وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا ( 28 )

وقوله [ تعالى ] ( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا ) أي:وإذا سألك أقاربك ومن أمرنا بإعطائهم وليس عندك شيء، وأعرضت عنهم لفقد النفقة ( فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا ) أي:عدهم وعدًا بسهولة، ولين إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله، هكذا فسر قوله ( فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا ) بالوعد:مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة وغير واحد.

وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ( 29 ) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ( 30 ) .

يقول تعالى آمرًا بالاقتصاد في العيش ذامّا للبخل ناهيًا عن السَّرَف: ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) أي:لا تكن بخيلا منوعًا، لا تعطي أحدًا شيئًا، كما قالت اليهود عليهم لعائن الله: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [ المائدة:64 ] أي نسبوه إلى البخل، تعالى وتقدس الكريم الوهاب.

وقوله: ( وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) أي:ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك، فتقعد ملومًا محسورًا.

وهذا من باب اللف والنشر أي:فتقعد إن بخلت ملومًا، يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك كما قال زهير بن أبي سُلمى في المعلقة:

ومـن كـان ذا مـال ويبخـل بمالـه عـلى قومـه يسـتغن عنـه ويـذمم

ومتى بسطت يدك فوق طاقتك، قعدت بلا شيء تنفقه، فتكون كالحسير، وهو:الدابة التي قد عجزت عن السير، فوقفت ضعفًا وعجزًا فإنها تسمى الحسير، وهو مأخوذ من الكلال، كما قال تعالى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [ الملك:3 ، 4 ] أي:كليل عن أن يرى عيبًا. هكذا فسر هذه الآية - بأن المراد هنا البخل والسرف - ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم.

وقد جاء في الصحيحين، من حديث أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « مثل البخيل والمنفق، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثدييهما إلى تراقيهما. فأما المنفق فلا ينفق إلا سَبَغَت - أو:وفرت - على جلده، حتى تُخفي بنانه وتعفو أثره. وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع » .

هذا لفظ البخاري في الزكاة .

وفي الصحيحين من طريق هشام بن عُرْوَةَ، عن زوجته فاطمة بنت المنذر، عن جدتها أسماء بنت أبي بكر قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنفقي هكذا وهكذا وهكذا، ولا تُوعِي فَيُوعي الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك » وفي لفظ: « ولا تُحصي فيحصي الله عليك » .

وفي صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله قال لي:أنفق أنفق عليك » .

وفي الصحيحين من طريق معاوية بن أبي مُزَرِّد، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينـزلان من السماء يقول أحدهما:اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر:اللهم أعط ممسكًا تلفًا » .

وروى مسلم، عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر، عن العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا: « ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا ومن تواضع لله رفعه الله » .

وفي حديث أبي كثير، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: « إياكم والشُّح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا » .

وروى البيهقي من طريق سعدان بن نصر، عن أبي معاوية، عن الأعمش، [ عن ابن بريدة ] عن أبيه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما يخرج رجل صدقة، حتى يفك لَحْيَي سبعين شيطانا » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو عبيدة الحداد، حدثنا سُكَين بن عبد العزيز، حدثنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعوده قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما عال من اقتصد » .

وقوله [ تعالى ] ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) إخبار أنه تعالى هو الرزاق، القابض الباسط، المتصرف في خلقه بما يشاء، فيغني من يشاء، ويفقر من يشاء، بما له في ذلك من الحكمة؛ ولهذا قال: ( إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) أي:خبير بصير بمن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر , كما جاء في الحديث: « إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه » .

وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجًا، والفقر عقوبة عياذًا بالله من هذا وهذا.

وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ( 31 )

هذه الآية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده؛ لأنه ينهى [ تعالى ] عن قتل الأولاد، كما أوصى بالأولاد في الميراث، وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته، فنهى الله [ تعالى ] عن ذلك فقال: ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) أي:خوف أن تفتقروا في ثاني الحال؛ ولهذا قدم الاهتمام برزقهم فقال: ( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ) وفي الأنعام وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ أي:من فقر نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ الأنعام:151 ] .

وقوله: ( إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) ي:ذنبًا عظيمًا.

وقرأ بعضهم: « كان خَطَأً كبيرًا » وهو بمعناه.

وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود:قلت:يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: « أن تجعل لله ندًا وهو خلقك » . قلت:ثم أي ؟ قال: « أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعَمَ معك » . قلت:ثم أي؟ قال: « أن تزاني بحليلة جارك » .

وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا ( 32 ) .

يقول تعالى ناهيًا عباده عن الزنا وعن مقاربته، وهو مخالطة أسبابه ودواعيه ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ) أي:ذنبًا عظيمًا ( وَسَاءَ سَبِيلا ) أي:وبئس طريقًا ومسلكًا.

وقد قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا جرير، حدثنا سليم بن عامر، عن أبي أمامة قال:إن فتى شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا:مَهْ مَهْ. فقال: « ادنه » . فدنا منه قريبًا فقال « اجلس » . فجلس، قال: « أتحبه لأمك؟ » قال:لا والله، جعلني الله فداك. قال: « ولا الناس يحبونه لأمهاتهم » . قال: « أفتحبه لابنتك » ؟ قال:لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال: « ولا الناس يحبونه لبناتهم » ، قال: « أتحبه لأختك » ؟ قال:لا والله، جعلني الله فداك. قال: « ولا الناس يحبونه لأخواتهم » ، قال: « أفتحبه لعمتك » ؟ قال:لا والله جعلني الله فداك. قال: « ولا الناس يحبونه لعماتهم » قال: « أفتحبه لخالتك » ؟ قال:لا والله، جعلني الله فداك. قال: « ولا الناس يحبونه لخالاتهم » قال:فوضع يده عليه وقال: « اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه » قال:فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء .

وقال ابن أبي الدنيا:حدثنا عمار بن نصر، حدثنا بَقيَّةُ، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن الهيثم بن مالك الطائي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له » .

وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ( 33 )

يقول تعالى ناهيًا عن قتل النفس بغير حق شرعي، كما ثبت في الصحيحين؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث:النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة » .

وفي السنن: « لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم » .

وقوله: ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) أي:سلطة على القاتل، فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قَودًا، وإن شاء عفا عنه على الدية، وإن شاء عفا عنه مجانًا، كما ثبتت السنة بذلك. وقد أخذ الإمام الحبر ابن عباس من عموم هذه الآية الكريمة ولاية معاوية السلطنة، وأنه سيملك؛ لأنه كان ولي عثمان، وقد قتل عثمان مظلومًا، رضي الله عنه، وكان معاوية يطالب عليًا، رضي الله عنه، أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم؛ لأنه أموي، وكان علي، رضي الله عنه، يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك، ويطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام فيأبى معاوية ذلك حتى يسلمه القتلة، وأبى أن يبايع عليًا هو وأهل الشام، ثم مع المطاولة تمكن معاوية وصار الأمر إليه كما تفاءل ابن عباس واستنبط من هذه الآية الكريمة. وهذا من الأمر العجب وقد روى ذلك الطبراني في معجمه حيث قال:

حدثنا يحيى بن عبد الباقي، حدثنا أبو عمير بن النحاس، حدثنا ضَمْرَةُ بن ربيعة، عن ابن شوذب، عن مطر الوراق، عن زَهْدَم الجَرْمي قال:كنا في سمر ابن عباس فقال:إني محدثكم حديثا ليس بسر ولا علانية؛ إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما كان - يعني عثمان - قلت لعلي:اعتزل فلو كنت في جحر طلبت حتى تستخرج، فعصاني، وايم الله ليتأمرن عليكم معاوية، وذلك أن الله تعالى يقول: ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) الآية وليحملنكم قريش على سنة فارس والروم وليقيمن عليكم النصارى واليهود والمجوس، فمن أخذ منكم يومئذ بما يُعْرَف نجا، ومن ترك وأنتم تاركون، كنتم كقرن من القرون، هلك فيمن هلك .

وقوله [ تعالى ] ( فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) قالوا:معناه:فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل.

وقوله: ( إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ) أي أن الولي منصور على القاتل شرعًا، وغالبًا قدرًا.

وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا ( 34 ) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ( 35 ) .

يقول تعالى: ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أي:لا تتصرفوا له إلا بالغبطة وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [ النساء:2 ] و وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [ النساء:6 ] .

وقد جاء في صحيح مسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: « يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي:لا تَأَمَّرَن على اثنين، ولا تولين مال يتيم » .

وقوله [ تعالى ] : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ) أي الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاملونهم بها، فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه ( إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا ) أي:عنه.

وقوله [ تعالى ] : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ ) أي:من غير تطفيف، ولا تبخسوا الناس أشياءهم. ( وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ ) قرئ بضم القاف وكسرها، كالقرطاس وهو الميزان. وقال مجاهد:هو العدل بالرومية.

وقوله: ( الْمُسْتَقِيمِ ) أي:الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا اضطراب.

( ذَلِكَ خَيْرٌ ) أي:لكم في معاشكم ومعادكم؛ ولهذا قال: ( وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ) أي:مآلا ومنقلبًا في آخرتكم.

قال:سعيد، عن قتادة: ( ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ) أي:خير ثوابًا وعاقبة. وأما ابن عباس كان يقول:يا معشر الموالي، إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم:هذا المكيال، وهذا الميزان. قال وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه، ليس به إلا مخافة الله، إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك » .

وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ( 36 ) .

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:يقول:لا تقل.

وقال العوفي عنه:لا تَرْم أحدًا بما ليس لك به علم.

وقال محمد بن الحَنفية:يعني شهادة الزور.

وقال قتادة:لا تقل:رأيت، ولم تر، وسمعت، ولم تسمع، وعلمت، ولم تعلم؛ فإن الله سائلك عن ذلك كله.

ومضمون ما ذكروه:أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [ الحجرات:12 ] ، وفي الحديث: « إياكم والظن؛ فإن الظن أكذبُ الحديث » . وفي سنن أبي داود: « بئس مطيةُ الرجل:زعموا » , وفي الحديث الآخر: « إن أفرى الفِرَى أن يُرِي عينيه ما لم تريا » . وفي الصحيح: « من تحلم حلما كُلف يوم القيامة أن يعقد بين شَعيرتين، وليس بعاقد » .

وقوله: ( كُلُّ أُولَئِكَ ) أي:هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد ( كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) أي:سيسأل العبد عنها يوم القيامة، وتُسأل عنه وعما عمل فيها. ويصح استعمال « أولئك » مكان « تلك » ، كما قال الشاعر .

ذُمَّ المَنَــازلَ بَعْـدَ مَنـزلـة اللِّـوَى وَالْعَيْش بَعْـــدَ أولئِـــكَ الأيّــام

وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا ( 37 ) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ( 38 ) .

يقول تعالى ناهيًا عباده، عن التَّجَبّر والتبختر في المشية: ( وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا ) أي:متبخترًا متمايلا مشي الجَبَّارين ( إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ ) أي:لن تقطع الأرض بمشيتك قاله ابن جرير، واستشهد عليه بقول رُؤبة بن العَجَّاج:

وقَاتِم الأعْمَاق خَاوي المُخترقْ

وقوله [ تعالى ] : ( وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا ) أي:بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك، بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده. كما ثبت في الصحيح: « بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم، وعليه بُرْدَان يتبختر فيهما، إذ خُسِف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة » .

وكذلك أخبر الله [ تعالى ] عن قارون أنه خرج على قومه في زينته، وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض، وفي الحديث: « من تواضع لله رفعه الله، فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير، ومن استكبر وضعه الله، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير، حتى لهو أبغض إليهم من الكلب أو الخنـزير » .

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب « الخمول والتواضع » :حدثنا أحمد بن إبراهيم بن كثير، حدثنا حجاج بن محمد، بن أبي بكر الهذلي قال:بينما نحن مع الحسن، إذ مَر عليه ابن الأهتم - يريد المنصور - وعليه جبَابُ خَزّ قد نُضّد بعضها فوق بعض على ساقه، وانفرج عنها قباؤه، وهو يمشي ويتبختر، إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال:أف أف، شامخ بأنفه، ثان عطفه، مصعر خده، ينظر في عطفيه، أيّ حُمَيْق ينظر في عطفه في نِعَم غير مشكورة ولا مذكورة، غير المأخوذ بأمر الله فيها، ولا المؤدّى حقّ الله منها! والله إن يمشي أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج المجنون، في كل عضو منه نعمة، وللشيطان به لعنة، فسمعه ابن الأهتم فرجع يعتذر إليه، فقال:لا تعتذر إلي، وتب إلى ربك، أما سمعت قول الله تعالى: ( وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا ) .

ورأى البختريّ العابدُ رجلا من آل علي يمشي وهو يخطِر في مشيته، فقال له:يا هذا، إن الذي أكرمك به لم تكن هذه مشيته! قال:فتركها الرجل بعد.

ورأى ابن عمر رجلا يخطر في مشيته، فقال:إن للشياطين إخوانًا.

وقال:خالد بن مَعْدان:إياكم والخَطْر، فإن الرّجل يَدُه من سائر جسده. رواهما ابن أبي الدنيا.

وقال:ابن أبي الدنيا:حدثنا خلف بن هشام البزار، حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى، عن سعيد، عن يُحَنَّس قال:قال:رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا مشت أمتي المطيطاء، وخدمتهم فارس والروم، سلط بعضهم على بعض » .

وقوله تعالى: ( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ) أما من قرأ « سيئة » أي:فاحشة. فمعناه عنده:كل هذا الذي نهينا عنه، من قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ إلى هاهنا، فهو سيئة مؤاخذ عليها ( مَكْرُوهًا ) ند الله، لا يحبه ولا يرضاه.

وأما من قرأ ( سَيِّئُهُ ) لى الإضافة فمعناه عنده:كل هذا الذي ذكرناه من قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ لى هاهنا فسيئه، أي:فقبيحه مكروه عند الله، هكذا وجَّه ذلك ابن جرير، رحمه الله .