الجزء الثامن

 

وَلَوْ أَنَّنَا نَـزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ( 111 )

( وَلَوْ أَنَّنَا نَـزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ) فرأوهم عيانا, ( وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى ) بإحيائنا إياهم فشهدوا لك بالنبوة كما سألوا, ( وَحَشَرْنَا ) وجمعنا, ( عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا ) قرأ أهل المدينة وابن عامر « قبلا » بكسر القاف وفتح الباء, أي معاينة, وقرأ الآخرون بضم القاف والباء, هو جمع قبيل, وهو الكفيل, مثل رغيف ورُغف, وقضيب وقُضُب أي: ضُمناء وكُفلاء, وقيل: هو جمع قبيل وهو القبيلة, أي: فوجا فوجا, وقيل: هو بمعنى المقابلة والمواجهة, من قولهم: أتيتك قبلا لا دبرا إذا أتاه من قبل وجهه, ( مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) ذلك, ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ )

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( 112 ) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ( 113 )

( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ) أي: أعداء فيه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم, يعني كما ابتليناك بهؤلاء القوم, فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك أعداء, ثم فسّرهم فقال: ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) قال عكرمة والضحاك والسدي والكلبي: معناه شياطين الإنس التي مع الإنس, وشياطين الجن التي مع الجن, وليس للإنس شياطين, وذلك أن إبليس جعل جنده فريقين فبعث فريقا منهم إلى الإنس وفريقا منهم إلى الجن, وكلا الفريقين أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم ولأوليائه, وهم الذين يلتقون في كل حين, فيقول [ شيطان ] الإنس [ لشيطان ] الجن: أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله, وتقول شياطين الجن لشياطين الإنس كذلك, فذلك وحي بعضهم إلى بعض.

قال قتادة ومجاهد والحسن: إن من الإنس شياطين كما أن من الجن شياطين, والشيطان: العاتي المتمرد من كل شيء, قالوا: إن الشيطان إذا أعياه المؤمن وعجز من إغوائه ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه, يدل عليه ما روي عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس » ؟ فقلت: يا رسول الله وهل للإنس من شياطين؟ قال: « نعم, هم شر من شياطين الجن » .

وقال مالك بن دينار: إن شياطين الإنس أشد عليّ من شياطين الجن, وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن, وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا.

قوله تعالى: ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ) أي: يلقي, ( زُخْرُفَ الْقَوْلِ ) وهو قول مموّه مزين بالباطل لا معنى تحته, ( غُرُورًا ) يعني: لهؤلاء الشياطين يزينون الأعمال القبيحة لبني آدم, يغرونهم غرورا, والغرور: القول الباطل, ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) أي: ما ألقاه الشيطان من الوسوسة [ في القلوب ] ( فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ )

( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) أي: تميل إليه, والصغو: الميل, يقال: صغو فلان معك, أي: ميله, والفعل منه: صغى يصغي, صغا, وصغى يصغى, ويصغو صغوا, والهاء في « إليه » راجعة إلى زخرف القول: ( وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ) ليكتسبوا, ( مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ) يقال: اقترف فلان مالا إذا اكتسبه, وقال تعالى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ( الشورى, 23 ) , وقال الزجاج: أي ليعملوا من الذنوب ما هم عاملون.

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَـزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 114 ) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 115 ) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ( 116 ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 117 )

قوله عز وجل: ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ ) فيه إضمار أي: قل لهم يا محمد أفغير الله, ( أَبْتَغِي ) أطلب ( حَكَمًا ) قاضيا بيني وبينكم, وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حكما فأجابهم به, ( وَهُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا ) مبينا فيه أمره ونهيه, يعني: القرآن, وقيل: مفصلا أي خمسا خمسا وعشرا وعشرا, كما قال: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ( الفرقان, 32 ) , ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) يعني: علماء اليهود والنصارى الذين آتيناهم التوراة والإنجيل, وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب, وقال عطاء: هم رءوس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, والمراد بالكتاب هو القرآن, ( يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَـزَّلٌ ) يعني: القرآن, قرأ ابن عامر [ وحفص ] « منـزل » بالتشديد من التنـزيل لأنه أنـزل نجوما متفرقة, وقرأ الآخرون بالتخفيف من الإنـزال, لقوله تعالى: « وهو الذي أنـزل إليكم الكتاب » , ( مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) من الشاكين أنهم يعلمون ذلك.

قوله عز وجل: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ) قرأ أهل الكوفة ويعقوب « كلمة » على التوحيد, وقرأ الآخرون ( كلمات ) بالجمع, وأراد بالكلمات أمره ونهيه ووعده ووعيده, ( صِدْقًا وَعَدْلا ) أي: صدقا في الوعد والوعيد, وعدلا في الأمر والنهي, قال قتادة ومقاتل: صادقا فيما وعد وعدلا فيما حكم, ( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) قال ابن عباس: لا رادّ لقضائه ولا مغيّر لحكمه ولا خلف لوعده, ( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) قيل: أراد بالكلمات القرآن لا مبدّل له, لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون.

( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) عن دين الله, وذلك أن أكثر أهل الأرض كانوا على الضلالة, وقيل: أراد أنهم جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أكل الميتة, وقالوا: أتأكلون ما تقتلون ولا تأكلون ما قتله الله عز وجل؟ فقال: ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ ) أي: وإن تطعهم في أكل الميتة ( يضلوك عن سبيل الله ) , ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ ) يريد أن دينهم الذي هم عليه ظن [ وهوى ] لم يأخذوه عن بصيرة, ( وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ) يكذبون.

( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ ) قيل: موضع « من » نصب بنـزع حرف الصفة, أي: بمن يضل, وقال الزجاج: موضعه رفع بالابتداء, ولفظها لفظ الاستفهام, والمعنى: إن ربك هو أعلم أيُّ الناس من يضل عن سبيله, ( وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) أخبر أنه أعلم بالفريقين الضالين والمعتدين فيجازي كلا بما يستحقه.

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ( 118 )

قوله عز وجل: ( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) أي: كلوا مما ذبح على اسم الله, ( إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ) وذلك أنهم كانوا يُحرّمون أصنافا من النعم ويحلون الأموات, فقيل لهم: أحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله.

 

وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( 119 )

ثم قال: ( وَمَا لَكُمْ ) يعني: أي شيء لكم, ( أَلا تَأْكُلُوا ) وما يمنعكم من أن تأكلوا ( مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) من الذبائح, ( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ) قرأ أهل المدينة ويعقوب وحفص « فصل » و « حرم » بالفتح فيهما أي فصل الله ما حرمه عليكم, لقوله ( اسْمَ اللَّهِ ) وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بضم الفاء والحاء وكسر الصاد والراء على غير تسمية الفاعل, لقوله ( ذُكِرَ ) وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر « فصل » بالفتح و « حرم » بالضم, وأراد بتفصيل المحرمات ما ذكر في قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ( المائدة, 3 ) , ( إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) من هذه الأشياء فإنه حلال لكم عند الاضطرار, ( وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ ) قرأ أهل الكوفة بضم الياء وكذلك قوله لِيُضِلُّوا في سورة يونس, لقوله تعالى: يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ , وقيل: أراد به عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين الذين اتخذوا البحائر والسوائب, وقرأ الآخرون بالفتح لقوله: مَنْ يَضِلُّ ( بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) حين امتنعوا من أكل ما ذكر اسم الله عليه ودعوا إلى أكل الميتة ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ) الذين يجاوزون الحلال إلى الحرام.

وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ( 120 ) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( 121 )

( وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ ) يعني: الذنوب كلها لأنها لا تخلو من هذين الوجهين, قال قتادة: علانيته وسره, وقال مجاهد: ظاهر الإثم ما يعمله بالجوارح من الذنوب, وباطنه ما ينويه ويقصده بقلبه كالمصر على الذنب القاصد له.

وقال الكلبي: ظاهره الزنا وباطنه المخالة, وأكثر المفسرين على أن ظاهر الإثم الإعلان بالزنا, وهم أصحاب الرايات , وباطنه الاستسرار به, وذلك أن العرب كانوا يحبون الزنا فكان الشريف منهم يتشرف, فيسر به, وغير الشريف لا يبالي به فيظهره, فحرمهما الله عز وجل, وقال سعيد بن جبير: ظاهر الإثم نكاح المحارم وباطنه الزنا.

وقال ابن زيد: ظاهر الإثم التجرد من الثياب والتعري في [ الطواف ] والباطن الزنا, وروى حبان عن الكلبي: ظاهر الإثم طواف الرجال بالبيت نهارا عراة, وباطنه طواف النساء بالليل عراة, ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ ) في الآخرة, ( بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ) [ يكتسبون في الدنيا ] .

قوله عز وجل: ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها.

وقال عطاء: الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام.

واختلف أهل العلم في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله عليها: فذهب قوم إلى تحريمها سواء ترك التسمية عامدا أو ناسيا, وهو قول ابن سيرين والشعبي, واحتجوا بظاهر هذه الآية.

وذهب قوم إلى تحليلها, يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول مالك والشافعي وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين.

وذهب قوم إلى أنه إن ترك التسمية عامدا لا يحل, وإن تركها ناسيا يحل, حكى الخرقي من أصحاب أحمد: أن هذا مذهبه, وهو قول الثوري وأصحاب الرأي.

من أباحها قال: المراد من الآية الميتات أو ما ذبح على غير اسم الله بدليل أنه قال: ( وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ) والفسق في ذكر اسم غير الله كما قال في آخر السورة قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ إلى قوله أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ

واحتج من أباحها بما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يوسف بن موسى ثنا أبو خالد الأحمر قال سمعت هشام بن عروة يحدّث عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها, قالت: قالوا: يا رسول الله إن هنا أقواما حديث عهدهم بشرك يأتونا بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: اذكروا أنتم اسم الله وكلوا « . »

ولو كانت التسمية شرطا للإباحة لكان الشك في وجودها مانعا من أكلها كالشك في أصل [ الذبح ] .

قوله تعالى: ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) أراد أن الشياطين ليوسوسون إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوكم, وذلك أن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال: الله قتلها, قالوا: أفتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال, وما قتله الكلب والصقر حلال, وما قتله الله حرام؟ فأنـزل الله هذه الآية, ( وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ ) في أكل الميتة, ( إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) قال الزجاج: وفيه دليل على أن من أحل شيئا مما حرم الله أو حرم ما أحل الله فهو مشرك.

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 122 )

قوله عز وجل: ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ) قرأ نافع « ميِّتا » و لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ( الحجرات, 12 ) و الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ( سورة يس, 33 ) بالتشديد فيهن, والآخرون بالتخفيف ( فَأَحْيَيْنَاهُ ) أي: كان ضالا فهديناه, كان ميتا بالكفر فأحييناه بالإيمان, ( وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا ) يستضيء به, ( يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) على قصد السبيل, قيل: النور هو الإسلام, لقوله تعالى يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( البقرة, 257 ) , وقال قتادة: هو كتاب الله بينة من الله مع المؤمن, بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي, ( كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ) المثل صلة, أي: كمن هو في الظلمات, ( لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ) يعني: من ظلمة الكفر.

قيل: نـزلت هذه الآية في رجلين بأعيانهما, ثم اختلفوا فيهما, قال ابن عباس: جعلنا له نورا, يريد حمزة بن عبد المطلب, كمن مثله في الظلمات يريد أبا جهل بن هشام, وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث, فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس, وحمزة لم يؤمن بعد, فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه, ويقول: يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به؟ سفّه عقولنا وسبّ آلهتنا وخالف آباءنا, فقال حمزة: ومن أسفه منكم؟ تعبدون الحجارة من دون الله, أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, فأنـزل الله هذه الآية .

وقال الضحاك: نـزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل .

وقال عكرمة والكلبي: نـزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل .

( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) من الكفر والمعصية, قال ابن عباس: يريد زين لهم الشيطان عبادة الأصنام.

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 123 ) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ( 124 )

قوله عز وجل: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ) أي: كما أن فساق مكة أكابرها, كذلك جعلنا فساق كل [ قرية ] أكابرها, أي: عظماءها, جمع أكبر, مثل أفضل وأفاضل, وأسود وأساود, وذلك سنة الله تعالى أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم, كما قال في قصة نوح عليه السلام: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ ( الشعراء, 111 ) , وجعل فساقهم أكابرهم, ( لِيَمْكُرُوا فِيهَا ) وذلك أنهم أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم, يقولون لكل من يقدم: إياك وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب. ( وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ ) لأن وبال مكرهم يعود عليهم ( وَمَا يَشْعُرُونَ ) أنه كذلك.

قوله تعالى: ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ) يعني: مثل ما أوتي رسل الله من النبوة, وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك, لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

وقال مقاتل: نـزلت في أبي جهل, وذلك أنه قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إنا صرنا كفرسي رهان, قالوا: منا نبي يوحى إليه, والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه, فأنـزل الله عز وجل: ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ ) حجة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: يعني أبا جهل, ( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم.

ثم قال الله تعالى: ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) قرأ ابن كثير وحفص رسالته على التوحيد, وقرأ الآخرون رسالاته بالجمع, يعني: الله أعلم بمن هو أحق بالرسالة. ( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ ) ذل وهوان ( عِنْدَ اللَّهِ ) أي: من عند الله, ( وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ) قيل: صغار في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة.

 

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ( 125 )

قوله عز وجل: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) أي: يفتح قلبه وينوره حتى يقبل الإسلام, ولما نـزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر, فقال: « نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح » , قيل: فهل لذلك [ أمارة؟ ] قال: « نعم, الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نـزول الموت » .

قوله تعالى: ( وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا ) قرأ ابن كثير « ضيقا » بالتخفيف هاهنا وفي الفرقان, والباقون بالتشديد, وهما لغتان مثل: هَيْن وهيِّن ولين ولين, ( حَرَجًا ) قرأ أهل المدينة وأبو بكر بكسر الراء والباقون بفتحها, وهما لغتان أيضا مثل: الدنف والدنف, وقال سيبويه الحرج بالفتح: المصدر [ كالطلب, ومعناه ذا حرج ] وبالكسر الاسم, وهو أشد الضيق, يعني: يجعل قلبه ضيقا حتى لا يدخله الإيمان, وقال الكلبي: ليس للخير فيه منفذ. وقال ابن عباس: إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه, وإذا ذكر شيئا من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك.

وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية, فسأل أعرابيا من كنانة: ما الحرجة فيكم؟ قال: الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء, فقال عمر رضي الله عنه: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير. ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) قرأ ابن كثير: « يصعد » , بالتخفيف, وقرأ أبو بكر عن عاصم « يصاعد » بالألف, أي يتصاعد, وقرأ الآخرون ( يصّعّد ) بتشديد الصاد والعين, أي: يتصعد, يعني: يشق عليه الإيمان كما يشق عليه صعود السماء, وأصل الصعود المشقة, ومنه قوله تعالى سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا أي: عقبة شاقة, ( كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) قال ابن عباس: الرجس هو الشيطان, أي: يسلط عليه, وقال الكلبي: هو المأثم, وقال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه. وقال عطاء: الرجس العذاب مثل الرجس. وقيل: هو النجس. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: « [ اللهم إني ] أعوذ بك من الرجس والنجس » . وقال الزجاج: الرجس اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة.

وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( 126 ) لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 127 ) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 128 )

قوله عز وجل: ( وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ) [ أي: هذا الذي بيّنا, وقيل هذا الذي أنت عليه يا محمد طريق ربك ودينه الذي ارتضاه لنفسه مستقيما ] لا عوج فيه وهو الإسلام. ( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ )

( لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) يعني: الجنة: قال أكثر المفسرين: السلام هو الله وداره الجنة, وقيل: السلام هو السلامة, [ أي: لهم دار السلامة ] من الآفات, وهي الجنة. وسميت دار السلام لأن كل من دخلها سَلِمَ من البلايا والرزايا.

وقيل: سميت بذلك لأن جميع حالاتها مقرونة بالسلام, يقال في الابتداء: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ ( الحجر, 46 ) , وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ ( الرعد, 23 ) , وقال: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا ( الواقعة, 26 ) , وقال: تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ( إبراهيم, 23 ) سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ( يس, 58 ) . ( وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال [ الحسين ] بن الفضل: يتولاهم في الدنيا بالتوفيق وفي الآخرة بالجزاء.

قوله عز وجل: ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ) قرأ حفص: ( يَحْشُرُهُمْ ) بالياء, ( جَمِيعًا ) يعني: الجن والإنس يجمعهم في موقف القيامة فيقول: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ ) والمراد بالجن: الشياطين, ( قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ ) أي: استكثرتم من الإنس بالإضلال والإغواء أي: أضللتم كثيرا, ( وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ ) يعني: أولياء الشياطين الذي أطاعوهم من الإنس, ( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ )

قال الكلبي: استمتاع الإنس بالجن هو أن الرجل كان إذا سافر ونـزل بأرض قَفْرٍ وخاف على نفسه من الجن قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه, فيبيت في جوارهم.

وأما استمتاع الجن بالإنس: هو أنهم قالوا قد سدنا الإنس مع الجن, حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم, وهذا كقوله تعالى وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ( الجن, 6 ) .

وقيل: استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يُلْقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم لهم الأمور التي يهوونها, وتسهيل سبيلها عليهم, واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي.

قال محمد بن كعب: هو طاعة بعضهم بعضا وموافقة بعضهم [ لبعض ] .

( وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ) يعني: القيامة والبعث, ( قَالَ ) اللَّهُ تَعَالَى ( النَّارُ مَثْوَاكُمْ ) مقامكم, ( خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ )

اختلفوا في هذا الاستثناء كما اختلفوا في قوله: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ( هود, 107 ) .

قيل: أراد إلا قدر مدة ما بين بعثهم إلى دخولهم جهنم, يعني: هم خالدون في النار إلا هذا المقدار.

وقيل: الاستثناء يرجع إلى العذاب, وهو قوله ( النَّارُ مَثْوَاكُمْ ) أي: خالدين في النار سوى ما شاء الله من أنواع العذاب.

وقال ابن عباس: الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله أنهم يسلمون فيخرجون من النار, و « ما » بمعنى « من » على هذا التأويل, ( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) قيل: عليم بالذي استثناه وبما في قلوبهم من البر والتقوى.

وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 129 ) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( 130 )

( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [ قيل: أي ] كما خذلنا عصاة الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض نولي بعض الظالمين بعضا, أي: نسلط بعضهم على بعض, فنأخذ من الظالم بالظالم, كما جاء: « من أعان ظالما سلطه الله عليه » .

وقال قتادة: نجعل بعضهم أولياء بعض, فالمؤمن ولي المؤمن [ أين كان ] والكافر ولي الكافر حيث كان. وروي عن معمر عن قتادة: نتبع بعضهم بعضا في النار, من الموالاة, وقيل: معناه نولي ظلمة الإنس ظلمة الجن, ونولي ظلمة الجن ظلمة الإنس, أي: نكل بعضهم إلى بعض, كقوله تعالى: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ( النساء, 115 ) , وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها هو: أن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولّى أمرهم خيارهم, وإذا أراد بقوم شرا ولى أمرهم شرارهم.

قوله عز وجل: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ) اختلفوا في أن الجن هل أرسل إليهم منهم [ رسول ] ؟ فسئل الضحاك عنه, فقال: بلى ألم تسمع الله يقول ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ) يعني: بذلك رسلا من الإنس ورسلا من الجن. قال الكلبي: كانت الرسل من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الجن وإلى الإنس جميعا.

قال مجاهد: الرسل من الإنس, والنذر من الجن, ثم قرأ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ( الأحقاف, 29 ) , وهم قوم يسمعون كلام الرسل فيبلغون الجن ما سمعوا, وليس للجن رسل, فعلى هذا قوله « رسل منكم » ينصرف إلى أحد الصنفين وهم الإنس, كما قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( الرحمن, 22 ) وإنما يخرج من الملح دون العذب, قال: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ( نوح, 16 ) , وإنما هو في سماء واحدة.

( يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ) أي: يقرءون عليكم, ( آيَاتِي ) كتبي ( وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ) وهو يوم القيامة, ( قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا ) أنهم قد بلغوا, قال مقاتل: وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر. قال الله عز وجل: ( وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) حتى لم يؤمنوا, ( وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ )

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( 131 )

( ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ ) أي: ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وعذاب من كذبهم, لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم, [ أي: لم يكن مهلكهم بظلم ] أي: بشرك من أشرك, ( وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ) لم ينذروا حتى يبعث إليهم رسلا ينذرونهم.

وقال الكلبي: لم يهلكهم بذنوبهم من قبل أن يأتيهم الرسل.

وقيل: معناه لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل فيكون قد ظلمهم, وذلك أن الله تعالى أجرى السنة أن لا يأخذ أحدا إلا بعد وجود الذنب, وإنما يكون مذنبا إذا أمر فلم يأتمر ونهي فلم ينته, يكون ذلك بعد إنذار الرسل.

 

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( 132 ) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ( 133 ) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 134 )

( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) يعني في الثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا, فمنهم من هو أشد عذابا ومنهم من هو أجزل ثوابا, ( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) قرأ ابن عامر تعملون بالتاء والباقون بالياء.

( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ) عن خلقه, ( ذُو الرَّحْمَةِ ) قال ابن عباس: [ ذو الرحمة ] بأوليائه وأهل طاعته, وقال الكلبي: بخلقه ذو التجاوز, ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ) يهلككم, وعيد لأهل مكة, ( وَيَسْتَخْلِفْ ) [ يخلق ] وينشئ, ( مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ ) خلقا غيركم أمثل وأطوع, ( كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) أي: آبائهم الماضين قرنا بعد قرن.

( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ ) أي: ما توعدون من مجيء الساعة والحشر, ( لآتٍ ) كائن, ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي: بفائتين, يعني: يدرككم الموت حيث ما كنتم.

قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( 135 ) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( 136 ) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( 137 )

( قُلْ ) يا محمد ( يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) قرأ أبو بكر عن عاصم ( مَكَانَتِكُمْ ) بالجمع حيث كان أي: على تمكنكم, قال عطاء: على حالاتكم التي أنتم عليها. قال الزجاج: اعملوا على ما أنتم عليه. يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة: على مكانتك يا فلان, أي: اثبت على ما أنت عليه, وهذا أمر وعيد على المبالغة يقول: قل لهم اعملوا على ما أنتم عاملون, ( إِنِّي عَامِلٌ ) ما أمرني به ربي عز وجل, ( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ) أي: الجنة, قرأ حمزة والكسائي: يكون بالياء هنا وفي القصص, وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث العاقبة, ( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) قال ابن عباس: معناه لا يسعد من كفر بي وأشرك. قال الضحاك: لا يفوز.

قوله عز وجل: ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا ) الآية, كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيبا, وللأوثان نصيبا فما جعلوه لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين, وما جعلوه للأصنام أنفقوه على الأصنام وخدمها, فإن سقط شيء مما جعلوه لله تعالى في نصيب الأوثان تركوه وقالوا: إن الله غني عن هذا, وإن سقط شيء من [ نصيب ] الأصنام فيما جعلوه لله ردوه إلى الأوثان, وقالوا: إنها محتاجة, وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به, وإذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوا للأصنام جبروه بما جعلوه لله, فذلك قوله تعالى ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ ) خلق ( مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا ) وفيه اختصار مجازه: وجعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا.

( فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ) قرأ الكسائي ( بِزُعْمهم ) بضم الزاي, والباقون بفتحها, وهما لغتان, وهو القول من غير حقيقة, ( وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا ) يعني: الأوثان, ( فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ) ومعناه: ما قلنا أنهم [ كانوا يتمون ما جعلوه للأوثان مما جعلوه لله, ولا ] يتمون ما جعلوه لله مما جعلوه للأوثان. وقال قتادة كانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جزَّءوا لله وأكلوا منه ووفروا ما جزَّءوا لشركائهم ولم يأكلوا منه [ شيئا ] ( سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي: بئس ما [ يصنعون ] .

( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) أي: كما زين لهم تحريم الحرث والأنعام كذلك زين لكثير من المشركين, ( قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ) قال مجاهد شركاؤهم, أي: شياطينهم زينوا وحسنوا لهم وأد البنات خيفة العيلة, سميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله وأضيف الشركاء إليهم لأنهم اتخذوها.

وقال الكلبي: شركاؤهم: سدنة آلهتهم الذين كانوا يزينون للكفار قتل الأولاد, فكان الرجل منهم يحلف لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله.

وقرأ ابن عامر: « زين » بضم الزاي وكسر الياء, « قتل » رفع « أولادهم » نصب, « شركائهم » بالخفض على التقديم, كأنه قال: زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم, فصل بين الفعل وفاعله بالمفعول به, وهم الأولاد, كما قال الشاعر:

فَزَجَّجْتُــــــه مُتَمَكِّنًــــــا زَجَّ القَلُـــوصِ أبـــي مَــزَادَهْ

أي: زج أبي مزادة القلوص, فأضيف الفعل وهو القتل إلى الشركاء, وإن لم يتولوا ذلك لأنهم هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه, فكأنهم فعلوه. قوله عز وجل ( لِيُرْدُوهُمْ ) ليهلكوهم, ( وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ ) ليخلطوا عليهم, ( دِينَهُمْ ) قال ابن عباس: ليدخلوا عليهم الشك في دينهم, وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه بلبس الشيطان, ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ) أي: لو شاء الله لعصمهم حتى ما فعلوا ذلك من تحريم الحرث والأنعام وقتل الأولاد, ( فَذَرْهُمْ ) يا محمد, ( وَمَا يَفْتَرُونَ ) يختلقون من الكذب, فإن الله تعالى لهم بالمرصاد.

 

وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 138 ) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 139 )

( وَقَالُوا ) يعني: المشركين, ( هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ) أي حرام, يعني: ما جعلوا لله ولآلهتهم من الحرث والأنعام على ما مضى ذكره. وقال مجاهد: يعني بالأنعام: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام, ( لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ ) يعنون الرجال دون النساء, ( وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا ) يعني: الحوامي كانوا لا يركبونها, ( وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ) أي: يذبحونها باسم الأصنام لا باسم الله, وقال أبو وائل: معناه لا يحجون عليها ولا يركبونها لفعل الخير, لأنه لما جرت العادة بذكر اسم الله على فعل الخير عبّر بذكر الله تعالى عن فعل الخير. ( افْتِرَاءً عَلَيْهِ ) يعني: أنهم يفعلون ذلك ويزعمون أن الله أمرهم به افتراء عليه ( سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ )

( وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ) أي: نسائنا. قال ابن عباس وقتادة والشعبي: أراد أجنة البحائر والسوائب, فما ولد منها حيا فهو خالص للرجال دون النساء, وما ولد ميتا أكله الرجال والنساء جميعا, وأدخل الهاء في ال « خالصة » للتأكيد كالخاصة والعامة, كقولهم: نسابة وعلامة, وقال الفراء: أدخلت الهاء لتأنيث الأنعام لأن ما في بطونها مثلها فأنثت بتأنيثها. وقال الكسائي: خالص وخالصة واحد, مثل وعظ وموعظة.

( وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً ) قرأ ابن عامر [ وأبو جعفر ] « تكن » بالتاء ( مَيْتَةً ) رفع, ذكر الفعل بعلامة التأنيث, لأن الميتة في اللفظ مؤنثة. وقرأ أبو بكر عن عاصم « تكن » بالتاء ( مَيْتَةً ) نصب, أي: وإن تكن الأجنة ميتة, وقرأ ابن كثير: ( وَإِنْ يَكُنْ ) بالياء ( مَيْتَةً ) رفع, لأن المراد بالميتة الميت, أي: وإن يقع ما في البطون ميتا, وقرأ الآخرون ( وَإِنْ يَكُنْ ) بالياء ( مَيْتَةً ) نصب, رده إلى ( مَا ) أي: وإن يكن ما في البطون ميتة, [ يدل عليه أنه قال ] ( فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ) ولم يقل فيها, وأراد أن الرجال والنساء فيه شركاء, ( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ) أي: بوصفهم, أو على وصفهم الكذب على الله تعالى ( إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 140 ) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( 141 )

( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ ) قرأ ابن عامر وابن كثير « قتلوا » بتشديد التاء على التكثير, وقرأ الآخرون بالتخفيف. ( سَفَهًا ) جهلا. ( بِغَيْرِ عِلْمٍ ) نـزلت في ربيعة ومضر وبعض العرب من غيرهم, كانوا يدفنون البنات أحياء مخافة السبي والفقر, وكان بنو كنانة لا يفعلون ذلك .

( وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ) يعني: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام, ( افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ) حيث قالوا: إن الله أمرهم بها, ( قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ )

قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ ) ابتدع. ( جَنَّاتٍ ) بساتين, ( مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) أي: +مسموكات مرفوعات وغير مرفوعات, وقال ابن عباس: معروشات: ما انبسط على وجه الأرض وانتشر مما يعرش, مثل: الكرم والقرع والبطيخ وغيرها, وغير معروشات. ما قام على ساق وبسق, مثل النخل والزرع وسائر الأشجار.

وقال الضحاك: كلاهما, الكرم خاصة, منها ما عرش ومنها ما لم يعرش.

( وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ ) أي: وأنشأ النخل والزرع, ( مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ ) ثمره وطعمه منها الحلو والحامض والجيد والرديء, ( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا ) في المنظر, ( وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ) في المطعم مثل الرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف, ( كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ) هذا أمر إباحة.

( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) قرأ أهل البصرة وابن عامر وعاصم ( حَصَادِهِ ) بفتح الحاء, وقرأ الآخرون بكسرها ومعناهما واحد, كالصِّرام والصَّرام والجَزاز والجِزاز.

واختلفوا في هذا الحق: فقال ابن عباس وطاووس والحسن وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب: إنها الزكاة المفروضة من العشر ونصف العشر.

وقال علي بن الحسين وعطاء ومجاهد وحماد والحكم: هو حق في المال سوى الزكاة, أمر بإتيانه, لأن الآية مكية وفرضت الزكاة بالمدينة.

قال إبراهيم: هو الضغث. وقال الربيع: لقاط السنبل.

وقال مجاهد: كانوا [ يعلقون ] العذق عند الصرام فيأكل منه مَنْ مرَّ.

وقال يزيد بن الأصم: كان أهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعذق فيعلقونه في جانب المسجد, فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه فيأخذه.

وقال سعيد بن جبير: كان هذا حقا يؤمر بإتيانه في ابتداء الإسلام فصار منسوخا بإيجاب العشر.

وقال مِقْسَم عن ابن عباس: نسخت الزكاة كل نفقة في القرآن.

( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) قيل: أراد بالإسراف إعطاء الكل. قال ابن عباس في رواية الكلبي: إن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا, فأنـزل الله عز وجل هذه الآية.

قال السدي: لا تسرفوا أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. قال الزجاج: على هذا إذا أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف, لأنه قد جاء في الخبر « ابدأ بمن تعول » . وقال سعيد بن المسيب: معناه لا تمنعوا الصدقة. فتأويل الآية على هذا: لا تتجاوز الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة.

وقال مقاتل: لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام.

وقال الزهري: لا تنفقوا في المعصية, وقال مجاهد: الإسراف ما قصرت به عن حق الله عز وجل, وقال: لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا. وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وإسراف. وروى ابن وهب عن أبي زيد. قال: الخطاب للسلاطين, يقول: لا تأخذوا فوق حقكم.

وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 142 )

قوله عز وجل: ( وَمِنَ الأنْعَامِ ) أي: وأنشأ من الأنعام, ( حَمُولَةً ) وهي كل ما يحمل عليها من الإبل, ( وَفَرْشًا ) وهي الصغار من الإبل التي لا تحمل. ( كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) لا تسلكوا طريقه وآثاره في تحريم الحرث والأنعام, ( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ )

 

ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 143 )

ثم بيّن الحمولة والفرش فقال: ( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) نصبها على البدل من الحمولة والفرش, أي: وأنشأ من الأنعام ثمانية أزواج أصناف, ( مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ) أي: الذكر والأنثى, [ فالذكر زوج والأنثى ] زوج, والعرب تسمي الواحد زوجا إذا كان لا ينفك عن الآخر, والضأن النعاج, وهي ذوات الصوف من الغنم, والواحد ضائن والأنثى ضائنة, والجمع ضوائن, ( وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ) قرأ ابن كثير وابن عامر وأهل البصرة « من المعز » بفتح العين, والباقون بسكونها, والمعز والمعزى جمع لا واحد له من لفظه, وهي ذوات الشعر من الغنم, وجمع الماعز مَعِيْر, وجميع الماعزة مواعز, ( قُلْ ) يا محمد ( آلذَّكَرَيْنِ حَرَّم ) الله عليكم, يعني ذكر الضأن والمعز, ( أَمِ الأنْثَيَيْنِ ) يعني أنثى الضأن والمعز, ( أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ ) منهما, فإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى, ( نَبِّئُونِي ) أخبروني ( بِعِلْمٍ ) قال الزجاج: فسِّروا ما حرمتم بعلم, ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أن الله تعالى حرم ذلك.

وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 144 ) قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْـزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 145 )

( وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ ) وذلك أنهم كانوا يقولون: هذه أنعام وحرث حجر, وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا, وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام, وكانوا يحرمون بعضها على الرجال والنساء, وبعضها على النساء دون الرجال, فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم, وكان خطيبهم مالك بن عوف أبو الأحوض الجشمي, فقال: يا محمد [ بلغنا ] أنك تحرم أشياء مما كان آباؤنا يفعلونه, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنكم قد حرمتم أصنافا من الغنم على غير أصل, وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها, فمن أين جاء هذا التحريم؟ من قِبَل الذكر أم من قبل الأنثى » ؟ فسكت مالك بن عوف وتحير فلم يتكلم. فلو قال جاء التحريم بسبب الذكور وجب أن يحرم جميع الذكور, وإن قال بسبب الأنوثة وجب أن يحرم جميع الإناث, وإن كان باشتمال الرحم عليه فينبغي أن يحرم الكل, لأن الرحم لا يشتمل إلا على ذكر أو أنثى, فأما تخصيص التحريم بالولد الخامس أو السابع أو البعض دون البعض فمن أين؟.

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك: « يا مالك: ما لك لا تتكلم؟ قال له مالك: بل تكلم وأسمع منك » .

( أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ ) حضورا ( إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) قيل: أراد به: عمرو بن لحي ومن جاء بعده على طريقته, ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )

ثم بين أن التحريم والتحليل يكون بالوحي والتنـزيل, فقال: ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ) وروي أنهم قالوا: فما المحرم إذًا فنـزل: ( قُلْ ) يا محمد ( لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ) أي: شيئا محرما, ( عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) آكل يأكله, ( إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ) قرأ ابن عامر وأبو جعفر « تكون » بالتاء, ( ميتة ) رفع أي: إلا أن تقع ميتة, وقرأ ابن كثير وحمزة « تكون » بالتاء, ( مَيْتَةً ) نصب على تقدير اسم مؤنث, أي: إلا أن تكون النفس, أو: الجثة ميتة, وقرأ الباقون « يكون » بالياء « ميتة » نصب, يعني إلا أن يكون [ المطعوم ] ميتة, ( أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ) أي: مهراقا سائلا قال ابن عباس: يريد ما خرج من الحيوان, وهن أحياء وما خرج من الأرواح وما يخرج من الأدواج عند الذبح, ولا يدخل فيه الكبد والطحال, لأنهما جامدان, وقد جاء الشرع بإباحتهما, ولا ما اختلط باللحم من الدم, لأنه غير سائل.

قال عمران بن حُدَيْر: سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم, وعن القِدْر يُرى فيها حمرة الدم؟ فقال: لا بأس به, إنما نهى عن الدم المسفوح.

وقال إبراهيم: لا بأس بالدم في عرق أو مخ, إلا المسفوح الذي تعمد ذلك, وقال عكرمة: لولا هذه الآية لاتبع المسلمون من العروق ما يتبع اليهود.

( أَوْ لَحْمَ خِنْـزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) حرام, ( أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) وهو ما ذبح على غير اسم الله تعالى. فذهب بعض أهل العلم إلى أن التحريم مقصور على هذه الأشياء. يُروى ذلك عن عائشة وابن عباس قالوا: ويدخل في الميتة: المنخنقة والموقوذة, وما ذكر في أول سورة المائدة .

وأكثر العلماء على أن التحريم لا يختص بهذه الأشياء, والمحرم بنص الكتاب ما ذكر هنا .

ذلك معنى قوله تعالى: « قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما » , وقد حرمت السنة أشياء يجب القول بها.

منها: ما أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ثنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج, قال ثنا عبيد الله بن معاذ العنبري أخبرنا أبي أنا شعبة عن الحكم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع, وكل ذي مخلب من الطير » .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ثنا زاهر بن أحمد ثنا أبو إسحاق الهاشمي ثنا أبو مصعب عن مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان الحضرمي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أكل كل ذي ناب من السباع حرام » .

والأصل عند الشافعي: أن ما لم يرد فيه نص تحريم أو تحليل, فإن كان مما أمر الشرع بقتله - كما قال: « خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم » أو نهى عن قتله, كما روي أنه نهى عن قتل النحلة والنملة - فهو حرام, وما سوى ذلك فالمرجع فيه إلى الأغلب من عادات العرب, فما يأكله الأغلب منهم فهو حلال, وما لا يأكله الأغلب منهم فهو حرام, لأن الله تعالى خاطبهم بقوله: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ , فثبت أن ما استطابوه فهو حلال.

( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أباح أكل هذه المحرمات عند الاضطرار في غير العدوان.

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( 146 )

قوله عز وجل: ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا ) يعني اليهود, ( حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ) وهو ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير مثل: البعير والنعامة والأوز والبط, قال القتيبي: هو كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من [ الدواب ] وحكاه عن بعض المفسرين, وقال: سمي الحافر ظفرا على الاستعارة.

( وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا ) يعني شحوم الجوف, وهي الثروب, وشحم الكليتين, ( إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ) أي: إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما, ( أَوِ الْحَوَايَا ) وهي المباعر, واحدتها: حاوية وحوية, أي: ما حملته الحوايا من الشحم. ( أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ) يعني: شحم الإلية, هذا كله داخل في الاستثناء, والتحريم مختص بالثَّرْبِ وشحم الكلية. أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا قتيبة أنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة « إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنـزير والأصنام » فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام. ثم قال رسول الله عند ذلك: « قاتل الله اليهود إن الله عز وجل لما حرم شحومهما جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه » .

( ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ ) أي: ذلك التحريم عقوبة لهم ( بِبَغْيِهِمْ ) أي: بظلمهم من قتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا واستحلال أموال الناس بالباطل, ( وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) في الإخبار عما حرمنا عليهم وعن بغيهم.

 

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ( 147 ) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ( 148 )

( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) بتأخير العذاب عنكم, ( وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ ) [ عذابه ] ( عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) إذا جاء وقته.

( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ) لما لزمتهم الحجة وتيقنوا بطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله [ قالوا ] ( لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا ) من قبل, ( وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ) من البحائر والسوائب وغيرهما, أرادوا أن يجعلوا قوله: ( لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ) حجة لهم على إقامتهم على الشرك, وقالوا إن الله تعالى قادر على أن يحول بيننا وبين ما نحن عليه حتى لا نفعله, فلولا أنه رضي بما نحن عليه وأراده منا وأمرنا به لحال بيننا وبين ذلك, فقال الله تعالى تكذيبا لهم: ( كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) من كفار الأمم الخالية, ( حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا ) عذابنا.

ويستدل أهل القدر بهذه الآية, يقولون: إنهم لما قالوا: لو شاء الله ما أشركنا كذبهم الله ورد عليهم, فقال: « كذلك كذب الذين من قبلهم » .

قلنا: التكذيب ليس في قولهم « لو شاء الله ما أشركنا » بل ذلك القول صدق ولكن في قولهم: إن الله تعالى أمرنا بها ورضي بما نحن عليه, كما أخبر عنهم في سورة الأعراف ( الآية 28 ) : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا , فالرد عليهم في هذا كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ .

والدليل على أن التكذيب ورد فيما قلنا لا في قولهم: « لو شاء الله ما أشركنا » , قوله: ( كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) بالتشديد ولو كان ذلك خبرا من الله عز وجل عن كذبهم في قولهم: ( لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ) لقال كذب الذين [ من قبلهم ] بالتخفيف فكان ينسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب. وقال الحسن بن الفضل: لو ذكروا هذه المقالة تعظيما وإجلالا لله عز وجل, ومعرفة منهم به لما عابهم بذلك, لأن الله تعالى قال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وقال: مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ( الأنعام, 111 ) , والمؤمنون يقولون ذلك, ولكنهم قالوه تكذيبا وتخرصا وجدلا من غير معرفة بالله وبما يقولون, نظيره قوله عز وجل: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ( الزخرف, 20 ) , قال الله تعالى: مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ( الزخرف, 20 ) .

وقيل في معنى الآية: إنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة إلا أنهم كانوا يعدونه عذرا لأنفسهم ويجعلونه حجة لأنفسهم في ترك الإيمان, ورد عليهم في هذا لأن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته, فإنه مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد, وعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته, فإن مشيئته لا تكون عذرا لأحد.

( قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ ) أي: كتاب وحجة من الله, ( فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ) حتى يظهر ما تدَّعون على الله تعالى من الشرك أو تحريم ما حرمتم, ( إِنْ تَتَّبِعُونَ ) ما تتبعون فيما أنتم عليه, ( إِلا الظَّنَّ ) من غير علم ويقين, ( وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ) تكذبون.

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( 149 ) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( 150 ) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 151 )

( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) التامة على خلقه بالكتاب [ والرسول ] والبيان, ( فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) فهذا يدل على أنه لم يشأ إيمان الكافر, ولو شاء لهداه.

( قُلْ هَلُمَّ ) يقال للواحد والاثنين والجمع, ( شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ ) أي: ائتوا بشهدائكم الذين يشهدون, ( أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا ) هذا راجع إلى ما تقدم من تحريمهم الأشياء على أنفسهم ودعواهم أن الله أمرهم به, ( فَإِنْ شَهِدُوا ) كاذبين, ( فَلا تَشْهَدْ ) أنت, ( مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) أي: يشركون.

قوله عز وجل: ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) وذلك أنهم سألوا وقالوا: أي شيء الذي حرم الله تعالى؟ فقال عز وجل: « قل تعالوا أتل » أقرأ ما حرم ربكم عليكم حقا يقينا لا ظنا ولا كذبا كما تزعمون.

فإن قيل: ما معنى قوله « حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا » والمحرم هو الشرك لا ترك الشرك؟ .

قيل: موضع « أن » رفع, معناه هو أن لا تشركوا, وقيل: محله نصب, واختلفوا في وجه انتصابه, قيل: معناه حرم عليكم أن تشركوا به, و « لا » صلة كقوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ ( الأعراف, 12 ) , أي: منعك أن تسجد. وقيل: تم الكلام عند قوله « حرم ربكم » ثم قال: عليكم أن لا تشركوا به شيئا على الإغراء. قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا محمولا على المعنى, أي: أتل عليكم تحريم الشرك, وجائز أن يكون على معنى: أوصيكم ألا تشركوا به شيئا. ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ) فقر, ( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) أي: لا تئدوا بناتكم خشية العيلة, فإني رازقكم وإياهم, ( وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) [ ما ظهر يعني: العلانية, وما بطن ] يعني: السر.

وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأسا في السر فحرم الله تعالى الزنا في العلانية والسر.

وقال الضحاك: ما ظهر: الخمر, وما بطن: الزنا.

( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ) حرم الله تعالى قتل المؤمن والمعاهد إلا بالحق, إلا بما يبيح قتله من ردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ثنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ثنا حاجب بن أحمد الطوسي ثنا محمد بن حماد ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة » .

( ذَلِكُمْ ) الذي ذكرت ( وَصَّاكُمْ بِهِ ) أمركم به, ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )

 

وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 152 )

( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) يعني: بما فيه صلاحه وتثميره. وقال مجاهد: هو التجارة فيه. وقال الضحاك: هو أن يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئا, ( حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) قال الشعبي ومالك: الأشد: الحلم, حتى يكتب له الحسنات [ وتكتب عليه ] السيئات. قال أبو العالية: حتى يعقل وتجتمع قوته. وقال الكلبي: الأشد ما بين الثمانية عشر سنة إلى ثلاثين سنة. وقيل: إلى أربعين سنة. وقيل: إلى ستين سنة. وقال الضحاك: عشرون سنة. وقال السدي: ثلاثون سنة. وقال مجاهد: الأشد ثلاث وثلاثون سنة.

والأشد جمع شد, مثل قد وأقد, وهو استحكام قوة شبابه وسنه, ومنه شد النهار وهو ارتفاعه. وقيل بلوغ الأشد أن يؤنس رشده بعد البلوغ.

وتقدير الآية: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده, فادفعوا إليه ماله إن كان رشيدا.

( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) بالعدل, ( لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) أي: طاقتها في إيفاء الكيل والميزان, أي: لم يكلف المعطي أكثر مما وجب عليه, ولم يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه, حتى لا تضيق نفسه عنه, بل أمر كل واحد منهما بما يسعه مما لا حرج عليه فيه.

( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ) فاصدقوا في الحكم والشهادة, ( وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) أي: ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قرابة, ( وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) تتعظون, قرأ حمزة والكسائي وحفص تذكرون [ خفيفة ] الذال, كل القرآن, والآخرون بتشديدها.

قال ابن عباس: هذه الآيات محكمات في جميع الكتب, لم ينسخهن شيء وهن محرمات على بني آدم كلهم, وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة, ومن تركهن دخل النار.

وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 153 ) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( 154 )

( وَأَنَّ هَذَا ) أي: هذا الذي وصيتكم به في هاتين الآيتين ( صِرَاطِي ) طريقي وديني, ( مُسْتَقِيمًا ) مستويا قويما, ( فَاتَّبِعُوهُ ) قرأ حمزة والكسائي « وإن » بكسر الألف على الاستئناف, وقرأ الآخرون: بفتح الألف, قال الفراء: والمعنى وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيما. وقرأ ابن عامر ويعقوب: بسكون النون. ( وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ) أي: الطرق المختلفة التي عدا هذا الطريق, مثل اليهودية والنصرانية وسائر الملل, وقيل: الأهواء والبدع, ( فَتَفَرَّقَ ) فتميل, ( بِكُمْ ) وتشتت, ( عَنْ سَبِيلِهِ ) عن طريقه ودينه الذي ارتضى, وبه أوصى, ( ذَلِكُمْ ) الذي ذكرت, ( وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي المعروف بأبي بكر بن أبي الهيثم أنا الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي ثنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد ثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: « هذا سبيل الله, ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله, وقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه » ثم قرأ « » وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه « الآية. »

قوله عز وجل: ( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) فإن قيل: لِمَ قال: « ثم آتينا » وحرف « ثم » للتعقيب وإيتاء موسى الكتاب كان قبل مجيء القرآن؟ قيل: معناه ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب, فدخل « ثم » لتأخير الخبر لا لتأخير النـزول.

( تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) اختلفوا فيه, قيل: تماما على المحسنين من قومه, فتكون « الذي » بمعنى من, أي: على من أحسن من قومه, وكان بينهم محسن ومسيء, يدل عليه قراءة ابن مسعود: « على الذين أحسنوا » وقال أبو عبيدة: معناه على كل من أحسن, أي: أتممنا فضيلة موسى بالكتاب على المحسنين, يعني: أظهرنا فضله عليهم, والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون, وقيل: « الذي أحسن » هو موسى, و « الذي » بمعنى ما, أي: على ما أحسن موسى, تقديره: آتيناه الكتاب, يعني التوراة, إتماما عليه للنعمة, لإحسانه في الطاعة والعبادة, وتبليغ الرسالة وأداء الأمر.

وقيل: الإحسان بمعنى العلم, وأحسن بمعنى علم, ومعناه: تماما على الذي أحسن موسى من العلم والحكمة, أي آتيناه الكتاب زيادة على ذلك.

وقيل: معناه تماما مني على إحساني إلى موسى.

( وَتَفْصِيلا ) بيانا ( لِكُلِّ شَيْءٍ ) يحتاج إليه من شرائع الدين, ( وَهُدًى وَرَحْمَةً ) هذا في صفة التوراة, ( لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) قال ابن عباس: كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب.

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 155 ) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْـزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ( 156 ) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ( 157 )

( وَهَذَا ) يعني: القرآن, ( كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ ) واعملوا بما فيه, ( وَاتَّقُوا ) وأطيعوا, ( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )

( أَنْ تَقُولُوا ) يعني: لئلا تقولوا, كقوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ( النساء, 176 ) , أي: لئلا تضلا وقيل: معناه أنـزلناه كراهة ( أَنْ تَقُولُوا ) قال الكسائي: معناه اتقوا أن تقولوا يا أهل مكة, ( إِنَّمَا أُنْـزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا ) يعني: اليهود والنصارى, ( وَإِنْ كُنَّا ) وقد كنا, ( عَنْ دِرَاسَتِهِمْ ) قراءتهم, ( لَغَافِلِينَ ) لا نعلم ما هي, معناه أنـزلنا عليكم القرآن لئلا تقولوا إن الكتاب أنـزل على من قبلنا بلسانهم ولغتهم فلم نعرف ما فيه وغفلنا عن دراسته, فتجعلونه عذرا لأنفسكم.

( أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ ) وقد كان جماعة من الكفار قالوا ذلك لو أنا أنـزل علينا ما أنـزل على اليهود والنصارى لكنا خيرا منهم, قال الله تعالى: ( فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) حجة واضحة بلغة تعرفونها, ( وَهُدًى ) بيان ( وَرَحْمَةٌ ) ونعمة لمن اتبعه, ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ ) أعرض, ( عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ ) شدة العذاب ( بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ) [ يعرضون ] .

 

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ( 158 )

قوله تعالى: ( هَلْ يَنْظُرُونَ ) أي: هل ينتظرون بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن, ( إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ) لقبض أرواحهم, وقيل: بالعذاب, قرأ حمزة والكسائي « يأتيهم » بالياء هاهنا وفي النحل, والباقون بالتاء, ( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ) بلا كيف, لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة, ( أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ) يعني طلوع الشمس من مغربها, عليه أكثر المفسرين ورواه أبو سعيد الخدري مرفوعا . ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ) أي: لا ينفعهم الإيمان عند ظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان, ( أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) يريد: لا يقبل إيمان كافر ولا توبة فاسق ( قُلِ انْتَظِرُوا ) يا أهل مكة, ( إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) بكم العذاب.

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ثنا أحمد بن يوسف السلمي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن همام بن منبه ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعين, وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا » .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا محمد بن حماد ثنا أبو معاوية الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبيدة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يدا الله بسطان لمسيء الليل ليتوب بالنهار, ولمسيء النهار ليتوب بالليل, حتى تطلع الشمس من مغربها » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ثنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني أنا حميد بن زنجويه أنا النضر بن شميل أنا هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو منصور السمعاني أنا أبو جعفر الرياني أنا حميد بن زنجويه أنا أحمد بن عبد الله أنا حماد بن زيد أنا عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال: أتيت صفوان بن عسال المرادي فذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أن الله عز وجل جعل بالمغرب بابا مسيرة عرضه سبعون عاما للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله » , وذلك قول الله تعالى: « يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل » .

وروى أبو حازم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: الدجال, والدابة, وطلوع الشمس من مغربها » . .

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( 159 )

قوله عز وجل: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ) قرأ حمزة والكسائي: « فارقوا » , بالألف هاهنا وفي سورة الروم, أي: خرجوا من دينهم وتركوه وقرأ الآخرون: « فرقوا » مشددا, أي: جعلوا دين الله وهو واحد - دين إبراهيم عليه السلام الحنيفية - أديانا مختلفة, فتهود قوم وتنصر قوم, يدل عليه قوله عز وجل: ( وَكَانُوا شِيَعًا ) أي: صاروا فرقا مختلفة وهم اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة والسدي.

وقيل: هم أصحاب البدع والشبهات من هذه الأمة. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: « يا عائشة إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع والشبهات من هذه الأمة » .

حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن زياد الحنفي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن محمد الأنصاري أنا أبو عبد الله محمد بن عقيل بن الأزهري بن عقيل الفقيه البلخي أنا الرمادي أحمد بن منصور أنا الضحاك بن مخلد أنا ثور بن يزيد نا خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية قال: « صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون, ووجلت منها القلوب, وقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا: فقال: » أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا, فإن من يعيش منكم فسيرى اختلافا كثيرا, فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين, عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور, فإن كل بدعة ضلالة « .»

وروي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن بني إسرائيل تفرقت على اثنين وسبعين فرقة, وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين ملة, كلهم في النار إلا واحدة » , قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: « ما أنا عليه وأصحابي » .

قال عبد الله بن مسعود: « فإن أحسن الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلمُ وشر الأمور محدثاتها » . ورواه جابر مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قوله عز وجل: ( لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) قبل: لست من قتالهم في شيء, نسختها آية القتال وهذا على قول من يقول: المراد في الآية اليهود والنصارى, ومن قال: أراد بالآية أهل الأهواء قال: المراد من قوله: « لست منهم في شيء » أي أنت منهم بريء وهم منك برآء, تقول العرب: إن فعلت كذا فلست مني ولست منك أي: كل واحد منا بريء من صاحبه, ( إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ) يعني: في الجزاء والمكافآت, ( ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) إذا وردوا للقيامة.

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 160 ) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 161 ) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 162 ) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( 163 )

قوله عز وجل: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) أي: له عشر حسنات أمثالها, وقرأ يعقوب « عشر » منون, « أمثالها » بالرفع, ( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ثنا أبو بكر محمد بن الحسن القطان ثنا محمد بن يوسف القطان ثنا محمد بن يوسف السلمي ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف, وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله عز وجل » .

وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ثنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ثنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع ثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله تبارك وتعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد, ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة بمثلها أو أغفر, ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا, ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة » .

قال ابن عمر: الآية في غير الصدقات من الحسنات, فأما الصدقات تضاعف سبعمائة ضعف.

قوله عز وجل: ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا ) قرأ أهل الكوفة والشام « قيما » بكسر القاف وفتح الياء خفيفة, وقرأ الآخرون بفتح القاف وكسر الياء مشددا ومعناهما واحد وهو القويم المستقيم, وانتصابه على معنى هداني دينا قيما, ( مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )

( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ) قيل: أراد بالنسك الذبيحة في الحج والعمرة, وقال مقاتل: نسكي: حجي, وقيل: ديني, ( وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي ) أي: حياتي ووفاتي, ( لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي: هو يحييني ويميتني, وقيل: محياي بالعمل الصالح ومماتي إذا مت على الإيمان لله رب العالمين, وقيل: طاعتي في حياتي لله وجزائي بعد مماتي من الله رب العالمين. قرأ أهل المدينة: « ومحياي » بسكون الياء و « مماتي » بفتحها, وقراءة العامة « محياي » بفتح الياء لئلا يجتمع ساكنان.

قوله تعالى: ( لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) قال قتادة: وأنا أول المسلمين من هذه الأمة.

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 164 ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 165 )

( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: سيدا وإلها ( وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) وذلك أن الكفار كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى ديننا. قال ابن عباس: كان الوليد بن المغيرة يقول: اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم, فقال الله تعالى: ( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا ) لا تجني كل نفس إلا ما كان من إثمه على الجاني, ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) أي لا تحمل نفس حمل أخرى, أي: لا يؤاخذ أحد بذنب غيره, ( ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )

( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ ) يعني: أهلك أهل القرون الماضية وأورثكم الأرض يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم من بعدهم, فجعلكم خلائف منهم فيها تخلفونهم فيها وتعمرونها بعدهم, والخلائف جمع خليفة كالوصائف جمع وصيفة, وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة لأنه يخلفه. ( وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ) أي: خالف بين أحوالكم فجعل بعضكم فوق بعض في الخلق والرزق والمعاش والقوة والفضل, ( لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) ليختبركم فيما رزقكم, يعني: يبتلي الغني والفقير والشريف والوضيع والحر والعبد, ليظهر منكم ما يكون عليه من الثواب والعقاب, ( إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ) لأن ما هو آت فهو سريع قريب, قيل: هو الهلاك في الدنيا, ( وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال عطاء: سريع العقاب لأعدائه غفور لأوليائه رحيم بهم.

 

سورة الأعراف

 

المص ( 1 ) كِتَابٌ أُنْـزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 2 ) اتَّبِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( 3 ) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( 4 )

 

سورة الأعراف

مكية كلها إلا خمس آيات, أولها وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ

( المص )

( كِتَابٌ ) أي: هذا كتاب, ( أُنْـزِلَ إِلَيْكَ ) وهو القرآن, ( فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) قال مجاهد: شك, فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة. وقال أبو العالية: حرج أي ضيق, معناه لا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به, ( لِتُنْذِرَ بِهِ ) أي: كتاب أنـزل إليك لتنذر به, ( وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) أي: عظة لهم, وهو رفع, مردود على الكتاب.

( اتَّبِعُوا ) أي: وقل لهم اتبعوا: ( مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ) أي: لا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله تعالى, ( قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ) تتعظون, وقرأ ابن عامر: « يتذكرون » بالياء والتاء.

( وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ) بالعذاب, ( وَكَم ) للتكثير و « رب » للتقليل, ( فَجَاءَهَا بَأْسُنَا ) عذابنا, ( بَيَاتًا ) ليلا ( أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ) من القيلولة, تقديره: فجاءها بأسنا ليلا وهم نائمون, أو نهارا وهم قائلون, أي نائمون ظهيرة, والقيلولة الاستراحة نصف النهار, وإن لم يكن معها نوم. ومعنى الآية: أنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له إما ليلا أو نهارا. قال الزجاج: و « أو » لتصريف العذاب, مرة ليلا ومرة نهارا, وقيل: معناه من أهل القرى من أهلكناهم ليلا ومنهم من أهلكناهم نهارا.

فإن قيل: ما معنى أهلكناها فجاءها بأسنا؟ فكيف يكون مجيء البأس بعد الهلاك؟ قيل: معنى قوله: « أهلكنا » أي: حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا. وقيل: فجاءها بأسنا هو بيان قوله « أهلكناها » مثل قول القائل: أعطيتني فأحسنت إلي, لا فرق بينه وبين قوله: أحسنت إلي فأعطيتني, فيكون أحدهما بدلا من الآخر.

فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 5 ) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( 6 ) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ( 7 ) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 8 )

( فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ ) أي: قولهم ودعاؤهم وتضرعهم, والدعوى تكون بمعنى الادعاء وبمعنى الدعاء, قال سيبويه: تقول العرب اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين أي في دعائهم, ( إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا ) عذابنا, ( إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) معناه لم يقدروا على رد العذاب, وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية حين لا ينفع الاعتراف.

( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ) يعني: الأمم عن إجابتهم الرسل, وهذا سؤال توبيخ لا سؤال استعلام, يعني: لنسألهم عما عملوا فيما بلغتهم الرسل, ( وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) عن الإبلاغ.

( فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ ) أي: لنخبرنهم عن علم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ينطق عليهم كتاب أعمالهم, كقوله تعالى: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ( الجاثية, 29 ) , ( وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ) عن الرسل فيما بلغوا, وعن الأمم فيما أجابوا.

قوله عز وجل: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) يعني: يوم السؤال, قال مجاهد: معناه والقضاء يومئذ العدل. وقال الأكثرون: أراد به وزن الأعمال بالميزان, وذاك أن الله تعالى ينصب ميزانا له لسان وكفتان كل كفة بقدر ما بين المشرق والمغرب.

واختلفوا في كيفية الوزن, فقال بعضهم: تُوزن صحائف الأعمال: وروينا: « أن رجلا ينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر, فيخرج له بطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, فتوضع السجلات في كفة, والبطاقة في كفة, فطاشت السجلات وثقلت البطاقة » .

وقيل: توزن الأشخاص, وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة » .

وقيل: توزن الأعمال, روي ذلك عن ابن عباس, فيؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان, والحكمة في وزن الأعمال امتحان الله عباده بالإيمان في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى, ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) قال مجاهد: حسناته, ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ( 9 ) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ( 10 ) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ( 11 )

( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) يجحدون, قال أبو بكر رضي الله عنه حين حضره الموت في وصيته لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا, وثقله عليهم, وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا, وخفته عليهم, وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا.

فإن قيل: قد قال: ( مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) ذكر بلفظ الجمع, والميزان واحد؟ قيل: يجوز أن يكون لفظه جمعا ومعناه واحد كقوله: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ , وقيل: لكل عبد ميزان, وقيل: الأصل ميزان واحد عظيم, ولكل عبد فيه ميزان معلق به, وقيل جمعه: لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان, ولا يتم الوزن إلا باجتماعها.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ ) أي: مكناكم والمراد من التمكين التمليك والقدرة, ( وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ) أي: أسبابا تعيشون بها أيام حياتكم من التجارات والمكاسب والمآكل والمشارب والمعايش جمع المعيشة, ( قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ) فيما صنعت إليكم.

قوله عز وجل: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ) قال ابن عباس: خلقناكم, أي: أصولكم وآباءكم ثم صورناكم في أرحام أمهاتكم. وقال قتادة والضحاك والسدي: أما « خلقناكم » فآدم, وأما « صورناكم » فذريته. وقال مجاهد في خلقناكم: آدم, ثم صورناكم في ظهر آدم بلفظ الجمع, لأنه أبو البشر ففي خلقه خلق من يخرج من صلبه, وقيل: خلقناكم في ظهر آدم ثم صورناكم يوم الميثاق حين أخرجكم كالذر. وقال عكرمة: خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء. وقال يمان: خلق الإنسان في الرحم ثم صوره وشق سمعه وبصره وأصابعه. وقيل: الكل آدم خلقه وصوّره و « ثم » بمعنى الواو.

( ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) فإن قيل: الأمر بسجود الملائكة كان قبل خلق بني آدم, فما وجه قوله « ثم قلنا » وثم للترتيب وللتراخي؟ قيل: على قول من يصرف الخلق والتصوير إلى آدم وحده يستقيم هذا الكلام, إما على قول من يصرفه إلى الذرية: فعنه أجوبة:

أحدها « ثم » بمعنى الواو, أي: وقلنا للملائكة, فلا تكون للترتيب والتعقيب.

وقيل: أراد « ثم » أخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا.

وقيل: فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد خلقناكم, يعني: آدم ثم قلنا للملائكة اسجدوا ثم صورناكم.

قوله تعالى: ( فَسَجَدُوا ) يعني الملائكة, ( إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) لآدم.

 

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( 12 )

( قَالَ ) الله تعالى يا إبليس: ( مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) أي: وما منعك أن تسجد و « لا » زائدة كقوله تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( الأنبياء, 95 ) . ( قَالَ ) إبليس مجيبا ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) لأنك ( خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) والنار خير وأنور من الطين.

قال ابن عباس: أول من قاس إبليس فأخطأ القياس, فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس.

قال ابن سيرين: ما عبدت الشمس إلا بالقياس.

قال محمد بن جرير: ظن الخبيث أن النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل لمن جعل الله له الفضل, وقد فضل الله الطين على النار من وجوه منها: أن من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثه الاجتباء والتوبة والهداية, ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار, فأورثه اللعنة والشقاوة, ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرقها ولأن التراب سبب الحياة, فإن حياة الأشجار والنبات به, والنار سبب الهلاك.

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ( 13 ) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 14 ) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ( 15 ) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( 16 ) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( 17 )

قوله تعالى: ( قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا ) أي: من الجنة, وقيل: من السماء إلى الأرض وكان له ملك الأرض فأخرجه منها إلى جزائر البحر وعرشه في البحر الأخضر, فلا يدخل الأرض إلا خائفا على هيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار يروع فيها حتى يخرج منها.

قوله تعالى: ( فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ ) بمخالفة الأمر, ( فِيهَا ) أي: في الجنة, فلا ينبغي أن يسكن في الجنة ولا السماء متكبر مخالف لأمر الله تعال: ( فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) من الأذلاء, والصغار: الذل والمهانة.

( قَالَ ) إبليس عند ذلك, ( أَنْظِرْنِي ) أخرني وأمهلني فلا تمتني, ( إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) من قبورهم وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة, أراد الخبيث أن لا يذوق الموت.

( قَالَ ) الله تعالى, ( إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) المؤخرين, وبيّن مدة النظر والمهلة في موضع آخر فقال: إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( الحجر, 38 ) , وهو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم.

( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ) اختلفوا في « ما » قيل: هو استفهام يعني فبأي شيء أغويتني؟ ثم ابتدأ فقال: ( لأقْعُدَنَّ لَهُمْ ) وقيل: « ما » الجزاء, أي: لأجل أنك أغويتني لأحقدن لهم. وقيل: هو « ما » المصدرية موضع القسم تقديره: فبإغوائك إياي لأقعدن لهم, كقوله بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي ( يس, 27 ) , يعني: لغفران ربي.

والمعنى بقدرتك عليّ ونفاذ سلطانك فيّ. وقال ابن الأنباري: أي فيما أوقعت في قلبي من الغي الذي كان سبب هبوطي من السماء, أغويتني: أضللتني عن الهدى. وقيل: أهلكتني, وقيل: خيبتني, ( لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) أي: لأجلسن لبني آدم على طريقك القويم وهو الإسلام.

( ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: من بين أيديهم أي من قِبل الآخرة فأشككهم فيها, ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) أرغبهم في دنياهم, ( وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ) أشبه عليهم أمر دينهم. ( وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) أشهي لهم المعاصي, وروى عطية عن ابن عباس: ( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) من قِبَل دنياهم, يعني أزينها في قلوبهم, ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) من قِبَل الآخرة فأقول: لا بعث, ولا نشور, ولا جنة, ولا نار, ( وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ) من قِبَل حسناتهم, ( وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) من قِبَل سيئاتهم.

وقال الحكم: من بين أيديهم: من قبل الدنيا يزينها لهم, ومن خلفهم: من قبل الآخرة يثبطهم عنها, وعن أيمانهم: من قبل الحق يصدهم عنه, وعن شمائلهم: من قبل الباطل يزينه لهم. وقال قتادة: أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار, ومن خلفهم: من أمور الدنيا يزينها لهم ويدعوهم إليها, وعن أيمانهم: من قبل حسناتهم بطأهم عنها, وعن شمائلهم: زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله. وقال مجاهد: من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون, ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون. وقال ابن جريج: معنى قوله حيث لا يبصرون أي لا يخطئون وحيث لا يبصرون أي لا يعلمون أنهم يخطئون.

( وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) مؤمنين, فإن قيل: كيف علم الخبيث ذلك؟ قيل: قاله ظنا فأصاب, قال الله تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ( سبأ, 20 ) .

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ( 18 ) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 19 ) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( 20 ) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( 21 )

( قَالَ ) الله تعالى لإبليس, ( اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا ) أي: معيبا, والذيم والذأم أشد العيب, يقال: ذأمه يذأمه ذأما فهو مذءوم وذامه يذيمه ذاما فهو مذيم, مثل سار يسير سيرا, والمدحور: المبعد المطرود, يقال: دحره يدحره دحرا إذا أبعده وطرده. قال ابن عباس: مذءوما أي ممقوتا. وقال قتادة: مذءوما مدحورا: أي لعينا منفيا. وقال الكلبي: مذءوما, مدحورا: مقصيا من الجنة ومن كل خير. ( لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ ) من بني آدم, ( لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ ) اللام لام القسم, ( مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ) أي: منك ومن ذريتك ومن كفار ذرية آدم أجمعين.

( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ) أي: إليهما, والوسوسة: حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان ( لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا ) أي: أظهر لهما ما غطي وستر عنهما من عوراتهما, قيل: اللام فيه لام العاقبة وذلك أن إبليس لم يوسوس بهذا ولكن كان عاقبة أمرهم ذلك, وهو ظهور عورتهما, كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ( القصص، 8 ) , ثم بين الوسوسة فقال: ( وَقَال ) يعني: إبليس لآدم وحواء ( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ ) يعني: لئلا تكونا, كراهية أن تكونا ملكين من الملائكة يعلمان الخير والشر, ( أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) من الباقين الذين لا يموتون كما قال في موضع آخر: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ( طه, 120 ) .

( وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) أي: وأقسم وحلف لهما وهذا من المفاعلة التي تختص بالواحد, قال قتادة: حلف لهما بالله حتى خدعهما, وقد يخدع المؤمن بالله, فقال: إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما, وإبليس أول من حلف بالله كاذبا, فلما حلف ظن آدم أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا, فاغتر به.

فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 22 )

( فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ ) أي: خدعهما, يقال: ما زال فلان يدلي لفلان بغرور, يعني: ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف باطل من القول.

وقيل: حطهما من منـزلة الطاعة إلى حالة المعصية, ولا يكون التدلي إلا من علو إلى أسفل, والتدلية: إرسال الدلو في البئر, يقال: تدلى بنفسه ودلى غيره, قال الأزهري: أصله: تدلية العطشان البئر ليروى من الماء ولا يجد الماء فيكون مدلى بغرور, والغرور: إظهار النصح مع إبطان الغش.

( فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ) قال الكلبي: فلما أكلا منها, وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة, والعقوبة أن « بدت » ظهرت لهما « سوآتهما » عوراتهما, وتهافت عنهما لباسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه, وكانا لا يريان ذلك. قال وهب: كان لباسهما من النور. وقال قتادة: كان ظفرا ألبسهما الله من الظفر لباسا فلما وقعا في الذنب بدت لهما سوآتهما فاستحيا, ( وَطَفِقَا ) أقبلا وجعلا ( يَخْصِفَانِ ) يرقعان ويلزقان ويصلان, ( عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب.

قال الزجاج: يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما, وروي عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « كان آدم رجلا طوالا كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس, فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته, وكان لا يراها فانطلق هاربا في الجنة, فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره, فقال لها: أرسليني, قالت: لست بمرسلتك, فناداه ربه: يا آدم أمني تفر؟ قال: لا يا رب, ولكن استحييتك » .

( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ) يعني: الأكل منها, ( وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ) أي: بيّن العداوة, قال محمد بن قيس: ناداه ربه يا آدم أكلت منها وقد نهيتك؟ قال: رب أطعمتني حواء, قال لحواء: لم أطعمتيه؟ قالت: أمرتني الحية, قال للحية: لم أمرتيها؟ قالت: أمرني إبليس, فقال الله تعالى: أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة فتدمين كل شهر, وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين على بطنك ووجهك, وسيشدخ رأسك من لقيك, وأما أنت يا إبليس فملعون مدحور .

 

قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 23 ) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( 24 ) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( 25 ) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( 26 )

( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ ) يعني في الأرض تعيشون, ( وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) أي: من الأرض تخرجون من قبوركم للبعث, قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: ( تُخْرَجُونَ ) بفتح التاء هاهنا وفي الزخرف, وافق يعقوب هاهنا وزاد حمزة والكسائي: وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ في أول الروم, والباقون بضم التاء وفتح الراء فيهن.

( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ ) أي: خلقنا لكم ( لِبَاسًا ) وقيل: إنما قال: « أنـزلنا » لأن اللباس إنما يكون من نبات الأرض, والنبات يكون بما ينـزل من السماء, فمعنى قوله: ( أَنْـزَلْنَا ) أي: أنـزلنا أسبابه. وقيل: كل بركات الأرض منسوبة إلى بركات السماء كما قال تعالى: وَأَنْـزَلْنَا الْحَدِيدَ ( سورة الحديد, 25 ) , وإنما يستخرج الحديد من الأرض.

وسبب نـزول هذه الآية: أنهم كانوا في الجاهلية يطوفون بالبيت عراة, ويقولون: لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها, فكان الرجال يطوفون بالنهار والنساء بالليل عراة.

وقال قتادة: كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول:

اليَـــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّـهُ وَمَــا بَـــدَا مِنْــهُ فَـلا أُحِـلُّـهُ

فأمر الله سبحانه بالستر فقال: ( قَدْ أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ ) يستر عوراتكم, واحدتها سوأة, سميت بها لأنه يسوء صاحبها انكشافها, فلا تطوفوا عراة, ( وَرِيشًا ) يعني: مالا في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي: يقال: تريش الرجل إذا تمول, وقيل: الريش الجمال, أي: ما يتجملون به من الثياب, وقيل: هو اللباس.

( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) قرأ أهل المدينة وابن عامر والكسائي « ولباس » بنصب السين عطفا على قوله ( لِبَاسًا ) وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وخبره ( خَيْرٌ ) وجعلوا ( ذَلِكَ ) صلة في الكلام, ولذلك قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ )

واختلفوا في ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ) قال قتادة والسدي: لباس التقوى هو الإيمان. وقال الحسن: هو الحياء لأنه يبعث على التقوى.

وقال عطية عن ابن عباس: هو العمل الصالح. وعن عثمان بن عفان, أنه قال: السمت الحسن.

وقال عروة بن الزبير: لباس التقوى خشية الله, وقال الكلبي: هو العفاف. والمعنى: لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق له من اللباس للتجمل.

وقال ابن الأنباري: لباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده إخبارا أن ستر العورة خير من التعري في الطواف.

وقال زيد بن علي: لباس التقوى الآلات التي يُتقى بها في الحرب كالدرع والمغفر والساعد والساقين.

وقيل: لباس التقوى هو الصوف والثياب الخشنة التي يلبسها أهل الورع. ( ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ )

يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْـزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ( 27 ) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 28 ) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ( 29 )

( يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ) لا يضلنكم الشيطان, ( كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ ) أي: كما فتن أبويكم آدم وحواء فأخرجهما, ( مِنَ الْجَنَّةِ يَنْـزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ) ليرى كل واحد سوأة الآخر, ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ ) يعني أن الشيطان يراكم يا بني آدم, ( هُوَ وَقَبِيلُهُ ) جنوده. قال ابن عباس: هو وولده. وقال قتادة: قبيله: الجن والشياطين, ( مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) قال مالك بن دينار: إن عدوا يراك ولا تراه لشديد الخصومة والمؤنة إلا من عصم الله, ( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ ) قرناء وأعوانا, ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) وقال الزجاج: سلطانهم عليهم يزيدون في غيهم كما قال: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [ مريم- 83 ] .

( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ) قال ابن عباس ومجاهد: هي طوافهم بالبيت عراة. وقال عطاء: الشرك والفاحشة, اسم لكل فعل قبيح بلغ النهاية في القبح. ( قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا ) وفيه إضمار معناه: وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالوا وجدنا عليها آباءنا. قيل: ومن أين أخذ آباؤكم؟ قالوا: ( وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ )

( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) قال ابن عباس: بلا إله إلا الله, وقال الضحاك: بالتوحيد. وقال مجاهد والسدي: بالعدل. ( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) قال مجاهد والسدي: يعني وجّهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة. وقال الضحاك: إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي. وقيل: معناه اجعلوا سجودكم لله خالصا, ( وَادْعُوهُ ) واعبدوه, ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) الطاعة والعبادة, ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) قال ابن عباس: إن الله تعالى بدأ خلق بني آدم مؤمنا وكافرا كما قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ( التغابن, 2 ) , ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا وكافرا. قال مجاهد: يبعثون على ما ماتوا عليه.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي حدثنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنبأنا محمد بن عبد الله الصفار حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي حدثنا أبو حذيفة حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يبعث كل عبد على ما مات عليه, المؤمن على إيمانه والكافر على كفره » .

وقال أبو العالية: عادوا على عمله فيهم. قال سعيد بن جبير: كما كتب عليكم تكونون.

قال محمد بن كعب: من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إليها وإن عمل أهل السعادة, كما أن إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة, ومن ابتداء خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بعمل أهل الشقاء, وكما أن السحرة كانت تعمل بعمل أهل الشقاوة فصاروا إلى السعادة.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنبأنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد حدثنا أبو غسان عن أبي حازم قال: سمعت سهل بن سعد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن العبد يعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار, وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة, وإنما الأعمال بالخواتيم » .

وقال الحسن ومجاهد: كما بدأكم وخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا, كذلك تعودون أحياء يوم القيامة كما قال الله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ( الأنبياء, 104 ) , قال قتادة: بدأهم من التراب وإلى التراب يعودون, نظيره قوله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ( طه, 55 ) .

فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( 30 )

قوله عز وجل: ( فَرِيقًا هَدَى ) أي هداهم الله, ( وَفَرِيقًا حَقَّ ) وجب ( عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) أي: بالإرادة السابقة, ( إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) فيه دليل على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند سواء.

 

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( 31 ) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 32 )

قوله تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) قال أهل التفسير: كانت بنو عامر يطوفون بالبيت عراة, فأنـزل الله عز وجل: « يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد » , يعني الثياب. قال مجاهد: ما يواري عورتك ولو عباءة.

قال الكلبي: الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد لطواف أو صلاة.

( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ) قال الكلبي: كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما, يعظمون بذلك حجهم, فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله, فأنـزل الله عز وجل: « وكلوا » يعني اللحم والدسم « واشربوا » اللبن ( وَلا تُسْرِفُوا ) بتحريم ما أحل الله لكم من اللحم والدسم, ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) الذين يفعلون ذلك. قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. قال علي بن الحسين بن واقد: قد جمع الله الطب كله في نصف آية فقال: « كلوا واشربوا ولا تسرفوا » .

قوله عز وجل: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ) يعني لبس الثياب في الطواف, ( وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) يعني اللحم والدسم في أيام الحج.

وعن ابن عباس وقتادة: والطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب.

( قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فيه حذف تقديره: هي للذين آمنوا وللمشركين في الحياة الدنيا فإن أهل الشرك يشاركون المؤمنين في طيبات الدنيا, وهي في الآخرة خالصة للمؤمنين لا حظ للمشركين فيها.

وقيل: هي خالصة يوم القيامة من التنغيص والغم للمؤمنين, فإنها لهم في الدنيا مع التنغيص والغم.

قرأ نافع ( خَالِصَةً ) رفع, أي: قل هي للذين آمنوا مشتركين في الدنيا, وهي في الآخرة خالصة يوم القيامة للمؤمنين. وقرأ الآخرون بالنصب على القطع, ( كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 33 ) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( 34 ) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 35 )

( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) يعني: الطواف عراة ( مَا ظَهَرَ ) طواف الرجال بالنهار ( وَمَا بَطَنَ ) طواف النساء بالليل. وقيل: هو الزنا سرا وعلانية.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي وائل عن عبد الله قال قلت: أنت سمعت هذا من عبد الله؟ قال: نعم, فرفعه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا أحد أغير من الله, فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن, ولا أحد أحب إليه المدح من الله فلذلك مدح نفسه » .

قوله عز وجل: ( وَالإثْمَ ) يعني: الذنب والمعصية. وقال الضحاك: الذنب الذي لا حد فيه. قال الحسن: الإثم: الخمر. قال الشاعر:

شـربت الإثـم حـتى ضـل عقـلي كـذاك الإثـم تــذهب بالعقـــول

( وَالْبَغْيَ ) الظلم والكبر, ( بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ) حجة وبرهانا, ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) في تحريم الحرث والأنعام, في قول مقاتل. وقال غيره: هو عام في تحريم القول في الدين من غير يقين.

( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) مدة, وأكل وشرب. وقال ابن عباس وعطاء والحسن: يعني وقتا لنـزول العذاب بهم, ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ) وانقطع أكلهم, ( لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) أي: ولا يتقدمون. وذلك حين سألوا العذاب فأنـزل الله هذه الآية.

قوله تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ) أي: أن يأتيكم. قيل: أراد جميع الرسل. وقال مقاتل: أراد بقوله: ( يَا بَنِي آدَمَ ) مشركي العرب وبالرسل محمدا صلى الله عليه وسلم وحده, ( يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ) قال ابن عباس: فرائضي وأحكامي, ( فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ ) أي: اتقى الشرك وأصلح عمله. وقيل: أخلص ما بينه وبين ربه ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) إذا خاف الناس, ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) أي: إذا حزنوا.

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 36 ) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( 37 )

( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ) تكبروا عن الإيمان بها, وإنما ذكر الاستكبار لأن كل مكذب وكافر متكبر. قال الله تعالى إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ( الصافات, 35 ) , ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

قوله تعالى: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) جعل له شريكا, ( أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) بالقرآن, ( أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ) أي: حظهم مما كتب لهم في اللوح المحفوظ. واختلفوا فيه, قال الحسن والسدي: ما كتب لهم من العذاب وقضى عليهم من سواد الوجوه وزرقة العيون. قال عطية عن ابن عباس: كتب لمن يفتري على الله أن وجهه مسود, قال الله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ( الزمر, 60 ) .

وقال سعيد بن جبير ومجاهد: ما سبق لهم من الشقاوة والسعادة.

وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: يعني أعمالهم التي عملوها وكتب عليهم من خير وشر يجزي عليها.

وقال محمد بن كعب القرظي: ما كتب لهم من الأرزاق والآجال والأعمال فإذا فنيت, ( جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) يقبضون أرواحهم يعني ملك الموت وأعوانه, ( قَالُوا ) يعني يقول الرسل للكافر, ( أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ ) تعبدون, ( مِنْ دُونِ اللَّهِ ) سؤال تبكيت وتقريع, ( قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ) بطلوا وذهبوا عنا, ( وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) اعترفوا عند معاينة الموت, ( أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ )

 

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ ( 38 ) وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( 39 ) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ( 40 )

( قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ ) يعني: يقول الله لهم يوم القيامة ادخلوا في أمم, أي: مع جماعات, ( قَدْ خَلَتْ ) مضت, ( مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ ) يعني كفار الأمم الخالية, ( كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ) يريد أختها في الدين لا في النسب, فتلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى, وكل فرقة تلعن أختها ويلعن الأتباع القادة, ولم يقل أخاها لأنه عنى الأمة والجماعة, ( حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا ) أي: تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار, ( جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ ) قال مقاتل: يعني أخراهم دخولا النار وهم الأتباع, ( لأولاهُمْ ) أي: لأولاهم دخولا وهم القادة, لأن القادة يدخلون النار أولا. وقال ابن عباس: يعني آخر كل أمة لأولاها, وقال السدي: أهل آخر الزمان لأولاهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين, ( رَبَّنَا هَؤُلاءِ ) الذين, ( أَضَلُّونَا ) عن الهدى يعني القادة ( فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ ) أي: ضعف عليهم العذاب, ( قَالَ ) الله تعالى, ( لِكُلٍّ ضِعْفٌ ) يعني للقادة والأتباع ضعف من العذاب, ( وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ ) ما لكل فريق منكم من العذاب.

قرأ الجمهور: « ولكن لا تعلمون » , وقرأ أبو بكر « لا يعلمون » بالياء, أي: لا يعلم الأتباع ما للقادة ولا القادة ما للأتباع.

( وَقَالَتْ أُولاهُمْ ) يعني القادة ( لأخْرَاهُمْ ) للأتباع, ( فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ) لأنكم كفرتم كما كفرنا فنحن وأنتم في الكفر سواء وفي العذاب سواء, ( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ )

( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ ) بالتاء, خفف أبو عمرو, وبالياءِ خفف حمزة والكسائي, والباقون بالتاء مشددة, ( أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) لأدعيتهم ولا لأعمالهم. وقال ابن عباس: لأرواحهم لأنها خبيثة لا يصعد بها بل يهوى بها إلى سجين, إنما تفتح أبواب السماء لأرواح المؤمنين وأدعيتهم وأعمالهم, ( وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) أي: حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة, والخياط والمخيط الإبرة, والمراد منه: أنهم لا يدخلون الجنة أبدا لأن الشيء إذا علق بما يستحيل كونه يدل ذلك على تأكيد المنع, كما يقال: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب أو يبيض القار, يريد لا أفعله أبدا. ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ )

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ( 41 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 42 ) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 43 )

( لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ ) أي: فراش, ( وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ) أي: لحف, وهي جمع غاشية, يعني ما غشاهم وغطاهم, يريد إحاطة النار بهم من كل جانب, كما قال الله, لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ( الزمر, 16 ) , ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ )

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) أي: طاقتها وما لا تحرج فيه ولا تضيق عليه, ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

( وَنَـزَعْنَا ) وأخرجنا, ( مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) من غش وعداوة كانت بينهم في الدنيا فجعلناهم إخوانا على سرر متقابلين لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص الله به بعضهم. ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ ) روى الحسن عن علي رضي الله عنه قال: فينا والله أهل بدر نـزلت: وَنَـزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ .

وقال علي رضي الله عنه أيضا: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال لهم الله عز وجل: ( وَنَـزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ )

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الصلت بن محمد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يخلص المؤمنون من النار, فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار, فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا, حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة, فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنـزله في الجنة منه بمنـزله كان في الدنيا » .

وقال السدي في هذه الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة, في أصل ساقها عينان, فشربوا من إحداهما, فينـزع ما في صدورهم من غل, فهو الشراب الطهور, واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يسحنوا بعدها أبدا, أي إلى هذا, يعني طريق الجنة.

وقال سفيان الثوري: معناه هدانا لعمل هذا ثوابه, ( وَمَا كُنَّا ) قرأ ابن عامر: « ما كنا » بلا واو, ( لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) هذا قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا, ( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قيل: هذا النداء إذا رأوا الجنة من بعيد نودوا أن تلكم الجنة.

وقيل: هذا النداء يكون في الجنة.

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الخطيب أنبأنا أبو طاهر محمد بن الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي أنبأنا عبد الله بن محمد أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال حدثنا عبد الله بن المبارك عن سفيان عن أبي إسحاق عن الأغر عن أبي سعيد وعن أبي هريرة قالا ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا, وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا, وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا, وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا, فذلك قوله: « ونودوا أن تلكم الجنة, أورثتموها بما كنتم تعملون » , هذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج عن إسحاق بن إبراهيم وعبد الرحمن بن حميد عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري بهذا الإسناد مرفوعا . وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من أحد إلا وله منـزله في الجنة ومنـزله في النار, فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منـزله من النار, والمؤمن يرث الكافر منـزله من الجنة » .

 

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( 44 ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ( 45 ) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ( 46 )

قوله تعالى: ( وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا ) من الثواب, ( حَقًّا ) أي صدقا, ( فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ ) من العذاب, ( حَقًّا قَالُوا نَعَمْ ) قرأ الكسائي بكسر العين حيث كان, والباقون بفتحها وهما لغتان, ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) أي: نادى مناد أسمع الفريقين, ( أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم: « أن » خفيف, « لعنة » , رفع, وقرأ الآخرون بالتشديد, « لعنةَ الله » نصب على الظالمين, أي: الكافرين,

( الَّذِينَ يَصُدُّونَ ) أي: يصرفون الناس, ( عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) طاعة الله, ( وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) أي: يطلبونها زيغا وميلا أي: يطلبون سبيل الله جائرين عن القصد.

قال ابن عباس: يصلّون لغير الله, ويعظمون ما لم يعظمه الله. والعِوَج - بكسر العين - في الدين والأمر والأرض وكل ما لم يكن قائما, وبالفتح في كل ما كان قائما كالحائط والرمح ونحوهما. ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ )

( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ) يعني: بين الجنة والنار, وقيل: بين أهل الجنة وبين أهل النار حجاب, وهو السور الذي ذكر الله تعالى في قوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ ( الحديد, 13 ) .

قوله تعالى: ( وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ ) والأعراف هي ذلك السور الذي بين الجنة والنار, وهي جمع عُرف, وهو اسم للمكان المرتفع, ومنه عرف الديك لارتفاعه عما سواه من جسده. وقال السدي: سمي ذلك السور أعرافا لأن أصحابه يعرفون الناس.

واختلفوا في الرجال الذين أخبر الله عنهم أنهم على الأعراف: فقال حذيفة وابن عباس: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم, فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة, وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار, فوقفوا هناك حتى يقضي الله فيهم ما يشاء, ثم يُدخلهم الجنة بفضل رحمته, وهم آخر من يدخل الجنة.

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ثنا عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي قال: قال سعيد بن جبير, يحدث عن ابن مسعود قال: يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة, ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار, ثم قرأ قول الله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ( الأعراف 8- 9 ) . ثم قال: إن الميزان يخف بمثقال حبة أو يرجح . قال: ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط, ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم, وإذا صرفوا أبصارهم إلى أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين, فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم, ويعط كل عبد [ يومئذ ] نورا فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة, [ فلما ] رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا ربنا أتمم لنا نورنا.

فأما أصحاب الأعراف فإن النور لم ينـزع من بين أيديهم, ومنعتهم [ سيئاتهم ] أن يمضوا فبقي في قلوبهم الطمع إذ لم ينـزع النور من بين أيديهم, فهنالك يقول الله: « لم يدخلوها وهم يطمعون » , وكان الطمع النور الذي [ بين أيديهم ] ثم أدخلوا الجنة, وكانوا آخر أهل الجنة دخولا.

وقال شرحبيل بن سعد: أصحاب الأعراف قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم, ورواه مقاتل في تفسيره مرفوعا: هم رجال غزوا في سبيل الله [ عصاة لآبائهم فقتلوا, فأعتقوا من النار بقتلهم في سبيل الله ] وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم, فهم آخر من يدخل الجنة.

وروي عن مجاهد: أنهم أقوام رضي عنهم أحد الأبوين دون الآخر, يُحبسون على [ الأعراف ] إلى أن يقضي الله بين الخلق, ثم يدخلون الجنة.

وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: هم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم.

وقيل: هم أطفال المشركين. وقال الحسن: هم أهل الفضل من المؤمنين علوا على الأعراف فيطلعون على أهل الجنة وأهل النار جميعا, ويطالعون أحوال الفريقين.

قوله تعالى: ( يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ ) أي: يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم وأهل النار بسواد وجوههم. ( وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) أي: إذا رأوا أهل الجنة قالوا سلام عليكم, ( لَمْ يَدْخُلُوهَا ) يعني: أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة, ( وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) في دخولها, قال أبو العالية: ما جعل الله ذلك الطمع فيهم إلا كرامة [ يريد ] بهم, قال الحسن: الذي جعل الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون.

وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 47 ) وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ( 48 ) أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ( 49 )

( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ ) تعوذوا بالله, ( قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) يعني: الكافرين في النار.

( وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا ) كانوا عظماء في الدنيا من أهل النار, ( يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ ) في الدنيا من المال والولد, ( وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) عن الإيمان. قال الكلبي: ينادون وهم على السور: يا وليد بن المغيرة ويا أبا جهل بن هشام ويا فلان, ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزءون بهم, مثل سلمان وصهيب وخباب وبلال وأشباههم, فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار: ( أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ )

( أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ ) حلفتم, ( لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ) أي: حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة. ثم يقال لأهل الأعراف: ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) وفيه قول آخر: أن أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النار ما قالوا, قال لهم أهل النار: إن دخل أولئك الجنة وأنتم لم تدخلوها. فيعيرونهم بذلك, ويقسمون أنهم يدخلون النار, فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصراط لأهل النار: أهؤلاء, يعني: أصحاب الأعراف, الذين أقسمتم يا أهل النار أنهم لا ينالهم الله برحمة, ثم قالت الملائكة لأصحاب الأعراف: « ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » فيدخلون الجنة.

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 51 )

قوله تعالى: ( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا ) أي: صبوا, ( عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ) أي: أوسعوا علينا مما رزقكم الله من طعام الجنة.

قال عطاء عن ابن عباس: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج, وقالوا: يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة, فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم, فينظروا إلى قرابتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم ولم يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم, فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم, وأخبروهم بقراباتهم: أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله, ( قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ) يعني: الماء والطعام.

( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا ) وهو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة وأخواتها, والمكاء والتصدية حول البيت, وسائر الخصال الذميمة, التي كانوا يفعلونها في الجاهلية. وقيل: دينهم أي عيدهم, ( وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ ) نتركهم في النار, ( كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) أي: كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا, ( وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ )

 

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 52 ) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 53 )

( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ ) يعني: القرآن ( فَصَّلْنَاهُ ) بيناه, ( عَلَى عِلْمٍ ) منا لما يصلحهم, ( هُدًى وَرَحْمَةً ) أي: جعلنا القرآن هاديا وذا رحمة, ( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )

( هَلْ يَنْظُرُونَ ) أي: هل ينتظرون, ( إِلا تَأْوِيلَهُ ) قال مجاهد: جزاءه. وقال السدي: عاقبته. ومعناه: هل ينتظرون إلا ما يئول إليه أمرهم, في العذاب ومصيرهم إلى النار. ( يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ) أي: جزاؤه وما يئول إليه أمرهم, ( يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) اعترفوا به حين لا ينفعهم الاعتراف, ( فَهَلْ لَنَا ) اليوم, ( مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ ) إلى الدنيا, ( فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) أهلكوها بالعذاب, ( وَضَلَّ ) [ وبطل ] ( عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ )

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 54 )

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) أراد به في مقدار ستة أيام لأن اليوم من لدن طلوع الشمس إلى غروبها, ولم يكن يومئذ يوم ولا شمس ولا سماء, قيل: ستة أيام كأيام الآخرة وكل يوم كألف سنة. وقيل: كأيام الدنيا, قال سعيد بن جبير: كان الله عز وجل قادرا على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة, فخلقهن في ستة أيام [ تعليما ] لخلقه التثبت والتأني في الأمور وقد جاء في الحديث: « التأني من الله والعجلة من الشيطان » .

( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) قال الكلبي ومقاتل: استقر. وقال أبو عبيدة: صعد. وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء, وأما أهل السنة فيقولون: الاستواء على العرش صفة لله تعالى, بلا كيف, يجب على الرجل الإيمان به, ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل. وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [ طه- 5 ] , كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليًّا, وعلاه الرحضاء, ثم قال: الاستواء غير مجهول, والكيف غير معقول, والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة, وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج.

وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة: أمِرّوها كما جاءت بلا كيف.

والعرش في اللغة: هو السرير. وقيل: هو ما علا فأظل, ومنه عرش الكروم. وقيل: العرش الملك.

( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب: « يُغشّي » بالتشديد هاهنا وفي سورة الرعد, والباقون بالتخفيف, أي: يأتي الليل على النهار فيغطيه, وفيه حذف أي: ويغشي النهار الليل, ولم يذكره لدلالة الكلام عليه وذكر في آية أخرى فقال: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ [ الزمر- 5 ] , ( يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) أي: سريعا, وذلك أنه إذا كان يعقب أحدهم الآخر ويخلفه, فكأنه يطلبه. ( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ ) قرأ ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر, والباقون بالنصب, وكذلك في سورة النحل عطفا على قوله: « خلق السموات والأرض » , أي: خلق هذه الأشياء مسخرات, أي: مذللات ( بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ ) له الخلق لأنه [ خلقهم ] وله الأمر, يأمر في خلقه بما يشاء. قال سفيان بن عيينة: فرق الله بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر.

( تَبَارَكَ اللَّهُ ) أي: تعالى الله وتعظم. وقيل: ارتفع. والمبارك المرتفع. وقيل: تبارك تفاعل من البركة وهي النماء والزيادة, أي: البركة تكتسب وتنال بذكره.

وعن ابن عباس قال: جاء بكل بركة. وقال الحسن: تجيء البركة من قِبَله وقيل: تبارك: تقدس. والقدس: الطهارة. وقيل: تبارك الله أي: باسمه يتبرك في كل شيء. وقال المحققون: معنى هذه [ الصفة ] ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال. وأصل البركة الثبوت. ويقال: تبارك اللهُ ولا يقال: متبارك ولا مبارك, لأنه لم يرد به التوقيف. ( رَبِّ الْعَالَمِينَ )

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 55 ) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 56 )

( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا ) تذللا واستكانة, ( وَخُفْيَةً ) أي سرا. قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا, ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت, وإن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم, وذلك أن الله سبحانه يقول: « ادعوا ربكم تضرعا وخفية » , وإن الله ذكر عبدا صالحا ورضي فعله فقال: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [ مريم- 3 ] . ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) قيل: المعتدين في الدعاء, وقال أبو مجلز: هم الذين يسألون منازل الأنبياء عليهم السلام.

أخبرنا عمر بن عبد العزيز الفاشاني, أنبأنا القاسم بن جعفر الهاشمي, أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي, ثنا أبو داود السجستاني, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد يعني ابن سلمة, أنبأنا سعيد الجريري, عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها, فقال: يا بني سل الله الجنة وتعوذ من النار, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء » .

وقيل: أراد به الاعتداء بالجهر [ والصياح ] قال ابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح.

وروينا عن أبي موسى قال لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اربعوا على أنفسكم, إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا, إنكم تدعون سميعا قريبا » . وقال عطية: هم الذين يدعون على المؤمنين فيما لا يحل, فيقولون: اللهم أخزهم اللهم العنهم.

( وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ) أي لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة, والدعاء إلى طاعة الله, وهذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك والكلبي.

وقال عطية: لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم. فعلى هذا معنى قوله: « بعد إصلاحها » أي: بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب.

( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ) أي: خوفا منه ومن عذابه, وطمعا فيما عنده من مغفرته وثوابه. وقال ابن جريج: خوف العدل وطمع الفضل. ( إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) ولم يقل قريبة, قال سعيد بن جبير: الرحمة هاهنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ كقوله: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [ النساء- 8 ] ولم يقل منها لأنه أراد الميراث والمال.

وقال الخليل بن أحمد: القريب والبعيد يستوي فيهما في اللغة: المذكر والمؤنث والواحد والجمع. قال أبو عمرو بن العلاء: القريب في اللغة يكون بمعنى القرب وبمعنى المسافة, تقول العرب: هذه امرأة قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة, وقريب منك إذا كانت بمعنى المسافة.

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْـزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 57 )

قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا ) قرأ عاصم « بُشرا » بالباء وضمها وسكون الشين هاهنا وفي الفرقان وسورة النمل, ويعني: أنها تبشر بالمطر بدليل قوله تعالى: الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [ الروم- 46 ] , [ وقرأ حمزة والكسائي « نشرا » بالنون وفتحها, وهي الريح الطيبة اللينة, قال الله تعالى ] : وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا [ المرسلات- 3 ] , وقرأ ابن عامر بضم النون وسكون الشين, وقرأ الآخرون بضم النون والشين, جمع نشور, مثل صبور وصبر ورسول ورسل, أي: متفرقة وهي الرياح التي تهب من كل ناحية ( بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) أي: قدام المطر.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنبأنا أبو العباس الأصم أنبأنا الربيع أنبأنا الشافعي أنبأنا الثقة عن الزهري عن ثابت بن قيس عن أبي هريرة قال: أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر حاج فاشتدت, فقال عمر رضي الله عنه لمن حوله: ما بلغكم في الريح فلم يرجعوا إليه شيئا, فبلغني الذي سأل [ عمر عنه من أمر الريح ] فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر رضي الله عنه, وكنت في مؤخر الناس, فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب فلا تسبوها, وسلوا الله من خيرها وتعوذوا به من شرها » ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بإسناده .

( حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ ) حملت الرياح ( سَحَابًا ثِقَالا ) بالمطر, ( سُقْنَاهُ ) وردّ الكناية إلى السحاب, ( لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ) أي: إلى بلد ميت محتاج إلى الماء, وقيل: معناه لإحياء بلد ميت لا نبات فيه ( فَأَنْـزَلْنَا بِهِ ) أي: بالسحاب. وقيل: بذلك البلد الميت ( الْمَاءَ ) يعني: المطر, ( فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى ) استدل بإحياء الأرض بعد موتها على إحياء الموتى, ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) قال أبو هريرة وابن عباس: إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أرسل الله عليهم مطرا كمنيّ الرجال من ماء تحت العرش يدعى ماء الحيوان, فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح, ثم يلقي عليهم النوم فينامون في قبورهم, ثم يحشرون بالنفخة الثانية وهم يجدون طعم النوم في رءوسهم وأعينهم, فعند ذلك يقولون: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [ يس- 52 ] .

 

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ( 58 )

قوله عز وجل: ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) هذا مثل ضربه الله عز وجل للمؤمن والكافر فمثل المؤمن مثل البلد الطيب, يصيبه المطر فيخرج نباته بإذن ربه, ( وَالَّذِي خَبُثَ ) يريد الأرض السبخة التي ( لا يَخْرُجُ ) نباتها, ( إِلا نَكِدًا ) قرأ أبو جعفر بفتح الكاف, وقرأ الآخرون بكسرها, أي: عسرا قليلا بعناء ومشقة.

فالأول: مثل المؤمن الذي إذا سمع القرآن وعاه وعقله وانتفع به, والثاني: مثل الكافر الذي يسمع القرآن فلا يؤثر فيه, كالبلد الخبيث الذي لا يتبين أثر المطر فيه ( كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ) نبينها, ( لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ )

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حماد بن أسامة عن يزيد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا, وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم, ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به » .

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 59 ) قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 60 ) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 61 ) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 62 )

قوله تعالى: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ) وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس, وهو أول نبي بعث بعد إدريس, وكان نجارا بعثه الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس: ابن أربعين سنة. وقيل: بعث وهو ابن مائتين وخمسين سنة . وقال مقاتل: ابن مائة سنة. وقال ابن عباس: سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه.

واختلفوا في سبب نوحه فقال بعضهم: لدعوته على قومه بالهلاك, وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان. وقيل: لأنه مر بكلب مجذوم, فقال: اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه: أعبتني أم عبت الكلب؟ ( فَقَالَ ) لقومه, ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) قرأ أبو جعفر والكسائي ( مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) بكسر الراء حيث كان, على نعت الإله, وافق حمزة في سورة فاطر: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ( فاطر- 3 ) , وقرأ الآخرون برفع الراء على التقديم, تقديره: ما لكم غيره من إله, ( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ ) إن لم تؤمنوا, ( عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )

( قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ ) خطأ وزوال عن الحق, ( مُبِينٍ ) بيّن.

( قَالَ ) نوح, ( يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ) ولم يقل ليست, لأن معنى الضلالة: الضلال أو على تقديم الفعل, ( وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ )

( أُبَلِّغُكُمْ ) قرأ أبو عمرو: « أبلغكم » بالتخفيف حيث كان من الإبلاغ. لقوله: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [ الأعراف- 93 ] , ( رِسَالاتِ رَبِّي ) [ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ , وقرأ الآخرون بالتشديد من التبليغ, لقوله تعالى: بَلِّغْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ ( المائدة- 67 ) , رسالات ربي ] ( وَأَنْصَحُ لَكُمْ ) يقال نصحته ونصحت له, والنصح أن يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه, ( وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أن عقابه لا يرد عن القوم المجرمين.

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 63 ) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ( 64 ) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ( 65 ) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 66 ) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 67 )

( أَوَعَجِبْتُمْ ) ألف استفهام دخلت على واو العطف, ( أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: موعظة. وقيل: بيان. وقيل: رسالة. ( عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ) عذاب الله إن لم تؤمنوا, ( وَلِتَتَّقُوا ) أي: لكي تتقوا الله, ( وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) لكي ترحموا.

( فَكَذَّبُوهُ ) يعني: كذبوا نوحا, ( فَأَنْجَيْنَاهُ ) من الطوفان, ( وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ) في السفينة, ( وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ) أي: كفارا, قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة الله. قال الزجاج: عموا عن الحق والإيمان, يقال رجل عم عن الحق وأعمى في البصر. وقيل: العمي والأعمى كالخضر والأخضر. قال مقاتل: عموات عن نـزول العذاب بهم وهو الغرق.

قوله تعالى: ( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ) أي: وأرسلنا إلى عاد - وهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام - , وهي عاد الأولى « أخاهم » في النسب لا في الدين « هودا » , وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوص. وقال ابن إسحاق: هو بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح, ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ) أفلا تخافون نقمته؟

( قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ ) يا هود, ( فِي سَفَاهَةٍ ) في حمق وجهالة, قال ابن عباس رضي الله عنهما: تدعونا إلى دين لا نعرفه, ( وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) أنك رسول الله إلينا.

( قَالَ ) هود, ( يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ )

 

أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ( 68 ) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 69 ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 70 ) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَـزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 71 ) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( 72 )

( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ) ناصح أدعوكم إلى التوبة أمين على الرسالة. قال الكلبي: كنت فيكم قبل اليوم أمينا.

( أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ ) يعني نفسه, ( لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ ) يعني في الأرض, ( مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) أي: من بعد إهلاكهم, ( وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ) أي: طولا وقوة. قال الكلبي والسدي: كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع, وقامة القصير منهم ستون ذراعا. وقال أبو حمزة الثمالي: سبعون ذراعا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ثمانون ذراعا. وقال مقاتل: كان طول كل رجل اثني عشر ذراعا. وقال وهب: كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة وكان عين الرجل تفرخ فيها الضباع, وكذلك مناخرهم. ( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ) نعم الله, واحدها إليَّ وآلاء مثل مِعَيّ وأمعاء, وقفا وأقفاء, ونظيرها: آنَاءَ اللَّيْلِ ( الزمر- 9 ) , واحدها أنا وآناء, ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )

( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) من الأصنام, فأتنا بما تعدنا , من العذاب, ( إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )

( قَالَ ) هود, ( قَدْ وَقَعَ ) وجب ونـزل, ( عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ ) أي عذاب, والسين مبدلة من الزاي, ( وَغَضَبٌ ) أي: سخط, ( أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا ) وضعتموها, ( أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ) قال أهل التفسير: كانت لهم أصنام يعبدونها سموها أسماء مختلفة, ( مَا نَـزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) حجة وبرهان, ( فَانْتَظِرُوا ) نـزول العذاب, ( إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ )

( فَأَنْجَيْنَاهُ ) يعني هودا عند نـزول العذاب, ( وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) أي: استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم, ( وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ )

وكانت قصة عاد على ما ذكر محمد بن إسحاق وغيره: أنهم كانوا قوما ينـزلون اليمن وكانت مساكنهم بالأحقاف, وهي رمال بين عمان وحضرموت, وكانوا قد فشوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عز وجل, وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها, صنم يقال له صدى, وصنم يقال له صمود, وصنم يقال له الهباء, فبعث الله إليهم هودا نبيا, وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا, فأمرهم أن يوحدوا الله ويكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم بغير ذلك, فكذبوه فقالوا من أشد منا قوة فبنوا المصانع وبطشوا بطشة الجبارين, فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك.

وكان الناس في ذلك الزمان إذا نـزل بهم بلاء فطلبوا الفرج كانت طلبتهم إلى الله عز وجل عند بيته الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم, فيجتمع بمكة ناس كثير شتى, مختلفة أديانهم وكلهم معظّم لمكة, وأهل مكة يومئذ العماليق سموا عماليق, لأن أباهم عمليق بن لاذا بن سام بن نوح, وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري رجل من عاد, فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا جهزوا وافدا منكم إلى مكة فليستسقوا لكم, فبعثوا قيل بن عنـز ولقيم بن هزال من هزيل, وعقيل بن صندين بن عاد الأكبر, ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلما يكتم إسلامه, وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر, ثم بعثوا لقمان بن عاد الأصغر بن صندين بن عاد الأكبر, فانطلق كل رجل من هؤلاء ومعه رهط من قومه حتى بلغ عدد وفدهم سبعين رجلا.

فلما قدموا مكة نـزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم, فأنـزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان, قينتان لمعاوية بن بكر, وكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه, وقال هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي, والله ما أدري كيف أصنع بهم, أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه, فيظنون أنه ضيق مني بمقامهم عندي, وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا, فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين, فقالتا: قل شعرا نغنيهم به, لا يدرون من قاله, لعل ذلك أن يحركهم, فقال معاوية بن بكر:

ألا يـا قيــل ويحـك قـــم فهينم لعــل اللــه يسـقينـا غمـامــا

فيســقي أرض عـــاد إن عــادا قـــد أمســوا لا يبينـون الكلامـا

مــن العطش الشــديد فليس نرجـو بـــه الشـيخ الكبـير ولا الغلامــا

وقــد كـانـت نسـاؤهـم بخـيـر فقـــد أمســـت نسـاؤهم أيـامى

وإن الوحـــش تـأتيهـم جهــارا فــلا تخشـــى لعـادي سـهـاما

وأنتـــم هاهنــا فيمــا اشـتهيتم نهــاركمـو وليلكمــو التمامـــا

فقبـح وفـدكـم مـن وفــد قــوم ولا لقـــوا التحيـــة والســلاما

فلما غنّتهم الجرادتان هذا قال بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نـزل بهم, وقد أبطأتم عليهم, فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم, فقال مرثد بن سعد بن عفير, وكان قد آمن بهود سرا: إنكم والله لا تُسقون بدعائكم, ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إلى ربكم سقيتم, فأظهر إسلامه عند ذلك وقال:

عصــت عــاد رسـولهم فأمسـوا عطاشــا مــا تبلهــم السـمـاء

لهــم صنــم يقــال لـه صمـود يقابلـــه صــــداء والهبـــاء

فبصرنــا الرسـول سـبيل رشــد فأبصرنــا الهــدى وجـلى العمـاء

وإن إلــه هـــود هــو إلهــي عــلى اللــه التـوكـل والرجــاء

فقالوا لمعاوية بن بكر: احبس عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن معنا مكة, فإنه قد اتبع دين هود, وترك ديننا, ثم خرجوا إلى مكة يستسقون لعاد, فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منـزل معاوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له, فلما انتهى إليهم قام يدعو الله, وبها وفد عاد يدعون, فقال: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد, وكان قِيْلُ بن عنـز رأس وفد عاد, فقال وفد عاد: اللهم أعط قيلا ما سألك واجعل سؤلنا مع سؤله.

وكان قد تخلف عن وفد عاد - حين دعوا - لقمان بن عاد, وكان سيد عاد, حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام, فقال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي, وسأل الله طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر, وقال قِيْلُ بن عنـز حين دعا: يا إلهنا إن كان هود صادقا فاسقنا فإنا قد هلكنا, فأنشأ الله سحائب ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء, ثم ناداه مناد من السحايب [ يا قيل ] اختر لنفسك وقومك من هذه السحائب [ ما شئت ] فقال قيل: اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه مناد: اخترت رمادا رمددا لا تبقي من آل عاد أحدا, وساق الله سبحانه وتعالى السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له « المغيث » فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا, يقول الله تعالى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ( الأحقاف- 24- 25 ) أي: كل شيء مرت به.

وكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدد, فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت, فلما أفاقت قالوا لها: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت الريح فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها, فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما, فلم تدع من آل عاد أحدا إلا هلك, واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه هو ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس, وإنها لتمر من عاد بالظعن فتحملهم بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة, وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنـزلوا عليها فبينما هم عنده إذا أقبل رجل على ناقة في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر, فقالوا له فأين فارقت هودا وأصحابه؟ فقال: فارقتهم بساحل البحر فكأنهم شكوا فيما حدثهم به, فقالت هزيلة بنت بكر: صدق ورب مكة.

وذكروا أن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد, وقيل بن عنـز حين دعوا بمكة, قيل لهم: قد أعطيتكم مُنَاكم فاختاروا لأنفسكم, إلا أنه لا سبيل إلى الخلود, ولا بد من الموت, فقال مرثد: اللهم أعطني صدقا وبرا فأعطي ذلك, وقال لقمان: أعطني يا رب عمرا, فقيل له: اختر, فاختار عمر سبعة أنسر, فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضته فيأخذ الذكر منها لقوته, حتى إذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع, وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة, وكان آخرها لبد فلما مات لبد مات لقمان معه.

وأما قيل فإنه قال: أختار أن يصيبني ما أصاب قومي فقيل له: إن الهلاك, فقال: لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم, فأصابه الذي أصاب عادا من العذاب فهلك.

قال السدي: بعث الله على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال, تطير بهم الريح بين السماء والأرض, فلما رأواها تبادروا البيوت فدخلوها وأغلقوا أبوابهم, فجاءت الريح فقلعت أبوابهم فدخلت عليهم فأهلكتهم فيها, ثم أخرجتهم من البيوت, فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيرا سوداء فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه.

وروي أن الله عز وجل أمر الريح فأهالت عليهم الرمال, فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين تحت الرمل, ثم أمر الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم في البحر ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها.

وفي الحديث: « إنها خرجت عليهم على قدر خرق الخاتم » وروي عن علي رضي الله عنه: أن قبر هود عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر. وقال عبد الرحمن بن سابط: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا, وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة. ويروى: أن النبي من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو والصالحون معه إلى مكة يعبدون الله فيها حتى يموتوا.

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 73 )

قوله عز وجل: ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ) وهو ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح, وأراد هاهنا القبيلة.

قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها, والثمد: الماء القليل, وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ( أَخَاهُمْ صَالِحًا ) أي: أرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب, لا في الدين صالحا, وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماشيح بن عبيد بن خادر بن ثمود, ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) حجة من ربكم على صدقي , ( هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ ) أضافها إليه على التفضيل والتخصيص, كما يقال بيت الله, ( لَكُمْ آيَةٌ ) نصب على الحال, ( فَذَرُوهَا تَأْكُلْ ) العشب, ( فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ ) لا تصيبوها بعقر, ( فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )

 

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 74 ) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 75 )

( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ ) أسكنكم وأنـزلكم, ( فِي الأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ) كانوا ينقبون في الجبال البيوت ففي الصيف يسكنون بيوت الطين, وفي الشتاء بيوت الجبال. وقيل: كانوا ينحتون البيوت في الجبل لأن بيوت الطين ما كانت تبقى مدة أعمارهم لطول أعمارهم, ( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ ) والعيث: أشد الفساد.

( قَالَ الْمَلأ ) قرأ ابن عامر: ( وقال الملأ ) بالواو ( الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) يعني الأشراف والقادة الذين تعظموا عن الإيمان بصالح, ( لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ) يعني الأتباع, ( لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ) يعني: قال الكفار للمؤمنين, ( أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ) إليكم, ( قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ )

قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 76 ) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 77 ) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 78 ) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( 79 )

( قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) جاحدون.

( فَعَقَرُوا النَّاقَةَ ) قال الأزهري: العقر هو قطع عرقوب البعير, ثم جعل النحر عقرا لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره, ( وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ) والعتو الغلو في الباطل, يقال: عتا يعتو عتوا: إذا استكبروا, والمعنى: عصوا الله وتركوا أمره في الناقة وكذبوا نبيهم. ( وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ) أي: من العذاب, ( إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ )

( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ) وهي زلزلة الأرض وحركتها وأهلكوا بالصيحة والرجفة, ( فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ ) قيل: أراد الديار. وقيل: أراد في أرضهم وبلدتهم, ولذلك وحد الدار, ( جَاثِمِينَ ) خامدين ميتين. قيل: سقطوا على وجوههم موتى عن آخرهم.

( فَتَوَلَّى ) أعرض صالح, ( عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ) فإن قيل: كيف خاطبهم بقوله لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم بعدما هلكوا بالرجفة؟

قيل: كما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الكفار من قتلى بدر حين ألقاهم في القليب, فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا, فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ « والذي نفس محمد بيده » ] ما أنتم بأسمع لما أقول منهم, ولكن لا يجيبون « . »

وقيل: خاطبهم ليكون عبرة لمن خلفهم.

وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها: فتولى عنهم, وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي فأخذتهم الرجفة.

وكان قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق ووهب وغيرهما: أن عاد لما هلكت وانقضى أمرها عمرت ثمود بعدها, واستخلفوا في الأرض فدخلوا فيها وكثروا وعمروا, حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي, فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا, وكانوا في سعة من معاشهم فعثوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله, فبعث الله إليهم صالحا وكانوا قوما عربا, وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وموضعا, فبعثه الله إليهم غلاما شابا, فدعاهم إلى الله حتى شمط وكبر لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون, فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لما يقول, فقال لهم: أيّ آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا غدا إلى عيدنا, وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا, فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا, فقال لهم صالح: نعم, فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم, وخرج صالح معهم فدعوا أوثانهم, وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به, ثم قال جندع بن عمرو بن حوّاس وهو يومئذ سيد ثمود: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة - لصخرة منفردة في ناحية من الحجر يقال لها الكاثبة - ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء - والمخترجة ما شاكل البخت من الإبل - , فإن فعلت صدقناك وآمنا بك, فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي, قالوا: نعم, فصلى صالح ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها, ثم تحركت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها عظما إلا الله, وهم ينظرون ثم نتجت سقيا مثلها في العظم, فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه, وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدقوه فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمغر وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود.

فلما خرجت الناقة قال لهم صالح: هذه ناقة الله, لها شرب ولكم شرب يوم معلوم, فمكثت الناقة ومعها سقيها في أرض ثمود, ترعى الشجر وتشرب الماء, فكانت ترد الماء غبا, فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ماء فيها, فلا تدع قطرة, ثم ترفع رأسها فتنفشخ حتى تفحج لهم فيحلبون ما شاءوا من لبن, فيشربون ويدخرون, حتى يملئوا أوانيهم كلها ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر أن تصدر من حيث ترد, يضيق عنها, حتى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاءوا من الماء ويدخرون ما شاءوا ليوم الناقة, فهم من ذلك في سعة ودعة, وكانت الناقة تُصيِّف إذا كان الحر بظهر الوادي, فتهرب منها المواشي, أغنامهم وبقرهم وإبلهم, فتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه, وتشتو ببطن الوادي إذا كان الشتاء, فتهرب مواشيهم إلى [ ظهر ] الوادي في البرد والجدب فأضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار, فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة, فأجمعوا على عقرها.

وكانت امرأتان من ثمود إحداهما يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلز تكنى بأم غنم, وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزا مسنة, وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم, وامرأة أخرى يقال لها صدوف بنت المحيا وكانت جميلة غنية ذات مواشي كثيرة, وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح وكانتا تحبان عقر الناقة [ لما أضرت ] بهما من مواشيهما فتحيلتا في عقر الناقة فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب لعقر الناقة, وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا, وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وأكثرهم مالا فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف, وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا, يزعمون أنه كان لزانية, ولم يكن لسالف, ولكنه ولد على فراش سالف, فقالت: أعطيك أيّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة, وكان قدار عزيزا منيعا في قومه.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا هشام عن أبيه أنه أخبره عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة والذي عقرها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ( الشمس- 12 ) , انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه مثل أبي زمعة .

رجعنا إلى القصة, قالوا: فانطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهرج فاستغويا غواة ثمود فاتبعهم سبعة نفر فكانوا تسعة رهط, فانطلق قدار وصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء, وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها, وكمن لها مصدع في طريق آخر فمرت على مصدع, فرماها بسهم فانتظم به في عضلة ساقها, وخرجت بنت غنم عنيزة, وأمرت ابنتها, وكانت من أحسن الناس, فأسفرت لقدار ثم ذمرته فشد على الناقة بالسيف فكشفت عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ثم طعن في لبتها فنحرها, وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه, فلما رأى سقبها ذلك انطلق حتى أتى جبلا منيفا يقال له: صنو, وقيل: اسمه قارة, وأتى صالح فقيل له: أدرك الناقة فقد عقرت, فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه: يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا, فقال صالح: انظروا هل تدركون فصيلها, فإن أدركتموه فعسى أن يُرْفَع عنكم العذاب, فخرجوا يطلبونه, فلما رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه, فأوحى الله تعالى إلى الجبل فتطاول في السماء حتى ما تناله الطير.

وجاء صالح فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه, ثم رغا ثلاثا, وانفجرت الصخرة فدخلها. فقال صالح لكل رغوة أجل يوم فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب.

وقال ابن إسحاق: اتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة, وفيهم مصدع بن مهرج وأخوه ذاب بن مهرج, فرماه مصدع بسهم فانتظم قلبه, ثم جر برجله فأنـزله, فألقوا لحمه مع لحم أمه, وقال لهم صالح: انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته, قالوا وهم يهزءون به: ومتى ذلك يا صالح؟ وما آية ذلك؟ وكانوا يسمون الأيام فيهم: الأحد أول, والاثنين أهون, والثلاثاء دبار والأربعاء جبار, والخميس مؤنس والجمعة العروبة, والسبت شيار, وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء, فقال لهم صالح حين قالوا ذلك: تصبحون غداة يوم مؤنس ووجوهكم مصفرة, ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمرة, ثم تصبحون يوم شيار ووجوهكم مسودة, ثم يصبحكم العذاب يوم أول.

فلما قال لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلناه قبلنا, وإن كان كاذبا قد كنا ألحقناه بناقته, فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله, فدمغتهم الملائكة بالحجارة, فلما أبطأوا على أصحابهم أتوا منـزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة, فقالوا لصالح: أنت قتلتهم, ثم هموا به فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح, وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدا فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلاث, فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون, فانصرفوا عنهم ليلتهم فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوق, صغيرهم وكبيرهم, ذكرهم وأنثاهم, فأيقنوا بالعذاب وعرفوا أن صالحا قد صدقهم, فطلبوه ليقتلوه, وخرج صالح هاربا منهم حتى جاء إلى بطن من ثمود يقال لهم بني غنم, فنـزل على سيدهم, رجل يقال له نفيل ويكنى بأبي هدب, وهو مشرك فغيبه, ولم يقدروا عليه, فغدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه, فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم: يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لندلهم عليك, أفندلهم؟ قال: نعم, فدلهم عليه, وأتوا أبا هدب فكلموه في ذلك, فقال: نعم عندي صالح وليس لكم عليه سبيل, فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم عنه ما أنـزل الله بهم من عذابه, فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل, فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خضبت بالدماء فصاحوا وضجوا وبكوا, وعرفوا أنه العذاب, فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب, فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار, فصاحوا جميعا: ألا قد حضركم العذاب.

فلما كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام, فنـزل رملة فلسطين, فلما أصبح القوم تكفنوا وتحنطوا وألقوا أنفسهم إلى الأرض يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة, لا يدرون من أين يأتيهم العذاب, فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة, وصت كل شيء له صوت في الأرض, فقطعت قلوبهم في صدورهم, فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك كما قال الله تعالى: « فأصبحوا في دارهم جاثمين » ُ إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سالف, وكانت كافرة شديدة الكفر والعداوة لصالح, فأطلق الله رجليها بعدما عاينت العذاب, فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط حتى أتت قزح, وهو واد القرى, فأخبرتهم بما عاينته من العذاب وما أصاب ثمود, ثم استقت من الماء فسقيت فلما شربت ماتت.

وذكر السدي في عقر الناقة وجها آخر قال: فأوحى الله تعالى إلى صالح عليه السلام أن قومك سيعقرون ناقتك, فقال لهم ذلك فقالوا: ما كنا نفعل, فقال صالح: إنه يولد في شهركم هذا غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه, فقالوا: لا يولد لنا ولد في هذا الشهر إلا قتلناه, قال: فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه, وكان لم يولد له قبل ذلك, وكان ابنه أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا وكان إذا مر بالتسعة ورأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا, فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أولادهم, فتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله, قالوا: نخرج ليرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغار فنكون فيه, حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه, ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه فانصرفنا إلى رحلنا فقلنا: ما شهدنا مهلك أهله, وإنا لصادقون, فيصدقوننا, يظنون أنا قد خرجنا إلى سفر. وكان صالح لا ينام معهم في القرية, وكان يبيت في مسجد يقال له مسجد صالح, فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكّرهم وإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فدخلوا الغار, فسقط عليهم الغار فقتلهم, فانطلق رجال ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ, فرجعوا يصيحون في القرية: أي عباد الله ما رضي صالح أن أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم, فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة.

وقال ابن إسحاق: كان تقاسم التسعة على تبييت صالح بعد عقرهم الناقة كما ذكرنا.

قال السدي وغيره: فلما ولد ابن العاشر, يعني: قذار, شب في اليوم شباب غيره في الجمعة, وشب في شهر شباب غيره في السنة, فلما كبر جلس مع أناس يصيبون من الشراب, فأرادوا ماء يمزجون به شرابهم, وكان ذلك اليوم شرب الناقة, فوجدوا الماء قد شربته الناقة, فاشتد ذلك عليهم وقالوا: ما نصنع نحن باللبن؟ لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة فنسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيرا لنا, فقال ابن العاشر: هل لكم في أن أعقرها لكم؟ قالوا: نعم, فعقروها.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبانا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا محمد بن مسكين ثنا يحيى بن حسان بن حيان أبو زكريا ثنا سليمان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نـزل الحجر, في غزوة تبوك, أمرهم أن لا يشربوا من بئر بها ولا يستقوا منها, فقالوا: قد عجنا منها واستقينا, فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء « . وقال نافع عن ابن عمر: فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من آبارها وأن يعلفوا الإبل العجين, وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة . »

وروى أبو الزبير عن جابر قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائهم ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم, ثم قال: أما بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات, هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم, فبعث الله الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج وتشرب ماءهم يوم ورودها, وأراهم مرتقى الفصيل من القارة, فعتوا عن أمر ربهم وعقروها, فأهلك الله تعالى من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا واحدا يقال له أبو رُغَال, وهو أبو ثقيف كان في حرم الله, فمنعه حرم الله من عذاب الله, فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ودفن معه غصن من ذهب, وأراهم قبر أبي رغال, فنـزل القوم فابتدروا بأسيافهم وحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن .

وكانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت, فلما دخلوها مات صالح فسمى حضرموت ثم بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاصوراء, قال قوم من أهل العلم توفي بمكة, وهو ابن ثمان وخمسين سنة, وأقام في قومه عشرين سنة.

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ( 80 ) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ( 81 )

قوله تعالى: ( وَلُوطًا ) أي: وأرسلنا لوطا. وقيل: معناه واذكر لوطا. وهو لوط بن هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم, ( إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ) وهم أهل سدوم وذلك أن لوطا شخص من أرض بابل [ سافر ] مع عمه إبراهيم عليه السلام مؤمنا به مهاجرا معه إلى الشام, فنـزل إبراهيم فلسطين وأنـزل لوطا الأردن, فأرسله الله عز وجل إلى أهل سدوم فقال لهم, ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ) يعني: إتيان الذكران, ( مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ) قال عمرو بن دينار ما يرى ذكر على ذكر في الدنيا إلا كان من قوم لوط.

( إِنَّكُمْ ) قرأ أهل المدينة وحفص ( إنكم ) بكسر الألف على الخبر, وقرأ الآخرون على الاستئناف, ( لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ ) في أدبارهم, ( شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ) فسَّر تلك الفاحشة يعني أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء, ( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) مجاوزون الحلال إلى الحرام.

قال محمد بن إسحاق: كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم, فعرض لهم إبليس في صورة شيخ, فقال: إن فعلتم بهم كذا نجوتم, فأبوا فلما ألح عليهم الناس قصدوهم فأصابوهم غلمانا صباحا, فأخذوهم وقهروهم على أنفسهم فأخبثوا واستحكم ذلك فيهم. قال الحسن: كانوا لا ينكحون إلا الغرباء.

وقال الكلبي: إن أول من عمل عمل قوم لوط إبليس, لأن بلادهم أخصبت فانتجعها أهل البلدان, أي: فتمثل لهم إبليس في صورة شاب, ثم دعا إلى دبره, فنكح في دبره, فأمر الله تعالى السماء أن تحصبهم وأمر الأرض أن تخسف بهم.

 

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( 82 ) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 83 ) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ( 84 ) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 85 )

قوله عز وجل: ( وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ) قال بعضهم لبعض: ( أَخْرِجُوهُمْ ) يعني: لوطا وأهل دينه, ( مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) يتنـزهون عن أدبار الرجال.

( فَأَنْجَيْنَاهُ ) يعني: لوطا, ( وَأَهْلَهُ ) المؤمنين, وقيل: أهله: ابنتاه, ( إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) يعني: الباقين في العذاب, وقيل: معناه كانت من الباقين المعمرين, قد أتى عليها دهر طويل فهلكت مع من هلك من قوم لوط, وإنما قال: « من الغابرين » لأنه أراد: ممن بقي من الرجال فلما ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قال: « من الغابرين » .

( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا ) يعني: حجارة من سجيل. قال وهب: الكبريت والنار, ( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) قال أبو عبيدة: يقال في العذاب: أمطر, وفي الرحمة: مطر.

قوله تعالى: ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ) أي: وأرسلنا إلى ولد مدين - وهو مدين بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام - وهم أصحاب الأيكة: أخاهم شعيبا في النسب لا في الدين. قال عطاء: هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم. وقال ابن إسحاق: هو شعيب بن ميكائيل بن يسخر بن مدين بن إبراهيم, وأم ميكائيل بنت لوط. وقيل: هو شعيب بن يثرون بن مدين وكان شعيب أعمى وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه, وكان قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان.

( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: « قد جاءتكم بينة من ربكم » ولم تكن لهم آية؟.

قيل: قد كانت لهم آية إلا أنها لم تذكر, وليست كل الآيات مذكورة في القرآن.

وقيل: أراد بالبينة مجيء شعيب.

( فَأَوْفُوا الْكَيْلَ ) أتموا الكيل, ( وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ) لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوهم إياها, ( وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ) أي: ببعث الرسل والأمر بالعدل, وكل نبي بعث إلى قوم فهو صلاحهم, ( ذَلِكُمْ ) الذي ذكرت لكم وأمرتكم به, ( خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) مصدقين بما أقول.

وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( 86 )

( وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ ) أي: على كل طريق, ( تُوعِدُونَ ) تهددون, ( وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) دين الله, ( مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ) زيغا, وقيل: تطلبون الاعوجاج في الدين والعدول عن القصد, وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطريق فيقولون لمن يريد الإيمان بشعيب, إن شعيب كذاب فلا يفتننك عن دينك ويتوعدون المؤمنين بالقتل ويخوفونهم, وقال السدي: كانوا عشارين. ( وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ ) فكثر عددهم, ( وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) أي: آخر أمر قوم لوط.

وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 87 )

( وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا ) أي: إن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مكذبين ومصدقين, ( فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ) بتعذيب المكذبين وإنجاء المصدقين, ( وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ )