أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ( 68 ) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 69 )

( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ) وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغة والنصح والأمانة.

( أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ) أي:لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه، بل احمدوا الله على ذاكم، ( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) أي:واذكروا نعمة الله عليكم إذ جعلكم من ذرية نوح، الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته، لما خالفوه وكذبوه، ( وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ) أي:زاد طولكم على الناس بسطة، أي:جعلكم أطول من أبناء جنسكم، كما قال تعالى:في قصة طالوت: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [ البقرة:247 ] ( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ) أي:نعمه ومنَنه عليكم ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [ وآلاء جمع ألى وقيل:إلى ]

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 70 ) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 71 ) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( 72 )

يقول تعالى مخبرا عن تمردهم وطغيانهم وعنادهم وإنكارهم على هود، عليه السلام: ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ [ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ] ) كما قال الكفار من قريش: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ الأنفال:32 ]

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره:أنهم كانوا يعبدون أصناما، فصنم يقال له:صُدَاء، وآخر يقال له:صمُود، وآخر يقال له:الهباء

ولهذا قال هود، عليه السلام: ( قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ) أي:قد وجب عليكم بمقالتكم هذه من ربكم رجس [ وغضب ] قيل:هو مقلوب من رجز. وعن ابن عباس:معناه السخَط والغضب.

( أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ) أي:أتحاجوني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة، وهي لا تضر ولا تنفع، ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلا؛ ولهذا قال: ( مَا نـزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ )

وهذا تهديد ووعيد من الرسول لقومه؛ ولهذا عقب بقوله: ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ )

وقد ذكر الله، سبحانه، صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن، بأنه أرسل عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، كما قال في الآية الأخرى:وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [ الحاقة:6- 8 ] لما تمردوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية، فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أمّ رأسه فتثلغُ رأسه حتى تُبينه من بين جثته؛ ولهذا قال: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ

وقال محمد بن إسحاق:كانوا يسكنون باليمن من عمان وحضرموت، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض وقهروا أهلها، بفضل قوتهم التي آتاهم الله، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله، فبعث الله إليهم هودًا، عليه السلام، وهو من أوسطهم نسبا، وأفضلهم موضعًا، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره، وأن يكفوا عن ظلم الناس، فأبوا عليه وكذبوه، وقالوا:من أشد منا قوة؟ واتبعه منهم ناس، وهم يسير مكتتمون بإيمانهم، فلما عتت عاد على الله وكذبوا نبيه، وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا، وبنوا بكل ريع آية عبثا بغير نفع، كلمهم هود فقال:أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [ الشعراء:128- 131 ] قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ أي:بجنون قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ هود:53- 56 ]

مد بن إسحاق:فلما أبوا إلا الكفر به، أمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين، فيما يزعمون، حتى جهدهم ذلك، قال:وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان، فطلبوا من الله الفرج فيه، إنما يطلبونه بحُرْمة ومكان بيته، وكان معروفا عند المِلَل وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوَذَ بن سام بن نوح، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له: « معاوية بن بكر » ، وكانت له أم من قوم عاد، واسمها كلهدة ابنة الخيبري، قال:فبعثت عاد وفدًا قريبا من سبعين رجلا إلى الحرم، ليستسقوا لهم عند الحرم، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنـزلوا عليه، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان - قينتان لمعاوية - وكانوا قد وصلوا إليه في شهر، فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف، عمل شعرا يعرض لهم بالانصراف، وأمر القينتين أن تغنياهم به، فقال:

ألا يـا قيـل ويحــك قُـْـم فَهَيْـنم لـعــلّ اللــه يُصْبحُنَـا غَمَامـــا

فَيَسْــقـي أرضَ عـــادٍ إنّ عـادًا قَــد امْـسَــوا لا يُبِينُـونَ الكَلامـا

مــن العطش الشــديد فليس نَرجُـو بــه الشـيخَ الكبـيرَ ولا الغُلامـــا

وَقَـْـد كـانَت نســاؤهُم بخـــيرٍ فقـــد أمســـت نِسَاؤهم عَيَامى

وإنّ الوحــشَ تـأتيـهمْ جِهـــارا ولا تَخْـشَــى لعـــاديَ سِـهـَاما

وأنتــم هـاهُنَـا فيمــا اشـتَـهَيْتُمْ نهـــارَكُمُ وَلَيْـلَكُــمُ التـمامـــا

فقُبّــحَ وَفْـُـدكم مــن وَفْـدِ قَـوْمٍ ولا لُقُّـــوا التحـيَّـــةَ والسَّـلامـا

قال:فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له، فنهضوا إلى الحرم، ودعوا لقومهم فدعا داعيهم، وهو: « قيل بن عنـز » فأنشأ الله سحابات ثلاثا:بيضاء، وسوداء، وحمراء، ثم ناداه مناد من السماء: « اختر لنفسك - أو:- لقومك من هذا السحاب » ، فقال: « اخترت هذه السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء » فناداه مناد:اخترت رَمادا رِمْدَدًا، لا تبقي من عاد أحدا، لا والدًا تترك ولا ولدا، إلا جعلته هَمدا، إلا بني اللّوذيّة المهندًا قال:وبنو اللوذية:بطن من عاد مقيمون بمكة، فلم يصبهم ما أصاب قومهم - قال:وهم من بقي من أنسالهم وذراريهم عاد الآخرة - قال:وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها « قيل بن عنـز » بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد يقال له: « المغيث » ، فلما رأوها استبشروا، وقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا يقول:بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [ الأحقاف:24 ، 25 ] أي:تهلك كل شيء مَرّت به، فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها:مَهْدد فلما تبينت ما فيها صاحت، ثم صُعِقت. فلما أفاقت قالوا:ما رأيت يا مَهْدد ؟ قالت ريحا فيها شُهُب النار، أمامها رجال يقودونها. فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، كما قال الله. و « الحسوم » :الدائمة - فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك واعتزل هُود، عليه السلام، فيما ذكر لي، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود، وتلْتذ الأنفس، وإنها لتمر على عاد بالطعن ما بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة.

وذكر تمام القصة بطولها، وهو سياق غريب فيه فوائد كثيرة، وقد قال الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [ هود:58 ]

وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده قريب مما أورده محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله.

قال الإمام أحمد:حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي، حدثنا عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي وائل، عن الحارث البكري قال:خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي:يا عبد الله، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال:فحملتها فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد بسيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت:ما شأن الناس؟ فقالوا:يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها. قال:فجلست، فدخل منـزله - أو قال:رحله فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فسلمت، قال:هل بينكم وبين تميم شيء؟ قلت:نعم، وكانت لنا الدّبَرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب. فأذن لها، فدخلت، فقلت:يا رسول الله، إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزًا، فاجعل الدهناء. فحميت العجوز واستوفزت، فقالت:يا رسول الله، فإلى أين يضطر مُضطَرُك ؟ قال:قلت:إن مثلي مثل ما قال الأول: « معْزَى حَمَلت حتفها » ، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما، أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد! قال:هيه، وما وافد عاد؟ - وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه - قلت:إن عادا قُحطوا فبعثوا وافدًا لهم يقال له: « قيل » ، فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان، يقال لهما: « الجرادتان » ، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مَهْرة، فقال:اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه. اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سُودُ، فنودي:منها « اختر » . فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها: « خذها رمادا رِمْدِدا، لا تبقي من عاد أحدا » . قال:فما بلغني أنه بُعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا، حتى، هلكوا - قال أبو وائل:وصدق - قال:وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا: « لا تكن كوافد عاد » .

هكذا رواه الإمام أحمد في المسند، ورواه الترمذي، عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب، به نحوه:ورواه النسائي من حديث سلام بن أبي المنذر. عن عاصم - وهو ابن بَهْدَلة - ومن طريقه رواه ابن ماجه أيضا، عن أبي وائل، عن الحارث بن حسان البكري، به. ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب عن زيد بن حُبَاب، به. ووقع عنده: « عن الحارث بن يزيد البكري » فذكره، ورواه أيضا عن أبي كريب، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن الحارث بن يزيد البكري، فذكره ولم أر في النسخة « أبا وائل » ، والله أعلم.

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 73 )

قال علماء التفسير والنسب:ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهو أخو جَديس بن عاثر، وكذلك قبيلة طَسْم، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل، عليه السلام، وكانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراهم ومساكنهم، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع.

قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد، حدثنا صَخْر بن جُوَيرية، عن نافع، عن ابن عمر قال:لما نـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك، نـزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا منها القدور. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور، وعلفوا العجينَ الإبلَ، ثم ارتحل بهم حتى نـزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال: « إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم »

وقال [ الإمام ] أحمد أيضا:حدثنا عفان، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر: « لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم »

وأصل هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيحين من غير وجه

وقال الإمام أحمد أيضًا:حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا المسعودي، عن إسماعيل بن أوسط، عن محمد بن أبي كَبْشَة الأنماري، عن أبيه قال:لما كان في غزوة تبوك، تسارع الناس إلى أهل الحجر، يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فنادى في الناس: « الصلاة جامعة » . قال:فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول: « ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم » . فناداه رجل منهم:نعجبُ منهم يا رسول الله. قال: « أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك:رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم، وبما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسَدِّدوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا »

لم يخرجه أحد من أصحاب السنن وأبو كبشة اسمه:عمر بن سعد، ويقال:عامر بن سعد، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق:حدثنا مَعْمَر، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن أبي الزبير، عن جابر قال:لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: « لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفَجّ، وتَصْدُر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة، أهمد الله مَنْ تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدًا كان في حرم الله » . فقالوا:من هو يا رسول الله؟ قال: « أبو رِغال. فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه »

وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة، وهو على شرط مسلم.

فقوله تعالى: ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ) أي:ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا، ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] وقال [ تعالى ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ النحل:36 ] .

وقوله: ( قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ) أي:قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به. وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية، واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صمَاء عَيّنوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحِجْر، يقال لها:الكَاتبة، فطلبوا منه أن يخرج لهم منها ناقة عُشَراء تَمْخَضُ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طُلْبتهم ليؤمنن به وليتبعنه؟ فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح، عليه السلام، إلى صلاته ودعا الله، عز وجل، فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جَوْفاء وَبْرَ‌اء يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا، فعند ذلك آمن رئيس القوم وهو: « جُندَع بن عمرو » ومن كان معه على أمره وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم « ذُؤاب بن عمرو بن لبيد » « والحباب » صاحب أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكان ل « جندع بن عمرو » ابن عم يقال له: « شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن حراس » ، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط، فأطاعهم، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود، يقال له مهوس بن عنمة بن الدميل، رحمه الله:

وكــانت عُصْبــةٌ مـن آل عَمْـرو إلــى ديـن النبـيّ دَعَـوا شِـهَابـا

عَزيــزَ ثَمُـودَ كُـلَّـهمُ جميعـــا فَهَــمّ بأن يُجِـــيبَ فلــو أجابا

لأصبــحَ صـالحٌ فيـنـا عَـزيـزًا ومــا عَدَلــوا بصـاحبهـم ذُؤابـا

ولكــنّ الغُــوَاة مــن آل حُـجْرٍ تَوَلَّــوْا بعـــد رُشْـدهـم ذئابــا

فأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة، تشرب ماء بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملئون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية الأخرى: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [ القمر:28 ] وقال تعالى: هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [ الشعراء:155 ] وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فَجّ وتصدر من غيره ليسعها؛ لأنها كانت تتضلَّع عن الماء، وكانت - على ما ذكر - خَلْقًا هائلا ومنظرًا رائعًا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها. فلما طال عليهم واشتد تكذيبهم لصالح النبي، عليه السلام، عزموا على قتلها، ليستأثروا بالماء كل يوم، فيقال:إنهم اتفقوا كلهم على قتلها .