قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ( 98 ) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ( 99 ) .

وقوله: ( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) أي:لما بناه ذو القرنين ( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) أي:بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث في الأرض والفساد. ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي ) أي:إذا اقترب الوعد الحق ( جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) أي:ساواه بالأرض. تقول العرب:ناقة دكاء:إذا كان ظهرها مستويًا لا سنام لها. وقال تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [ الأعراف:143 ] أي:مساويًا للأرض .

وقال عكرمة في قوله: ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) قال:طريقًا كما كان.

( وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) أي:كائنًا لا محالة.

وقوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ [ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ] ) أي:الناس يومئذ أي:يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم، وهكذا قال السدي في قوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال:ذاك حين يخرجون على الناس. وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال، كما سيأتي بيانه [ إن شاء الله تعالى ] عند قوله: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [ الأنبياء:96 ، 97 ] وهكذا قال هاهنا: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) قال ابن زيد في قوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال:هذا أول يوم القيامة، ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) على أثر ذلك ( فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) .

وقال آخرون:بل المراد بقوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) أي:يوم القيامة يختلط الإنس والجن.

وروى ابن جرير، عن محمد بن حميد، عن يعقوب القمي عن هارون بن عنترة، عن شيخ من بني فزارة في قوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال:إذا ماج الإنس والجن قال إبليس:أنا أعلم لكم علم هذا الأمر. فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض، ثم يظعن إلى المغرب فيجد الملائكة بطنوا الأرض فيقول: « ما من محيص » . ثم يظعن يمينًا وشمالا إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة بطنوا الأرض فيقول: « ما من محيص » فبينما هو كذلك، إذ عرض له طريق كالشراك، فأخذ عليه هو وذريته، فبينما هم عليه إذ هجموا على النار، فأخرج الله خازنًا من خزان النار، فقال:يا إبليس، ألم تكن لك المنـزلة عند ربك؟! ألم تكن في الجنان؟! فيقول:ليس هذا يوم عتاب، لو أن الله فرض عليّ فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه. فيقول:فإن الله قد فرض عليك فريضة. فيقول:ما هي؟ فيقول:يأمرك أن تدخل النار. فيتلكأ عليه، فيقول به وبذريته بجناحيه فيقذفهم في النار. فتزفر النار زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مُرسل إلا جثا لركبتيه

وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. رواه من وجه آخر عن يعقوب، عن هارون عن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال:الجن الإنس، يموج بعضهم في بعض.

وقال الطبراني:حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصفهاني ، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا المغيرة بن مسلم، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا، وإن من ورائهم ثلاث أمم:تاويل، وتايس ومنسك » . هذا حديث غريب بل منكر ضعيف.

وروى النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبيه، عن جده أوس بن أبي أوس مرفوعًا: « إن يأجوج ومأجوج لهم نساء، يجامعون ما شاؤوا، وشجر يلقحون ما شاؤوا، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا »

وقوله: ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) :والصور كما جاء في الحديث: « قرن ينفخ » فيه والذي ينفخ فيه إسرافيل، عليه السلام، كما قد تقدم في الحديث بطوله، والأحاديث فيه كثيرة.

وفي الحديث عن عطية، عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعًا: « كيف أنعم، وصاحب القَرْن قد التقم القَرْن، وحنى جبهته واستمع متى يؤمر » . قالوا:كيف نقول؟ قال: « قولوا:حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا »

وقوله ( فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) أي:أحضرنا الجميع للحساب قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [ الواقعة:49 ، 50 ] ، وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [ الكهف:47 ]

وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ( 100 ) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ( 101 ) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا ( 102 )

يقول تعالى مخبرًا عما يفعله بالكفار يوم القيامة:أنه يعرض عليهم جهنم، أي:يبرزها لهم ويظهرها، ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها، ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم.

وفي صحيح مسلم، عن ابن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زِمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك [ يجرونها ] »

ثم قال مخبرًا عنهم: ( الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي ) أي:تعاموا وتغافلوا وتصاموا عن قبول الهدى واتباع الحق، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [ الزخرف:36 ] وقال هاهنا: ( وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ) أي:لا يعقلون عن الله أمره ونهيه.

ثم قال ( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ) أي:اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك، وينتفعون بذلك؟ كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [ مريم:82 ] ؛ ولهذا أخبر أنه قد أعدّ لهم جهنم يوم القيامة منـزلا.

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ( 103 ) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( 104 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ( 105 ) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ( 106 ) .

قال البخاري:حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عَمْرو، عن مُصْعَب قال:سألت أبي - يعني سعد بن أبي وقاص- : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا ) أهم الحَرُورية؟ قال:لا هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى كفروا بالجنة، وقالوا:لا طعام فيها ولا شراب. والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. وكان سعد رضي الله عنه، يسميهم الفاسقين .

وقال علي بن أبي طالب والضحاك، وغير واحد:هم الحرورية.

ومعنى هذا عن علي، رضي الله عنه:أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نـزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء بل هي أعم من هذا؛ فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ، وعمله مردود، كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [ الغاشية:2- 4 ] وقوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [ الفرقان:23 ] وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [ النور:39 ] .

وقال في هذه الآية الكريمة: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ) أي:نخبركم ( بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا ) ؟ ثم فسرهم فقال: ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي:عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة، ( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) أي « يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون.»

وقوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ) أي:جحدوا آيات الله في الدنيا، وبراهينه التي أقام على وحدانيته، وصدق رسله، وكذبوا بالدار الآخرة، ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) أي:لا نثقل موازينهم؛ لأنها خالية عن الخير .

قال البخاري:حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا المغيرة، حدثني أبو الزَّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة » وقال: « اقرؤوا إن شئتم: ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) .»

وعن يحيى بن بُكَيْر، عن مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، مثله .

هكذا ذكره عن يحيى بن بكير معلقا . وقد رواه مسلم عن أبي بكر محمد بن إسحاق، عن يحيى بن بكير، به .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن صالح مولى التَّوْأمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم، فيوزن بحبة فلا يزنها » . قال:وقرأ: ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا )

وكذا رواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن أبي الصلت، عن أبي الزناد، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعًا فذكره بلفظ البخاري سواء.

وقال أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار:حدثنا العباس بن محمد، حدثنا عون بن عُمَارة حدثنا هشام بن حسان، عن واصل، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال:كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له. فلما قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يا بريدة، هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنًا » .

ثم قال:تفرّد به واصل مولى أبي عنبسة وعون بن عُمَارة وليس بالحافظ، ولم يتابع عليه. وقد قال ابن جرير أيضًا:حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن شمر عن أبي يحيى، عن كعب قال:يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرؤوا: ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) .

وقوله: ( ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا ) أي:إنما جازيناهم بهذا الجزاء جهنم، بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزوًا، استهزءوا بهم، وكذبوهم أشد التكذيب.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا ( 107 ) خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ( 108 )

يخبر تعالى عن عباده السعداء، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوهم فيما جاؤوا به بأن لهم جنات الفردوس.

قال مجاهد:الفردوس هو:البستان بالرومية.

وقال كعب، والسدي، والضحاك:هو البستان الذي فيه شجر الأعناب.

وقال أبو أمامة الفردوس:سرة الجنة.

وقال قتادة:الفردوس:ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها.

وقد روي هذا مرفوعًا من حديث سعيد بن بشير ، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « الفردوس ربوة الجنة، أوسطها وأحسنها »

وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن سمرة مرفوعًا. وروي عن قتادة، عن أنس بن مالك مرفوعًا بنحوه. وقد نقله ابن جرير، رحمه الله

وفي الصحيحين: « إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تُفَجَّرُ أنهار الجنة »

وقوله: ( نـزلا ) أي ضيافة، فإن النـزل هو الضيافة.

وقوله: ( خَالِدِينَ فِيهَا ) أي:مقيمين ساكنين فيها، لا يظعنون عنها أبدًا، ( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ) أي:لا يختارون غيرها، ولا يحبون سواها، كما قال الشاعر

فَحَّـلْت سُـوَيدا القَلْـب لا أنَـا بَاغيًـا ســواها ولا عَــنْ حُبّهـا أتَحـوّلُ

وفي قوله: ( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ) تنبيه على رغبتهم فيها، وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائمًا أنه يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنًا ولا رحلة ولا بدلا

قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ( 109 ) .

يقول تعالى:قل يا محمد:لو كان ماء البحر مدادًا للقلم الذي تكتب به كلمات ربى وحكمه وآياته الدالة عليه، ( لَنَفِدَ الْبَحْرُ ) أي: [ لفرغ البحر ] قبل أن يفرغ من كتابة ذلك ( وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ ) أي:بمثل البحر آخر، ثم آخر، وهلم جرا، بحور تمده ويكتب بها، لما نفدت كلمات الله، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ لقمان:27 ] .

قال الربيع بن أنس:إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنـزل الله ذلك: ( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ) .

يقول:لو كان البحر مدادا [ لكلمات الله ] ، والشجر كله أقلام ، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول ، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة ، كحبة من خردل في خلال الأرض [ كلها ] .

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ( 110 ) .

روى الطبراني من طريق هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن قيس الكوفي، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان أنه قال:هذه آخر آية أنـزلت .

يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ ) لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم: ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) فمن زعم أني كاذب، فليأت بمثل ما جئت به، فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي، عما سألتم من قصة أصحاب الكهف، وخبر ذي القرنين، مما هو مطابق في نفس الأمر، لولا ما أطلعني الله عليه، وأنا أخبركم ( أَنَّمَا إِلَهُكُمْ ) الذي أدعوكم إلى عبادته، ( إِلَهٌ وَاحِدٌ ) لا شريك له، ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ ) أي:ثوابه وجزاءه الصالح، ( فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا ) ، ما كان موافقًا لشرع الله ( وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل. لا بد أن يكون خالصًا لله، صوابُا على شريعة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر، عن عبد الكريم الجَزَري، عن طاوس قال:قال رجل:يا رسول الله، إني أقف المواقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني. فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا. حتى نـزلت هذه الآية: ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) .

وهكذا أرسل هذا مجاهد، وغير واحد.

وقال الأعمش:حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم، عن شَهْر بن حَوْشَب قال:جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال:أنبئني عما أسألك عنه:أرأيت رجلا يصلي، يبتغي وجه الله، ويحب أن يُحْمَد، ويصوم ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويتصدق ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويحج ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، فقال عبادة:ليس له شيء، إن الله تعالى يقول: « أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله، لا حاجة لي فيه » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، ثنا كثير بن زيد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده قال:كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبيت عنده، تكون له الحاجة، أو يطرقه أمر من الليل، فيبعثنا. فكثر المحتسبون وأهل النُّوب، فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « ما هذه النجوى؟ [ ألم أنهكم عن النجوى ] . قال:فقلنا:تبنا إلى الله، أي نبيّ الله، إنما كنا في ذكر المسيح، وفرقنا منه، فقال: » ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي؟ « قال:قلنا:بلى. قال: » الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل « . »

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد - يعني ابن بَهْرَام- قال:قال شَهْر بن حَوْشَب:قال ابن غنم:لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء، لقينا عبادة بن الصامت، فأخذ يميني بشماله، وشمال أبي الدرداء بيمينه، فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى، والله أعلم بما نتناجى به، فقال عبادة بن الصامت:إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما، لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين - يعني من وسط- قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبدأه، وأحل حلاله وحرم حرامه، ونـزل عند منازله، لا يَحُورُ فيكم إلا كما يَحُور رأس الحمار الميت. قال:فبينما نحن كذلك، إذ طلع شداد بن أوس، رضي الله عنه، وعوف بن مالك، فجلسا إلينا، فقال شداد:إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من الشهوة الخفية والشرك » . فقال عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء:اللهم غفرًا. أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب. وأما الشهوة الخفية فقد عرفناها، هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها، فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟ فقال شداد:أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل، أو يصوم لرجل، [ أو تصدق له، أترون أنه قد أشرك؟ قالوا:نعم، والله إنه من صلى لرجل أو صام له ] أو تصدق له، لقد أشرك. فقال شداد:فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يقول ] :من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك؟ « فقال عوف بن مالك عند ذلك:أفلا يعمد الله إلى ما ابتغي به وجهه من ذلك العمل كله، فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟ فقال شداد عن ذلك:فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: » إن الله يقول:أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئًا فإن [ حَشْده ] عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، وأنا عنه غني « .»

طريق [ أخرى ] لبعضه:قال الإمام أحمد:حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثني عبد الواحد بن زياد، أخبرنا عبادة بن نُسيّ، عن شداد بن أوس، رضي الله عنه، أنه بكى، فقيل له:ما يبكيك؟ قال:شيء سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله [ فذكرته ] فأبكاني، سمعت رسول الله يقول: « أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية » . قلت:يا رسول الله، أتشرك أمتك [ من بعدك؟ ] قال: « نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا، ولا حجرًا ولا وثنًا، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائمًا فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه .»

ورواه ابن ماجه من حديث الحسن بن ذَكْوَان، عن عبادة بن نُسيّ، به . وعبادة فيه ضعف وفي سماعه من شداد نظر.

حديث آخر:قال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا الحسين بن عليّ بن جعفر الأحمر، حدثنا عليّ بن ثابت، حدثنا قيس بن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله يوم القيامة:أنا خير شريك، من أشرك بي أحدًا فهو له كله » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت العلاء يحدث عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، يرويه عن ربه، عز وجل، أنه قال: « أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا منه برئ، وهو للذي أشرك » . تفرّد به من هذا الوجه .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يونس، حدثنا لَيْث، عن يزيد - يعني ابن الهاد- عن عمرو، عن محمود بن لبيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » . قالوا:وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: « الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم:اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء »

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن بكر أخبرنا عبد الحميد - يعني ابن جعفر- أخبرني أبي، عن زياد بن ميناء، عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري - وكان من الصحابة- أنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى مناد:من كان أشرك في عمل عمله لله أحدًا، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك » .

وأخرجه الترمذي وابن ماجه، [ من حديث محمد بن ] بكر وهو البُرساني، به

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا بكار، حدثني أبي - يعني عبد العزيز بن أبي بكرة - عن أبي بكرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا معاوية، حدثنا شيبان، عن فراس، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من يرائي يرائي الله به، ومن يسمع يسمع الله به » .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدثني عمرو بن مرة، قال:سمعت رجلا في بيت أبي عبيدة؛ أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من سَمَّع الناس بعمله سَمَّع الله به، سامع خلقه وصغره وحقره » [ قال ] :فذرفت عينا عبد الله .

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا عمرو بن يحيى الأيلي، حدثنا الحارث بن غسان، حدثنا أبو عمران الجوني، عن أنس، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله، عز وجل، يوم القيامة في صحف مختومة ، فيقول الله:ألقوا هذا، واقبلوا هذا، فتقول الملائكة:يا رب، والله ما رأينا منه إلا خيرًا. فيقول:إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي » .

ثم قال الحارث بن غسان:روى عنه جماعة وهو بصري ليس به بأس

وقال ابن وهب:حدثني يزيد بن عياض، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبد الله بن قيس الخزاعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من قام رياء وسمعة، لم يزل في مقت الله حتى يجلس » .

وقال أبو يعلى:حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا محمد بن دينار، عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص، عن عوف بن مالك، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه، عز وجل » .

وقال ابن جرير:حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكوني، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا ابن عياش ، حدثنا عمرو بن قيس الكندي؛ أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الآية ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) وقال:إنها آخر آية نـزلت من القرآن.

وهذا أثر مشكل، فإن هذه الآية [ هي ] آخر سورة الكهف. والكهف كلها مكية، ولعل معاوية أراد أنه لم ينـزل بعدها ما تنسخها ولا يغير حكمها بل هي مثبتة محكمة، فاشتبه ذلك على بعض الرواة، فروى بالمعنى على ما فهمه، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا أبو قُرَّرة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ في ليلة: ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) ، كان له من نور، من عدن أبين إلى [ مكة ] حشوه الملائكة غريب جدا.»

آخر [ تفسير ] سورة الكهف ولله الحمد