ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ( 39 ) .

يقول تعالى:هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة، ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة، مما أوحينا إليك يا محمد لتأمر به الناس.
(
وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا ) أي:تلومك نفسك [ ويلومك الله ] والخلق. ( مَدْحُورًا ) . قال ابن عباس وقتادة:مطرودًا.
والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم.

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا ( 40 ) .

يقول تعالى رادًا على المشركين الكاذبين الزاعمين - عليهم لعائن الله - أن الملائكة بناتُ الله، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا، ثم ادّعوا أنهم بنات الله، ثم عبدوهم فأخطئوا في كل من المقامات الثلاث خطأ عظيمًا، قال تعالى منكرًا عليهم: ( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ ) أي:خصصكم بالذكور ( وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا ) أي:اختار لنفسه على زعمكم البنات؟ ثم شدد الإنكار عليهم فقال: ( إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا ) أي:في زعمكم لله ولدًا، ثم جعْلكم ولده الإناث التي تأنفون أن يَكُنّ لكم، وربما قتلتموهُن بالوأد، فتلك إذا قسْمة ضِيزَى. وقال [ الله ] تعالى وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [ مريم:88 - 95 ] .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا ( 41 ) .

يقول تعالى: ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ) أي:صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يذكرون ما فيه من الحجج والبينات والمواعظ، فينـزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك، ( وَمَا يَزِيدُهُمْ ) أي:الظالمين منهم ( إِلا نُفُورًا ) أي:عن الحق، وبعدًا منه.

قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا ( 42 ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ( 43 ) .

يقول تعالى:قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكا من خلقه، العابدين معه غيره ليقربهم إليه زلفى:لو كان الأمر كما تقولون، وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه - لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ويبتغون إليه الوسيلة والقربة، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه، بل يكرهه ويأباه. وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه.
ثم نـزه نفسه الكريمة وقدّسها فقال: (
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ ) أي:هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى ( عُلُوًّا كَبِيرًا ) أي:تعاليًا كبيرا، بل هو الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفُوًا أحد.

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( 44 ) .

يقول تعالى:تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن، أي:من المخلوقات، وتنـزهه وتعظمه وتجِّلّه وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته:
فَفــي كُــلّ شَــيءٍ لَــهُ آيَــةٌ تَـــدُلُّ عَـــلى أنَّـــه واحــد
كما قال:تعالى: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * [
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ] [ مريم:90 - 92 ] .
وقال أبو القاسم الطبراني:حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا مسكين ابن ميمون مؤذّن مسجد الرملة، حدثنا عروة بن رُوَيم، عن عبد الرحمن بن قرط؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري إلى المسجد الأقصى، كان بين المقام وزمزم، جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فطار به حتى بلغ السماوات السبع , فلما رجع قال:سمعت تسبيحًا في السماوات العلى مع تسبيح كثير:سبحت السماوات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا سبحان العليّ الأعلى، سبحانه وتعالى .
وقوله: (
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) أي:وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله ( وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) أي:لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس؛ لأنها بخلاف لغتكم. وهذا عام في الحيوانات والنبات والجماد، وهذا أشهر القولين، كما ثبت في صحيح البخاري، عن ابن مسعود أنه قال:كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل .
وفي حديث أبي ذر:أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات، فسمع لهن تسبيح كحنين النحل، وكذا يد أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم [
أجمعين ] , وهو حديث مشهور في المسانيد .
وقال الإمام أحمد:حدثنا ابن لَهيعة، حدثنا زَبَّان، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مَرّ على قوم وهم وقوف على دوابّ لهم ورواحل، فقال لهم:
« اركبوها سالمة، ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها، وأكثر ذكرا لله منه » .
وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو قال:نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع، وقال:
« نقيقها تسبيح » .
وقال قتادة، عن عبد الله بن بَابِي , عن عبد الله بن عمرو:أن الرجل إذا قال:
« لا إله إلا الله » ، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملا حتى يقولها. وإذا قال: « الحمد لله » فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها، وإذا قال: « الله أكبر » فهي تملأ ما بين السماء والأرض، وإذا قال: « سبحان الله » ، فهي صلاة الخلائق التي لم يَدْع الله أحدًا من خلقه إلا قَرّره بالصلاة والتسبيح. وإذا قال: « لا حول ولا قوة إلا بالله » , قال:أسلم عبدي واستسلم.
وقال الإمام أحمد:حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، سمعت الصَّقْعَبَ بن زُهير [
يحدث ] عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال:أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيّ عليه جبة من طيالسة مكفوفة بديباج - أو:مزورة بديباج - فقال:إن صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع ابن راع، ويضع كل رأس ابن رأس. فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم مغضبًا، فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه، فقال: « لا أرى عليك ثياب من لا يعقل » . ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس فقال: « إن نوحًا، عليه السلام، لما حضرته الوفاة، دعا ابنيه فقال:إني قاص عليكما الوصية:آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين:أنهاكما عن الشرك بالله والكبر، وآمركما بلا إله إلا الله، فإن السماوات والأرض وما بينهما لو وضعت في كفة الميزان، ووضعت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى، كانت أرجح، ولو أن السماوات والأرضِ كانتا حلقة، فوضعت لا إله إلا الله عليهما لفصمتهما أو لقصمتهما. وآمركما بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء » .
ورواه الإمام أحمد، أيضا، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن الصَّقْعَب بن زهير، به أطول من هذا. تفرد به .
وقال ابن جرير:حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ، حدثنا محمد بن يَعْلى، عن موسى بن عبيدة، عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحا، عليه السلام، قال لابنه:يا بني، آمرك أن تقول:سبحان الله، فإنها صلاة الخلق وتسبيح الخلق، وبها يرزق الخلق، قال الله تعالى: ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) إسناده فيه ضعف، فإن الرّبذي ضعيف عند الأكثرين. »
وقال عكرمة في قوله تعالى: (
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) قال:الأسطوانة تسبح، والشجرة تسبح - الأسطوانة:السارية.
وقال بعض السلف:إن صرير الباب تسبيحه، وخرير الماء تسبيحه، قال الله تعالى: (
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ )
وقال سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال:الطعام يسبح.
ويشهد لهذا القول آية السجدة أول [
سورة ] الحج.
وقال آخرون:إنما يسبح ما كان فيه روح. يعنون من حيوان أو نبات.
وقال قتادة في قوله: (
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) قال:كل شيء فيه الروح يسبح من شجر أو شيء فيه.
وقال الحسن، والضحاك في قوله: (
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) قالا كل شيء فيه الروح.
وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن حميد، حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب قالا حدثنا جرير أبو الخطاب قال:كنا مع يزيد الرَّقاشي، ومعه الحسن في طعام، فقدموا الخوان، فقال يزيد الرقاشي:يا أبا سعيد، يسبح هذا الخِوَان؟ فقال:كان يسبح مرة .
قلت:الخِوَان هو المائدة من الخشب. فكأن الحسن، رحمه الله، ذهب إلى أنه لما كان حيا فيه خضرة، كان يسبح، فلما قطع وصار خشبة يابسة انقطع تسبيحه. وقد يستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال:
« إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يَسْتَتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة » . ثم أخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة، ثم قال: « لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا » . أخرجاه في الصحيحين .
قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء:إنما قال:
« ما لم ييبسا » لأنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة، فإذا يبسا انقطع تسبيحهما، والله أعلم.
وقوله [
تعالى ] ( إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) أي:أنه [ تعالى ] لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يؤجله وينظره، فإن استمر على كفره وعناده أخذه أخذ عزيز مقتدر، كما جاء في الصحيحين: « إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته » . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هود:102 ] الآية، و قال [ الله ] تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [ الحج:48 ] . ومن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان، ورجع إلى الله وتاب إليه، تاب عليه، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [ النساء:110 ] .
وقال هاهنا: (
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) كما قال في آخر فاطر: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا إلى أن قال: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [ فاطر:41 - 45 ] .

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ( 45 ) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ( 46 )

يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:وإذا قرأت - يا محمد - على هؤلاء المشركين القرآن، جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورًا.
قال قتادة، وابن زيد:هو الأكنّة على قلوبهم، كما قال تعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [
فصلت:5 ] أي:مانع حائل أن يصل إلينا مما تقول شيء.
وقوله: (
حِجَابًا مَسْتُورًا ) أي:بمعنى ساتر، كميمون ومشئوم، بمعنى:يامن وشائم؛ لأنه من يَمنهم وشَأمَهم.
وقيل:مستورًا عن الأبصار فلا تراه، وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى، ومال إلى ترجيحه ابن جرير، رحمه الله.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي:حدثنا أبو موسى الهروي إسحاق بن إبراهيم، حدثنا سفيان، عن الوليد بن كثير، عن يزيد بن تدرس، عن أسماء بنت أبي بكر [
الصديق ] رضي الله عنها ، قالت:لما نـزلت تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [ سورة المسد ] جاءت العوراء أم جميل ولها ولوَلة، وفي يدها فِهْر وهي تقول:مُدَمَّما أتينا - أو:أبينا، قال أبو موسى:الشك مني - ودينه قَلَيْنَا، وأمره عصينا. ورسول الله جالس، وأبو بكر إلى جنبه - أو قال:معه - قال:فقال أبو بكر:لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك، فقال: « إنها لن تراني » ، وقرأ قرآنا اعتصم به منها: ( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ) . قال:فجاءت حتى قامت على أبي بكر، فلم تر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت:يا أبا بكر، بلغني أن صاحبك هجاني. فقال أبو بكر:لا ورب هذا البيت ما هجاك. قال:فانصرفت وهي تقول:لقد علمت قريش أني بنت سيدها .
وقوله: (
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ) :جمع « كنان » ، الذي يغشى القلب ( أَنْ يَفْقَهُوهُ ) أي:لئلا يفهموا القرآن ( وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ) وهو الثقْل الذي يمنعهم من سماع القرآن سماعًا ينفعهم ويهتدون به.
وقوله: (
وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ) أي:إذا وحَّدت الله في تلاوتك، وقلت: « لا إله إلا الله » ( وَلَّوْا ) أي:أدبروا راجعين ( عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ) ونفور:جمع نافر، كقعود جمع قاعد، ويجوز أن يكون مصدرًا من غير الفعل، والله أعلم، كما قال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [ الزمر:45 ] .
قال قتادة في قوله: (
وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ) إن المسلمين لما قالوا: « لا إله إلا الله » ، أنكر ذلك المشركون، وكبرت عليهم، وضاقها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يمضيها وينصرها ويُفْلجها ويظهرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين، التي يقطعها الراكب في ليال قلائل، ويسير الدهر في فئام من الناس، لا يعرفونها ولا يقرّون بها.
قول آخر في الآية:
وروى ابن جرير:حدثني الحسين بن محمد الذارع ، حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس في قوله: (
وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ) هم الشياطين.
هذا غريب جدًا في تفسيرها، وإلا فالشياطين إذا قرئ القرآن، أو نودي بالأذان، أو ذكر الله، انصرفوا .

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا ( 47 ) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا ( 48 ) .

يخبر تعالى نبيه - صلوات الله [ وسلامه ] عليه - بما تناجى به رؤساء كفار قريش، حين جاءوا يستمعون قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًا من قومهم، بما قالوا من أنه رجل مسحور، من السّحر على المشهور، أو من « السَّحْر » ، وهو الرئة، أي:إن تتبعون - إن اتبعتم محمدًا - ( إِلا بَشَرًا ) يأكل [ ويشرب ] ، كما قال الشاعر :
فَــإن تَســألينا فيـم نَحْـنُ فَإنَّنـا عصـافيرُ مِـنْ هَـذا الأنَـام المُسَحَّر
وقال الراجز
ونُسْحَر بالطَّعام وبالشراب
أي:نُغذى:وقد صوب هذا القول ابنُ جرير، وفيه نظر؛ لأنهم إنما أرادوا هاهنا أنه مسحور له رئي يأتيه بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه ومنهم من قال:
« شاعر » ، ومنهم من قال: « كاهن » ، ومنهم من قال: « مجنون » ، ومنهم من قال: « ساحر » ؛ ولهذا قال تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا ) أي:فلا يهتدون إلى الحق، ولا يجدون إليه مخلصًا.
قال محمد بن إسحاق في السيرة:حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه حُدث أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شَرِيق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف ابن زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل واحد منهم مجلسًا يستمع فيه، وكلُّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا. حتى إذا جمعتهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض:لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا حتى إذا جمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة، أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجَمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض:لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس بن شَريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال:أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال:يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعتُ أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها، وسمعتُ أشياء ما عرفتُ معناها، ولا ما يراد بها. قال الأخنس:وأنا والذي حَلفت به. قال:ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال:يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال:ماذا سمعتُ؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف:أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الرُّكب، وكنا كفَرَسي رِهان قالوا:منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. قال:فقام عنه الأخنس وتركه .

وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ( 49 )

يقول تعالى مخبرًا عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد، القائلين استفهام إنكار منهم لذلك: ( أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا ) أي:ترابًا. قاله مجاهد.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:غبارًا.
(
أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) أي:يوم القيامة ( خَلْقًا جَدِيدًا ) أي:بعد ما بلينا وصرنا عدمًا لا يذكر. كما أخبر عنهم في الموضع الآخر: يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [ النازعات:10 - 12 ] قال تعالى : وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [ يس:78 ، 79 ] .