وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 118 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ( 119 )

قال الإمام أحمد:حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله، عن عمه محمد بن مسلم الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عَمِيَ - قال:سمعت كعب بن مالك يحدّث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال كعب بن مالك:لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غيرها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر، ولم يعاتَب أحدٌ تخلف عنها، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عِير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد، ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذْكَر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنه في تلك الغزاة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَّما يريد غزوة يغزوها إلا وَرّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازًا، واستقبل عدوا كثيرًا فَجَلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وَجْهَه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - فقال كعب:فَقَلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينـزل فيه وحي من الله، عز وجل، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل، وأنا إليها أصعر. فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا، فأقول لنفسي:أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمَّر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، وقلت:الجهاز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعدما فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا من جهازي. ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل [ ذلك ] يَتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم - وليت أنّي فعلتُ - ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجتُ في الناس بعد [ خروج ] رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فَطُفتُ فيهم ] يحزنني ألا أرى إلا رجلا مَغْموصا عليه في النفاق، أو رجلا ممن عذره الله، عز وجل، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: « ما فعل كعب بن مالك؟ » قال رجل من بني سَلمة:حبسه يا رسول الله بُرْداه، والنظر في عَطْفيه. فقال له معاذ بن جبل:بئسما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال كعب بن مالك:فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تَوجَّه قافلا من تبوك حضرني بَثّي فطفقت أتذكر الكَذب، وأقول:بماذا أخرج من سخطه غدا؟ أستعين على ذلك كلّ ذي رأي من أهلي. فلما قيل:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادما، زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا. فأجمعتُ صدقه، وصَبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس. فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له - وكانوا بضعة وثمانين رجلا - فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت، فلما سلَّمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: « تعال » ، فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي: « ما خلَّفك، ألم تك قد اشتريت ظهرك » ؟ قال:فقلت:يا رسول الله، إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سَخَطه بعذر، لقد أعطيتُ جَدَلا ولكنه والله لقد علمتُ لئن حَدّثتك اليوم حديث كَذب ترضى به عني، ليوشكن الله يُسْخطك علي، ولئن حدثتك بصدق تَجدُ عَليّ فيه، إني لأرجو أقرب عقبى ذلك [ عفوًا ] من الله، عز وجل والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك » . فقمت وبادرني رجال من بني سلمة واتبعوني، فقالوا لي:والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عَجَزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون فقد كان كافيك [ من ذنبك ] استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. قال:فوالله ما زالوا يؤنّبوني حتى أردت أن أرجع فأُكذِّب نفسي:قال:ثم قلت لهم:هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا:نعم، [ لقيه معك ] رجلان، قالا ما قلتَ، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت:فمن هما؟ قالوا:مُرَارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة. قال:فمضيت حين ذكروهما لي - قال:ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا - أيها الثلاثة - من بين من تخلف عنه، فاجتنَبنَا الناس وتغيّروا لنا، حتى تنكرَتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشَب القوم وأجلَدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم، وأقول في نفسي:حَرّك شفتيه برد السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرَض، حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مَشَيت حتى تسورت حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي - فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت له:يا أبا قتادة، أنشدُك الله:هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال:فسكت. قال:فعدتُ فنشدته [ فسكت، فعدت فنشدته ] فقال:الله ورسوله أعلم. قال:ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوّرت الجدار. فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطِيٌّ من أنباط الشام، ممن قَدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول:من يدل على كعب بن مالك؟ قال:فطفِقَ الناس يشيرون له إليّ، حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فإذا فيه:أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هَوان ولا مَضْيَعة، فالحق بنا نُواسكَ. قال:فقلت حين قرأتها:وهذا أيضًا من البلاء. قال:فتيممت به التنور فَسَجرته حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال:فقلت:أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال:بل اعتزلها ولا تقربها. قال:وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك قال:فقلت لامرأتي:الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال:فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له:يا رسول الله، إن هلالا شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: « لا ولكن لا يقربَنَّك » قالت:وإنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما يزال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا. قال:فقال لي بعض أهلي:لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قال:فقلت:والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أدري ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب؟ قال:فلبثنا [ بعد ذلك ] عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا قال:ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا:قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سَلْع يقول بأعلى صوته:يا كعب بن مالك، أبشر. قال:فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَل صاحبيّ مبشرون، وركض إلي رجُل فرسًا، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، فنـزعت ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون:لِيَهْنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يُهرول، حتى صافحني وهَنَّأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال:فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب:فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرُق وجهه من السرور: « أبشر بخير يوم مَرّ عليك منذ ولدتك أمّك » . قال:قلت:أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: « لا بل من عند الله » . قال:وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، حتى يعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت:يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال: « أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك » . قال:فقلت:فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت:يا رسول الله، إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت. قال:فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كَذبَةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال:وأنـزل الله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال كعب:فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا أكون كَذَبْتُه فأهلك كما هلك الذين كَذَبوه [ حين كَذَبُوه ] ؛ فإن الله تعالى قال للذين كَذَبوه حين أنـزل الوحي شر ما قال لأحد، قال الله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [ التوبة:95، 96 ] . قال:وكنا خُلّفنا - أيها الثلاثة - عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسولُ الله أمرَنا، حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله تعالى: ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) وليس تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خُلِّفنا بتخلفنا عن الغزو، وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه، فقبل منه.

هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته، رواه صاحبا الصحيح:البخاري ومسلم من حديث الزهري، بنحوه.

فقد تضمن هذا الحديث تفسير هذه الآية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها. وكذا رُوي عن غير واحد من السلف في تفسيرها، كما رواه الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى: ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) قال:هم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومُرارة بن ربيعة وكلهم من الأنصار.

وكذا قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي وغير واحد - وكلهم قال:مُرارة بن ربيعة.

[ وكذا في مسلم:مرارة بن ربيعة في بعض نسخه، وفي بعضها:مرارة بن الربيع ] .

وفي رواية عن سعيد بن جُبَير:ربيع بن مرارة.

وقال الحسن البصري:ربيع بن مرارة أو مرارة بن ربيع.

وفي رواية عن الضحاك:مُرارة بن الربيع، كما وقع في الصحيحين، وهو الصواب.

وقوله: « فسموا رجلين شهدا بدرا » ، قيل:إنه خطأ من الزهري، فإنه لا يُعْرَف شُهودُ واحد من هؤلاء الثلاثة بدرا، والله أعلم.

ولما ذكر تعالى ما فرّج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب، من هجر المسلمين إياهم نحوا من خمسين ليلة بأيامها، وضاقت عليهم أنفسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رَحُبت، أي:مع سعتها، فسدّدت عليهم المسالك والمذاهب، فلا يهتدون ما يصنعون، فصبروا لأمر الله، واستكانوا لأمر الله، وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخلفهم، وأنه كان عن غير عذر، فعوقبوا على ذلك هذه المدة، ثم تاب الله عليهم، فكان عاقبة صدقهم خيرا لهم وتوبة عليهم؛ ولهذا قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) أي:اصدُقوا والزموا الصدق تكونوا مع أهله وتنجوا من المهالك ويجعل لكم فرجا من أموركم، ومخرجا، وقد قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن شقيق ؛ عن عبد الله، هو ابن مسعود، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا » .

أخرجاه في الصحيحين.

وقال شعبة، عن عمرو بن مُرّة، سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال: [ إن ] الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، اقرءوا إن شئتم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مِنَ الصَّادِقِينَ ) - هكذا قرأها - ثم قال:فهل تجدون لأحد فيه رخصة.

وعن عبد الله بن عمر: ( اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

وقال الضحاك:مع أبي بكر وعمر وأصحابهما.

وقال الحسن البصري:إن أردت أن تكون مع الصادقين، فعليك بالزهد في الدنيا، والكف عن أهل الملة.

مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 120 )

يعاتب تعالى المتخلّفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوك، من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل من المشقة، فإنهم نَقَصُوا أنفسهم من الأجر؛ لأنهم ( لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ) وهو:العطش ( وَلا نَصَبٌ ) وهو:التعب ( وَلا مَخْمَصَةٌ ) وهي:المجاعة ( وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ ) أي:ينـزلون منـزلا يُرهبُ عدوهم ( وَلا يَنَالُونَ ) منه ظفرًا وغلبة عليه إلا كتب الله لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرتهم، وإنما هي ناشئة عن أفعالهم، أعمالا صالحة وثوابا جزيلا ( إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) كما قال تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا [ الكهف:30 ] .

وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 121 )

يقول تعالى:ولا ينفق هؤلاء الغزاة في سبيل الله ( نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ) أي:قليلا ولا كثيرا ( وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا ) أي:في السير إلى الأعداء ( إِلا كُتِبَ لَهُمْ ) ولم يقل ها هنا « به » لأن هذه أفعال صادرة عنهم؛ ولهذا قال: ( لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، من هذه الآية الكريمة حظ وافر، ونصيب عظيم، وذلك أنه أنفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة، والأموال الجزيلة، كما قال عبد الله بن الإمام أحمد:

حدثنا أبو موسى العنـزي، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني سَكَن بن المغيرة، حدثني الوليد بن أبي هاشم، عن فرقد أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن خَبَّاب السلمي قال:خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان، رضي الله عنه:عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. قال:ثم حث، فقال عثمان:عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال:ثم نـزل مرْقاة من المنبر ثم حث، فقال عثمان بن عفان:علىَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال:فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا - يحركها. وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب: « ما على عثمان ما عمل بعد هذا » .

وقال عبد الله أيضا:حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ضَمْرَة، حدثنا عبد الله بن شَوْذَب، عن عبد الله بن القاسم، عن كثير مولى عبد الرحمن بن سَمُرة، عن عبد الرحمن بن سمرة قال:جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جَهَّز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة قال:فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول: « ما ضَرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم » . يرددها مرارا.

وقال قتادة في قوله تعالى: ( وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ ) الآية:ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعدًا إلا ازدادوا من الله قربا.

وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ( 122 )

هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نَفير الأحياء مع الرسول في غزوة تبوك، فإنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا [ التوبة:41 ] ، وقال: مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [ التوبة:120 ] ، قالوا:فنسخ ذلك بهذه الآية.

وقد يقال:إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها، وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم، ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينـزل من الوحي عليه، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو، فيجتمع لهم الأمران في هذا:النفير المعين وبعده، صلوات الله وسلامه عليه، تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه وإما للجهاد؛ فإنه فرض كفاية على الأحياء.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) يقول:ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ) يعني:عصبة، يعني:السرايا، ولا يَتَسرَّوا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نـزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا:إن الله قد أنـزل على نبيكم قرآنا، وقد تعلمناه. فتمكث السرايا يتعلمون ما أنـزل الله على نبيهم بعدهم، ويبعث سرايا أخرى، فذلك قوله: ( لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) يقول:ليتعلموا ما أنـزل الله على نبيهم، وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) .

وقال مجاهد:نـزلت هذه الآية في أناس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفا، ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال الناس لهم:ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا. فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله، عز وجل: ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ) يبتغون الخير، ( لِيَتَفَقَّهُوا [ فِي الدِّينِ ] ) وليستمعوا ما في الناس، وما أنـزل الله بعدهم، ( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ ) الناس كلهم ( إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) .

وقال قتادة في هذه الآية:هذا إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش، أمرهم الله ألا يُعرَوْا نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وتقيم طائفة مع رسول الله تتفقه في الدين، وتنطلق طائفة تدعو قومها، وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم.

وقال الضحاك:كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يحلْ لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه، إلا أهل الأعذار. وكان إذا أقام فاسترت السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه، فكان الرجل إذا استرى فنـزل بعده قرآن، تلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه القاعدين معه، فإذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن الله أنـزل بعدكم على نبيه قرآنا. فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين، وهو قوله: ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) يقول إذا أقام رسول الله ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ) يعني بذلك:أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبي الله صلى الله عليه وسلم قاعد، ولكن إذا قعد نبي الله تسرت السرايا، وقعد معه عُظْم الناس.

وقال [ علي ] بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس:قوله: ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) فإنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مُضر بالسنين أجدبت بلادهم، وكانت القبيلة منهم تُقبِل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد، ويعتلّوا بالإسلام وهم كاذبون. فضيقوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم. فأنـزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا مؤمنين، فردهم رسول الله إلى عشائرهم، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم، فذلك قوله: ( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) .

وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية:كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة، فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم. فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم، ويتفقهون في دينهم، ويقولون لنبي الله:ما تأمرنا أن نفعله؟ وأخبرنا [ ما نقول ] لعشائرنا إذا قدمنا انطلقنا إليهم. قال:فيأمرهم نبي الله بطاعة الله وطاعة رسوله، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة. وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا:إن من أسلم فهو منا، وينذرونهم، حتى إن الرجل ليفارق أباه وأمه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرهم قومهم، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة.

وقال عكرمة:لما نـزلت هذه الآية: [ الشريفة ] إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [ التوبة:39 ] ، و مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا [ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ] [ التوبة:120 ] ، قال المنافقون:هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه. وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم، فأنـزل الله، عز وجل: ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ) الآية، ونـزلت: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ الآية [ الشورى:16 ] .

وقال الحسن البصري: ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) قال:ليتفقه الذين خرجوا، بما يردهم الله من الظهور على المشركين، والنصرة، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.