وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 34 ) وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 35 )

يخبر تعالى أنهم أهل لأن يعذبهم، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم؛ ولهذا لما خرج من بين أظهرهم، أوقع الله بهم بأسه يوم بدر، فقُتل صناديدهم وأسرت سُراتهم. وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذنوب، التي هم متلبسون بها من الشرك والفساد.

قال قتادة والسُّدِّي وغيرهما:لم يكن القوم يستغفرون، ولو كانوا يستغفرون لما عذبوا.

واختاره ابن جرير، فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين، لأوقع بهم البأس الذي لا يرد، ولكن دفع عنهم بسبب أولئك، كما قال تعالى في يوم الحديبية: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [ الفتح:25 ] .

قال ابن جرير:حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال:كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فأنـزل الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ قال:فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأنـزل الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال:وكان أولئك البقية من المؤمنين الذين بقوا فيها يستغفرون - يعني بمكة- فلما خرجوا، أنـزل الله: ( وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ) قال:فأذن الله في فتح مكة، فهو العذاب الذي وعدهم.

ورُوي عن ابن عباس، وأبي مالك والضحاك، وغير واحد نحو هذا.

وقد قيل:إن هذه الآية ناسخة لقوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ على أن يكون المراد صدور الاستغفار منهم أنفسهم.

قال ابن جرير:حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في « الأنفال » : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) فنسختها الآية التي تليها: ( وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ) إلى قوله: ( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) فقُوتلوا بمكة، فأصابهم فيها الجوع والضر.

وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي تُمَيْلة يحيى بن واضح

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جُرَيْج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ثم استثنى أهل الشرك فقال [ تعالى ] وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )

وقوله: ( وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أي:وكيف لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام أي الذي ببكة، يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة عنده والطواف به؛ ولهذا قال: ( وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ) أي:هم ليسوا أهل المسجد الحرام، وإنما أهله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما قال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [ التوبة:17 ، 18 ] ،وقال تعالى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ] الآية [ البقرة:217 ] . .

وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسير هذه الآية:حدثنا سليمان بن أحمد - هو الطبراني- حدثنا جعفر بن إلياس بن صدقة المصري، حدثنا نُعَيْم بن حماد، حدثنا نوح بن أبي مريم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من آلك؟ قال « كل تقي » ، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ )

وقال الحاكم في مستدركه:حدثنا أبو بكر الشافعي، حدثنا إسحاق بن الحسن، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جده قال:جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فقال: « هل فيكم من غيركم؟ » قالوا:فينا ابن أختنا وفينا حليفنا، وفينا مولانا. فقال: « حليفنا منا، وابن أختنا منا، ومولانا منا، إن أوليائي منكم المتقون » .

ثم قال:هذا [ حديث ] صحيح، ولم يخرجاه

وقال عُرْوَة، والسُّدِّي، ومحمد بن إسحاق في قوله تعالى: ( إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ ) قال:هم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضي الله عنهم.

وقال مجاهد:هم المجاهدون، من كانوا، وحيث كانوا.

ثم ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام، وما كانوا يعاملونه به، فقال: ( وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ) قال عبد الله بن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَيْر، وأبو رجاء العطاردي، ومحمد بن كعب القرظي، وحُجْر بن عَنْبَس، ونُبَيْط بن شُرَيْط، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم:هو الصفير - وزاد مجاهد:وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم.

وقال السدي:المُكَاء:الصفير على نحو طير أبيض يقال له: « المُكَاء » ، ويكون بأرض الحجاز.

والتصدية:التصفيق.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو خَلاد سليمان بن خلاد، حدثنا يونس بن محمد المؤدب، حدثنا يعقوب - يعني ابن عبد الله الأشعري - حدثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ) قال:كانت قريش تطوف بالكعبة عراة تصفر وتصفق. والمكاء:الصفير، وإنما شبهوا بصفير الطير وتصدية التصفيق.

وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعَوْفي، عن ابن عباس. وكذا روى عن ابن عمر، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك، وقتادة، وعطية العوفي، وحُجْر بن عَنْبَس، وابن أبزَى نحو هذا.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا أبو عمر، حدثنا قُرَّة، عن عطية، عن ابن عمر في قوله: ( وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ) قال:المكاء:الصفير. والتصدية:التصفيق. قال قرة:وحَكَى لنا عطية فعل ابن عمر، فصفر ابن عمر، وأمال خده، وصفق بيديه.

وعن ابن عمر أيضًا أنه قال:كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويُصَفِّقُون ويُصَفِّرُون. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عنه.

وقال عكرمة:كانوا يطوفون بالبيت على الشمال.

قال مجاهد:وإنما كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته.

وقال الزهري:يستهزئون بالمؤمنين.

وعن سعيد بن جُبَيْر وعبد الرحمن بن زيد: ( وَتَصْدِيَة ) قال:صدُّهم الناس عن سبيل الله، عز وجل.

قوله: ( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) قال الضحاك، وابن جُرَيْج، ومحمد بن إسحاق:هو ما أصابهم يوم بَدْر من القتل والسَّبْي. واختاره ابن جرير، ولم يحك غيره.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال:عذاب أهل الإقرار بالسيف، وعذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ( 36 ) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 37 )

قال محمد بن إسحاق:حدثني الزهري، ومحمد بن يحيى بن حِبَّان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحُصَيْن بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعيد بن معاذ، قالوا:لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فَلُّهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بِعِيرِه، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، في رجال من قريش أصيب آباؤهم، وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا:يا معشر قريش، إن محمدا قد وَتَرَكم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرًا بمن أصيب منا! ففعلوا. قال:ففيهم - كما ذكر عن ابن عباس - أنـزل الله، عز وجل: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ [ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ] ) إلى قوله: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ )

وهكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، والحَكَم بن عتيبة، وقتادة، والسُّدِّي، وابن أبزَى:أنها نـزلت في أبي سفيان ونفقته الأموال في أُحُد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال الضحاك:نـزلت في أهل بدر.

وعلى كل تقدير، فهي عامة. وإن كان سبب نـزولها خاصا، فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق، فسيفعلون ذلك، ثم تذهب أموالهم، ( ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ) أي:ندامة؛ حيث لم تُجْدِ شيئًا؛ لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق، والله متم نوره ولو كره الكافرون، وناصر دينه، ومُعْلِن كلمته، ومظهر دينه على كل دين. فهذا الخزي لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار، فمن عاش منهم، رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه، ومن قُتِل منهم أو مات، فإلى الخِزْي الأبدي والعذاب السَّرْمَدِيّ؛ ولهذا قال: ( فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ )

وقوله تعالى: ( لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) فيميز أهل السعادة من أهل الشقاء وقال السُّدِّي:يميز المؤمن من الكافر. وهذا يحتمل أن يكون هذا التمييز في الآخرة، كما قال تعالى: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ [ يونس:28 ] ،وقال تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [ الروم:14 ] ،وقال في الآية الأخرى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [ الروم43 ] ،وقال تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [ يس:59 ] .

ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا، بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين، وتكون « اللام » معللة لما جعل الله للكفار من مال ينفقون في الصد عن سبيل الله، أي:إنما أقدرناهم على ذلك؛ ( لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) أي:من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين، أو يعصيه بالنكول عن ذلك كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ الآية [ آل عمران:166 ، 167 ] ، وقال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ الآية [ آل عمران:179 ] ، وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [ آل عمران:142 ] ونظيرتها في براءة أيضا.

فمعنى الآية على هذا:إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم، وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك؛ ليتميز الخبيث من الطيب، فيجعل الخبيث بعضه على بعض، ( فَيَرْكُمَهُ ) أي:يجمعه كله، وهو جمع الشيء بعضه على بعض، كما قال تعالى في السحاب: ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا [ النور:43 ] أي:متراكما متراكبا، ( فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) أي:هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ ( 38 ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 39 ) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( 40 )

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا ) أي:عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة، يغفر لهم ما قد سَلَف، أي:من كفرهم، وذنوبهم وخطاياهم، كما جاء في الصحيح، من حديث أبي وائل عن ابن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من أحْسَن في الإسلام، لم يُؤاخَذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام، أخذ بالأول والآخر »

وفي الصحيح أيضًا:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الإسلام يَجُبُّ ما قبله والتوبة تجب ما كان قبلها » .

وقوله: ( وَإِنْ يَعُودُوا ) أي:يستمروا على ما هم فيه، ( فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينَ ) أي:فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم، أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة.

وقوله: ( فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينَ ) أي:في قريش يوم بدر وغيرها من الأمم. وقال السدي ومحمد بن إسحاق:أي:يوم بدر.

وقوله: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) قال البخاري:حدثنا الحسن بن عبد العزيز، حدثنا عبد الله بن يحيى، حدثنا حَيْوَة بن شُرَيْح، عن بكر بن عمرو، عن بُكَيْر، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رجلا جاءه فقال:يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا الآية [ الحجرات:9 ] ، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال:يا ابن أخي، أُعَيَّر بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إلي من أن أُعَيَّر بالآية التي يقول الله، عز وجل:: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا إلى آخر الآية [ النساء:93 ] ، قال:فإن الله تعالى يقول: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) ؟ قال ابن عمر:قد فعلنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلا وكان الرجل يُفتن في دينه:إما أن يقتلوه، وإما أن يوثقوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة، فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد، قال:فما قولك في علي وعثمان؟ قال ابن عمر:ما قولي في علي وعثمان؟ أما عثمان فكان الله قد عفا عنه، وكرهتم أن يعفو عنه، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخَتَنُه - وأشار بيده - وهذه ابنته أو:بنته - حيث ترون.

وحدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زُهَيْر، حدثنا بَيَان أن وَبَرة حدثه قال:حدثني سعيد بن جُبَيْر قال:خرج علينا - أو:إلينا - ابن عمر، رضي الله عنهما، فقال رجل:كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال:وهل تدري ما الفتنة؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، وكان الدخول عليهم فتنة، وليس بقتالكم على الملك.

هذا كله سياق البخاري، رحمه الله

وقال عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر؛ أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا إن الناس قد صنعوا ما ترى، وأنت ابن عمر بن الخطاب، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ قال:يمنعني أن الله حرم عليَّ دم أخي المسلم. قالوا:أو لم يقل الله: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) ؟ قال:قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين كله لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله.

وكذا رواه حمَّاد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أيوب بن عبد الله اللخمي قال:كنت عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فأتاه رجل فقال:إن الله يقول: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) فقال ابن عمر:قاتلت أنا وأصحابي حتى كان الدين كله لله، وذهب الشرك ولم تكن فتنة، ولكنك وأصحابك تقاتلون حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله. رواهما ابن مَرْدُوَيه.

وقال أبو عَوَانة، عن الأعمش، عن إبراهيم التَّيْمِي، عن أبيه قال:قال ذو البطين - يعني أسامة بن زيد - لا أقاتل رجلا يقول:لا إله إلا الله أبدا. قال:فقال سعد بن مالك:وأنا والله لا أقاتل رجلا يقول:لا إله إلا الله أبدا. فقال رجل:ألم يقل الله: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) ؟ فقالا قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين كله لله. رواه ابن مردويه.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) يعني: [ حتى ] لا يكون شرك، وكذا قال أبو العالية، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع عن أنس، والسدي، ومُقاتِل بن حَيَّان، وزيد بن أسلم.

وقال محمد بن إسحاق:بلغني عن الزهري، عن عُرْوَة بن الزبير وغيره من علمائنا: ( حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) حتى لا يفتن مسلم عن دينه.

وقوله: ( وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) قال الضحاك، عن ابن عباس في هذه الآية، قال:يخلص التوحيد لله.

وقال الحسن وقتادة، وابن جُرَيْج: ( وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) أن يقال:لا إله إلا الله.

وقال محمد بن إسحاق:ويكون التوحيد خالصا لله، ليس فيه شرك، ويخلع ما دونه من الأنداد. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) لا يكون مع دينكم كفر.

ويشهد له ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله، عز وجل » وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال:سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حَمِيَّة، ويقاتل رِيَاءً، أيُّ ذلك في سبيل الله، عز وجل؟ فقال: « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله، عز وجل »

وقوله: ( فَإِنِ انْتَهَوْا ) أي:بقتالكم عما هم فيه من الكفر، فكفوا عنه وإن لم تعلموا بواطنهم، ( فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) كما قال تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ التوبة:5 ] ،وفي الآية الأخرى: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [ التوبة:11 ] .

وقال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ [ البقرة:193 ] .وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة - لما علا ذلك الرجل بالسيف، فقال: « لا إله إلا الله » ، فضربه فقتله، فذكر ذلك لرسول الله - فقال لأسامة: « أقتلته بعد ما قال:لا إله إلا الله؟ وكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ » قال:يا رسول الله، إنما قالها تعوذا. قال: « هلا شَقَقْتَ عن قلبه؟ » ، وجعل يقول ويكرر عليه: « من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ » قال أسامة:حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا ذلك اليوم

وقوله: ( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) أي:وإن استمروا على خلافكم ومحاربتكم، ( فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ ) سيدكم وناصركم على أعدائكم، فنعم المولى ونعم النصير.

وقال محمد بن جرير:حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا أبان العطار، حدثنا هشام بن عروة، عن عُرْوَة:أن عبد الملك بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء، فكتب إليه عروة:سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنك كتبت إلي تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وسأخبرك به، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كان من شأن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، أن الله أعطاه النبوة، فَنِعْم النَّبِيُّ، ونعم السيد، ونعم العشيرة، فجزاه الله خيرًا، وعرّفنا وجهه في الجنة، وأحيانا على ملته، وأماتنا عليها، وبعثنا عليه وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من الهدى والنور الذي أنـزل عليه، لم يبعدوا منه أول ما دعاهم إليه، وكادوا يسمعون منه، حتى ذكر طواغيتهم، وقدم ناس من الطائف من قريش، لهم أموال، أنكر ذلك عليه الناس واشتدوا عليه وكرهوا ما قال، وأغروا به من أطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس، فتركوه إلا من حفظه الله منهم، وهم قليل. فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث، ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم، وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال، فافتُتِن من افتتن، وعصم الله من شاء منهم، فلما فُعِل ذلك بالمسلمين، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة. وكان بالحبشة ملك صالح يقال له: « النجاشي » ، لا يظلم أحد بأرضه، وكان يُثْنَى عليه مع ذلك، وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش، يتجرون فيها، وكانت مَسْكَنًا لتجارهم، يجدون فيها رفاغا من الرزق وأمنا ومتجرا حسنا، فأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة، وخاف عليهم الفتن. ومكث هو فلم يبرح. فمكث بذلك سنوات يشتدون على من أسلم منهم. ثم إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم ومنعتهم. فلما رأوا ذلك. استرخوا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، وكانت الفتنة الأولى هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبل أرض الحبشة مخافتها، وفرارا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال، فلما استرخى عنهم ودخل في الإسلام من دخل منهم، تحدث باسترخائهم عنهم، فبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:أنه:قد استرخي عمن كان منهم بمكة، وأنهم لا يفتنون، فرجعوا إلى مكة، وكادوا يأمنون بها، وجعلوا يزدادون ويكثرون. وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير، وفشا بالمدينة الإسلام، وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما رأت قريش ذلك، تآمرت على أن يفتنوهم ويشتدوا، فأخذوهم، فحرصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جهد شديد، فكانت الفتنة الأخيرة، فكانت فتنتان:فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة، حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها، وأذن لهم في الخروج إليها - وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة. ثم إنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبًا، رؤوس الذين أسلموا، فوافوه بالحج، فبايعوه بالعقبة، وأعطوه عهودهم على أنا منك وأنت منا، وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا، فاشتدت عليهم قريش عند ذلك، فأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وخرج هو، وهي التي أنـزل الله، عز وجل، فيها: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ )

ثم رواه عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّنَاد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير:أنه كتب إلى الوليد - يعني ابن عبد الملك بن مروان - بهذا، فذكر مثله وهذا صحيح إلى عروة، رحمه الله.