الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ( 91 ) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 92 ) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 93 )

وقوله: ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) أي:جَزَّؤوا كتبهم المنـزلة عليهم، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض.

قال البخاري:حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أنبأنا أبو بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: ( جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال:هم أهل الكتاب، جَزَّؤوه أجزاء، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه

حدثنا عبيد الله بن موسى، عن الأعمش، عن أبي ظَبْيان، عن ابن عباس: ( كَمَا أَنـزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) قال:آمنوا ببعض، وكفروا ببعض:اليهُود والنصارى

قال ابن أبي حاتم:وروي عن مجاهد، وعِكْرِمة، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، مثل ذلك.

وقال الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال:السحر وقال عكرمة:العَضْه:السحر بلسان قريش، تقول للساحرة:إنها العاضهة

وقال مجاهد:عَضوه أعضاء، قالوا:سحر، وقالوا:كهانة، وقالوا:أساطير الأولين.

وقال عطاء:قال بعضهم:ساحر، وقال بعضهم:مجنون. وقال بعضهم كاهن. فذلك

العضين وكذا روي عن الضحاك وغيره.

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس:أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا شرف فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم:يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضًا. فقالوا:وأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال:بل أنتم قولوا لأسمع. قالوا:نقول « كاهن » . قال:ما هو بكاهن. قالوا:فنقول: « مجنون » . قال:ما هو بمجنون! قالوا فنقول: « شاعر » . قال:ما هو بشاعر! قالوا:فنقول: « ساحر » . قال:ما هو بساحر! قالوا:فماذا نقول؟ قال:والله إن لقوله حلاوة، فما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن تقولوا:هو ساحر. فتفرقوا عنه بذلك، وأنـزل الله فيهم: ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) أصنافا ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) دُوينك النفر الذين قالوا:ذلك لرسول الله.

وقال عطية العوفي، عن ابن عمر في قوله: ( لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال:عن لا إله إلا الله.

وقال عبد الرزاق. أنبأنا الثوري، عن ليث - هو ابن أبي سليم - عن مجاهد، في قوله: ( لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال:عن لا إله إلا الله

وقد روى الترمذي، وأبو يعلى الموصلي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، من حديث شريك القاضي، عن ليث بن أبي سليم، عن بَشِير بن نَهِيك، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) [ قال ] عن لا إله إلا الله

ورواه ابن إدريس، عن ليث، عن بشير عن أنس موقوفا

وقال ابن جرير:حدثنا أحمد، حدثنا أبو أحمد، حدثنا شريك، عن هلال، عن عبد الله بن عُكَيم قال:قال عبد الله - هو ابن مسعود - :والذي لا إله غيره، ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، فيقول:ابن آدم، ماذا غرك مني بي؟ ابن آدم، ماذا عملتَ فيما علمت؟ ابن آدم، ماذا أجبت المرسلين ؟

وقال أبو جعفر:عن الربيع، عن أبي العالية:قال:يسأل العباد كلهم عن خُلَّتين يوم القيامة، عما كانوا يعبدون، وماذا أجابوا المرسلين.

وقال ابن عيينة عن عملك، وعن مالك.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحُوَّاري، حدثنا يونس الحذاء، عن أبي حمزة الشيباني، عن معاذ بن جبل قال:قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا معاذ، إن المؤمن ليسأل يوم القيامة عن جميع سعيه، حتى كحل عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعيه، فلا ألفينك يوم القيامة وأحد أسعد بما آتى الله منك »

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ثُمَّ قَالَ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [ الرحمن:39 ] قال:لا يسألهم:هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول:لم عملتم كذا وكذا؟

فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ( 94 ) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ( 95 ) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 96 ) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ( 97 ) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ( 98 ) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( 99 )

يقول تعالى آمرًا رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصَّدع به، وهو مواجهة المشركين به، كما قال ابن عباس: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) أي:أمضه. وفي رواية:افعل ما تؤمر.

وقال مجاهد:هو الجهر بالقرآن في الصلاة.

وقال أبو عبيدة، عن عبد الله بن مسعود:ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا، حتى نـزلت: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) فخرج هو وأصحابه

وقوله: ( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) أي:بلغ ما أنـزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [ القلم:9 ] ولا تخفْهم؛ فإن الله كافيك إياهم، وحافظك منهم، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ المائدة:67 ]

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا يحيى بن محمد بن السكن، حدثنا إسحاق بن إدريس، حدثنا عون بن كَهْمَس، عن يزيد بن درهم، قال:سمعت أنسًا يقول في هذه الآية: ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ ) قال:مر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغمزه بعضهم، فجاء جبريل - أحسبه قال:فغمزهم فوقع في أجسادهم - كهيئة الطعنة حتى ماتوا

وقال محمد بن إسحاق:كان عظماء المستهزئين - كما حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير - خمسة نفر، كانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم، من بني أسد بن عبد العزى بن قُصي:الأسود بن المطلب أبو زمعة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - قد دعا عليه، لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه [ به ] فقال:اللهم، أعم بصره، وأثكله ولده. ومن بني زهرة:الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زُهرة. ومن بني مخزوم:الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم. ومن بني سهم بن عمرو بن هُصيص بن كعب بن لؤي:العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد. ومن خزاعة:الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد عمرو بن ملكان - فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء، أنـزل الله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) إلى قوله: ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ )

وقال ابن إسحاق:فحدث يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، أو غيره من العلماء، أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمر به الأسود [ ابن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء، فعمي، ومر به الأسود ] بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه، فاستسقى بطنه، فمات منه حَبَنَا، ومر به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جُرح بأسفل كعب رجله - كان أصابه قبل ذلك بسنتين وهو يجر إزاره، وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له، فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدش رجله ذلك الخدش، وليس بشيء، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل، فأشار إلى أخمص قدمه، فخرج على حمار له يريد الطائف، فربض على شِبْرِقَةٍ فدخلت في أخمص رجله منها شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه، فامتخط قيحا، فقتله

قال محمد بن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد، عن رجل، عن ابن عباس قال:كان رأسُهم الوليد بن المغيرة، وهو الذي جمعهم.

وهكذا روي عن سعيد بن جبير وعكرمة، نحو سياق محمد بن إسحاق، عن يزيد، عن عروة، بطوله، إلا أن سعيدًا يقول:الحارث بن غيطلة. وعكرمة يقول:الحارث بن قيس.

قال الزهري:وصدقا، هو الحارث بن قيس، وأمه غيطلة.

وكذا روي عن مجاهد، ومقسم، وقتادة، وغير واحد، أنهم كانوا خمسة.

وقال الشعبي:كانوا سبعة.

والمشهور الأول.

وقوله: ( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) تهديد شديد، ووعيد أكيد، لمن جعل مع الله معبودا آخر.

وقوله: ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) أي:وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك انقباض وضيق صدر. فلا يهيدنك ذلك، ولا يثنينك عن إبلاغك رسالة الله، وتوكل على الله فإنه كافيك وناصرك عليهم، فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة؛ ولهذا قال: ( وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد:

حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مُرَّة، عن نعيم بن هَمَّار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « قال الله:يا ابن آدم، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره » .

ورواه أبو داود من حديث مكحول، عن كثير بن مرة، بنحوه

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزبه أمر صلَّى.

وقوله: ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) قال البخاري:قال سالم:الموت

وسالم هذا هو:سالم بن عبد الله بن عمر، كما قال ابن جرير:

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، حدثني طارق بن عبد الرحمن، عن سالم بن عبد الله: ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) قال:الموت

وهكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيره

والدليل على ذلك قوله تعالى إخبارًا عن أهل النار أنهم قالوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [ المدثر:43- 47 ]

وفي الصحيح من حديث الزهري، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أم العلاء - امرأة من الأنصار - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون - وقد مات - قلت:رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وما يدريك أن الله أكرمه؟ » فقلت:بأبي وأمي يا رسول الله، فمن؟ فقال: « أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير »

ويستدل من هذه الآية الكريمة وهي قوله: ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) - على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري، عن عمران بن حصين، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْب »

ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء، عليهم السلام، كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد الناس وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. وإنما المراد باليقين هاهنا الموت، كما قدمناه. ولله الحمد والمنة، والحمد لله على الهداية، وعليه الاستعانة والتوكل، وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها [ فإنه جواد كريم ]

[ وحسبنا الله ونعم الوكيل ]

 

 

 

تفسير سورة النحل

 

وهي مكية .

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 1 )

يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبرًا بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع لا محالة [ كما قال تعالى ] : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [ الأنبياء:1 ] ، وقال: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [ القمر:1 ] .

وقوله: ( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) أي:قرب ما تباعد فلا تستعجلوه.

يحتمل أن يعود الضمير على الله، ويحتمل أن يعود على العذاب، وكلاهما متلازم، كما قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [ العنكبوت:53 ، 54 ] .

وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الآية إلى قول عجيب، فقال في قوله: ( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ) أي:فرائضه وحدوده.

وقد رده ابن جرير فقال:لا نعلم أحدًا استعجل الفرائض والشرائع قبل وجودها بخلاف العذاب فإنهم استعجلوه قبل كونه، استبعادًا وتكذيبًا.

قلت:كما قال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [ الشورى:18 ] .

وقال ابن أبي حاتم:ذُكر عن يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش، عن محمد بن عبد الله - مولى المغيرة بن شعبة - عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن حُجيرة، عن عقبة بن عامر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس، فما تزال ترتفع في السماء، ثم ينادي مناد فيها:يا أيها الناس. فيقبل الناس بعضهم على بعض:هل سمعتم؟ فمنهم من يقول:نعم. ومنهم من يشك. ثم ينادي الثانية:يا أيها الناس. فيقول الناس بعضهم لبعض:هل سمعتم؟ فيقولون:نعم. ثم ينادي الثالثة:يا أيها الناس، أتى أمر الله فلا تستعجلوه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:فوالذي نفسي بيده، إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدا، وإن الرجل ليمدن حوضه فما يسقي فيه شيئًا أبدًا، وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدًا - قال - ويشتغل الناس » . ثم إنه تعالى نـزه نفسه عن شركهم به غيره، وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد، تعالى وتقدس علوًا كبيرًا، وهؤلاء هم المكذبون بالساعة، فقال: ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )

يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ ( 2 )

يقول تعالى: ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ) أي:الوحي كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [ الشورى:52 ] .

وقوله: ( عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) وهم الأنبياء، كما قال: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [ الأنعام:124 ] ، وقال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ [ الحج:75 ] ، وقال: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [ غافر:15 ، 16 ] .

وقوله: ( أَنْ أَنْذِرُوا ) أي:لينذروا ( أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا ) [ كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا ] فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] ، وقال في هذه [ الآية ] : ( فَاتَّقُونِ ) أي:فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري.

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 3 ) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ( 4 )

يخبر تعالى عن خلقه العالم العلوي وهو السماوات، والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت، وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث ، بل لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [ النجم:31 ] .

ثم نـزه نفسه عن شرك من عبد معه غيره [ من الأصنام التي لا تخلق شيئا وهم يخلقون فكيف ناسب أن يعبد معه غيره ] ، وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له، فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له.

ثم نبه على خلق جنس الإنسان ( مِنْ نُطْفَةٍ ) أي:ضعيفة مهينة، فلما استقل ودَرَج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه، ويحارب رسله، وهو إنما خلق ليكون عبدًا لا ضدًا، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا * وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [ الفرقان:54 ، 55 ] ، وقال: أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [ يس:77 ، 79 ] .

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن بُسْر بن جَحَّاش قال:بصق رسول الله في كفه، ثم قال: « يقول الله:ابن آدم، أنَّى تُعجِزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت:أتصدقُ. وأنى أوان الصدقة؟ » .

وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 5 ) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ( 6 )

يمتن تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج، وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع، من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون، ومن ألبانها يشربون، ويأكلون من أولادها، وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة؛ ولهذا قال: ( وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ ) وهو وقت رجوعها عشيًا من المرعى فإنها تكون أمَدّه خواصر، وأعظمه ضروعًا، وأعلاه أسنمة، ( وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) أي:غُدوة حين تبعثونها إلى المرعى.