عز وجل: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ) والمراد بالبحر جميع المياه, قال عمر رضي الله عنه: « صيده ما اصطيد وطعامه ما رمي به » . وعن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة: طعامه ما قذفه الماء إلى الساحل ميتا.

وقال قوم: هو المالح منه وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة وسعيد بن المسيب وقتادة والنخعي.

وقال مجاهد: صيده: طريه, وطعامه: مالحه, متاعا لكم أي: منفعة لكم, وللسيارة يعني: المارة.

وجملة حيوانات الماء على قسمين: سمك وغيره, أما السمك فميتته حلال مع اختلاف أنواعها, قال النبي صلى الله عليه وسلم: « أحلت لنا ميتتان [ ودمان: الميتتان ] الحوت والجراد, والدمان: [ الكبد والطحال ] ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب, وعند أبي حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب من وقوع على حجر أو انحسار الماء عنه ونحو ذلك. »

أما غير السمك فقسمان: قسم يعيش في البر كالضغدع والسرطان, فلا يحل أكله, وقسم يعيش في الماء ولا يعيش في البر إلا عيش المذبوح, فاختلف القول فيه, فذهب قوم إلى أنه لا يحل شيء منها إلا السمك, وهو معنى قول أبي حنيفة رضي الله عنه وذهب قوم إلى أن [ ميت الماء كلها حلالٍ ] لأن كلها سمك, وإن اختلفت صورها, [ كالجريث ] يقال له حية الماء, وهو على شكل الحية وأكله مباح بالاتفاق, وهو قول أبي بكر وعمر وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبي هريرة, وبه قال شريح والحسن وعطاء, وهو قول مالك وظاهر مذهب الشافعي.

وذهب قوم إلى أن ما له نظير في البر يؤكل, فميتته من حيوانات البحر حلال, مثل بقر الماء ونحوه, وما لا يؤكل نظيره في البر لا يحل ميتته من حيوانات البحر, مثل كلب الماء والخنـزير والحمار ونحوها.

وقال الأوزاعي كل شيء عيشه في الماء فهو حلال, قيل: فالتمساح؟ قال نعم.

وقال الشعبي: لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم, وقال سفيان الثوري: أرجو أن لا يكون بالسرطان بأسا.

وظاهر الآيه حجة لمن أباح جميع حيوانات البحر, وكذلك الحديث. أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن صفوان بن [ سلمان ] عن سعيد بن سلمة من آل بني الأزرق أن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا نركب في البحر ونحمل معنا القليل من الماء, فإن توضأنا به عطشنا, أفتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد أنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عمر أنه سمع جابرا رضي الله عنه يقول: غزوت جيش الخَبَط وأُمِّر أبو عبيدة, فجعنا جوعا شديدا فألقى البحر حوتا ميتا لم نر مثله, يقال له العنبر, فأكلنا منه نصف شهر, فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه, فمر الراكب تحته. وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: قال أبو عبيدة: كلوا فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال: « كلوا رزقا أخرجه الله إليكم, أطعمونا إن كان معكم » فأتاه بعضهم بشيء منه فأكلوه .

قوله تعالى: ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) صيد البحر حلال للمحرم, كما هو حلال لغير المحرم, أما صيد البر فحرام على المحرم وفي الحرم, والصيد هو الحيوان الوحشي الذي يحل أكله, أما ما لا يحل أكله فلا يحرم بسبب الإحرام, وللمحرم أخذه وقتله, ولا جزاء على من قتله إلا المتولد بين ما لا يؤكل لحمه وما يؤكل, كالمتولد بين الذئب والظبي لا يحل أكله ويجب بقتله الجزاء على المحرم, لأن فيه جزاء من الصيد.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور » .

وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « يقتل المحرم السبع العادي » وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « خمس قتلهن حلال في الحرم: الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور » .

وقال سفيان بن عيينة: الكلب العقور كل سبع يعقر, ومثله عن مالك, وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في قتل ما لا يؤكل لحمه, من الفهد والنمر والخنـزير ونحوها إلا الأعيان المذكورة في الخبر, وقاسوا عليها الذئب فلم يوجبوا فيه الكفارة, وقاس الشافعي رحمه الله عليها جميع ما لا يؤكل لحمه لأن الحديث يشتمل على أعيان بعضها سباع ضارية وبعضها هوام قاتلة وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا هي من جملة [ الهوام ] وإنما هي حيوان مستخبث اللحم, وتحريم الأكل يجمع الكل فاعتبره ورتب الحكم عليه.

قوله عز وجل: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ) قال مجاهد: سميت كعبة لتربيعها, والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة, قال مقاتل: سميت كعبة لانفرادها من البناء, وقيل: سميت كعبة لارتفاعها من الأرض, وأصلها من الخروج والارتفاع, وسمي الكعب عكبا لنتوئه, وخروجه من جانبي القدم, ومن قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرج ثديها: تكعّبت. وسمي البيت الحرام: لأن الله تعالى حرّمه وعظّم حرمته. قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الله تعالى حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض » ( قِيَامًا لِلنَّاسِ ) قرأ ابن عامر ( قيما ) بلا ألف والآخرون: « قياما » بالألف, أي: قواما لهم في أمر دينهم ودنياهم, أما الدين لأن به يقوم الحج والمناسك, وأما الدنيا فيما يجبي إليه من الثمرات, وكانوا يأمنون فيه من النهار والغارة فلا يتعرض لهم أحد في الحرم, قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( العنكبوت- 67 ) ( وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ ) أراد به الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب, أراد أنه جعل الأشهر الحرم قياما للناس يأمنون فيها القتال, ( وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ) أراد أنهم كانوا يؤمنون بتقليد الهدي, فذلك القوام فيه.

( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) فإن قيل: أي اتصال لهذا الكلام بما قبله؟ قيل: أراد أن الله عز وجل جعل الكعبة قياما للناس لأنه يعلم صلاح العباد كما يعلم ما في السموات وما في الأرض, وقال الزجاج: قد سبق في هذه السورة الإخبار عن الغيوب والكشف عن الأسرار, مثل قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ , ومثل إخباره بتحريفهم الكتب ونحو ذلك, فقوله ( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) راجع إليه.

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 98 ) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( 99 ) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 100 )

( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ ) [ التبليغ ] ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )

( قل لا يستوي الخبيث والطيب ) أي الحلال والحرام, ( وَلَوْ أَعْجَبَكَ ) سرك ( كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ) نـزلت في شريح بن [ ضبيعة ] البكري, وحجاج بن بكر بن وائل ( فَاتَّقُوا اللَّهَ ) ولا تتعرضوا للحجاج وإن كانوا مشركين, وقد مضت القصة في أول السورة, ( يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَـزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 101 ) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ( 102 )

قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) الآية أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا حفص بن عمر أنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة, فغضب فصعد المنبر فقال: « لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم » , فجعلت أنظر يمينا وشمالا فإذا كان رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي, فإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يُدعى لغير أبيه, فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال « حذافة » : ثم أنشأ عمر, فقال: رضينا بالله ربا, وبالإسلام دينا, وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا نعوذ بالله من الفتن, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط, إني صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط » , وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) .

قال يونس عن ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة: ما سمعت بابن قط أعق منك, أأمنت أن تكون أمك قد فارقت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس؟ قال عبد الله بن حذافة والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته . وروي عن عمر قال: يا رسول الله إنا حديثو عهد بجاهلية فاعف عنا يعف الله سبحانه وتعالى عنك, فسكن غضبه.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا الفضل بن سهل أخبرنا أبو النضر أنا أبو خيثمة أنا أبو جويرية عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء, فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنـزل الله فيهم هذه الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) حتى فرغ من الآية كلها . وروي عن علي رضي الله عنه قال: لما نـزلت: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قال رجل: يا رسول الله أفي كل عام فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ما يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت نعم لوجبت, ولو وجبت ما استطعتم, فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم, فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم, وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » , فأنـزل الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) أي: إن تظهر لكم تسؤكم, أي: إن أمرتم بالعمل بها فإن من سأل عن الحج لم يأمن أن يؤمر به في كل عام فيسوءه, ومن سأل عن نسبه لم يأمن من أن يلحقه بغيره فيفتضح.

وقال مجاهد نـزلت حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام, ألا تراه ذكرها بعد ذلك؟ ( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَـزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) معناه صبرتم حتى ينـزل القرآن بحكم من فرض أو نهى أو حكم, وليس في ظاهره شرح ما بكم إليه حاجة ومست حاجتكم إليه, فإذا سألتم عنها حينئذ تبد لكم, ( عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )

( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) كما سألت ثمود صالحا الناقة وسأل قوم عيسى المائدة, ( ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ) فأهلكوا, قال أبو ثعلبة الخشني: « إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها, وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها . »

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 103 )

قوله عز وجل: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ) أي: ما أنـزل الله ولا أمر به, ( وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ ) قال ابن عباس في بيان هذه [ الأوضاع ] البحيرة هي الناقة التي كانت إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها, أي: شقوها وتركوا الحمل عليها وركوبها, ولم يجزّوا وَبَرها ولم يمنعوها الماء والكلأ ثم نظروا إلا خامس ولدها فإن كان ذكرا نحروه وأكله الرجال والنساء, وإن كان أنثى بحروا أذنها, أي: شقوها وتركوها وحُرّم على النساء لبنها ومنافعها, وكانت منافعها خاصة للرجال, فإذا ماتت حلت للرجال والنساء.

وقيل: كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثا سُيّبت فلم يُركب ظهرها ولم يُجزّ وبرُها ولم يشرب لبنها إلا ضيف, فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم خلي سبيلها مع أمها في الإبل, فلم تُركب ولم يُجزّ وبرُها ولم يشرب لبنها إلا ضيف, كما فعل بأمها, فهي البحيرة بنت السائبة.

وقال أبو عبيد: السائبة البعير الذي يُسيّب, وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض وغاب له قريب نذر فقال إن شفاني الله تعالى أو شفي مريضي أو عاد غائبي, فناقتي هذه سائبة, ثم يسيّبها فلا تحبس عن رعي ولا ماء ولا يركبها أحد فكانت بمنـزلة البحيرة.

وقال علقمة: هو العبد يُسيّب على أن لا ولاء عليه ولا عقل ولا ميراث. وقال صلى الله عليه وسلم: « إنما الولاء لمن أعتق » .

والسائبة فاعلة بمعنى المفعولة, وهي المسيبة, كقوله تعالى مَاءٍ دَافِقٍ أي: مدفوق و عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ

وأما الوصيلة: فمن الغنم كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإذا كان السابع ذكرا ذبحوه, فأكل منه الرجال والنساء, وإن كانت أنثى تركوها في الغنم وإن كان ذكرا وأنثى استحيوا الذكر من أجل الأنثى, وقالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوه, وكان لبن الأنثى حراما على النساء, فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا.

وأما الحام: فهو الفحل إذا ركب ولد ولده, ويقال: إذا نتج من صلبه عشرة أبطن, قالوا: حمي ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من كلأ ولا ماء, فإذا مات أكله الرجال والنساء.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنح درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس, والسائبة كانوا يُسيّبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء.

قال أبو هريرة: [ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قُصْبَه في النار, وكان أول من سيّب السوائب » .

روى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة ] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن جون الخزاعي: « يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة [ بن خِنْدَق ] يجر قصبه في النار فما رأيت رجل أشبه برجل منك به ولا به منك » وذلك أنه أول من غيّر دين إسماعيل ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيّب السائبة, ووصل الوصيلة وحمى الحام, « فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه » , فقال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ فقال: « لا إنك مؤمن وهو كافر » .

قوله عز وجل: ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ) في قولهم الله أمرنا بها ( وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )

 

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ( 104 )

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ) في تحليل الحرث والأنعام وبيان الشرائع والأحكام, ( قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) من الدين, قال الله تعالى: ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 105 )

قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) وتضعونها في غير موضعها ولا تدرون ما هي, وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه » .

وفي رواية « لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن الله سبحانه وتعالى عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب, ثم ليدعون الله عز وجل خياركم فلا يستجاب [ لكم ] » .

قال أبو عبيد: خاف الصديق أن يتأول الناس الآية على غير متأولها فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف [ والنهي عن المنكر ] فأعلمهم أنها ليست كذلك وأن الذي أذن في الإمساك عن تغييره من المنكر, هو الشرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنهم يتدينون به, وقد صُولحوا عليه, فأما الفسوق والعصيان والريب من أهل الإسلام فلا يدخل فيه.

وقال مجاهد وسعيد بن جبير: الآية في اليهود والنصارى, يعني: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب فخذوا منهم الجزية واتركوهم.

وعن ابن مسعود قال في هذه الآية: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قُبلَ منكم فإن رُدّ عليكم فعليكم أنفسكم, ثم قال: إن القرآن قد نـزل منه آي: قد مضى تأويلهن قبل أن ينـزلن, ومنه آي: قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومنه آي يقع تأويلهن بعد رسول الله بيسير, ومنه آي يقع تأويلهن في آخر الزمان, ومنه آي: يقع تأويلهن يوم القيامة, ما ذكر من الحساب والجنة والنار, فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض, فأمروا وانهوا, وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا, وذاق بعضكم بأس بعض, فامرؤ ونفسه, فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا أبو جعفر أحمد بن محمد العنـزي أخبرنا عيسى بن نصر أنا عبد الله بن المبارك أنا عتبة بن أبي حكيم حدثني عمرو بن جارية اللخمي أنا أبو أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قول الله عز وجل ( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) فقال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا, سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة, وإعجاب كل ذي رأي برأيه, ورأيت أمرا لا بد لك منه فعليك نفسك ودع أمر العوام, فإن من ورائكم أيام الصبر, فمن صبر فيهن قبض على الجمر, للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله » قال ابن المبارك: وزادني غيره قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: « أجر خمسين منكم » .

وقيل: نـزلت في أهل الأهواء, قال أبو جعفر الرازي: دخل على صفوان بن محرز شاب من أهل الأهواء فذكر شيئا من أمره, فقال صفوان ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أولياءه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )

قوله عز وجل: ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) الضال والمهتدي, ( فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ ( 106 ) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( 107 )

قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ) سبب نـزول هذه الآية ما روي أن تميم بن أوس الداري وعدي بن [ بدّاء ] قد خرجا من المدينة للتجارة إلى أرض الشام, وهما نصرانيان, ومعهما بُدَيْل مولى عمرو بن العاص, وكان مسلما فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي, وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله, ومات بديل ففتشا متاعه وأخذا منه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة فغيباه, ثم قضيا حاجتهما, فانصرفا إلى المدينة, فدفعا المتاع إلى أهل البيت, ففتشوا وأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه فجاءوا تميما وعديا فقالوا: هل باع صاحبنا شيئا من متاعه؛ قالا لا قالوا: فهل اتجر تجارة؟ قالا لا قالوا: هل طال مرضه فأنفق على نفسه قالا لا فقالوا: إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما كان معه وإنا قد فقدنا منها إناء من فضة مموها بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة, قالا ما ندري إنما أوصى لنا بشيء فأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه وما لنا علم بالإناء, فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصرا على الإنكار, وحلفا فأنـزل الله عز وجل هذه الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ) أي: ليشهد اثنان, لفظه خبر ومعناه أمر.

وقيل: معناه: أن الشهادة فيما بينكم على الوصية عند الموت اثنان, واختلفوا في هذين الاثنينُ فقال قوم: هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي.

وقال آخرون: هما الوصيان, لأن الآية نـزلت فيهما ولأنه قال: ( تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ ) ولا يلزم الشاهد يمين, وجعل الوصي اثنين تأكيدا, فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور, كقولك: شهدت وصية فلان, بمعنى حضرت, قال الله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( النور - 2 ) يريد الحضور ( ذَوَا عَدْلٍ ) أي: أمانة وعقل ( مِنْكُمْ ) أي: من أهل دينكم يا معشر المؤمنين ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) أي: من غير دينكم وملتكم في قول أكثر المفسرين, قاله ابن عباس وأبو موسى الأشعري, وهو قول سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد وعبيدة.

ثم اختلف هؤلاء في حكم الآية فقال النخعي وجماعة: هي منسوخة وكانت شهادة أهل الذمة مقبولة في الابتداء ثم نسخت.

وذهب قوم إلى أنها ثابتة, وقالوا: إذا لم نجد مسلمين فنشهد كافرين.

وقال شريح: من كان بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته فأشهد كافرين على أي دين كانا من دين أهل الكتاب أو عبدة الأوثان, فشهادتهم جائزة, ولا تجوز شهادة كافر على مسلم إلا على وصية في سفر.

وعن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد مسلما يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب, فقدما الكوفة بتركته وأتيا الأشعري, فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأحلفهما, وأمضى شهادتهما.

وقال آخرون: قوله ( ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) أي: من حي الموصي أو آخران من غير حيّكم وعشيرتكم, وهو قول الحسن والزهري وعكرمة, وقالوا: لا تجوز شهادة كافر في شيء من الأحكام, ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ ) أي سرتم وسافرتم, ( فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ) فأوصيتم إليهما ودفعتم إليهما مالكم فاتهمهما بعض الورثة وادعوا عليهما خيانة فالحكم فيه أن ( تَحْبِسُونَهُمَا ) أي: تستوقفونهما, ( مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ) أي: بعد الصلاة, و ( مِنْ ) صلة يريد بعد صلاة العصر, هذا قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير وقتادة وعامة المفسرين, لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت, ويجتنبون فيه الحلف الكاذب, وقال الحسن: أراد من بعد صلاة العصر, وقال السدي: من بعد صلاة أهل دينهما وملتهما لأنهما لا يباليان بصلاة العصر, ( فَيُقْسِمَانِ ) يحلفان, ( بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ ) أي: شككتم ووقعت لكم الريبة في قول الشاهدين وصدقهما, أي: في قول اللذين ليسا من أهل ملتكم, فإن كانا مسلمين فلا يمين عليهما, ( لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا ) أي: لا نحلف بالله كاذبين على عوض نأخذه أو مال نذهب به أو حق نجحده, ( وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) ولو كان المشهود له ذا قرابة منا, ( وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ ) أضاف الشهادة إلى الله لأنه أمر بإقامتها ونهى عن كتمانها, وقرأ يعقوب « شهادة » بتنوين, « الله » ممدود, وجعل الاستفهام عوضا عن حرف القسم, ويروى عن أبي جعفر « شهادة » بتنوين, « الله » بقطع الألف وكسر الهاء من غير استفهام على ابتداء اليمين, أي: والله: ( إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ ) أي إن كتمناها كنا من الآثمين.

فلما نـزلت هذه الآية صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يختانا شيئا مما دفع إليهما فحلفا على ذلك, وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما.

ثم ظهر الإناء واختلفوا في كيفية ظهوره فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه وجد بمكة, فقالوا: إنا اشتريناه من تميم وعدي, وقال آخرون: لما طالت المدة أظهروه فبلغ ذلك بني سهم فأتوهما في ذلك, فقالا إنا كنا قد اشتريناه منه فقالوا لهما: ألم تزعما أن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه؟ قالا لم يكن عندنا بينة وكرهنأ أن نقر لكم به فكتمناه لذلك, فرفعهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنـزل الله عز وجل: ( فَإِنْ عُثِرَ )

( فَإِنْ عُثِرَ ) أي: اطلع على خيانتهما, وأصل العثور: الوقوع على الشيء, ( عَلَى أَنَّهُمَا ) يعني: الوصيين ( اسْتَحَقَّا ) استوجبا, ( إِثْمًا ) بخيانتهما وبأيمانهما الكاذبة, ( فَآخَرَانِ ) من أولياء الميت, ( يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا ) يعني: مقام الوصيين, ( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ ) بضم التاء على المجهول, هذا قراءة العامة, يعني: الذين استحق, ( عَلَيْهِمُ ) أي فيهم ولأجلهم الإثم وهم ورثة الميت استحق الحالفان بسببهم الإثم و ( على ) بمعنى في, كما قال الله عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ( البقرة, 102 ) أي: في ملك سليمان, وقرأ حفص ( استحق ) بفتح التاء والحاء, وهي قراءة علي والحسن, أي: حق ووجب عليهم الإثم, يقال: حق واستحق بمعنى واحد, ( الأوْلَيَانِ ) نعت للآخران, أي: فآخران الأوليان, وإنما جاز ذلك و ( الأوْلَيَانِ ) معرفة والآخران نكرة لأنه لما وصف الـ « آخران » , فقال ( مِنَ الَّذِينَ ) صار كالمعرفة و ( الأوْلَيَانِ ) تثنية الأولى, والأولى هو الأقرب, وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم ويعقوب « الأولين » بالجمع فيكون بدلا من الذين, والمراد منهم أيضا أولياء الميت.

ومعنى الآية: إذا ظهرت خيانة الحالفين يقوم اثنان آخران من أقارب الميت, ( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ) يعني: يميننا أحق من يمينهما, نظيره قوله تعالى في اللعان: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ( النور - 6 ) . والمراد بها الأيمان, فهو كقول القائل: أشهد بالله, أي: أقسم بالله, ( وَمَا اعْتَدَيْنَا ) في أيماننا, وقولنا أن شهادتنا أحق من شهادتهما, ( إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ )

فلما نـزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان, فحلفا بالله بعد العصر فدفعا الإناء إليهما وإلى أولياء الميت, وكان تميم الداري بعدما أسلم يقول صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء, فأتوب إلى الله وأستغفره, وإنما انتقل اليمين إلى الأولياء لأن الوصيين ادعيا أنهما ابتاعاه.

والوصي إذا أخذ شيئا من مال الميت وقال: إنه أوصى لي به حلف الوارث, إذا أنكر ذلك, وكذلك لو ادعى رجل سلعة في يد رجل فاعترف ثم ادعى أنه اشتراها من المدعي, حلف المدعي أنه لم يبعها منه.

ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن تميم الداري قال: كنا بعنا الإناء بألف درهم فقسمتها أنا وعدي, فلما أسلمت تأثمت فأتيت موالي الميت فأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وحلف عمرو والمطلب فنـزعت الخمسمائة من عدي, ورددت أنا الخمسمائة. فذلك قوله تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا

ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 108 )

( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ) أي: ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين أجدر وأحرى أن يأتي الوصيان بالشهادة على وجهها وسائر الناس أمثالهم, أي أقرب إلى الإتيان بالشهادة على ما كانت, ( أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ) أي: أقرب إلى أن يخافوا رد اليمن بعد يمينهم على [ المدعي ] فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا ويغرموا فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذا الحكم, ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا أمانة, ( وَاسْمَعُوا ) الموعظة, ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )

 

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ( 109 )

قوله عز وجل ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ) وهو يوم القيامة, ( فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ) أي: ما الذي أجابتكم أمتكم؟ وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي؟ ( قَالُوا ) أي: فيقولون ( لا عِلْمَ لَنَا ) قال ابن عباس معناه: لا علم لنا إلا العلم الذي أنت أعلم به منا, وقيل: لا علم لنا بوجه الحكمة عن سؤالك إيانا عن أمر أنت أعلم به منا, وقال ابن جريج: لا علم لنا بعاقبة أمرهم وبما أحدثوا من بعد, دليله أنه قال: ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ) أي: أنت الذي تعلم ما غاب ونحن لا نعلم إلا ما نشاهد.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسلم بن إبراهيم أنا وهيب أنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ليردن عليّ ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني, فأقول: أصحابي, فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك » .

وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والسدي: إن للقيامة أهوالا وزلازل تزول فيها القلوب عن مواضعها, فيفزعون من هول ذلك اليوم ويذهلون عن الجواب, ثم بعدما ثابت إليهم عقولهم يشهدون على أممهم.

 

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 110 ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( 111 )

قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ) قال الحسن: ذكر النعمة شكرها, وأراد بقوله ( نِعْمَتِي ) أي: نعمي, [ قال الحسن ] لفظه واحد ومعناه جمع, كقوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا , ( وَعَلى وَالِدَتِكَ ) مريم ثم ذكر النعم فقال: ( إِذْ أَيَّدْتُكَ ) قويتك, ( بِرُوحِ الْقُدُسِ ) يعني جبريل عليه السلام, ( تُكَلِّمُ النَّاسَ ) يعني: وتكلم الناس, ( فِي الْمَهْدِ ) صبيا, ( وَكَهْلا ) نبيا قال ابن عباس: أرسله وهو ابن ثلاثين سنة, فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله إليه, ( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ ) يعني الخط, ( وَالْحِكْمَةَ ) يعني العلم والفهم, ( وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ ) تجعل وتصور, ( مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) كصورة الطير, ( بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا ) حيا يطير, ( بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ ) وتصحح, ( الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى ) من قبورهم أحياء, ( بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ ) منعت وصرفت, ( بَنِي إِسْرَائِيلَ ) يعني اليهود, ( عَنْكَ ) حين هموا بقتلك, ( إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) يعني: الدلالات والمعجزات, وهي التي ذكرنا.

( فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) يعني: ما جاءهم به من البينات, قرأ حمزة والكسائي « ساحر مبين » هاهنا وفي سورة هود والصف, فيكون راجعا إلى عيسى عليه السلام, وفي هود يكون راجعا إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ ) ألهمتهم وقذفت في قلوبهم, وقال أبو عبيدة يعني أمرت و ( إِلَى ) صلة, والحواريون خواص أصحاب عيسى عليه السلام, ( أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) [ عيسى ] ( قَالُوا ) حين وافقتهم ( آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَـزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 112 ) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( 113 )

( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ) قرأ الكسائي « هل تستطيع » بالتاء « ربك » بنصب الباء وهو قراءة علي وعائشة وابن عباس ومجاهد, أي: هل تستطيع أن تدعو وتسأل ربك, وقرأ الآخرون « هَلْ يَسْتَطِيعُ » بالياء و « رَبُّكَ » برفع الباء, ولم يقولوه شاكين في قدرة الله عز وجل, ولكن معناه: هل ينـزل ربك أم لا؟ كما يقول الرجل لصاحبه هل تستطيع أن تنهض معي وهو يعلم أنه يستطيع, وإنما يريد هل يفعل ذلك أم لا وقيل: يستطيع بمعنى يطيع, يقال: أطاع واستطاع بمعنى واحد, كقولهم: أجاب واستجاب, معناه: هل يطيعك ربك بإجابة سؤالك؟ وفي الآثار من أطاع الله أطاعه الله, وأجرى بعضهم على الظاهر فقالوا: غلط القوم, وقالوه قبل استحكام المعرفة وكانوا بشرا, فقال لهم عيسى عليه السلام عند الغلط, استعظاما لقولهم ( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي: لا تشكّوا في قدرته.

( أَنْ يُنَـزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ) المائدة الخوان الذي عليه الطعام, وهي فاعلة من: ماده يميده إذا أعطاه وأطعمه, كقوله ماره يميره, وامتاد: افتعل منه, والمائدة هي المطعمة للآكلين الطعام, وسمي الطعام أيضا مائدة على الجواز, لأنه يؤكل على المائدة, وقال أهل الكوفة: سميت مائدة لأنها تميد بالآكلين, أي: تميل. وقال أهل البصرة: فاعلة بمعنى المفعول, أي تميد بالآكلين إليها, كقوله تعالى عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ أي: مرضية, ( قَالَ ) عيسى عليه السلام مجيبا لهم: ( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) فلا تشكّوا في قدرته, وقيل: اتقوا الله أن تسألوه شيئا لم يسأله الأمم قبلكم, فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان.

( قَالُوا نُرِيدُ ) أي: إنما سألنا لأنا نريد, ( أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا ) أكل تبرك لا أكل حاجة فنستيقن قدرته, ( وَتَطْمَئِنَّ ) وتسكن, ( قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا ) بأنك رسول الله, أي: نـزداد إيمانا ويقينا, وقيل: إن عيسى ابن مريم أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوما, فإذا أفطروا لا يسألون الله شيئا إلا أعطاهم, ففعلوا وسألوا المائدة, وقالوا: « ونعلم أن قد صدقتنا » في قولك, إنا إذا صمنا ثلاثين يوما لا نسأل الله تعالى شيئا إلا أعطانا, ( وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ) لله بالوحدانية والقدرة, ولك بالنبوة والرسالة, وقيل: ونكون من الشاهدين لك عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم.

 

قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( 114 )

( قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) عند ذلك, ( اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْـزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ) وقيل: إنه اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وغض بصره وبكى, ثم قال: اللهم ربنا أنـزل علينا مائدة من السماء, ( تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا ) أي: عائدة من الله علينا حجة وبرهانا, والعيد: يوم السرور, سمي به للعود من الترح إلى الفرح, وهو اسم لما اعتدته ويعود إليك, وسمي يوم الفطر والأضحى عيدا لأنهما يعودان كل سنة, قال السدي: معناه نتخذ اليوم الذي أنـزلت فيه عيدا لأولنا وآخرنا, أي: نعظمه نحن ومن بعدنا, وقال سفيان: نصلي فيه, قوله ( لأوَّلِنَا ) أي: لأهل زماننا ( وَآخِرِنَا ) أي: لمن يجيء بعدنا, وقال ابن عباس: يأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم, ( وَآيَةً مِنْكَ ) دلالة وحجة, ( وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ )

قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَـزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ( 115 )

( قَالَ اللَّهُ ) تعالى مجيبا لعيسى عليه السلام, ( إِنِّي مُنَـزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ) يعني: المائدة وقرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم « منـزلها » بالتشديد لأنها نـزلت مرات, والتفعيل يدل على التكرير مرة بعد أخرى, وقرأ الآخرون بالتخفيف لقوله: أنـزل علينا, ( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ ) أي: بعد نـزول المائدة ( فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا ) أي جنس عذاب, ( لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) يعني: عالمي زمانه, فجحد القوم وكفروا بعد نـزول المائدة فمُسِخُوا قردة وخنازير, قال عبد الله بن عمر: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون .

واختلف العلماء في المائدة هل نـزلت أم لا؟ فقال مجاهد والحسن: لم تنـزل لأن الله عز وجل لما أوعدهم على كفرهم بعد نـزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستعفوا, وقالوا: لا نريدها, فلم تنـزل, وقوله: « إني منـزلها عليكم » , يعني: إن سألتم .

والصحيح الذي عليه الأكثرون: أنها نـزلت, لقوله تعالى: « إني منـزلها عليكم » , ولا خلف في خبره, لتواتر الأخبار فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.

واختلفوا في صفتها فروى خلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها نـزلت خبزا ولحما, وقيل لهم: إنها مقيمة لكم ما لم تخونوا [ وتخبئوا ] فما مضى يومهم حتى خانوا وخبئوا فمسخوا قردة وخنازير .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن عيسى عليه السلام قال لهم: صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكموه, فصاموا فلما فرغوا قالوا: يا عيسى إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا, وسألوا الله المائدة فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها, علها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعتها بين أيديهم, فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم .

قال كعب الأحبار: نـزلت [ مائدة ] منكوسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض, عليها كل الطعام إلا اللحم.

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنـزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم, قال قتادة كان عليها ثمر من ثمار الجنة.

وقال عطية العوفي: نـزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء.

وقال الكلبي: كان عليها خبز ورز وبقل.

وقال وهب بن منبه: أنـزل الله أقرصة من شعير وحيتانا وكان قوم يأكلون ثم يخرجون ويجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوا جميعهم وفضل.

وعن الكلبي ومقاتل: أنـزل الله خبزا وسمكا وخمسة أرغفة, فأكلوا ما شاء الله تعالى, والناس ألف ونيف فلما رجعوا إلى قراهم, ونشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهد, وقالوا: ويحكم إنما سحر أعينكم, فمن أراد الله به الخير ثبَّته على بصيرته, ومن أراد فتنته رجع إلى كفره, ومسخوا خنازير ليس فيهم صبي ولا امرأة, فمكثوا بذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا, ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا, وكذلك كل ممسوخ.

وقال قتادة: كانت تنـزل عليهم بكرة وعشيا حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل, وقال عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي لما سأل الحوارين المائدة لبس عيسى عليه السلام صوفا وبكى, وقال: « اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء » الآية فنـزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها, وهم ينظرون إليها وهي تهوي منقضة حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى, وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة, واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه, فقال عيسى عليه السلام: ليقم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويذكر اسم الله تعالى, فقال شمعون الصفار رأس الحواريين: أنت أولى بذلك منا [ فقام عيسى عليه السلام ] فتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى كثيرا, ثم كشف المنديل عنها, وقال: بسم الله خير الرازقين فإذا هو سمكة مشوية ليس عليها فلوسها ولا شوك عليها تسيل من الدسم وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل, وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث, وإذا خمسة أرغفة على واحد زيتون, وعلى الثاني عسل, وعلى الثالث سمن, وعلى الرابع جبن, وعلى الخامس قديد, فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال: ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة, ولكنه شيء افتعله الله تعالى بالقدرة الغالبة, كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم من فضله, قالوا: يا روح الله كن أول من يأكل منها, فقال عيسى عليه السلام: معاذ الله أن آكل منها ولكن يأكل منها من سألها فخافوا أن يأكلوا منها, فدعا لها أهل الفاقة والمرضى وأهل البرص والجذام والمقعدين والمبتلين, فقال: كلوا من رزق الله ولكم المهنأ ولغيركم البلاء, فأكلوا وصدر عنها ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض وزَمِن ومبتلى كلهم شبعان, وإذا السمكة بهيئتها حين نـزلت, ثم طارت سفرة المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتى توارت, فلم يأكل منها زَمِن ولا مريض ولا مبتلى إلا عُوفي ولا فقير إلا استغنى, وندم من لم يأكل منها فلبثت أربعين صباحا تنـزل ضحى, فإذا نـزلت اجتمعت الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء, ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظلها حتى توارت عنهم, وكانت تنـزل غبا تنـزل يوما ولا تنـزل يوما كناقة ثمود, فأوحى الله تعالى [ إلى عيسى عليه السلام ] اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون الأغنياء, فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكّوا وشكّكُوا الناس فيها, وقالوا: أترون المائدة حقا تنـزل من السماء؟ فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: إني شرطت أن من كفر بعد نـزولها عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين, فقال عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثون رجلا باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات, ويأكلون العذرة في الحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه السلام وبكوا فلما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطيف بعيسى عليه السلام وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برءوسهم ويبكون ولا يقدرون على الكلام, فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا.

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ( 116 ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 117 )

قوله عز وجل: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) واختلفوا في أن هذا القول متى يكون, فقال السدي: قال الله تعالى هذا القول لعيسى عليه السلام حين رفعه إلى السماء لأن حرف « إذ » يكون للماضي, وقال سائر المفسرين: إنما يقول الله له هذا القول يوم القيامة بدليل قوله [ من قبل ] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ( المائدة, 109 ) . وقال من بعدها هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ( المائدة, 119 ) , وأراد بهما يوم القيامة, وقد تجيء « إذ » بمعنى « إذا » كقوله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا أي: إذا فزعوا [ يوم القيامة ] والقيامة وإن لم تكن بعد ولكنها كالكائنة لأنها آتية لا محالة.

قوله: ( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ؟ فإن قيل: فما وجه هذا السؤال مع علم الله عز وجل أن عيسى لم يقله؟

قيل هذا السؤال عنه لتوبيخ قومه وتعظيم أمر هذه المقالة كما يقول القائل لآخر: أفعلت كذا وكذا؟ فيما يعلم أنه لم يفعله, إعلاما واستعظاما لا استخبارا واستفهاما.

وأيضا: أراد الله عز وجل أن يقر [ عيسى عليه السلام عن ] نفسه بالعبودية, فيسمع قومه, ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك, قال أبو روق: وإذا سمع عيسى عليه السلام هذا الخطاب أرعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة في جسده عين من دم, ثم يقول مجيبا لله عز وجل: ( قَالَ سُبْحَانَكَ ) تنـزيها وتعظيما لك ( مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ) قال ابن عباس: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك, وقيل معناه: تعلم سري ولا أعلم سرك, وقال أبو روق تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في الآخرة, وقال الزجاج: النفس عبارة عن جملة الشيء وحقيقته, يقول: تعلم جميع ما أعلم من حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك, ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ) ما كان وما يكون.

( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) [ وحدوه ] ولا تشركوا به شيئا, ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ ) أقمت, ( فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ) قبضتني ورفعتني إليك, ( كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) والحفيظ عليهم, تحفظ أعمالهم, ( وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )

إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 118 ) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 119 )

قوله تعالى: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فإن قيل كيف طلب المغفرة لهم وهم كفار, وكيف قال: وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم, وهذا لا يليق بسؤال المغفرة, قيل: أما الأول فمعناه إن تعذبهم بإقامتهم على كفرهم وإن تغفر لهم بعد الإيمان وهذا يستقيم على قول السدي: إن هذا السؤال قبل يوم القيامة لأن الإيمان لا ينفع في القيامة.

وقيل: هذا في فريقين منهم, معناه: إن تعذب من كفر منهم وإن تغفر لمن آمن منهم.

وقيل: ليس هذا على وجه طلب المغفرة ولو كان كذلك لقال: فإنك أنت الغفور الرحيم, ولكنه على تسليم الأمر وتفويضه إلى مراده.

وأما السؤال الثاني: فكان ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم , وكذلك هو في مصحفه, وأما على القراءة المعروفة قيل فيه تقديم وتأخير تقديره: إن تغفر لهم فإنهم عبادك وإن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم.

وقيل: معناه إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز في الملك الحكيم في القضاء لا ينقص من عزك شيء, ولا يخرج من حكمك شيء, ويدخل في حكمته ومغفرته وسعة رحمته ومغفرته الكفار, لكنه أخبر أنه لا يغفر وهو لا يخلف خبره.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ثنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني عمر بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي , الآية. وقول عيسى عليه السلام: « إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم » فرفع يديه وقال: اللهم أمتي وبكى فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد, وربك أعلم فسله ما يبكيه؟ فأتاه جبريل فسأله, فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال الله, فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك .

( قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) قرأ نافع ( يوم ) بنصب الميم, يعني: تكون هذه الأشياء في يوم, فحذف في فانتصب, وقرأ الآخرون بالرفع على أنه خبر ( هذا ) أي: ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في الآخرة, ولو كذبوا ختم الله على أفواههم ونطقت به جوارحهم فافتضحوا, وقيل: أرادوا بالصادقين النبيين.

وقال الكلبي: ينفع المؤمنين إيمانهم, قال قتادة: متكلمان لا يخطئان يوم القيامة عيسى عليه السلام, وهو ما قص الله عز وجل, وعدو الله إبليس, وهو قوله: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ , الآية, فصدق عدو الله يومئذ, وكان قبل ذلك كاذبا فلم ينفعه صدقه, وأما عيسى عليه السلام فكان صادقا في الدنيا والآخرة, فنفعه صدقه.

وقال عطاء: هذا يوم من أيام الدنيا لأن الدار الآخرة دار جزاء لا دار عمل, ثم بيّن ثوابهم فقال: ( لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ثم عظّم نفسه. فقال: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 120 )

 

سورة الأنعام

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( 1 )

 

سورة الأنعام

مكية, وهي مائة وخمس وستون آية, نـزلت بمكة [ جملة ] ليلا معها سبعون ألف ملك قد سدوا ما بين الخافقين, لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم « سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وخر ساجدا » .

وروي مرفوعا: « من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره » .

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: نـزلت سورة الأنعام بمكة, إلا قوله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ , إلى آخر ثلاث آيات, وقوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ , إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ , فهذه الست آيات مدنيات .

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ) قال كعب الأحبار: هذه الآية أول آية في التوراة, وآخر آية في التوراة, قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا الآية ( الإسراء- 111 ) .

قال ابن عباس رضي الله عنهما: افتتح الله الخلق بالحمد, فقال: ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) , وختمه بالحمد فقال: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ , أي: بين الخلائق, وقيل الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الزمر- 75 ] .

قوله: « الحمد لله » حمد الله نفسه تعليما لعباده, أي: احمدوا الله الذي خلق السموات والأرض, خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد, وفيهما العبر والمنافع للعباد, ( وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) والجعل بمعنى الخلق, قال الواقدي: كل ما في القرآن من الظلمات والنور فهو الكفر والإيمان, إلا في هذه الآية فإنه يريد بهما الليل والنهار.

وقال الحسن: وجعل الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان, وقيل: أراد بالظلمات الجهل وبالنور العلم.

وقال قتادة: يعني الجنة والنار.

وقيل: معناه خلق الله السموات والأرض, وقد جعل الظلمات والنور, لأنه خلق الظلمة والنور قبل السموات والأرض.

قال قتادة: خلق الله السموات قبل الأرض, والظلمة قبل النور, والجنة قبل النار, وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله تعالى خلق الخلق فى ظلمة, ثم ألقى عليهم من نوره, فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل » .

( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) أي: ثم الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون, أي: يشركون, وأصله من مساواة الشيء بالشيء, ومنه العدل, أي: يعدلون بالله غير الله تعالى, يقال: عدلت هذا بهذا إذا ساويته, وبه قال النضر بن شميل, الباء بمعنى عن, أي: عن ربهم يعدلون, أي يميلون وينحرفون من العدول, قال الله تعالى عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ أي: منها.

وقيل: تحت قوله « ثم الذين كفروا بربهم يعدلون » معنى لطيف, وهو مثل قول القائل: أنعمت عليكم بكذا وتفضلت عليكم بكذا, ثم تكفرون بنعمتي.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ( 2 ) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ( 3 )

قوله عز وجل: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ) يعني آدم عليه السلام, خاطبهم به إذ كانوا من ولده. قال السدي: بعث الله تعالى جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها, فقالت الأرض إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني, فرجع جبريل ولم يأخذ وقال: يا رب إنها عاذت بك, فبعث ميكائيل, فاستعاذت فرجع, فبعث ملك الموت فعاذت منه بالله, فقال: وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره, فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء, فلذلك اختلفت ألوان بني آدم, ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر, فلذا اختلفت أخلاقهم فقال الله تعالى لملك الموت: رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها, لا جرم أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك.

ورُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال « خلق الله آدم عليه السلام من تراب وجعله طينا, ثم تركه حتى كان حمأ مسنونا ثم خلقه وصوّره وتركه حتى كان صلصالا كالفخار, ثم نفخ فيه روحه » .

قوله عز وجل: ( ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) قال الحسن وقتادة والضحاك: الأجل الأول من الولادة إلى الموت, والأجل الثاني من الموت إلى البعث, وهو البرزخ, وروي ذلك عن ابن عباس, وقال: لكل أحد أجلان أجل إلى الموت وأجل من الموت إلى البعث, فإن كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر, وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث, وقال مجاهد وسعيد بن جبير: الأجل الأول أجل الدنيا, والأجل الثاني أجل الآخرة, وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما ( ثُمَّ قَضَى أَجَلا ) يعني: النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع عند اليقظة, ( وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) يعني: أجل الموت, وقيل: هما واحد معناه: [ ثم قضى أجلا ] يعني: جعل لأعماركم مدة تنتهون إليها, « وأجل مسمى عنده » يعني: وهو أجل مسمى عنده, لا يعلمه غيره, ( ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ) تشكّون في البعث.

قوله عز وجل: ( وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ ) يعني: وهو إله السموات والأرض, كقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ , وقيل: هو المعبود في السموات والأرض, وقال محمد بن جرير: معناه هو في السموات يعلم سركم وجهركم في الأرض, [ وقال الزجاج: فيه تقديم وتأخير تقديره: وهو الله, ( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ) في السموات والأرض ] ( وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) تعملون من الخير والشر.

وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( 4 ) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 5 ) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ( 6 ) وَلَوْ نَـزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 7 )

( وَمَا تَأْتِيهِمْ ) يعني: أهل مكة, ( مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ ) مثل انشقاق القمر وغيره, وقال عطاء: يريد من آيات القرآن, ( إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ) لها تاركين بها مكذبين.

( فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ ) بالقرآن, وقيل: بمحمد صلى الله عليه وسلم, ( لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) أي: أخبار استهزائهم وجزاؤه, أي: سيعلمون عاقبة استهزائهم إذا عذبوا.

قوله عز وجل: ( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ) يعني: الأمم الماضية, والقرن: الجماعة من الناس, وجمعه قرون, وقيل: القرن مدة من الزمان, يقال ثمانون سنة, وقيل: ستون سنة, وقيل: أربعون سنة, وقيل: ثلاثون سنة, ويقال: مائة سنة, لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بُسْر المازني: « إنك تعيش قرنا » , فعاش مائة سنة

فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل قرن, ( مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ) أي: أعطيناهم ما لم نعطكم, وقال ابن عباس: أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح وعاد وثمود, يقال: مكنته ومكنت له, ( وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا ) يعني: المطر, مِفْعَال, من الدر, قال ابن عباس: مدرارا أي: متتابعا في أوقات الحاجات, وقوله: « ما لم نمكن لكم » من خطاب التلوين, رجع من الخبر من قوله: « ألم يروا » إلى خطاب, كقوله: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [ يونس, 22 ] .

وقال أهل البصرة: أخبر عنهم بقوله « ألم يروا » وفيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ثم خاطبهم معهم, والعرب تقول: قلت لعبد الله ما أكرمه, وقلت: لعبد الله ما أكرمك, ( وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا ) خلقنا وابتدأنا, ( مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ )

قوله عز وجل: ( وَلَوْ نَـزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ ) الآية, قال الكلبي ومقاتل نـزلت في النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد, قالوا: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله, فأنـزل الله عز وجل: ( وَلَوْ نَـزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ ) مكتوبا من عندي, ( فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ) أي: عاينوه ومسوه بأيديهم, وذكر اللمس ولم يذكر المعاينة لأن اللمس أبلغ في إيقاع العلم من [ الرؤية ] فإن السحر يجري على المرئي ولا يجري على الملموس, ( لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) معناه: لا ينفع معهم شيء لما سبق فيهم من علمي.

وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ( 8 )

( وَقَالُوا لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْهِ ) على محمد صلى الله عليه وسلم, ( مَلَكٌ وَلَوْ أَنْـزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ) أي: لوجب العذاب, وفرغ من الأمر, وهذا سنة الله في الكفار أنهم متى اقترحوا آية فأنـزلت ثم لم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب, ( ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ) أي: لا يؤجلون ولا يمهلون, وقال قتادة: لو أنـزلنا ملكا ثم لم يؤمنوا لعُجّل لهم العذاب ولم يؤخروا طرفة عين, وقال مجاهد: لقضي الأمر أي لقامت القيامة, وقال الضحاك: لو أتاهم ملك فى صورته لماتوا.

 

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ( 9 ) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 10 ) قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 11 )

( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا ) [ يعني: لو أرسلنا إليهم ملكا ] ( لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا ) يعني في صورة [ رجل ] آدمي, لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة, وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي, وجاء الملكان إلى داود في صورة رجلين.

قوله عز وجل: ( وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ) أي: خلطنا عليهم ما يخلطون وشبّهنا عليهم فلا يدرون أملك هو أم آدمي, وقيل معناه شَبّهوا على ضعفائهم فشبّه عليهم, وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هم أهل الكتاب فرقوا دينهم وحرفوا الكلم عن مواضعه, فلبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم وقرأ الزهري ( وَلَلَبَسْنَا ) بالتشديد على التكرير والتأكيد.

( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ) كما استهزئ بك يا محمد يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ( فَحَاقَ ) قال الربيع [ بن أنس ] فنـزل, وقال عطاء: حل, وقال الضحاك: أحاط, ( بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) أي: جزاء استهزائهم من العذاب والنقمة.

( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين, ( سِيرُوا فِي الأرْضِ ) معتبرين, يحتمل هذا: السير بالعقول والفكر, ويحتمل السير بالأقدام, ( ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) أي: آخر أمرهم وكيف أورثهم الكفر والتكذيب الهلاك, فحذّر كفار مكة عذاب الأمم الخالية.

قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 12 ) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 13 )

قوله عز وجل: ( قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) فإن أجابوك وإلا فـ ( قُلْ ) أنت, ( لِلَّهِ ) أمره بالجواب عقيب السؤال ليكون أبلغ في التأثير وآكد في الحجة, ( كَتَبَ ) أي: قضى, ( عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) هذا استعطاف منه تعالى للمؤمنين عنه إلى الإقبال عليه وإخباره بأنه رحيم بالعباد لا يعجل بالعقوبة, ويقبل الإنابة والتوبة.

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي » .

وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: « إن رحمتي [ سبقت ] غضبي » .

أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكركاني أنا أبو طاهر الزيادي أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا عبد الرحمن المروزي أخبرنا عبد الله بن المبارك أنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لله رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام, فبها يتعاطفون, وبها يتراحمون, وبها تتعاطف الوحوش على أولادها, وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا ابن أبي مريم ثنا أبو غسان حدثني زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها, تسعى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته, فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: « أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقلنا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه, فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها » .

قوله عز وجل: ( لَيَجْمَعَنَّكُمْ ) اللام فيه لام القسم والنون نون التأكيد مجازه: والله ليجمعنكم, ( إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) أي: في يوم القيامة, وقيل: معناه ليجمعنكم في قبوركم إلى يوم القيامة, ( لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا ) غبنوا, ( أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )

( وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) أي: استقر, قيل: أراد ما سكن وما تحرك, كقوله: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أي: الحر والبرد, وقيل: إنما خص السكون بالذكر لأن النعمة فيه أكثر, قال محمد بن جرير: كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكن الليل والنهار, والمراد منه جميع ما في الأرض. وقيل معناه: ما يمر عليه الليل والنهار, ( وَهُوَ السَّمِيعُ ) لأصواتهم, ( الْعَلِيمُ ) بأسرارهم.

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 14 )

قوله تعالى: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ) ؟ وهذا حين دعا إلى دين آبائه, فقال تعالى: قل يا محمد أغير الله أتخذ وليا, [ ربا ومعبودا وناصرا ومعينا ] ؟ ( فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: خالقهما ومبدعهما ومبتديهما, ( وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ) أي: وهو يَرْزق ولا يُرْزَق كما قال: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) يعني: من هذه الأمة, والإسلام بمعنى الاستسلام لأمر الله, وقيل: أسلم أخلص, ( وَلا تَكُونَنَّ ) يعني: وقيل لي ولا تكونن, ( مِنَ الْمُشْرِكِينَ )

قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 15 ) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( 16 ) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 17 )

( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ) [ فعبدت غيره ] ( عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) يعني: عذاب يوم القيامة.

( مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ ) يعني: من يصرف العذاب عنه, قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب « يصرف » بفتح الياء وكسر الراء, أي: من يصرف الله عنه العذاب, لقوله: « فقد رحمه » وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الراء, ( يَوْمَئِذٍ ) يعني: يوم القيامة, ( فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) أي: النجاة البينة.

قوله عز وجل: ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ) بشدة وبلية, ( فَلا كَاشِفَ لَهُ ) لا رافع, ( إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ ) عافية ونعمة, ( فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) من الخير والضر.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الله السلمي أنا أبو العباس الأصم أنا أحمد بن شيبان الرملي أنا عبد الله بن ميمون القداح أنا شهاب بن خراش, [ هو ابن عبد الله ] عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة, أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر, ثم أردفني خلفه, ثم سار بي مليا ثم التفت إليّ فقال: يا غلام, فقلت: لبيك يا رسول الله, قال: « احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده أمامك, تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة, وإذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله, وقد مضى القلم بما هو كائن, فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله تعالى لك لم يقدروا عليه, ولو جهدوا أن يضروك بما لم يكتب الله تعالى عليك, ما قدروا عليه, فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين, فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر, وأن مع الكرب الفرج, وأن مع العسر يسرا » .

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 18 )

( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) القاهر الغالب, وفي القهر زيادة معنى على القدرة, وهي منع غيره عن بلوغ المراد, وقيل: هو المنفرد بالتدبير الذي يجبر الخلق على مراده, فوق عباده هو صفة الاستعلاء الذي تفرد به الله عز وجل. ( وَهُوَ الْحَكِيمُ ) في أمره, ( الْخَبِيرُ ) بأعمال عباده.

 

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 19 ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 20 ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( 21 )

قوله عز وجل: ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ) ؟ الآية, قال الكلبي: أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرنا من يشهد أنك رسول الله فإنا لا نرى أحدا يصدقك, ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر, فأنـزل الله تعالى: ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ ) أعظم, ( شَهَادَةً ) ؟ فإن أجابوك, وإلا ( قُلِ اللَّهُ ) هو ( شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) على ما أقول, ويشهد لي بالحق وعليكم بالباطل, ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ ) لأخوفكم به يا أهل مكة, ( وَمَنْ بَلَغَ ) يعني: ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم من الأمم إلى يوم القيامة.

حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن الحنفي أنا محمد بن بشر بن محمد المزني أنا أبو بكر محمد بن الحسن بن بشر النقاش أنا أبو شعيب الحراني أنا يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلي أنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن أبي كبشة [ السلولي ] عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بلغوا عني ولو آية, وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ معقده من النار » .

أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها. فرب حامل فقه غير فقيه, ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه, ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله, والنصيحة للمسلمين, ولزوم جماعتهم, فإن دعوتهم تحيط من ورائهم » .

قال مقاتل: من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له, وقال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى الله عليه وسلم وسمع منه, أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ؟ ولم يقل أخر لأن الجمع يلحقه التأنيث, كقوله عز وجل: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف, 180 ) , وقال: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى . ( طه, 51 ) ( قُلْ ) يا محمد إن شهدتم أنتم, فـ ( لا أَشْهَدُ ) , أنا أن معه إلها, ( قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )

قوله عز وجل: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) , يعني: التوراة والإنجيل, ( يَعْرِفُونَهُ ) , يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته, ( كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) , من بين الصبيان. ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) , غبنوا أنفسهم ( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) , وذلك أن الله جعل لكل آدمي منـزلا في الجنة ومنـزلا في النار, وإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة, ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار, وذلك الخسران.

قوله عز وجل: ( وَمَنْ أَظْلَمُ ) , أكفر, ( مِمَّنِ افْتَرَى ) , اختلق, ( عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) , فأشرك به غيره, ( أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) , يعني: القرآن, ( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) , الكافرون.

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 22 ) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( 23 ) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 24 )

( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ) , أي: العابدين والمعبودين, يعني: يوم القيامة, قرأ يعقوب « يحشرهم » هاهنا, وفي سبأ بالياء, ووافق حفص في سبأ, وقرأ الآخرون بالنون, ( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) , أنها تشفع لكم عند ربكم.

( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) , قرأ حمزة والكسائي ويعقوب « يكن » بالياء لأن الفتنة بمعنى الافتتان, فجاز تذكيره, وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث الفتنة, وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم « فتنتهم » بالرفع جعلوه اسم كان, وقرأ الآخرون بالنصب, فجعلوا الاسم قوله « أن قالوا » وفتنتهم الخبر, ومعنى قوله « فتنتهم » أي: قولهم وجوابهم, وقال ابن عباس وقتادة: معذرتهم والفتنة التجربة, فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل فتنة.

قال الزجاج في قوله: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) معنى لطيف وذلك مثل الرجل يفتتن بمحبوب ثم يصيبه فيه [ محنة ] فيتبرأ من محبوبه, فيقال: لم تكن فتنت إلا هذا, كذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام ولما رأوا العذاب تبرأوا منها, يقول الله عز وجل: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) في محبتهم الأصنام, ( إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) , قرأ حمزة والكسائي « ربنا » بالنصب على نداء المضاف, وقرأ الآخرون بالخفض على نعت والله, وقيل: إنهم إذا رأوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى وتجاوزه عن أهل التوحيد قال بعضهم لبعض: تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجوا مع أهل التوحيد, فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين, فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالكفر.

فقال عز وجل: ( انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) , باعتذارهم بالباطل وتبريهم عن الشرك, ( وَضَلَّ عَنْهُمْ ) زال وذهب عنهم ( مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) من الأصنام, وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها, فبطل كله في ذلك اليوم.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 25 ) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 26 )

قوله عز وجل: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) الآية, قال الكلبي: اجتمع أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحارث بن عامر, يستمعون القرآن فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ قال: ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين, مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية, وكان النضر كثير الحديث عن القرون وأخبارها . فقال أبو سفيان: إني أرى بعض ما يقول حقا, فقال أبو جهل: كلا لا نقر بشيء من هذا, وفي رواية: للموت أهون علينا من هذا, فأنـزل الله عز وجل: « ومنهم من يستمع إليك » وإلى كلامك, ( وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ) , أغطية, جمع كنان, كالأعنة جمع عنان, ( أَنْ يَفْقَهُوهُ ) , أن يعلموه, قيل: معناه أن لا يفقهوه, وقيل: كراهة أن يفقهوه, ( وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ) , صمما وثقلا هذا دليل على أن الله تعالى يقلّب القلوب فيشرح بعضها للهدى, ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام الله ولا تؤمن, ( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ ) , من المعجزات والدلالات, ( لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) , يعني: أحاديثهم وأقاصيصهم, والأساطير جمع: أسطورة, وإسطارة, وقيل: هي الترهات والأباطيل, وأصلها من سطرت, أي: كتبت.

( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ) أي: ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ( وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ) , أي: يتباعدون عنه بأنفسهم, نـزلت في كفار مكة, قاله محمد بن الحنفية والسدي والضحاك, وقال قتادة: ينهون عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عنه.

وقال ابن عباس ومقاتل نـزلت في أبي طالب كان ينهى الناس عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعهم وينأى عن الإيمان به, أي: يبعد, حتى رُوي أنه اجتمع إليه رءوس المشركين وقالوا: خذ شابا من أصبحنا وجها, وادفع إلينا محمدا, فقال أبو طالب: ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي ولدكم؟ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإيمان, فقال: لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك, ولكن أذب عنك ما حييت. وقال فيه أبياتا:

واللـه لــن يصلـوا إليـك بجمعهـم حـتى أوسـد فــي التـراب دفينـا

فـاصدع بـأمرك مـا عليك غضـاضة وابشـر بـذاك وقـر بذاك منك عيونا

ودعـوتنـي وعـرفـت أنك ناصحـي ولقــد صــدقت وكـنت ثم أمينـا

وعـرضــت دينـا قـد علمت بأنـه مــن خـيـر أديـان البريـة دينـا

لــولا الملامــة أو حــذار سبـة لوجـدتنـي سـمحـا بــذاك مبينـا

( وَإِنْ يُهْلِكُونَ ) , أي: ما يهلكون, ( إِلا أَنْفُسَهُمْ ) أي: لا يرجع وبال فعلهم إلا إليهم, وأوزار الذين يصدونهم عليهم, ( وَمَا يَشْعُرُونَ ) . .

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 27 )

قوله عز وجل: ( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ) يعني: في النار, كقوله تعالى: عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أي: في ملك سليمان, وقيل: عرضوا على النار, وجواب « لو » محذوف معناه: لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا, ( فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ ) يعني: إلى الدنيا, ( وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قراءة العامة كلها بالرفع على معنى: يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب, ونكون من المؤمنين, وقرأ حمزة وحفص ويعقوب « ولا نكذب ونكون » بنصب الباء والنون على جواب التمني, أي: ليت ردنا وقع, وأن لا نكذب ونكون, والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصب بالفاء, وقرأ ابن عامر « نكذب » بالرفع و « نكون » بالنصب لأنهم تمنوا أن يكونوا من المؤمنين, وأخبروا عن أنفسهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا.

 

بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 28 ) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( 29 ) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 30 )

( بَلْ بَدَا لَهُمْ ) قوله: « بل » تحته رد لقولهم, أي: ليس الأمر على ما قالوا إنهم لو ردوا لآمنوا, بل بدا لهم, ظهر لهم, ( مَا كَانُوا يُخْفُونَ ) يسرون, ( مِنْ قَبْلُ ) في الدنيا من كفرهم ومعاصيهم, وقيل: ما كانوا يخفون وهو قولهم وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام: 23 ) , فأخفوا شركهم وكتموا حتى شهدت عليهم جوارحهم بما كتموا وستروا, لأنهم كانوا لا يخفون كفرهم في الدنيا, إلا أن تجعل الآية في المنافقين, وقال المبرد: بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون, وقال النضر بن شميل: بل بدا عنهم.

ثم قال ( وَلَوْ رُدُّوا ) إلى الدنيا ( لَعَادُوا لِمَا ) يعني إلى ما ( نُهُوا عَنْهُ ) من الكفر, ( وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) في قولهم, لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين.

( وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) هذا إخبار عن إنكارهم البعث, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, هذا من قولهم لو ردوا لقالوه.

قوله عز وجل: ( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ ) أي: على حكمه وقضائه ومسألته, وقيل: عرضوا على ربهم, ( قَالَ ) لهم وقيل: تقول لهم الخزنة بأمر الله, ( أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ ) ؟ يعني: أليس هذا البعث والعذاب بالحق؟ ( قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا ) إنه حق, قال ابن عباس: هذا في موقف, وقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين في موقف آخر, وفي القيامة مواقف, ففي موقف يقرون, وفي موقف ينكرون. ( قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ )

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ( 31 ) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 32 ) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ( 33 )

( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ ) أي: خسروا أنفسهم بتكذيبهم المصير إلى الله بالبعث بعد الموت, ( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ ) أي: القيامة ( بَغْتَةً ) أي: فجأة, ( قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا ) ندامتنا, [ ذكر ] على وجه النداء للمبالغة, وقال سيبويه: كأنه يقول: أيتها الحسرة هذا أوانك, ( عَلَى مَا فَرَّطْنَا ) أي: قصرنا ( فِيهَا ) أي: في الطاعة, وقيل: تركنا في الدنيا من عمل الآخرة.

قال محمد بن جرير: الهاء راجعة إلى الصفقة, وذلك أنه لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الآخرة بالدنيا قالوا: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها, أي: في الصفقة [ فترك ذكر الصفقة ] اكتفاء بذكر بقوله ( قَدْ خَسِرَ ) لأن الخسران إنما يكون في صفقة بيع, والحسرة شدة الندم, حتى يتحسر النادم, كما يتحسر الذي تقوم به دابته في السفر البعيد, ( وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ ) أثقالهم وآثامهم, ( عَلَى ظُهُورِهِمْ ) قال السدي وغيره: إن المؤمن +إذ أخرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحا فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا فيقول: أنا عملك الصالح فاركبني, فقد طالما ركبتك في الدنيا, فذلك قوله عز وجل: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ( مريم: 85 ) أي: ركبانا, وأما الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا, فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا. فيقول: أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيأ فأنا اليوم أركبك, فهذا معنى قوله: ( وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ) ( أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) يحملون قال ابن عباس: بئس الحمل حملوا.

( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) باطل وغرور لا بقاء لها ( وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ ) قرأ ابن عامر ( وَلَدَارُ الآخِرَةِ ) مضافا أضاف الدار إلى الآخرة, ويضاف الشيء إلى نفسه عند اختلاف اللفظين, كقوله: وَحَبَّ الْحَصِيدِ , وقولهم: ربيع الأول ومسجد الجامع, سميت الدنيا لدنوها, وقيل: لدناءتها, وسميت الآخرة لأنها بعد الدنيا, ( خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) الشرك, ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أن الآخرة أفضل من الدنيا, قرأ أهل المدينة وابن عامر ويعقوب ( أفلا تعقلون ) بالتاء هاهنا وفي الأعراف وسورة يوسف ويس, ووافق أبو بكر في سورة يوسف, ووافق حفص إلا في سورة يس, وقرأ الآخرون بالياء فيهن.

قوله عز وجل: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ) قال السدي: التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام, فقال الأخنس لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري, قال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق, وما كذب محمد قط, ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنـزل الله عز وجل هذه الآية .

وقال ناجية بن كعب: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم لا نتهمك ولا نكذبك, ولكنا نكذب الذي جئت به, فأنـزل الله تعالى: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ) .

( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ) بأنك كاذب, ( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) قرأ نافع والكسائي بالتخفيف, وقرأ الآخرون بالتشديد من التكذيب, والتكذيب هو أن تنسبه إلى الكذب, وتقول له: كذبت, والإكذاب هو أن تجده كاذبا, تقول العرب: أجدبت الأرض وأخصبتها إذا وجدتها جدبة ومخصبة, ( وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) يقول: إنهم لا يكذبونك في السر لأنهم عرفوا صدقك فيما مضى, وإنما يكذبون وحيي ويجحدون آياتي, كما قال: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ( النمل: 14 ) .

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ( 34 ) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 35 )

( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) كذبهم قومهم كما كذبتك قريش, ( فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ) بتعذيب من كذبهم, ( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ) لا ناقض لما حكم به, وقد حكم في كتابه بنصر أنبيائه عليهم السلام, فقال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( الصافات: 171- 173 ) , وقال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا ( غافر, 51 ) وقال: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ( المجادلة, 21 ) , وقال الحسن بن الفضل: لا خلف [ لعداته ] ( وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ) و ( مِنْ ) صلة كما تقول: أصابنا من مطر.

( وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ) أي: عظم عليك وشق أن أعرضوا عن الإيمان بك, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قومه أشد الحرص, وكانوا إذ سألوا آية أحب أن يريهم الله تعالى ذلك طمعا في إيمانهم, فقال الله عز وجل: ( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا ) تطلب وتتخد نفقا سربا ( وَفِي الأرْضِ ) ومنه نافقاء اليربوع, وهو أحد جحريه فيذهب فيه, ( أَوْ سُلَّمًا ) أي: درجا ومصعدا, ( فِي السَّمَاءِ ) فتصعد فيه, ( فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ) فافعل, ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ) فآمنوا كلهم, ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) أي: بهذا الحرف, وهو قوله: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ) وأن من يكفر لسابق علم الله فيه.

 

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( 36 ) وَقَالُوا لَوْلا نُـزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَـزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 37 ) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( 38 )

( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ) يعني: المؤمنين الذين يسمعون الذكر فيتبعونه وينتفعون به دون من ختم الله على سمعه, ( وَالْمَوْتَى ) يعني الكفار, ( يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) فيجزيهم بأعمالهم.

قوله عز وجل: ( وَقَالُوا ) يعني: رؤساء قريش, ( لَوْلا ) هلا ( نُـزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَـزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ما عليهم في إنـزالها.

قوله عز وجل: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ) قيد الطيران بالجناح تأكيدا كما يقال نظرت بعيني وأخذت بيدي, ( إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ) قال مجاهد: أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يريد أن كل جنس من الحيوان أمة, فالطير أمة, والدواب أمة, والسباع أمة, تعرف بأسمائها مثل بني آدم, يعرفون بأسمائهم, يقال: الإنس والناس.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا المبارك هو ابن فضالة عن الحسن عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها, فاقتلوا منها كل أسود بهيم ) .

وقيل: أمم أمثالكم يفقه بعضهم عن بعض, وقيل: أمم أمثالكم في الخلق والموت والبعث, وقال عطاء: أمم أمثالكم في التوحيد والمعرفة, قال ابن قتيبة: أمم أمثالكم في الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك.

( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ ) أي: في اللوح المحفوظ, ( مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) قال ابن عباس والضحاك: حشرها موتها, وقال أبو هريرة: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير, وكل شيء فيأخذ للجماء من القرناء, ثم يقول: كوني ترابا فحينئذ يتمنى الكافر ويقول: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا .

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء » .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 39 ) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 40 ) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ( 41 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ( 42 ) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 43 )

قوله عز وجل: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ ) لا يسمعون الخير ولا يتكلمون به, ( فِي الظُّلُمَاتِ ) في ضلالات الكفر, ( مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وهو الإسلام.

قوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ ) هل رأيتم؟ والكاف فيه للتأكيد, وقال الفراء: العرب تقول أرأيتك, وهم يريدون أخبرنا, كما يقول: أرأيتك إن فعلت كذا ماذا تفعل؟ أي: أخبرني, وقرأ أهل المدينة « أرأيتكم, وأرأيتم, وأرأيت » بتليين الهمزة الثانية, والكسائي بحذفها, قال ابن عباس: قل يا محمد لهؤلاء المشركين أرأيتكم, ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ ) قبل الموت, ( أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ ) يعني: القيامة, ( أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ) في صرف العذاب عنكم, ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) وأراد أن الكفار يدعون الله في أحوال الاضطرار كما أخبر الله عنهم: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ( لقمان: 32 ) .

ثم قال: ( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ) أي: تدعون الله ولا تدعون غيره, ( فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ ) قيد الإجابة بالمشيئة [ والأمور كلها بمشيئته ] ( وَتَنْسَوْنَ ) وتتركون, ( مَا تُشْرِكُونَ )

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ ) بالشدة والجوع, ( وَالضَّرَّاءِ ) المرض والزمانة, ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) أي يتوبون ويخضعون, والتضرع السؤال بالتذلل.

( فَلَوْلا ) فهلا ( إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا ) عذابنا, ( تَضَرَّعُوا ) فآمنوا فكشف عنهم, أخبر الله عز وجل أنه قد أرسل إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أنهم أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا, فذلك قوله: ( وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) من الكفر والمعاصي.

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ( 44 )

( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ) تركوا ما وعظوا وأمروا به, ( فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ) قرأ أبو جعفر, « فتَّحنا » بالتشديد, في كل القرآن, وقرأ ابن عامر كذلك إذا كان عقبيه جمعاُوالباقون بالتخفيف وهذا فتح استدراج ومكر, أي: بدلنا مكان البلاء والشدة الرخاء والصحة, ( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا ) وهذا فرح بطر مثل فرح قارون بما أصاب من الدنيا, ( أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ) فجأة آمن ما كانوا, وأعجب ما كانت الدنيا إليهم, ( فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) آيسون من كل خير, وقال أبو عبيدة: المبلس النادم الحزين, وأصل الإبلاس: الإطراق من الحزن والندم, وروى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته, فإنما ذلك استدراج ) , ثم تلا « فلما نسوا ما ذكروا به » الآية .

 

فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 45 ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ( 46 )

( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) أي: آخرهم [ الذين بدبرهم, يقال: دبر فلان القوم يدبرهم دبرا ودبورا إذا كان آخرهم ] ومعناه أنهم استؤصلوا بالعذاب فلم يبق منهم باقية, ( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) حمد الله نفسه على أن قطع دابرهم لأنه نعمة على الرسل, فذكر الحمد لله تعليما لهم ولمن آمن بهم, أن يحمدوا الله على كفايته شر الظالمين, وليحمد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ربهم إذا أهلك المكذبين.

قوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ ) أيها المشركون, ( إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ ) حتى لا تسمعوا شيئا أصلا ( وَأَبْصَارَكُمْ ) حتى لا تبصروا شيئا, ( وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ ) حتى لا تفقهوا شيئا ولا تعرفوا مما تعرفون من أمور الدنيا, ( مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ) ولم يقل بها مع أنه ذكر أشياء, قيل: معناه يأتيكم بما أخذ منكم, وقيل: الكناية ترجع إلى السمع الذي ذكر أولا ويندرج غيره تحته, كقوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ( التوبة: 62 ) . فالهاء راجعة إلى الله, ورضى رسوله يندرج في رضى الله تعالى, ( انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ) أي: نبين لهم العلامات الدالة على التوحيد والنبوة, ( ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ) يعرضون عنها مكذبين.

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ( 47 ) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 48 ) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 49 ) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ( 50 )

( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً ) فجأة, ( أَوْ جَهْرَةً ) معاينة ترونه عند نـزوله, قال ابن عباس والحسن ليلا أو نهارا, ( هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ) المشركون.

قوله عز وجل: ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ ) العمل, ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) حين يخاف أهل النار, ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) إذا حزنوا.

( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ ) يصيبهم ( الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) يكفرون.

( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ ) نـزل حين اقترحوا الآيات فأمره أن يقول لهم: ( لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ ) أي خزائن رزقه فأعطيكم ما تريدون, ( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) فأخبركم بما غاب مما مضى ومما سيكون, ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ) قال ذلك لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه الآدمي ويشاهد ما لا يشاهده الآدمي, يريد لا أقول لكم شيئا من ذلك فتنكرون قولي وتجحدون أمري, ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ ) أي: ما آتيكم به فمن وحي الله تعالى, وذلك غير مستحيل في العقل مع قيام الدليل والحجج البالغة, ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ ) ؟ قال قتادة: الكافر والمؤمن, وقال مجاهد: الضال والمهتدي, وقيل: الجاهل والعالم, ( أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ) أي: أنهما لا يستويان.

وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 51 ) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ( 52 )

قوله عز وجل: ( وَأَنْذِرْ بِهِ ) خوّف به أي: بالقرآن, ( الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا ) يجمعوا ويبعثوا ( إلى ربهم ) , وقيل: يخافون أي يعلمون, لأن خوفهم إنما كان من علمهم, ( لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ ) من دون الله, ( وَلِيٌّ ) قريب ينفعهم, ( وَلا شَفِيعٌ ) يشفع لهم, ( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) فينتهون عما نهوا عنه, وإنما نفى الشفاعة لغيره - مع أن الأنبياء والأولياء يشفعون - لأنهم لا يشفعون إلا بإذنه.

( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) قرأ ابن عامر « بالغدوة » بضم الغين وسكون الدال وواو بعدها, هاهنا وفي سورة الكهف, وقرأ الآخرون: بفتح العين والدال وألف بعدها.

قال سلمان وخباب بن الأرت: فينا نـزلت هذه الآية, جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وذووهم من المؤلفة قلوبهم, فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المؤمنين, فلما رأوهم حوله حقروهم, فأتوه فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم, وكان عليهم جباب صوف لم يكن عليهم غيرها, لجالسناك وأخذنا عنك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: « ما أنا بطارد المؤمنين » قالوا فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف به العرب فضلنا, فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد, فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا, فإذا فرغنا فاقعد معهم إن شئت, قال: نعم, قالوا: اكتب لنا عليك بذلك كتابا, قال: فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب, قالوا ونحن قعود في ناحية إذ نـزل جبريل بقوله: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) إلى قوله: بِالشَّاكِرِينَ فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده, ثم دعانا فأثبته, وهو يقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ , فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنـزل الله عز وجل: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ( الكهف: 28 ) , فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد وندنو منه حتى كادت ركبنا تمس ركبته, فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم, وقال لنا: « الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي, معكم المحيا ومعكم الممات » .

وقال الكلبي: قالوا له اجعل لنا يوما ولهم يوما, فقال: لا أفعل, قالوا: فاجعل المجلس واحدا فأقبل إلينا وولِّ ظهرك عليهم, فأنـزل الله تعالى هذه الآية: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )

قال مجاهد: قالت قريش: لولا بلال وابن أم عبد لبايعنا محمدا, فأنـزل الله هذه الآية: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) قال ابن عباس: يعني يعبدون ربهم بالغداة والعشي, يعني: صلاة الصبح وصلاة العصر, ويروى عنه: أن المراد منه الصلوات الخمس, وذلك أن أناسا من الفقراء كانوا مع النبي عليه السلام, فقال ناس من الأشراف: إذا صلينا فأخر هؤلاء فليصلوا خلفنا, فنـزلت الآية. وقال مجاهد: صليت الصبح مع سعيد بن المسيب، فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاص, فقال سعيد: ما أسرع الناس إلى هذا المجلس! قال مجاهد: فقلت يتأولون قوله تعالى ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) قال: أفي هذا هو, إنما ذلك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن, وقال إبراهيم النخعي: يعني يذكرون ربهم, وقيل المراد منه: حقيقة الدعاء, ( يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) أي: يريدون الله بطاعتهم, قال ابن عباس رضي الله عنهما: يطلبون ثواب الله فقال: ( مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) أي: لا تكلف أمرهم ولا يتكلفون أمرك, وقيل: ليس رزقهم عليك فتملّهم, ( فَتَطْرُدَهُمْ ) ولا رزقك عليهم, قوله ( فَتَطْرُدَهُمْ ) جواب لقوله ( مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) وقوله: ( فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) جواب لقوله ( وَلا تَطْرُدِ ) أحدهما جواب النفي والآخر جواب النهي.

 

وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ( 53 ) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 54 )

قوله عز وجل: ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا ) أي: ابتلينا, ( بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) أراد ابتلاء الغني بالفقير والشريف بالوضيع, وذلك أن الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد سبقه بالإيمان امتنع من الإسلام بسببه فكان فتنة له فذلك قوله: ( لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ) فقال الله تعالى: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ) فهو جواب لقوله ( أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ) فهو استفهام بمعنى التقرير, أي: الله أعلم بمن شكر الإسلام إذ هداه الله عز وجل.

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو بن بسطام ثنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي أنا مسدد أنا جعفر بن سليمان عن المعلى بن زياد عن العلاء بن بشير المزني عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: جلست في نفر من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري, وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقام علينا, فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت القارئ, فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: « ما كنتم تصنعون؟ » قلنا يا رسول الله كان قارئ يقرأ علينا فكنا نستمع إلى كتاب الله تعالى, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم » قال: ثم جلس وسطنا ليدل نفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتحلقوا, وبرزت وجوههم له, قال فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحدا غيري, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة » .

قوله عز وجل: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) قال عكرمة: نـزلت في الذين نهى الله عز وجل نبيه عن طردهم, وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام .

وقال عطاء: نـزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم وأبي عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهم أجمعين.

( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) أي: قضى على نفسه الرحمة, ( أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ) قال مجاهد: لا يعلم حلالا من حرام فمن جهالته ركب الذنب, وقيل: جاهل بما يورثه ذلك الذنب, وقيل: جهالته من حيث إنه آثر المعصية على الطاعة والعاجل القليل على الآجل الكثير, ( ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ ) رجع عن ذنبه, ( وَأَصْلَحَ ) عمله, قيل: أخلص توبته, ( فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب ( أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ ) ( فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) بفتح الألف فيهما بدلا من الرحمة, أي: كتب على نفسه أنه من عمل منكم, ثم جعل الثانية بدلا عن الأولى, كقوله تعالى: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ , ( المؤمنون: 35 ) , وفتح أهل المدينة الأولى منهما وكسروا الثانية على الاستئناف, وكسرهما الآخرون على الاستئناف.

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ( 55 ) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( 56 )

( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ) أي: وهكذا, وقيل: معناه وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وإعلامنا على المشركين كذلك نفصل الآيات, أي: نميز ونبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل, ( وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) أي: طريق المجرمين, وقرأ أهل المدينة ( ولتستبين ) بالتاء, « سبيل » نصب على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم, أي: ولتعرف يا محمد سبيل المجرمين, يقال: استبنت الشيء وتبينته إذا عرفته, وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ( وليستبين ) بالياء « سبيل » بالرفع, وقرأ الآخرون ( وَلِتَسْتَبِينَ ) بالتاء ( سبيل ) رفع, أي: ليظهر ويتضح السبيل, يُذكر ويُؤنث, فدليل التذكير قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ( الأعراف: 146 ) , ودليل الثأنيت قوله تعالى: لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عِوَجاً ( آل عمران: 99 ) .

قوله عز وجل: ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ ) في عبادة الأوثان وطرد الفقراء, ( قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) يعني: إن فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق وسلكت غير طريق الهدى.

قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ( 57 ) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ( 58 )

( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ ) أي: على بيان وبصيرة وبرهان, ( مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ) أي: ما جئت به, ( مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ) قيل: أراد به استعجالهم العذاب, كانوا يقولون: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة ( الأنفال:32 ) الآية, قيل: أراد به القيامة, قال الله تعالى: يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ( الشوري: 18 ) , ( إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ ) قرأ أهل الحجاز وعاصم يقص بضم القاف والصاد مشددا أي يقول الحق, لأنه في جميع المصاحف بغير ياء, ولأنه قال الحق ولم يقل بالحق, وقرأ الآخرون ( يقضي ) بسكون القاف والضاد مكسورة, من قضيت, أي: يحكم بالحق بدليل أنه قال: ( وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) والفصل يكون في القضاء وإنما حذفوا الياء لاستثقال الألف واللام, كقوله تعالى: ( صال الجحيم ) ونحوها, ولم يقل بالحق لأن الحق صفة المصدر, كأنه قال: يقضي القضاء الحق.

( قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ) وبيدي, ( مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ) من العذاب ( لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) أي: فرغ من العذاب [ وأهلكتم ] أي: لعجلته حتى أتخلص منكم, ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )

وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 59 )

قوله عز وجل: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ ) مفاتح الغيب خزائنه, جمع مفتح.

واختلفوا في مفاتح الغيب, أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله: « مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله, لا يعلم ما تغيض الأرحام أحد إلا الله تعالى, [ ولا يعلم ما في الغد إلا الله عز وجل ] ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله, ولا تدري نفس بأي أرض تموت, ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله » .

وقال الضحاك ومقاتل: مفاتح الغيب خزائن الأرض, وعلم نـزول العذاب.

وقال عطاء: ما غاب عنكم من الثواب والعقاب.

وقيل: انقضاء الآجال, وقيل: أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم, وقيل: هي ما لم يكن بعد أنه يكون أم لا يكون, وما يكون كيف يكون, وما لا يكون أن لو كان كيف يكون؟ وقال ابن مسعود: « أوتي نبيكم علم كل شيء إلا علم مفاتيح الغيب » .

( وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) قال مجاهد: البر: المفاوز والقفار, والبحر: القرى والأمصار, لا يحدث فيهما شيء إلا يعلمه, وقيل: هو البر والبحر المعروف, ( وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا ) يريد ساقطة وثابتة, يعني: يعلم عدد ما يسقط من ورق الشجر وما يبقى عليه, وقيل: يعلم كم انقلبت ظهرا لبطن إلى أن سقطت على الأرض, ( وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ ) قيل: هو الحب المعروف في بطون الأرض, وقيل: هو تحت الصخرة في أسفل الأرضين, ( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: الرطب الماء, واليابس البادية, وقال عطاء: يريد ما ينبت وما لا ينبت, وقيل: ولا حي ولا ميت, وقيل: هو عبارة عن كل شيء, ( إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) يعني أن الكل مكتوب في اللوح المحفوظ.

 

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 60 )

قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) أي: يقبض أرواحكم إذا نمتم بالليل, ( وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ ) كسبتم, ( بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ) أي: يوقظكم في النهار, ( لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ) يعني: أجل الحياة إلى الممات, يريد استيفاء العمر على التمام, ( ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ) في الآخرة, ( ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ ) يخبركم, ( بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ( 61 ) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ( 62 ) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 63 )

قوله عز وجل: ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) يعني: الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم, وهو جمع حافظ, نظيره وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ ( الانفطار: 11 ) , حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ قرأ حمزة ( توفيه ) و ( استهويه ) بالياء وأمالهما, ( رُسُلُنَا ) يعني: أعوان ملك الموت يقبضونه فيدفعونه إلى ملك الموت فيقبض روحه, كما قال: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ , وقيل الأعوان يتوفونه بأمر ملك الموت, فكأن ملك الموت توفاه لأنهم يصدرون عن أمره, وقيل: أراد بالرسل ملك الموت وحده, فذكر الواحد بلفظ الجمع, وجاء في الأخبار: أن الله تعالى جعل الدنيا بين يدي ملك الموت كالمائدة الصغيرة فيقبض من هاهنا ومن هاهنا فإذا كثرت الأرواح يدعو الأرواح فتجيب له, ( وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) لا يقصرون.

( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ) يعني: الملائكة, وقيل: يعني العباد يردون بالموت إلى الله مولاهم الحق, فإن قيل الآية في المؤمنين والكفار جميعا وقد قال في آية أخرى: وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ( محمد: 11 ) , فكيف وجه الجمع؟ فقيل: المولى في تلك الآية بمعنى الناصر ولا ناصر للكفار, والمولى هاهنا بمعنى الملك الذي يتولى أمورهم, والله عز وجل مالك الكل ومتولي الأمور, وقيل: أراد هنا المؤمنين خاصة يردون إلى مولاهم, والكفار فيه تبع, ( أَلا لَهُ الْحُكْمُ ) أي: القضاء دون خلقه, ( وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) أي: إذا حاسب فحسابه سريع لأنه لا يحتاج إلى فكرة ورؤية وعقد يد.

قوله عز وجل: ( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ ) قرأ يعقوب بالتخفيف, وقرأ العامة بالتشديد, ( مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) أي: من شدائدهما وأهوالهما, كانوا إذا سافروا في البر والبحر فضلُّوا الطريق وخافوا الهلاك, دعوا الله مخلصين له الدين فينجيهم, فذلك قوله تعالى: ( تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) أي: علانية وسرا, قرأ أبو بكر عن عاصم ( وخفية ) بكسر الخاء هاهنا وفي الأعراف, وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان, ( لَئِنْ أَنْجَانَا ) أي: يقولون لئن أنجيتنا, وقرأ أهل الكوفة: لئن أنجانا الله, ( مِنْ هَذِهِ ) يعني: من هذه الظلمات, ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) والشكر: هو معرفة النعمة مع القيام بحقها.

قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ( 64 ) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ( 65 )

( قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا ) قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر ( ينجيكم ) بالتشديد, مثل قوله تعالى: ( قل من ينجيكم ) وقرأ الآخرون هذا بالتخفيف, ( وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ) والكرب غاية الغم الذي يأخذ بالنفس, ( ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ) يريد أنهم يقرون أن الذي يدعونه عند الشدة هو الذي ينجيهم ثم تشركون معه الأصنام التي قد علموا أنها لا تضر ولا تنفع.

قوله عز وجل: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ) قال الحسن وقتادة: نـزلت الآية في أهل الإيمان, وقال قوم نـزلت في المشركين.

قوله ( عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ) يعني: الصيحة والحجارة والريح والطوفان, كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح, ( أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) يعني: الرجفة والخسف كما فعل بقوم شعيب وقارون.

وعن ابن عباس ومجاهد: ( عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ) السلاطين الظلمة, و ( من تحت أرجلكم ) العبيد السوء, وقال الضحاك: ( مِنْ فَوْقِكُمْ ) من قبل كباركم ( أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) أي من أسفل منكم, ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ) أي: يخلطكم فرقا ويبث فيكم الأهواء المختلفة, ( وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) يعني: السيوف المختلفة, يقتل بعضكم بعضا.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو النعمان أنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر قال: لما نـزلت هذه الآية ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أعوذ بوجهك » , قال: ( أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) قال: « أعوذ بوجهك » , قال: ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هذا أهون أو هذا أيسر » .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا أبو جعفر محمد بن علي دحيم الشيباني أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة أنا يعلى بن عبيد الطنافسي أنا عثمان بن حكيم عن عامر بن سعد بن وقاص عن أبيه, قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية فدخل فصلى ركعتين وصلينا معه فناجى ربه طويلا ثم قال: « سألت ربي ثلاثا: سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها, وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها, وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم, فمنعنيها »

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن دلويه الدقاق ثنا محمد بن إسماعيل البخاري ثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أخي عن سليمان بن بلال عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري أن عبد الله بن عمر جاءهم ثم قال: « إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد فسأل الله ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة, سأله أن لا يسلط على أمته عدوا من غيرهم يظهر عليهم فأعطاه ذلك, وسأله أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأس بعضهم على بعض, فمنعه ذلك » .

قوله عز وجل: ( انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) .

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ( 66 ) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 67 ) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 68 )

( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ) أي: بالقرآن, وقيل: بالعذاب, ( وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) برقيب, وقيل: بمسلط ألزمكم الإسلام شئتم أو أبيتم, إنما أنا رسول.

( لِكُلِّ نَبَإٍ ) خبر من أخبار القرون, ( مُسْتَقَرٌّ ) حقيقة ومنتهى ينتهي إليه فيتبين صدقه من كذبه وحقه من باطله, إما في الدنيا وإما في الآخرة, ( وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) وقال مقاتل: لكل خبر يخبره الله وقت [ وقته ] ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير, وقال الكلبي: [ لكل ] قول وفعل حقيقة, إما في الدنيا وإما في الآخرة وسوف تعلمون ما كان في الدنيا فستعرفونه وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم.

قوله عز وجل: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ) يعني: في القرآن بالاستهزاء ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) فاتركهم [ ولا تجالسهم ] ( حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ ) قرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد السين وقرأ الآخرون بسكون النون وتخفيف السين, ( الشَّيْطَانُ ) نهينا, ( فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) يعني: إذا جلست معهم ناسيا فقم من عندهم بعدما تذكرت.

 

وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 69 )

( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) روي عن ابن عباس أنه قال: لما نـزلت هذه الآية: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قال المسلمون: كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا؟ وفي رواية قال المسلمون: فإنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم, فأنـزل الله عز وجل: ( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ ) الخوض, ( مِنْ حِسَابِهِمْ ) أي: من آثام الخائضين ( مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى ) أي: ذكروهم وعظوهم بالقرآن, والذكر والذكرى واحد, يريد ذكروهم ذكري, فتكون في محل النصب, ( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) الخوض إذا وعظتموهم فرخص في مجالستهم على الوعظ لعله يمنعهم من ذلك الخوض, وقيل: لعلهم يستحيون.

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ( 70 ) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 71 )

قوله عز وجل: ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا ) يعني: الكفار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزءوا بها وتلاعبوا عند ذكرها, وقيل: إن الله تعالى جعل لكل قوم عيدا فاتخذ كل قوم دينهم - أي: عيدهم - لعبا ولهوا, وعيد المسلمين الصلاة والتكبير وفعل الخير مثل الجمعة والفطر والنحر, ( وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ ) أي: وعظ بالقرآن, ( أَنْ تُبْسَلَ ) أي: لأن لا تبسل, أي: لا تسلم, ( نَفْسٌ ) للهلاك, ( بِمَا كَسَبَتْ ) قاله مجاهد وعكرمة والسدي, وقال ابن عباس: تهلك, وقال قتادة: أن تحبس, وقال الضحاك: تحرق, وقال ابن زيد: تؤخذ, ومعناه: ذكِّرهم ليؤمنوا, كيلا تهلك نفس بما كسبت, قال الأخفش: تبسل تجازى, وقيل: تفضح, وقال الفراء: ترتهن, وأصل الإبسال التحريم, والبسل الحرام, ثم جعل نعتا لكل شدة تتقى وتترك , ( لَيْسَ لَهَا ) أي: لتلك النفس, ( مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ ) قريب, ( وَلا شَفِيعٌ ) يشفع في الآخرة, ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ ) أي: تفد كل فداء, ( أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا ) أسلموا للهلاك, ( بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )

( قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا ) إن عبدناه, ( وَلا يَضُرُّنَا ) إن تركناه, يعني: الأصنام ليس إليها نفع ولا ضر, ( وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا ) إلى الشرك [ مرتدين ] ( بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ ) , أي: يكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين, أي: أضلته, ( حَيْرَانَ ) قال ابن عباس: كالذي استهوته الغيلان في المهامه فأضلوه فهو حائر بائر, والحيران: المتردد في الأمر, لا يهتدي إلى مخرج منه, ( لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ) هذا مثل ضربه الله تعالى لمن يدعو إلى الآلهة ولمن يدعو إلى الله تعالى, كمثل رجل في رفقة ضل به الغول عن الطريق يدعوه أصحابه من أهل الرفقة هلم إلى الطريق, ويدعوه الغول [ هلم ] فيبقى حيران لا يدري أين يذهب, فإن أجاب الغول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة, وإن أجاب من يدعوه إلى الطريق اهتدى .

( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ) يزجر عن عبادة الأصنام, كأنه يقول: لا تفعل ذلك فإن الهدى هدى الله, لا هدى غيره, ( وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ ) أي: أن نسلم, ( لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) والعرب تقول: أمرتك لتفعل وأن تفعل وبأن تفعل.

وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 72 ) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 73 )

( وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ ) أي: وأمرنا بإقامة الصلاة والتقوى, ( وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) أي: تجمعون في الموقف للحساب.

( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ ) قيل: الباء بمعنى اللام, أي: إظهارا للحق لأنه جعل صنعه دليلا على وحدانيته, ( وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ) قيل: هو راجع إلى السماوات والأرض والخلق, بمعنى: القضاء والتقدير, أي كل شيء قضاه وقدره قال له: كن, فيكون.

وقيل: يرجع إلى القيامة, يدل على سرعة أمر البعث والساعة, كأنه قال: ويوم يقول للخلق: موتوا فيمومون, وقوموا فيقومون, ( قَوْلُهُ الْحَقُّ ) أي: الصدق الواقع لا محالة, يريد أن ما وعده حق كائن, ( وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) يعني: ملك الملوك يومئذ زائل, كقوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ , وكما قال: وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ , والأمر له في كل وقت, ولكن لا أمر في ذلك اليوم لأحد مع أمر الله, والصور: قرن ينفخ فيه, قال مجاهد: كهيئة البوق, وقيل: هو بلغة أهل اليمن, وقال أبو عبيدة: الصور هو الصور وهو جمع الصورة, وهو قول الحسن: والأول أصح.

والدليل عليه ما أخبرنا محمد بن عبد الله [ بن أبي توبة أنا أبو طاهر المحاربي أنا محمد بن يعقوب الكسائي أنا أبو عبد الله ] بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن سليمان التيمي عن أسلم عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصور؟ قال: « قرن ينفخ فيه » .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنا أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله الصفار أنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي أنا أبو حذيفة أنا سفيان عن الأعمش عن عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كيف أنعم وصاحب الصور قد التقمه, وأصغى سمعه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر » ؟ فقالوا: يا رسول الله وما تأمرنا؟ قال: « قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل » .

وقال أبو العلاء عن عطية: متى يؤمر بالنفخ فينفخ.

( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) يعلم ما غاب عن العباد وما يشاهدونه, لا يغيب عن علمه شيء, ( وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )

 

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 74 ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( 75 ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( 76 )

قوله عز وجل: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ) قرأ يعقوب ( آزَرَ ) بالرفع, يعني: آزَرَ والقراءة المعروفة بالنصب, وهو اسم أعجمي لا ينصرف فينتصب في موضع الخفض.

قال محمد بن إسحاق والضحاك والكلبي: آزر اسم أبي إبراهيم وهو تارخ أيضا مثل إسرائيل ويعقوب وكان من كوثى قرية من سواد الكوفة, وقال مقاتل بن حيان وغيره: آزر لقب لأبي إبراهيم, واسمه تارخ .

وقال سليمان التيمي: هو سب وعيب, ومعناه في كلامهم المعوج, وقيل: معناه الشيخ الهِمُّ بالفارسية, وقال سعيد بن المسيب ومجاهد: آزر اسم صنم, فعلى هذا يكون في محل النصب تقديره أتتخذ آزر إلها, قوله ( أَصْنَامًا آلِهَةً ) دون الله , ( إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )

( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ ) أي: كما أريناه البصيرة في دينه, والحق في خلاف قومه, نريه ( مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) والملكوت: الملك, زيدت فيه التاء للمبالغة, كالجبروت والرحموت والرهبوت, قال ابن عباس: يعني خلق السموات والأرض, وقال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني آيات السموات والأرض, وذلك أنه أقيم على صخر وكشف له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين ونظر إلى مكانه في الجنة, فذلك قوله تعالى: وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا يعني: أريناه مكانه في الجنة.

وروي عن سلمان رضي الله عنه, ورفعه بعضهم [ عن علي رضي الله عنه ] لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك, ثم أبصر آخر فدعا عليه فهلك, ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال له الرب عز وجل: « يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة, فلا تدعون على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خصال إما أن يتوب فأتوب عليه, وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني, وإما أن يبعث إلي فإن شئت عفوت عنه, وإن شئت عاقبته » وفي رواية: « وإما أن يتولى فإن جهنم من ورائه » .

وقال قتادة: ملكوت السموات: الشمس والقمر والنجوم, وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار. ( وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) عطف على المعنى, ومعناه: نريه ملكوت السموات والأرض, ليستدل به وليكون من الموقنين.

( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا ) الآية, قال أهل التفسير: ولد إبراهيم عليه السلام في زمن نمرود بن كنعان, وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته, وكان له كهان ومنجمون, فقالوا له: إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغيّر دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه, يقال: إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام.

وقال السدي: رأى نمرود في منامه كأن كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء, ففزع من ذلك فزعا شديدا, فدعا السحرة والكهنة فسألهم عن ذلك, فقالوا: هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة, فيكون هلاكك وهلاك ملكك وأهل بيتك على يديه, قالوا: فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة, وأمر بعزل الرجال عن النساء, وجعل على كل عشرة رجال رجلا فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها, لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض, فإذا طهرت حال بينهما, فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها, فحملت بإبراهيم عليه السلام .

وقال محمد بن إسحاق: بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقرية, فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم عليه السلام, فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت جارية حديثة السن, لم يعرف الحبل في بطنها.

وقال السدي: خرج نمرود بالرجال إلى معسكر ونحاهم عن النساء تخوفا من ذلك المولود أن يكون, فمكث بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة إلى المدينة, فلم يأتمن عليها أحدا من قومه إلا آزر, فبعث إليه ودعاه وقال له: إن لي حاجة أحببت أن أوصيك بها ولا أبعثك إلا لثقتي بك, فأقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك, فقال آزر: أنا أشح على ديني من ذلك, فأوصاه بحاجته, فدخل المدينة وقضى حاجته, ثم قال: لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر إلى أم إبراهيم عليه السلام لم يتمالك حتى واقعها, فحملت بإبراهيم عليه السلام.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود: إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة, فأمر نمرود بذبح الغلمان, فلما دنت ولادة أم إبراهيم عليه السلام وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها, فوضعته في نهر يابس ثم لفته في خرقة ووضعته في حلفاء, فرجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت, وأن الولد في موضع كذا وكذا فانطلق أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سربا عند نهر, فواراه فيه وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع, وكانت أمه تختلف إليه فترضعه.

وقال محمد بن إسحاق: لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم عليه السلام وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود, ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه لتنظر ما فعل فتجده حيا يمص إبهامه.

قال أبو روق: وقالت أم إبراهيم ذات يوم لأنظرن إلى أصابعه, فوجدته يمص من أصبع ماء, ومن أصبع لبنا, ومن أصبع عسلا ومن أصبع تمرا, ومن أصبع سمنا.

وقال محمد بن إسحاق: كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل؟ فقالت: ولدت غلاما فمات, فصدقها فسكت عنها, وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرا حتى قال لأمه أخرجيني فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السماوات والأرض, وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي الذي ما لي إله غيره, ثم نظر إلى السماء فرأى كوكبا فقال: هذا ربي, ثم أتبعه بصره لينظر إليه حتى غاب, فلما أفل, قال: لا أحب الآفلين, ثم رأى القمر بازغا قال هذا ربي وأتبعه ببصره حتى غاب, ثم طلعت الشمس هكذا إلى آخره, ثم رجع إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم ينادهم بذلك, فأخبره أنه ابنه وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه, وأخبرته بما كانت صنعت في شأنه فسرَّ آزر بذلك وفرح فرحا شديدا.

وقيل: إنه كان في السرب سبع سنين, وقيل: ثلاثة عشرة سنة, وقيل: سبعة عشرة سنة, قالوا: فلما شب إبراهيم عليه السلام, وهو في السرب قال لأمه: من ربي؟ قالت: أنا, قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك, قال: فمن رب أبي؟ قالت: نمرود, قال: فمن ربه؟ قالت له: اسكت فسكت, ثم رجعت إلى زوجها, فقالت: أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغيّر دين أهل الأرض فإنه ابنك, ثم أخبرته بما قال, فأتاه أبوه آزر, فقال له إبراهيم عليه السلام: يا أبتاه من ربي؟ قال: أمك, قال: ومن رب أمي؟ قال: أنا قال: ومن ربك؟ قال: نمرود قال: فمن رب نمرود؟ فلطمه لطمة وقال له: اسكت فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فأبصر كوكبا, قال: هذا ربي.

ويقال: إنه قال لأبويه أخرجاني فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس, فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم, فسأل أباه ما هذه؟ فقال: إبل وخيل وغنم, فقال: ما لهذه بدّ من أن يكون لها رب وخالق, ثم نظر فإذا المشتري قد طلع, ويقال: الزهرة, وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فتأخر طلوع القمر فيها, فرأى الكوكب قبل القمر, فذلك قوله عز وجل: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ) أي: دخل, يقال: جن الليل وأجن الليل, وجنه الليل, وأجن عليه الليل يجن جنونا وجنانا إذا أظلم وغطى كل شيء, وجنون الليل سواده, ( رَأَى كَوْكَبًا ) قرأ أبو عمرو ( رَأَى ) بفتح الراء وكسر الألف, وبكسرهما ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر, فإن اتصل بكاف أو هاء فتحهما ابن عامر, وإن لقيها ساكن كسر الراء وفتح الهمزة حمزة وأبو بكر, وفتحهما الآخرون. ( قَالَ هَذَا رَبِّي )

واختلفوا في قوله ذلك: فأجراه بعضهم على الظاهر, وقالوا: كان إبراهيم عليه السلام مسترشدا طالبا للتوحيد حتى وفقه الله تعالى وآتاه رشده فلم يضره ذلك في حال الاستدلال, وأيضا كان ذلك في حال طفوليته قبل قيام الحجة عليه, فلم يكن كفرا .

وأنكر الآخرون هذا القول, وقالوا: لا يجوز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله موحد وبه عارف, ومن كل معبود سواه بريء وكيف يتوهم هذا على من عصمه الله وطهّره وآتاه رشده من قبل وأخبر عنه فقال: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الصافات: 84 ) وقال: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ، أفتراه أراه الملكوت ليوقن فلما أيقن رأى كوكبا قال: هذا ربي معتقدا؟ فهذا ما لا يكون أبدا.

ثم قالوا: فيه أربعة أوجه من التأويل:

أحدها: أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرج القوم بهذا القول ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموه, وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها, ويرون أن الأمور كلها إليها فأراهم أنه معظم ما عظموه وملتمس الهدى من حيث ما التمسوه, فلما أفل أراهم النقص الداخل على النجوم ليثبت خطأ ما يدّعون, ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون الصنم, فأظهر تعظيمه فأكرموه حتى صدروا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن دهمهم عدو فشاوروه في أمره, فقال: الرأي أن ندعو هذا الصنم حتى يكشف عنا ما قد أظلنا, فاجتمعوا حوله يتضرعون فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يحذرون, فأسلموا.

والوجه الثاني من التأويل: أنه قاله على وجه الاستفهام تقديره: أهذا ربي؟ كقوله تعالى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ( الأنبياء: 34 ) ؟ أي: أفهم الخالدون؟ وذكره على وجه التوبيخ منكرا لفعلهم, يعني: ومثل هذا يكون ربا, أي: ليس هذا ربي.

والوجه الثالث: أنه على وجه الاحتجاج عليهم, يقول: هذا ربي بزعمكم؟ فلما غاب قال: لو كان إلها لما غاب, كما قال: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان: 49 ) , أي: عند نفسك وبزعمك, وكما أخبر عن موسى أنه قال: وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ( طه :97 ) يريد إلهك بزعمك.

والوجه الرابع: فيه إضمار وتقديره يقولون هذا ربي, كقوله وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا , ( البقرة: 127 ) أي: يقولون ربنا تقبل منا. ( فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ) وما لا يدوم.

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( 77 ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 78 ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 79 )

( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا ) طالعا, ( قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي ) قيل: لئن لم يثبتني على الهدى, ليس أنه لم يكن مهتديا, والأنبياء لم يزالوا يسألون الله تعالى الثبات على الإيمان, وكان إبراهيم يقول: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ( إبراهيم: 35 ) , ( لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ) أي: عن الهدى.

( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ) أي: أكبر من الكوكب والقمر, ولم يقل هذه مع أن الشمس مؤنثة لأنه أراد هذا الطالع, أو ردّه إلى المعنى, وهو الضياء والنور, لأنه رآه أضوأ من النجوم والقمر, ( فَلَمَّا أَفَلَتْ ) غربت, ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ( 80 ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 81 )

قوله عز وجل: ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي ) ولما رجع إبراهيم عليه السلام إلى أبيه, وصار من الشباب بحالة سقط عنه طمع الذباحين, وضمه آزر إلى نفسه جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليبيعها, فيذهب بها [ إبراهيم عليه السلام ] وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه, فلا يشتريها أحد, فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر [ فضرب ] فيه رءوسها, وقال: اشربي, استهزاء بقومه, وبما هم فيه من الضلالة, حتى فشا استهزاؤه بها في قومه [ وأهل ] قريته, فحاجّه أي خاصمه وجادله قومه في دينه, ( قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ ) قرأ أهل المدينة وابن عامر بتخفيف النون, وقرأ الآخرون بتشديدها إدغاما لإحدى النونين في الأخرى, ومن خفف حذف إحدى النونين تخفيفا يقول: أتجادلونني في توحيد الله, وقد هداني للتوحيد والحق؟ ( وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ ) وذلك أنهم قالوا له: احذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسك بسوء من خبل أو جنون لعيبك إياها, فقال لهم: ولا أخاف ما تشركون به, ( إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ) وليس هذا باستثناء عن الأول بل هو استثناء منقطع, معناه لكن إن يشأ ربي شيئا أي سوء, فيكون ما شاء, ( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) أي: أحاط علمه بكل شيء, أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ

( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ) يعني الأصنام, وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع, ( وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ) حجة وبرهانا, وهو القاهر القادر على كل شيء, ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ ) أولى, ( بِالأمْنِ ) أنا وأهل ديني أم أنتم؟ ( إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )

 

الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ( 82 ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 83 ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 84 )

فقال الله تعالى قاضيا بينهما: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) لم يخلطوا إيمانهم بشرك, ( أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا إسحاق ثنا عيسى بن يونس أنا الأعمش أنا إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نـزلت: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله فأينا لا يظلم نفسه؟ فقال: ليس ذلك, إنما هو الشرك, ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟ ( لقمان, 13 ) .

قوله عز وجل: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) حتى خصمهم وغلبهم بالحجة, قال مجاهد: هي قوله: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ ) وقيل: أراد به الحجاج الذي حاج نمرود على ما سبق في سورة البقرة .

( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ) بالعلم قرأ أهل الكوفة ويعقوب دَرَجَاتٍ بالتنوين هاهنا وفي سورة يوسف, أي: نرفع درجات من نشاء بالعلم والفهم والفضيلة والعقل, كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهتدى وحاجّ قومه في التوحيد, ( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )

( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا ) ووفقنا وأرشدنا. ( وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ) أي: من قبل إبراهيم, ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ) أي: ومن ذرية نوح عليه السلام, ولم يرد من ذرية إبراهيم لأنه ذكر في جملتهم يونس ولوطا ولم يكونا من ذرية إبراهيم ( دَاوُدَ ) يعني: داود بن أيشا, ( وَسُلَيْمَانَ ) يعني ابنه, ( وَأَيُّوبَ ) وهو أيوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم, ( وَيُوسُفَ ) هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام, ( وَمُوسَى ) وهو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب. ( وَهَارُونَ ) هو أخو موسى أكبر منه بسنة, ( وَكَذَلِكَ ) أي: وكما جزينا إبراهيم على توحيده بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولادا أنبياء أتقياء كذلك, ( نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) على إحسانهم, وليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم.

وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 85 ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( 86 ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 87 ) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 88 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ( 89 )

( وَزَكَرِيَّا ) وهو زكريا بن أذن, ( وَيَحْيَى ) وهو ابنه, ( وَعِيسَى ) وهو ابن مريم بنت عمران, ( وَإِلْيَاسَ ) اختلفوا فيه, قال ابن مسعود: هو إدريس, وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل, والصحيح أنه غيره, لأن الله تعالى ذكره في ولد نوح, وإدريس جد أبي نوح وهو إلياس ياسين بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران ( كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ )

( وَإِسْمَاعِيلَ ) وهو ولد إبراهيم, ( وَالْيَسَعَ ) وهو ابن أخطوب بن العجوز, وقرأ حمزة والكسائي ( وَالَّيْسَعَ ) بتشديد اللام وسكون الياء هنا وفي ص ( وَيُونُسَ ) وهو يونس بن متى, ( وَلُوطًا ) وهو لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم, ( وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) أي: عالمي زمانهم.

( وَمِنْ آبَائِهِمْ ) من فيه للتبعيض, لأن آباء بعضهم كانوا مشركين, ( وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) أي: ومن ذرياتهم. وأراد به ذرية بعضهم: لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ولد, وكان في ذرية بعضهم من كان كافرا, ( وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ ) اخترناهم واصطفيناهم, ( وَهَدَيْنَاهُمْ ) أرشدناهم, ( إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )

( ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ ) دين الله, ( يَهْدِي بِهِ ) يرشد به, ( مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا ) أي: هؤلاء الذين سميناهم, ( لَحَبِطَ ) لبطل وذهب, عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

( أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) أي: الكتب المنـزلة عليهم, ( وَالْحُكْمَ ) يعني: العلم والفقه, ( وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ ) الكفار يعني: أهل مكة, ( فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ) يعني: الأنصار وأهل المدينة, قاله ابن عباس ومجاهد, وقال قتادة: فإن يكفر بها هؤلاء الكفار فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين, يعني: الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله هاهنا, وقال أبو رجاء العطاردي: معناه فإن يكفر بها أهل الأرض فقد وكلنا بها أهل السماء, وهم الملائكة, ليسوا بها بكافرين.

أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( 90 )

( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ) أي: هداهم الله, ( فَبِهُدَاهُمُ ) فبسنتهم وسيرتهم, ( اقْتَدِهِ ) الهاء فيها هاء الوقف, وحذف حمزة والكسائي الهاء في الوصل, والباقون بإثباتها وصلا ووقفا, وقرأ ابن عامر: « اقتده » بإشباع الهاء كسرا ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ ) ما هو, ( إِلا ذِكْرَى ) أي: تذكرة وعظة, ( لِلْعَالَمِينَ )

 

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( 91 )

قوله تعالى: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) أي ما عظموه حق عظمته, وقيل: ما وصفوه حق صفته, ( إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ) قال سعيد بن جبير: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم بمكة, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « أنشدك بالذي أنـزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين » وكان حبرا سمينا فغضب, وقال: والله ما أنـزل الله على بشر من شيء .

وقال السدي: نـزلت في فنحاص بن عازوراء, وهو قائل هذه المقالة .

وفي القصة: أن مالك بن الصيف لما سمعت اليهود منه تلك المقالة عتبوا عليه, وقالوا: أليس أن الله أنـزل التوراة على موسى؟ فلِمَ قلت ما أنـزل الله على بشر من شيء؟ فقال مالك بن الصيف أغضبني محمد فقلت ذلك, فقالوا له: وأنت إذا غضبت تقول [ على الله ] غير الحق فنـزعوه من الحبرية, وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قالت اليهود: يا محمد أنـزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم, قالوا: والله ما أنـزل الله من السماء كتابا, فأنـزل الله: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ) , فقال الله تعالى: ( قُلْ ) لهم, ( مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ) يعني التوراة, ( تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ) أي: تكتبون عنه دفاتر وكتبا مقطعة تبدونها, أي: تبدون ما تحبون وتخفون كثيرا من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم. قرأ ابن كثير وأبو عمرو ( يجعلونه ) ( ويبدونها ) ( ويخفونها ) ، بالياء جميعا, لقوله تعالى ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) وقرأ الآخرون بالتاء, لقوله تعالى ( قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى )

وقوله ( وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا ) [ الأكثرون على أنها خطاب لليهود, يقول: عُلِّمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا ] ( أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ) قال الحسن: جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فضيعوه ولم ينتفعوا به.

وقال مجاهد: هذا خطاب للمسلمين يذكّرهم النعمة فيما علّمهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.

( قُلِ اللَّهُ ) هذا راجع إلى قوله ( قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ) فإن أجابوك وإلا فقل أنت: الله, أي: قل أنـزله الله, ( ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ )

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( 92 ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْـزِلُ مِثْلَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ( 93 )

( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) أي: القرآن كتاب مبارك أنـزلناه ( مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ ) يا محمد, قرأ أبو بكر عن عاصم ( ولينذر ) بالياء أي: ولينذر الكتاب, ( أُمَّ الْقُرَى ) يعني: مكة سميت أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها, فهي أصل الأرض كلها كالأم أصل النسل, وأراد أهل أم القرى ( وَمَنْ حَوْلَهَا ) أي: أهل الأرض كلها شرقا وغربا ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) بالكتاب, ( وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ ) يعني: الصلوات الخمس, ( يُحَافِظُونَ ) يداومون, يعني: المؤمنين.

قوله عز وجل: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى ) أي: اختلق ( عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) فزعم أن الله تعالى بعثه نبيا, ( أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ) قال قتادة: نـزلت في مسيلمة الكذاب الحنفي, وكان يسجع ويتكهن, فادعى النبوة وزعم أن الله أوحى إليه, وكان قد أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولين, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: أتشهدان أن مسيلمة نبي؟ قالا نعم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما » .

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بينا أنا نائم إذ أُتِيْتُ خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب, فكبُرا علي وأهمّاني فأوحي إلي أن انفخهما, فنفختهما فذهبا, فأولتهما الكذابَيْن اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء وصاحب اليمامة » أراد بصاحب صنعاء الأسود العنسي وبصاحب اليمامة مسيلمة الكذاب. .

قوله تعالى: ( وَمَنْ قَالَ سَأُنْـزِلُ مِثْلَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ ) قيل: نـزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وكان قد أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان إذ أملى عليه: سميعا بصيرا, كتب عليما حكيما, وإذا قال: عليما حكيما, كتب: غفورا رحيما, فلما نـزلت: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ( المؤمنون: 12 ) أملاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان, فقال: تبارك الله أحسن الخالقين, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبها فهكذا نـزلت, فشكّ عبد الله, وقال: لئن كان محمد صادقا فقد أوحي إليّ كما أوحي إليه, فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين, ثم رجع عبد الله إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نـزل النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران .

وقال ابن عباس: قوله ( وَمَنْ قَالَ سَأُنْـزِلُ مِثْلَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ ) يريد المستهزئين, وهو جواب لقولهم: لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا

قوله عز وجل: ( وَلَوْ تَرَى ) يا محمد, ( إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ) سكراته وهي جمع غمرة, وغمرة كل شيء: معظمه, وأصلها: الشيء الذي [ يعمّ ] الأشياء فيغطيها, ثم وُضعت في موضع الشدائد والمكاره, ( وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِم ) بالعذاب والضرب, يضربون وجوههم وأدبارهم, وقيل بقبض الأرواح, ( أَخْرِجُوا ) أي: يقولون أخرجوا, ( أَنْفُسَكُمُ ) أي: أرواحكم كرها, لأن نفس المؤمن تنشط للقاء ربها, والجواب محذوف, يعني: لو تراهم في هذه الحال لرأيت عجبا, ( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ) أي: الهوان, ( بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) تتعظمون عن الإيمان بالقرآن ولا تصدقونه.

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 94 )

( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ) هذا خبر من الله أنه يقول للكفار يوم القيامة: ولقد جئتمونا فرادى وحدانا, لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم, وفرادى جمع فردان, مثل سكران وسكارى, وكسلان وكسالى, وقرأ الأعرج فَرْدَى بغير ألف مثل سكرى, ( كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) عراة حفاة غرلا ( وَتَرَكْتُمْ ) خلّفتم ( مَا خَوَّلْنَاكُمْ ) أعطيناكم من الأموال والأولاد والخدم, ( وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ) خلف ظهوركم في الدنيا, ( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ) وذلك أن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده, ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) قرأ أهل المدينة والكسائي وحفص عن عاصم بنصب النون, أي: لقد تقطع ما بينكم من الوصل, أو تقطع الأمر بينكم. وقرأ الآخرون « بينُكم » برفع النون, أي: لقد تقطع [ وصلكم ] وذلك مثل قوله: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ( البقرة: 166 ) , أي: الوصلات, والبين من الأضداد يكون وصلا ويكون هجرا, ( وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ )

 

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 95 ) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 96 ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 97 ) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ( 98 )

قوله عز وجل: ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ) الفلق الشق, قال الحسن وقتادة والسدي: معناه يشق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة فيخرجها منها, والحب جمع الحبة, وهي اسم لجميع البذور والحبوب من البر والشعير والذرة, وكل ما لم يكن له نوى, [ وقال الزجاج: يشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج منها أوراقا خضرا.

وقال مجاهد: يعني الشقين اللذين فيهما, أي: يشق الحب عن النبات ويخرجه منه ويشق النوى عن النخل ويخرجها منه .

والنوى جمع النواة, وهي كل ما لم يكن حبا, كالتمر والمشمش والخوخ ونحوها.

وقال الضحاك: فالق الحب والنوى يعني: خالق الحب والنوى, ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) تصرفون عن الحق.

( فَالِقُ الإِصْبَاحِ ) شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وكاشفه [ وهو أول ما يبدو من النهار يريد مبدئ الصبح وموضحه ] .

وقال الضحاك: خالق النهار, والإصباح مصدر كالإقبال والإدبار, وهو الإضاءة وأراد به الصبح. ( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ) يسكن فيه خلقه, وقرأ أهل الكوفة: « وجعل » على الماضي, اللَّيْلَ نصب اتباعا للمصحف, وقرأ إبراهيم النخعي ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ ) ( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ) أي: جعل الشمس والقمر بحساب معلوم لا يجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما, والحسبان مصدر كالحساب, ( ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ )

قوله عز وجل: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ ) أي: خلقها لكم, ( لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )

والله تعالى خلق النجوم لفوائد:

أحدها هذا: وهو أن [ راكب البحر ] والسائر في القفار يهتدي بها في الليالي إلى مقاصده.

والثاني: أنها زينة للسماء كما قال: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ( الملك: 5 ) .

ومنها: رمي الشياطين, كما قال: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ , ( الملك: 5 ) .

( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )

( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ) خلقكم وابتدأكم, ( مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) يعني: آدم عليه السلام, ( فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة « فمستقر » بكسر القاف, يعني: فمنكم مستقر ومنكم مستودع, وقرأ الآخرون بفتح القاف, أي: فلكم مستقر ومستودع.

واختلفوا في المستقر والمستودع, قال عبد الله بن مسعود: فمستقر في الرحم إلى أن يولد, ومستودع في القبر إلى أن يبعث.

وقال سعيد بن جبير وعطاء: فمستقر في أرحام الأمهات ومستودع في أصلاب الآباء, وهو رواية عكرمة عن ابن عباس قال سعيد بن جبير: قال لي ابن عباس هل تزوجت قلت: لا قال: إنه ما كان من مستودع في ظهرك فيستخرجه الله عز وجل.

ورُوي عن أُبيّ أنه قال: مستقر في أصلاب الآباء, ومستودع في أرحام الأمهات.

وقيل: مستقر في الرحم ومستودع فوق الأرض, قال الله تعالى: وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ ( الحج: 5 ) .

وقال مجاهد: مستقر على ظهر الأرض في الدنيا ومستودع عند الله في الآخرة, ويدل عليه قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( البقرة: 36 ) .

وقال الحسن: المستقر في القبور والمستودع في الدنيا, وكان يقول: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك.

وقيل: المستودع القبر والمستقر الجنة والنار, لقوله عز وجل في صفة الجنة والنار: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا ( الفرقان:76 ) و سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا ( الفرقان: 66 ) , ( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ )

وَهُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 99 )

( وَهُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ) أي: بالماء, ( نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ ) أي من الماء, وقيل: من النبات, ( خَضِرًا ) يعني: أخضر, مثل العَوَر والأعور, يعني: ما كان رطبا أخضر مما ينبت من القمح والشعير ونحوهما, ( نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا ) أي متراكما بعضه على بعض مثل سنابل البر والشعير والأرز وسائر الحبوب, ( وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا ) والطلع أول ما يخرج من ثمر النخل, ( قِنْوَانٌ ) جمع قنو وهو العِذق, مثل صنو وصنوان, ولا نظير لهما في الكلام, ( دَانِيَةٌ ) أي: قريبة المتناول ينالها القائم والقاعد, وقال مجاهد: متدلية, وقال الضحاك: قصار ملتزقة بالأرض, وفيه اختصار معناه: ومن النخل ما قنوانها دانية ومنها ما هي بعيدة, فاكتفى بذكر القريبة عن البعيدة لسبقه إلى الأفهام, كقوله تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النمل, 81 ) يعني: الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما ( وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ ) أي: وأخرجنا منه جنات, وقرأ الأعمش عن عاصم ( وَجَنَّاتُ ) بالرفع نسقا على قوله ( قنوان ) وعامة القراء على خلافه, ( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ) يعني: وشجر الزيتون [ وشجر ] الرمان, ( مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ) قال قتادة: معناه مشتبها ورقها مختلفا ثمرها, لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان, وقيل: مشتبه في المنظر مختلف في الطعم, ( انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ ) قرأ حمزة والكسائى بضم الثاء والميم, هذا وما بعده وفي ( يس ) على جمع الثمار, وقرأ الآخرون [ بفتحهما ] على جمع الثمرة, مثل: بقرة وبقر, ( إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ) ونضجه وإدراكه, ( إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ( 100 ) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 101 )

قوله عز وجل: ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ) يعني: الكافرين جعلوا لله الجن شركاء, ( وَخَلَقَهُمْ ) يعني: وهو خلق الجن.

قال الكلبي: نـزلت في الزنادقة, أثبتوا الشركة لإبليس في الخلق, فقالوا: [ الله خالق ] النور والناس والدواب والأنعام, وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب, وهذا كقوله: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا , ( الصافات: 158 ) وإبليس من الجنة, ( وَخَرَقُوا ) قرأ أهل المدينة ( وَخَرَقُوا ) , بتشديد الراء على التكثير, وقرأ الآخرون بالتخفيف, أي: اختلقوا ( لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) وذلك مثل قول اليهود عزير ابن الله, وقول النصارى المسيح ابن الله, وقول كفار العرب الملائكة بنات الله, ثم نـزه نفسه فقال: ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ )

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: مبدعهما لا على مثال سبق, ( أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ) أي: كيف يكون له ولد؟ ( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ) زوجة, ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )

 

ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( 102 )

( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) فأطيعوه, ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) بالحفظ له وبالتدبير فيه, لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ الآية, يتمسك أهل الاعتزال بظاهر هذه الآية في نفي رؤية الله عز وجل عيانا.

ومذهب أهل السنة: إثبات رؤية الله عز وجل عيانا جاء به القرآن والسنة, قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ , ( القيامة, 23 ) , وقال: كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ( المطففين, 15 ) , قال مالك رضي الله عنه: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعيّر الله الكفار بالحجاب, وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ( يونس, 26 ) , وفسره بالنظر إلى وجه الله عز وجل .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يوسف بن موسى ثنا عاصم بن يوسف اليربوعي أنا أبو شهاب عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنكم سترون ربكم عيانا » .

لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( 103 ) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ( 104 ) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 105 )

وأما قوله: ( لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ ) علم أن الإدراك غير الرؤية لأن الإدراك هو: الوقوف على كُنهِ الشيء والإحاطة به, والرؤية: المعاينة, وقد تكون الرؤية بلا إدراك, قال الله تعالى في قصة موسى فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا ( سورة الشعراء, 61 ) , وقال لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ( سورة طه, 77 ) , فنفى الإدراك مع إثبات الرؤية, فالله عز وجل يجوز أن يُرى من غير إدراك وإحاطة كما يعرف في الدنيا ولا يحاط به, قال الله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا , ( سورة طه, 110 ) , فنفى الإحاطة مع ثبوت العلم, قال سعيد بن المسيب: لا تحيط به الأبصار, وقال عطاء: كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به, وقال ابن عباس ومقاتل: لا تدركه الأبصار في الدنيا, وهو يُرى في الآخرة, قوله تعالى: ( وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ) لا يخفى عليه شيء ولا يفوته, ( وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: اللطيف بأوليائه [ الخبير بهم, وقال الأزهري: معنى ( اللَّطِيفُ ) ] الرفيق بعباده, وقيل: اللطيف الموصل الشيء باللين والرفق, وقيل: اللطيف الذي يُنسي العباد ذنوبهم لئلا يخجلوا, وأصل اللطف دقة النظر في الأشياء.

قوله عز وجل: ( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ) يعني الحجج البينة التي تبصرون بها الهدى من الضلالة والحق من الباطل, ( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ) أي: فمن عرفها وآمن بها فلنفسه عمل, ونفعه له, ( وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ) أي: من عمي عنها فلم يعرفها ولم يصدقها فعليها, أي: فبنفسه ضر, ووبال العمى عليه, ( وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) برقيب أحصي عليكم أعمالكم, إنما أنا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شيء من أفعالكم.

( وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ) نفصلها ونبيّنها في كل وجه, ( وَلِيَقُولُوا ) قيل: معناه لئلا يقولوا, ( دَرَسْتَ ) وقيل: هذه اللام لام العاقبة أي عاقبة أمرهم أن يقولوا: درست, أي: قرأت على غيرك, وقيل: قرأت كتب أهل الكتاب, كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا , ( القصص, 8 ) , ومعلوم أنهم لم يلتقطوه لذلك, ولكن أراد أن عاقبة أمرهم أن كان عدوا لهم.

قال ابن عباس: وليقولوا يعني: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن درست, أي: تعلمت من يسار وجبر, كانا عبدين من سبي الروم, ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله, من قولهم: درست الكتاب أدرس درسا ودراسة.

وقال الفرَّاء: يقولون تعلمت من اليهود, وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: « دارست » بالألف, [ أي: قارأت أهل الكتاب من المدارسة بين اثنين, تقول: ] قرأت عليهم وقرأوا عليك. وقرأ ابن عامر ويعقوب: « دَرَسَتْ » بفتح السين وسكون التاء, أي: هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة, قد درست وانمحت, من قولهم: درس الأثر يدرس دروسا. ( وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) قال ابن عباس: يريد أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد, وقيل: يعني أن تصريف الآيات ليشقى به قوم ويسعد به قوم آخرون, فمن قال درست فهو شقي ومن تبين له الحق فهو سعيد.

اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ( 106 ) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ( 107 ) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 108 )

( اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) يعني: القرآن اعمل به, ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) فلا تجادلهم.

( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ) أي: لو شاء لجعلهم مؤمنين, ( وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ) رقيبا قال عطاء: وما جعلناك عليهم حفيظا تمنعهم مني, أي: لم تبعث لتحفظ المشركين عن العذاب إنما بعثت مبلغا. ( وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ )

قوله عز وجل: ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) الآية قال ابن عباس: لما نـزلت إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء, 98 ) قال المشركون: يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك, فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم.

وقال قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار, فنهاهم الله عز وجل عن ذلك, لئلا يسبوا الله فإنهم قوم جهلة.

وقال السدي: لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته, فتقول العرب: كان يمنعه عمه فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأُبيّ ابنا خلف وعقبة [ بن أبي معيط وعمرو بن العاص, والأسود بن ] البختري إلى أبي طالب, فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآلهتنا, فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا, ولندعنه وإلهه, فدعاه فقال: هؤلاء قومك يقولون نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك, فقد أنصفك قومك فاقبل منهم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم؟ » قال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها, فما هي؟ قال: « قولوا لا إله إلا الله » فأبوا ونفروا, فقال أبو طالب: قل غيرها يا ابن أخي, فقال: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي, فقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك, فأنـزل الله عز وجل: ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) يعني الأوثان, ( فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا ) أي: اعتداء وظلما, ( بِغَيْرِ عِلْمٍ )

وقرأ يعقوب « عدوا » بضم العين والدال وتشديد الواو, فلما نـزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: « لا تسبوا ربكم » , فأمسك المسلمون عن سب آلهتهم.

فظاهر الآية, وإن كان نهيا عن سب الأصنام, فحقيقته النهي عن سب الله, لأنه سبب لذلك.

( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) [ أي: كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأوثان وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان, كذلك زينا لكل أمة عملهم ] من الخير والشر والطاعة والمعصية, ( ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ ) ويجازيهم, ( بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ( 109 )

قوله عز وجل: ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ) الآية. قال محمد بن كعب القرظي والكلبي: قالت قريش يا محمد إنك تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينا, وتخبرنا أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى فأتنا من الآيات حتى نصدقك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي شيء تحبون؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا أو ابعث لنا بعض أمواتنا حتى نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل, أو أرنا الملائكة يشهدون لك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين, وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينـزلها عليهم حتى يؤمنوا, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يجعل الصفا ذهبا فجاءه جبريل عليه السلام, فقال له: اختر ما شئت إن شئت أصبح ذهبا ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم, وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل يتوب تائبهم, فأنـزل الله عز وجل: ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ) أي: حلفوا بالله جهد أيمانهم, أي: بجهد أيمانهم, يعني أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأشدها.

قال الكلبي ومقاتل: إذا حلف الرجل بالله, فهو جهد يمينه.

( لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ) كما جاءت من قبلهم من الأمم, ( لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ ) يا محمد, ( إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ) والله قادر على إنـزالها, ( وَمَا يُشْعِرُكُمْ ) وما يدريكم.

واختلفوا في المخاطبين بقوله ( وَمَا يُشْعِرُكُمْ ) فقال بعضهم: الخطاب للمشركين الذين أقسموا.

وقال بعضهم: الخطاب للمؤمنين.

وقوله تعالى: ( أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر عن عاصم « إنها » بكسر الألف على الابتداء, وقالوا: تم الكلام عند قوله ( وَمَا يُشْعِرُكُمْ ) فمن جعل الخطاب للمشركين قال: معناه: وما يشعركم أيها [ المشركون ] أنها لو جاءت آمنتم؟ ومن جعل الخطاب للمؤمنين قال معناه: وما يشعركم أيها المؤمنون أنها لو جاءت آمنوا؟ لأن المسلمين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله حتى يريهم ما اقترحوا حتى يؤمنوا فخاطبهم بقوله: ( وَمَا يُشْعِرُكُمْ ) ثم ابتدأ فقال جل ذكره: ( أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) وهذا في قوم مخصوصين [ حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون ] , وقرأ الآخرون: « أنها » بفتح الألف وجعلوا الخطاب للمؤمنين, واختلفوا في قوله: ( لا يُؤْمِنُونَ ) فقال الكسائي: ( لا ) صلة, ومعنى الآية: وما يشعركم أيها المؤمنون أن الآيات إذا جاءت المشركين يؤمنون؟ كقوله تعالى وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( الأنبياء, 95 ) , أي: يرجعون وقيل: إنها بمعنى لعل, وكذلك هو في قراءة أُبيّ, تقول العرب: اذهب إلى السوق أنك تشتري شيئا, أي: لعلك, وقال عدي بن زيد:

أعــاذل مـا يــدريك أن منيـتـي إلـى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد

أي: لعل منيتي, وقيل: فيه حذف وتقديره: وما يشعركم أنها إذا جاءت [ يؤمنون أو لا يؤمنون؟ وقرأ ابن عامر وحمزة « لا تؤمنون » بالتاء على الخطاب للكفار واعتبروا بقراءة أُبيّ: إذا جاءتكم ] لا تؤمنون, وقرأ الآخرون بالياء على الخبر, دليلها قراءة الأعمش: أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون.

وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 110 )

( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) قال ابن عباس: يعني ونحول بينهم وبين الإيمان, فلو جئناهم بالآيات التي سألوا ما آمنوا بها كما لم يؤمنوا به أول مرة, أي: كما لم يؤمنوا بما قبلها من الآيات من انشقاق القمر وغيره, وقيل: كما لم يؤمنوا به أول مرة, يعني معجزات موسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام, كقوله تعالى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ , ( القصص, 48 ) , وفي الآية محذوف تقديره فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: المرة الأولى دار الدنيا, يعني لو رُدّوا من الآخرة إلى الدنيا نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان كما لم يؤمنوا في الدنيا قبل مماتهم, كما قال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ( الأنعام, 28 ) ( وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) قال عطاء: نخذلهم وندعهم في ضلالتهم يتمادون.