التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 112 )

هذا نعتُ المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة: ( التَّائِبُونَ ) من الذنوب كلها، التاركون للفواحش، ( الْعَابِدُونَ ) أي:القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها، وهي الأقوال والأفعال فمن أخَصّ الأقوال الحمد ؛ فلهذا قال: ( الْحَامِدُونَ ) ومن أفضل الأعمال الصيامُ، وهو ترك الملاذِّ من الطعام والشراب والجماع، وهو المراد بالسياحة هاهنا؛ ولهذا قال: ( السَّائِحُونَ ) كما وصف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى: سَائِحَاتٍ [ التحريم:5 ] أي:صائمات، وكذا الركوع والسجود، وهما عبارة عن الصلاة، ولهذا قال: ( الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ ) وهم مع ذلك ينفعون خلق الله، ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركُه، وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه، علما وعملا فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق؛ ولهذا قال: ( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) لأن الإيمان يشمل هذا كله، والسعادة كل السعادة لمن اتصف به.

[ بيان أن المراد بالسياحة الصيام ] :

قال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله بن مسعود قال: ( السَّائِحُونَ ) الصائمون. وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير، والعوفي عن ابن عباس.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:كل ما ذكر الله في القرآن السياحة، هم الصائمون. وكذا قال الضحاك، رحمه الله.

وقال ابن جرير:حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:سياحةُ هذه الأمة الصيام.

وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَير، وعطاء، وأبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك بن مُزاحم، وسفيان بن عُيينة وغيرهم:أن المراد بالسائحين:الصائمون.

وقال الحسن البصري: ( السَّائِحُونَ ) الصائمون شهر رمضان.

وقال أبو عمرو العَبْدي: ( السَّائِحُونَ ) الذين يديمون الصيام من المؤمنين.

وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا، وقال ابن جرير:حدثني محمد بن عبد الله بن بَزِيع، حدثنا حكيم بن حزام، حدثنا سليمان، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « السائحون هم الصائمون »

[ ثم رواه عن بُنْدَار، عن ابن مهدي، عن إسرائيل، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال: ( السَّائِحُونَ ) الصائمون ] .

وهذا الموقوف أصح.

وقال أيضا:حدثني يونس، عن ابن وهب، عن عمر بن الحارث، عن عمرو بن دينار، عن عُبَيد بن عُمَير قال:سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين فقال: « هم الصائمون » .

وهذا مرسل جيد.

فهذه أصح الأقوال وأشهرها، وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد، وهو ما روى أبو داود في سننه، من حديث أبي أمامة أن رجلا قال:يا رسول الله، ائذن لي في السياحة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله » .

وقال ابن المبارك، عن ابن لَهِيعة:أخبرني عُمارة بن غَزِيَّة:أن السياحة ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أبدلنا الله بذلك الجهاد في سبيل الله، والتكبير على كل شرف » .

وعن عِكْرِمة أنه قال:هم طلبة العلم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:هم المهاجرون. رواهما ابن أبي حاتم.

وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض، والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتَن والزلازل في الدين، كما ثبت في صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يوشك أن يكون خير مال الرجل غَنَم يَتْبَع بها شَعفَ الجبال، ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن » .

وقال العوفي وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ) قال:القائمون بطاعة الله. وكذا قال الحسن البصري، وعنه رواية: ( وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ) قال:لفرائض الله، وفي رواية:القائمون على أمر الله.

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 113 ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ( 114 )

قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبيه قال:لما حَضَرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال: « أيْ عَمّ، قل:لا إله إلا الله. كلمة أحاجّ لك بها عند الله، عز وجل » . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية:يا أبا طالب، أترغب عن ملَّة عبد المطلب؟ [ قال:فلم يزالا يكلمانه، حتى قال آخر شيء كلمهم به:على ملة عبد المطلب ] . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك » . فنـزلت: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) قال:ونـزلت فيه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [ القصص:56 ] أخرجاه.

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن آدم، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل، عن علي، رضي الله عنه، قال:سمعت رجلا يستغفر لأبويه، وهما مشركان، فقلت:أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان؟ فقال:أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنـزلت: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) إلى قوله: ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ ) قال: « لما مات » ، فلا أدري قاله سفيان أو قاله إسرائيل، أو هو في الحديث « لما مات » .

قلت هذا ثابت عن مجاهد أنه قال:لما مات.

وقال الإمام أحمد:حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا زهير، حدثنا زبيد بن الحارث اليامي عن محارب بن دثار، عن ابن بُرَيْدة، عن أبيه قال:كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنـزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تَذْرِفان، فقام إليه عمر بن الخطاب وفَداه بالأب والأم، وقال:يا رسول الله، ما لك؟ قال: « إني سألت ربي، عز وجل، في الاستغفار لأمي، فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث:نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، لتذكركم زيارتُها خيرًا، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وأمسكوا ما شئتم، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية، فاشربوا في أي وعاء ولا تشربوا مسكرا » .

وروى ابن جرير، من حديث علقمة بن مَرْثد، عن سليمان بن بُرَيدة، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رَسْمَ قبر، فجلس إليه، فجعل يخاطب، ثم قام مستعبرًا. فقلنا:يا رسول الله، إنا رابنا ما صنعت. قال: « إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي » . فما رئي باكيا أكثر من يومئذ.

وقال ابن أبي حاتم، في تفسيره:حدثنا أبي، حدثنا خالد بن خِداش، حدثنا عبد الله بن وهب، عن ابن جرَيج عن أيوب بن هانئ، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال:خرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر، فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها، فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب، فدعاه ثم دعانا، فقال: « ما أبكاكم؟ » فقلنا:بكينا لبكائك. قال: « إن القبر الذي جلستُ عنده قبر آمنة، وإني استأذنتُ ربي في زيارتها فأذن لي » ثم أورده من وجه آخر، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبا منه، وفيه: « وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، وأنـزل علي: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة » .

حديث آخر في معناه:قال الطبراني:حدثنا محمد بن علي المروزي، حدثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كَيْسَان، عن أبيه، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر، فلما هبط من ثنية عُسْفان أمر أصحابه:أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم، فذهب فنـزل على قبر أمّه، فناجى ربَّه طويلا ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه، وبكى هؤلاء لبكائه، وقالوا:ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أُحدثَ في أمته شيء لا تُطيقه. فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم، فقال: « ما يبكيكم؟ » . قالوا:يا نبي الله، بكينا لبكائك، فقلنا:لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه، قال: « لا وقد كان بعضه، ولكن نـزلت على قبر أمي فدعوت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة، فأبى الله أن يأذن لي، فرحمتها وهي أمّي، فبكيت، ثم جاءني جبريل فقال: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) فتبرّأ أنت من أمك، كما تبرأ إبراهيم من أبيه، فرحمْتُها وهي أمي، ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعًا، فرفع عنهم اثنتين، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين:دعوتُ ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغَرَق من الأرض، وألا يلبسهم شيعا، وألا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج » . وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كَداء وكانت عُسْفان لهم.

وهذا حديث غريب وسياق عجيب، وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب « السابق واللاحق » بسند مجهول، عن عائشة في حديث فيه قصة أن الله أحيا أمَّه فآمنت ثم عادت. وكذلك ما رواه السهيلي في « الروض » بسند فيه جَمَاعة مجهولون:أن الله أحيا له أباه وأمه فآمنا به.

وقد قال الحافظ ابن دِحْيَةَ: [ هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع، قال الله تعالى: وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [ النساء:18 ] . وقال أبو عبد الله القرطبي:إن مقتضى هذا الحديث. . . وردَّ عَلَى ابن دِحية ] في هذا الاستدلال بما حاصله:أن هذه حياة جديدة، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلى عَلِيٌّ العصر، قال الطحاوي:وهو [ حديث ] ثابت، يعني:حديث الشمس.

قال القرطبي:فليس إحياؤهما يمتنع عقلا ولا شرعا، قال:وقد سمعت أن الله أحيا عمه أبا طالب، فآمن به.

قلت:وهذا كله متوقف على صحة الحديث، فإذا صح فلا مانع منه والله أعلم.

وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) الآية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه، فنهاه الله عن ذلك فقال: « فإنّ إبراهيم خليل الله استغفر لأبيه » ، فأنـزل الله: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ) الآية.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في هذه الآية:كانوا يستغفرُون لهم، حتى نـزلت هذه الآية، فلما [ نـزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ] ثم أنـزل الله: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ ) الآية.

وقال قتادة في هذه الآية:ذُكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا:يا نبي الله، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار، ويصل الأرحام، ويفُكّ العاني، ويوفي بالذمم؛ أفلا نستغفر لهم؟ قال:فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « بلى، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه » . فأنـزل الله: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) حتى بلغ: ( الْجَحِيمِ ) ثم عذر الله تعالى إبراهيم، فقال: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) قال:وذُكر لنا أن نبي الله قال: « أوحى إليّ كلمات، فدخلن في أذني ووقَرْن في قلبي:أمِرْتُ ألا أستغفرَ لمن مات مشركا، ومن أعطى فَضْلَ ماله فهو خيرٌ له، ومن أمسك فهو شرٌ له، ولا يلوم الله على كَفاف » .

وقال الثوري، عن الشيباني، عن سعيد بن جُبير قال:مات رجل يهودي وله ابن مسلم، فلم يخرج معه، فذكر ذلك لابن عباس فقال:فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيا، فإذا مات وكَّله إلى شأنه ثم قال: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) لم يَدْعُ.

[ قلت ] وهذا يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره، عن علي بن أبي طالب قال:لما مات أبو طالب قلت:يا رسول الله، إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: « اذهب فَوَاره ولا تُحْدثَنَّ شيئا حتى تأتيني » . وذكر تمام الحديث.

ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مَرّت به جنازة عمه أبي طالب قال: « وَصَلتكَ رَحِمٌ يا عم » .

وقال عطاء بن أبي رباح:ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا على المشركين، يقول الله، عز وجل: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) .

وروى ابنُ جَرير، عن ابن وَكِيع، عن أبيه، عن عصمة بن زامل، عن أبيه قال:سمعت أبا هريرة يقول:رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه. قلت:ولأبيه؟ قال:لا. قال:إن أبي مات مشركا.

وقوله: ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) قال ابن عباس:ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. وفي رواية:لما مات تبين له أنه عدو لله.

وكذا قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وغيرهم، رحمهم الله.

وقال عُبَيْد بن عمير، وسعيد بن جُبَيْر:إنه يتبرأ منه [ في ] يوم القيامة حين يلقى أباه، وعلى وجه أبيه الغُبرة والقُتْرة فيقول:يا إبراهيم، إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك. فيقول:أيْ رَبي، ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون؟ فأيّ خزْي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقال:انظر إلى ما وراءك، فإذا هو بِذِيخٍ متلطخ، أي:قد مسخ ضِبْعانًا، ثم يسحب بقوائمه، ويلقى في النار.

وقوله: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ) قال سفيان الثوري وغير واحد، عن عاصم بن بَهْدَلة، عن زِرّ بن حُبَيش، عن عبد الله بن مسعود أنه قال:الأَوَّاهُ:الدَّعَّاء. وكذا روي من غير وجه، عن ابن مسعود.

وقال ابن جرير:حدثني المثنى:حدثنا الحجاج بن مِنْهال، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرام، حدثنا شَهْر بن حَوشب، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال:بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس قال رجل:يا رسول الله، ما الأوّاه؟ قال: « المتضرع » ، قال: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ )

ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن المبارك، عن عبد الحميد بن بَهْرَام، به، قال:المتضرع:الدَّعَّاء.

وقال الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مسلم البَطِين عن أبي العُبَيْديْن أنه سأل ابن مسعود عن الأواه، فقال:هو الرحيم.

وبه قال مجاهد، وأبو ميسرة عمرو بن شُرَحْبيل، والحسن البصري، وقتادة:أنه الرحيم، أي:بعباد الله.

وقال ابن المبارك، عن خالد، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:الأوَّاه:الموقن بلسان الحبشة. وكذا قال العوفي، عن ابن عباس:أنه الموقن. وكذا قال مجاهد، والضحاك. وقال علي بن أبي طلحة، ومجاهد، عن ابن عباس:الأواه:المؤمن - زاد علي بن أبي طلحة عنه:المؤمن التواب. وقال العوفي عنه:هو المؤمن بلسان الحبشة. وكذا قال ابن جُرَيْج:هو المؤمن بلسان الحبشة.

وقال أحمد:حدثنا موسى، حدثنا ابن لهِيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له « ذو البِجادين » : « إنه أواه » ، وذلك أنه رجل كثير الذكر لله في القرآن ويرفع صوته في الدعاء.

ورواه ابن جرير.

وقال سعيد بن جبير، والشعبي:الأواه:المسبّح. وقال ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جُبَير بن نفير، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال:لا يحافظ على سبحة الضحى إلا أواه. وقال شُفَيُّ بن ماتع، عن أيوب:الأواه:الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها.

وعن مجاهد:الأواه:الحفيظ الوجل، يذنب الذنب سرا، ثم يتوب منه سرا.

ذكر ذلك كلَّه ابن أبي حاتم، رحمه الله.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا المحاربي، عن حجاج، عن الحكم، عن الحسن بن مسلم بن يناق:أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبّح، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: « إنه أواه » .

وقال أيضا حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا ابن يمان، حدثنا المِنْهَال بن خليفة، عن حَجّاج بن أرطأة، عن عطاء، عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتا، فقال: « رحمك الله إن كنتَ لأواها » ! يعني:تَلاءً للقرآن وقال شعبة، عن أبي يونس الباهلي قال:سمعت رجلا بمكة - وكان أصله روميا، وكان قاصا - يحدث عن أبي ذر قال:كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه: « أوّه أوّه » ، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:إنه أواه. قال:فخرجت ذات ليلة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح.

هذا حديث غريب رواه ابن جرير ومشاه.

وروي عن كعب الأحبار أنه قال: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ ) قال:كان إذا ذكر النار قال: « أوّه من النار » .

وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ ) قال:فقيه.

قال الإمام العلم أبو جعفر بن جرير:وأولى الأقوال قول من قال:إنَّه الدعَّاء، وهو المناسب للسياق، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها؛ ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه في قوله: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [ مريم:46، 47 ] ، فحلم عنه مع أذاه له، ودعا له واستغفر؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ )

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 115 ) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 116 )

يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل:إنه لا يضل قوما بعد بلاغ الرسالة إليهم، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة، كما قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى الآية [ فصلت:17 ] .

وقال مجاهد في قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ) قال:بيان الله، عز وجل، للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة، فافعلوا أو ذَروا.

وقال ابن جرير:يقول الله تعالى:وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا، فأما قبل أن يبين لكم كراهيته ذلك بالنهي عنه، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي، وأما من لم يُؤمَر ولم يُنْهَ فغير كائن مطيعا أو عاصيًا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) قال ابن جرير:هذا تحريض من الله لعباده المؤمنين في قتال المشركين وملوك الكفر، وأن يثقوا بنصر الله مالك السماوات والأرض، ولم يرهبوا من أعدائه فإنه لا ولي لهم من دون الله، ولا نصير لهم سواه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صفوان بن مُحْرِز، عن حكيم بن حزام قال:بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم: « هل تسمعون ما أسمع؟ » قالوا ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تَئطَّ، وما فيها من موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم » .

وقال كعب الأحبار:ما من موضع خرمة إبرة من الأرض إلا وملك موكل بها، يرفع علم ذلك إلى الله، وإن ملائكة السماء لأكثر من عدد التراب، وإن حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى مُخّه مسيرة مائة عام.

لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 117 )

قال مجاهد وغير واحد:نـزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر في سنة مُجدبة وحر شديد، وعسر من الزاد والماء.

قال قتادة:خرجوا إلى الشام عام تبوك في لَهَبان الحر، على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهد شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم، يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا، ثم يشرب عليها، [ ثم يمصها هذا، ثم يشرب عليها ] فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم.

وقال ابن جرير:حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جُبَير بن مطعم، عن عبد الله بن عباس؛ أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر بن الخطاب:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنـزلنا منـزلا فأصابنا فيه عَطَش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع [ حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ] حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فَرْثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق:يا رسول الله، إن الله عز وجل، قد عَوّدك في الدعاء خيرا، فادع لنا. قال: « تحب ذلك » . قال:نعم! فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء فأظَلَّت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.

وقال ابن جرير في قوله: ( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ) أي:من النفقة والظهر والزاد والماء، ( مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) أي:عن الحق ويشك في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرتاب، بالذي نالهم من المشقة والشدة في سفره وغزوه، ( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ) يقول:ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم، والرجوع إلى الثبات على دينه، ( إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) .