وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 107 )

وقوله: ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ) إلى آخرها، بيان لأن الخير والشر والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده لا يشاركه في ذلك أحد، فهو الذي يستحق العبادة وحده، لا شريك له.

روى الحافظ ابن عساكر، في ترجمة صفوان بن سليم، من طريق عبد الله بن وهب:أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن موسى، عن صفوان بن سليم، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده واسألوه أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم »

ثم رواه من طريق الليث، عن عيسى بن موسى، عن صفوان، عن رجل من أشجع، عن أبي هريرة مرفوعا؛ بمثله سواء

وقوله: ( وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) أي:لمن تاب إليه وتوكل عليه، ولو من أيّ ذنب كان، حتى من الشرك به، فإنه يتوب عليه.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ( 108 ) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 109 )

يقول تعالى آمرا لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه، أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفع ذلك الاتباع على نفسه، [ ومن ضل عنه فإنما يرجع وبال ذلك عليه ]

( وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) أي:وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين به، وإنما أنا نذير لكم، والهداية على الله تعالى.

وقوله: ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ ) أي:تمسك بما أنـزل الله عليك وأوحاه واصبر على مخالفة من خالفك من الناس، ( حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ ) أي:يفتح بينك وبينهم، ( وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) أي:خير الفاتحين بعدله وحكمته.

 

 

تفسير سورة هود

 

[ وهي مكية ] .

قال الحافظ أبو يعلى:حدثنا خلف بن هشام البزار، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عِكْرِمة قال:قال أبو بكر:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم:ما شَيّبك؟ قال: « شيبتني هود، والواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت » .

وقال أبو عيسى الترمذي:حدثنا أبو كُرَيْب محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:قال أبو بكر:يا رسول الله، قد شبت؟ قال: « شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت » وفي رواية: « هود وأخواتها » .

وقال الطبراني:حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا حماد بن الحسن، حدثنا سعيد بن سلام، حدثنا عمر بن محمد، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « شيبتني هود وأخواتها:الواقعة، والحاقة، وإذا الشمس كورت » وفي رواية: « هود وأخواتها » .

وقد روي من حديث ابن مسعود، فقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير:حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أحمد بن طارق الرائشي ، حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه؛ أن أبا بكر قال:يا رسول الله، ما شيبك؟ قال: « هود، والواقعة » .

عمرو بن ثابت متروك، وأبو إسحاق لم يدرك ابن مسعود. والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ( 1 ) أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ( 2 ) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ( 3 ) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 4 )

قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا، وبالله التوفيق.

وأما قوله: ( أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ) أي:هي محكمة في لفظها، مفصلة في معناها، فهو كامل صورة ومعنى. هذا معنى ما روي عن مجاهد، وقتادة، واختاره ابن جرير.

وقوله: ( مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) أي:من عند الله الحكيم في أقواله، وأحكامه، الخبير بعواقب الأمور.

( أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) أي:نـزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] ، قال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ النحل:36 ] .

وقوله: ( إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) أي:إني لكم نذير من العذاب إن خالفتموه، وبشير بالثواب إن أطعتموه، كما جاء في الحديث الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا، فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب، فاجتمعوا، فقال يا معشر قريش، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم ، ألستم مصدقي؟ « فقالوا:ما جربنا عليك كذبا » . قال: « فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد » .

وقوله: ( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) أي:وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه، وأن تستمروا على ذلك، ( يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا ) أي:في الدنيا ( إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) أي:في الدار الآخرة، قاله قتادة، كقوله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ النحل:97 ] ، وقد جاء في الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد: « وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أجِرْت بها، حتى ما تجعل في فِي امرأتك » .

وقال ابن جرير:حدثت عن المسيب بن شريك، عن أبي بكر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن مسعود في قوله: ( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) قال:من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات. فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات. ثم يقول:هلك من غلب آحاده أعشاره .

وقوله: ( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى، وكذب رسله، فإن العذاب يناله يوم معاده لا محالة، ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ) أي:معادكم يوم القيامة، ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي:وهو القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه، وانتقامه من أعدائه، وإعادة الخلائق يوم القيامة، وهذا مقام الترهيب، كما أن الأول مقام ترغيب.

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 5 )

قال ابن عباس:كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم، وحال وقاعهم، فأنـزل الله هذه الآية. رواه البخاري من حديث ابن جُرَيْج، عن محمد بن عباد بن جعفر؛ أن ابن عباس قرأ: « أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني صُدُورهُم » ، فقلت:يا أبا عباس، ما تثنوني صدورهم؟ قال:الرجل كان يجامع امرأته فيستحيي - أو:يتخلى فيستحيي فنـزلت: « أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني صُدُورهُم » .

وفي لفظ آخر له:قال ابن عباس:أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا، فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنـزل ذلك فيهم.

ثم قال:حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو قال:قرأ ابن عباس « أَلا إِنِّهُمْ يَثْنوني صُدُورهُم لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتغْشُونَ ثِيَابَهُم » .

قال البخاري:وقال غيره، عن ابن عباس: ( يَسْتَغْشُونَ ) يغطون رءوسهم .

وقال ابن عباس في رواية أخرى في تفسير هذه الآية:يعني به الشك في الله، وعمل السيئات، وكذا روي عن مجاهد، والحسن، وغيرهم:أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئًا أو عملوه، يظنون أنهم يستخفون من الله بذلك، فأعلمهم الله تعالى أنهم حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل، ( يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ) من القول: ( وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) أي:يعلم ما تكن صدورهم من النيات والضمائر والسرائر. وما أحسن ما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة:

فَـلا تَكْـتُمُنَّ اللـه مـا فـي نفوسـكم ليخـفى, فمهمـا يُكـتم الله يَعْلم

يُؤخَـر فيـوضَع فـي كتـاب فَيُدخَــر ليوم حســاب, أو يُعَجـل فَيُنْقـمِ

فقد اعترف هذا الشاعر الجاهلي بوجود الصانع وعلمه بالجزئيات، وبالمعاد وبالجزاء، وبكتابة الأعمال في الصحف ليوم القيامة.

وقال عبد الله بن شداد:كان أحدهم إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره، وغطى رأسه فأنـزل الله ذلك.

وعود الضمير على الله أولى؛ لقوله: ( أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) .

وقرأ ابن عباس: « أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني صُدُورُهُم » ، برفع الصدور على الفاعلية، وهو قريب المعنى.