يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا
رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا
اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ
تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 94 ) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ
لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 95 ) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا
عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ ( 96 )
أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا
رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم، ( قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ
لَكُمْ ) أي:لن نصدقكم، ( قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ
أَخْبَارِكُمْ ) أي:قد أعلمنا الله أحوالكم، ( وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ ) أي:سيظهر أعمالكم
للناس في الدنيا، ( ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي:فيخبركم بأعمالكم، خيرها وشرها،
ويجزيكم عليها.
ثم أخبر عنهم أنهم سيحلفون معتذرين
لتعرضوا عنهم فلا تُؤَنِّبُوهم، ( فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ) احتقارا لهم، ( إِنَّهُمْ رِجْسٌ ) أي:خُبثاء نجس بواطنهم واعتقاداتهم،
( وَمَأْوَاهُمْ ) في آخرتهم ( جهنم ) ( جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) أي:من الآثام والخطايا.
وأخبر أنهم وإن رضوا عنهم بحلفهم لهم،
( فَإِنَّ اللَّهَ
لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) أي:الخارجين عن طاعته وطاعة رسوله،
فإن الفسق هو الخروج، ومنه سميت الفأرة « فُوَيسقة » لخروجها من جُحرها للإفساد، ويقال: « فسقت الرطبة » :إذا خرجت من أكمامها
الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا
وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 97 ) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا
وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 98 ) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا
إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 99 )
أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين، وأن كفرهم ونفاقهم
أعظم من غيرهم وأشد، وأجدر، أي:أحرى ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله، كما
قال الأعمش عن إبراهيم قال:جلس أعرابي إلى زيد بن صَوْحان وهو يحدث أصحابه، وكانت
يده قد أصيبت يوم نهاوَند، فقال الأعرابي:والله إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتريبني
فقال زيد:ما يُريبك من يدي؟ إنها الشمال. فقال الأعرابي:والله ما أدري، اليمين
يقطعون أو الشمالَ؟ فقال زيد بن صوحان صدق الله: ( الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا
وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنـزلَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ )
وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا سفيان، عن أبي
موسى، عن وهب بن مُنَبِّه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من سكن البادية
جفا، ومن اتبع الصيد غَفَل، ومن أتى السلطان افتتن » .
ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي من طرق، عن سفيان الثوري، به
وقال الترمذي:حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث الثوري.
ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا وإنما
كانت البعثة من أهل القرى، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا
رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [ يوسف:109 ] ولما أهدى ذلك
الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّ عليه أضعافها حتى رضي،
قال: « لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قُرشي، أو ثَقَفي أو أنصاري، أو
دَوْسِيّ » ؛ لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن:مكة، والطائف، والمدينة، واليمن،
فهم ألطف أخلاقًا من الأعراب:لما في طباع الأعراب من الجفاء.
حديث [ الأعرابي ] في تقبيل
الولد:قال مسلم:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيْب قالا حدثنا أبو أسامة وابن
نُمَيْر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت:قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالوا:أتقبِّلون صبيانكم؟ قالوا:نعم. قالوا:ولكنا والله ما
نقبِّل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وَأمْلكُ أن كان الله نـزع منكم
الرحمة؟ » . وقال ابن نمير: « من قلبك الرحمة »
وقوله: ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي:عليم بمن يستحق
أن يعلمه الإيمان والعلم، ( حَكِيمٌ ) فيما قسم بين
عباده من العلم والجهل والإيمان والكفر والنفاق، لا يسأل عما يفعل، لعلمه وحكمته.
وأخبر تعالى أن منهم ( مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ ) أي:في سبيل الله ( مَغْرَمًا ) أي:غرامة وخسارة،
( وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ) أي:ينتظر بكم
الحوادث والآفات، ( عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ) أي:هي منعكسة
عليهم والسوء دائر عليهم، ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أي:سميع لدعاء
عباده، عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان.
وقوله: ( وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ
وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ) هذا هو القسم الممدوح من الأعراب،
وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله، ويبتغون بذلك
دعاء الرسول لهم، ( أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ ) أي:ألا إن ذلك
حاصل لهم، ( سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ )