يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ( 12 ) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ( 13 ) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ( 14 ) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ( 15 ) .

وهذا أيضا تضمن محذوفًا، تقديره:أنه وجد هذا الغلام المبشر به، وهو يحيى، عليه السلام، وأن الله علمه الكتاب، وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار. وقد كان سنه إذ ذاك صغيرًا، فلهذا نوه بذكره، وبما أنعم به عليه وعلى والديه، فقال: ( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ) أي:تعلم الكتاب ( بِقُوَّةٍ ) أي:بجد وحرص واجتهاد ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) أي:الفهم والعلم والجد والعزم، والإقبال على الخير، والإكباب عليه، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث [ السن ] .

قال عبد الله بن المبارك:قال معمر:قال الصبيان ليحيى بن زكريا:اذهب بنا نلعب. قال:ما للعب خلقت ، قال:فلهذا أنـزل الله: ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) .

وقوله: ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول:ورحمة من عندنا، وكذا قال عكرمة، وقتادة، والضحاك وزاد:لا يقدر عليها غيرنا. وزاد قتادة:رُحِم بها زكريا.

وقال مجاهد: ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) وتعطفًا من ربه عليه.

وقال عكرمة: ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) [ قال:محبة عليه. وقال ابن زيد:أما الحنان فالمحبة. وقال عطاء بن أبي رباح: ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) ] ، قال:تعظيمًا من لدنا .

وقال ابن جريج:أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة عن ابن عباس قال:لا والله ما أدري ما حنانًا.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور:سألت سعيد بن جبير عن قوله: ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) ، فقال:سألت عنها عباس، فلم يحر فيها شيئًا.

والظاهر من هذا السياق أن: ( وَحَنَانًا [ مِنْ لَدُنَّا ] ) معطوف على قوله: ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) أي:وآتيناه الحكم وحنانا، ( وَزَكَاةً ) أي:وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب:حنّت الناقة على ولدها، وحنت المرأة على زوجها. ومنه سميت المرأة « حَنَّة » من الحَنَّة، وحن الرجل إلى وطنه، ومنه التعطف والرحمة، كما قال الشاعر

تَحـــنَّنْ عَلَـي هَـدَاكَ المــليكُ فـــإنَّ لكُـــل مَقــامٍ مَقَــالا

وفي المسند للإمام أحمد، عن أنس، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه قال: « يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة:يا حنان يا منان »

وقد يُثنَّي ومنهم من يجعل ما ورد من ذلك لغة بذاتها، كما قال طرفة:

أَنَـا مُنْـذر أفنيـتَ فاسْـتبق بَعْضَنَـا حَنَـانَيْك بَعْـض الشَّر أهْونُ مِنْ بَعْض

وقوله: ( وَزَكَاةً ) معطوف على ( وَحَنَانًا ) فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب.

وقال قتادة:الزكاة العمل الصالح.

وقال الضحاك وابن جريج:العمل الصالح الزكي.

وقال العوفي عن ابن عباس: ( وَزَكَاةً ) [ قال:بركة ] ( وَكَانَ تَقِيًّا ) طهر، فلم يعمل بذنب.

وقوله: ( وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ) لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى، عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما، ومجانبته عقوقهما، قولا وفعلا [ وأمرًا ] ونهيًا؛ ولهذا قال: ( وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ) ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك: ( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) أي:له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال.

وقال سفيان بن عيينة:أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن:يوم يولد، فيرى نفسه خارجًا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم. قال:فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه، ( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل عنه.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( جَبَّارًا عَصِيًّا ) ، قال:كان ابن المسيب يذكر قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب، إلا يحيى بن زكريا » . قال قتادة:ما أذنب ولا همّ بامرأة، مرسل

وقال محمد بن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، حدثني ابن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا » ابن إسحاق هذا مدلس، وقد عنعن هذا الحديث، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ، أو همَّ بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول:أنا خير من يونس بن متى »

وهذا أيضًا ضعيف؛ لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة، والله أعلم.

وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة:أن حسن قال:إن يحيى وعيسى، عليهما السلام، التقيا، فقال له عيسى:استغفر لي، أنت خير مني، فقال له الآخر:استغفر لي فأنت خير مني. فقال له عيسى:أنت خير مني، سَلَّمتُ على نفسي، وسلم الله عليك، فَعرُف والله فضلهما.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ( 16 ) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ( 17 ) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ( 18 ) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ( 19 ) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ( 20 ) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ( 21 ) .

لما ذكر تعالى قصة زكريا، عليه السلام، وأنه أوجد منه، في حال كبره وعقم زوجته، ولدًا زكيًّا طاهرًا مباركًا - عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى، عليهما السلام، منها من غير أب، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة ؛ ولهذا ذكرهما في آل عمران وهاهنا وفي سورة الأنبياء، يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه، وأنه على ما يشاء قادر ، فقال: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ) وهي مريم بنت عمران، من سلالة داود، عليه السلام، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمّها لها في « آل عمران » ، وأنها نذرتها محررة، أي:تخدم مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا [ آل عمران:37 ] ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدءوب، وكانت في كفالة زوج أختها - وقيل:خالتها- زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك وعظيمهم، الذي يرجعون إليه في دينهم. ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ آل عمران:37 ] فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء، كما تقدم بيانه في « آل عمران » . فلما أراد الله تعالى - وله الحكمة والحجة البالغة- أن يُوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام، أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام، ( انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ) أي:اعتزلتهم وتنحت عنهم، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس.

قال السدي:لحيض أصابها. وقيل لغير ذلك. قال أبو كُدَيْنَة، عن قابوس بن أبي ظِبْيان، عن أبيه عن ابن عباس قال:إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه، وما صرفهم عنه إلا قيل ربك: ( انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ) قال:خرجت مريم مكانًا شرقيًّا، فصلوا قبل مطلع الشمس. رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير.

وقال ابن جرير أيضًا:حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، عن ابن عباس قال:إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة؛ لقول الله تعالى ( انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ) واتخذوا ميلاد عيسى قبلة

وقال قتادة: ( مَكَانًا شَرْقِيًّا ) شاسعًا متنحيًّا.

وقال محمد بن إسحاق:ذهبت بقلتها تستقي [ من ] الماء.

وقال نَوْف البِكَالي:اتخذت لها منـزلا تتعبد فيه. فالله أعلم.

وقوله: ( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا ) أي:استترت منهم وتوارت، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام ( فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) أي:على صورة إنسان تام كامل.

قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن جُرَيْج ووهب بن مُنَبِّه، والسُّدِّي، في قوله: ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ) يعني:جبريل، عليه السلام.

وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى: نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [ الشعراء:193 ، 194 ] .

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال:إن روح عيسى، عليه السلام، من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم، وهو الذي تمثل لها بشرا سويًّا، أي:روح عيسى، فحملت الذي خاطبها وحل في فيها.

وهذا في غاية الغرابة والنكارة، وكأنه إسرائيلي.

( قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) أي:لما تَبَدى لها الملك في صورة بشر، وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب، خافته وظنت أنه يريدها على نفسها، فقالت: ( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) أي:إن كنت تخاف الله. تذكير له بالله، وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل، فخوفته أولا بالله، عز وجل.

قال ابن جرير:حدثني أبو كُرَيْب، حدثنا أبو بكر، عن عاصم قال:قال أبو وائل - وذكر قصة مريم- فقال:قد علمت أن التقي ذو نُهْيَة حين قالت: ( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ) أي:فقال لها الملك مجيبًا لها ومزيلا ما حصل عندها من الخوف على نفسها:لست مما تظنين، ولكني رسول ربك، أي:بعثني إليك، ويقال:إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقا وعاد إلى هيئته وقال: « إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلامًا زكيا » .

[ هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء. وقرأ الآخرون: ( لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ) ] وكلا القراءتين له وجه حسن، ومعنى صحيح، وكل تستلزم الأخرى.

( قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيًّا ) أي:فتعجبت مريم من هذا وقالت:كيف يكون لي غلام؟ أي:على أي صفة يوجد هذا الغلام مني، ولست بذات زوج، ولا يتصور مني الفجور؛ ولهذا قالت: ( وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ) والبغي:هي الزانية؛ ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي.

( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) أي:فقال لها الملك مجيبًا لها عما سألت:إن الله قد قال:إنه سيوجد منك غلامًا، وإن لم يكن لك بعل ولا توجد منك فاحشة، فإنه على ما يشاء قادر ؛ ولهذا قال: ( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ) أي:دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم، الذي نوع في خلقهم، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه.

وقوله: ( وَرَحْمَةً مِنَّا ) أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله نبيًّا من الأنبياء يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده، كما قال تعالى في الآية الأخرى: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [ آل عمران:45 ، 46 ] أي:يدعو إلى عبادة الله ربه في مهده وكهولته.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم - دُحَيْم- حدثنا مروان، حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي، عن مجاهد قال:قالت مريم، عليها السلام:كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر.

وقوله: ( وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) يحتمل أن هذا من كلام جبريل لمريم، يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته. ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها، كما قال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [ التحريم:12 ] وقال وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا [ الأنبياء:91 ]

قال محمد بن إسحاق: ( وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) أي:أن الله قد عزم على هذا، فليس منه بد، واختار هذا أيضًا ابن جرير في تفسيره، ولم يحك غيره، والله أعلم.

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ( 22 ) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ( 23 )

يقول تعالى مخبرًا عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال، أنها استسلمت لقضاء الله تعالى فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك - وهو جبريل عليه السلام- عند ذلك نفخ في جيب درعها، فنـزلت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بالولد بإذن الله تعالى. فلما حملت به ضاقت ذرعًا به ولم تدر ماذا تقول للناس، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به، غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا. وذلك أن زكريا عليه السلام، كان قد سأل الله الولد، فأجيب إلى ذلك، فحملت امرأته، فدخلت عليها مريم فقامت إليها فاعتنقتها، وقالت:أشعرت يا مريم أني حبلى؟ فقالت لها مريم:وهل علمت أيضًا أني حبلى؟ وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها وكانوا بيت إيمان وتصديق، ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في جوفها يسجد للذي في بطن مريم، أي:يعظمه ويخضع له، فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعًا، كما سجد ليوسف أبواه وإخوته، وكما أمر الله الملائكة أن تسجد لآدم، عليه السلام، ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلا لتعظيم جلال الرب تعالى.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين قال:قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع، قال:أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم قال:قال مالك رحمه الله:بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابنا خالة، وكان حملهما جميعا معا، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم:إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك. قال مالك:أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام؛ لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص.

ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر. وقال عكرمة:ثمانية أشهر - قال:ولهذا لا يعيش ولد لثمانية أشهر.

وقال ابن جُرَيْج:أخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله الثقفي، سمع ابن عباس وسئل عن حَبَل مريم، قال:لم يكن إلا أن حملت فوضعت .

وهذا غريب، وكأنه أخذه من ظاهر قوله تعالى: ( فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ) ( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) فالفاء وإن كانت للتعقيب، ولكن تعقيب كل شيء بحسبه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا [ المؤمنون:12 - 14 ] فهذه الفاء للتعقيب بحسبها. وقد ثبت في الصحيحين:أن بين كل صفتين أربعين يومًا وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً [ الحج:63 ] فالمشهور الظاهر - والله على كل شيء قدير- أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن؛ ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس، يقال له:يوسف النجار، فلما رأى ثقل بطنها وكبره، أنكر ذلك من أمرها، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونـزاهتها ودينها وعبادتها، ثم تأمّل ما هي فيه، فجعل أمرها يجوس في فكره، لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول، فقال:يا مريم، إني سائلك عن أمر فلا تعجلي عليّ. قالت:وما هو؟ قال:هل يكون قط شجر من غير حبّ؟ وهل يكون زرع من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت:نعم - فهمت ما أشار إليه- أما قولك: « هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر؟ » فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب، ولا بذر « وهل خلق يكون من غير أب؟ » فإن الله قد خلق آدم من غير أب ولا أم. فصدقها، وسلَّم لها حالها.

ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة، انتبذت منهم مكانًا قصيًّا، أي:قاصيًا منهم بعيدًا عنهم؛ لئلا تراهم ولا يروها.

قال محمد بن إسحاق:فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والترحم وتغير اللون، حتى فَطَرَ لسانها، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا، وشاع الحديث في بني إسرائيل، فقالوا: « إنما صاحبها يوسف » ، ولم يكن معها في الكنيسة غيره، وتوارت من الناس، واتخذت من دونهم حجابًا، فلا يراها أحد ولا تراه.

وقوله: ( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) [ أي:فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة ] وهي نخلة في المكان الذي تنحت إليه.

وقد اختلفوا فيه، فقال السدي:كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس.

وقال وهب بن مُنَبِّه:ذهبت هاربة، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر، ضربها الطلق. وفي رواية عن وهب:كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس، في قرية هناك يقال لها: « بيت لحم » .

قلت:وقد تقدم في حديث الإسراء، من رواية النسائي عن أنس، رضي الله عنه، والبيهقي عن شدَّاد بن أوس، رضي الله عنه:أن ذلك ببيت لحم، فالله أعلم، وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم، وقد تلقاه الناس. وقد ورد به الحديث إن صح.

وقوله تعالى إخبارًا عنها: ( قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، فقالت: ( يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا ) أي قبل هذا الحال، ( وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) أي لم أخلق ولم أك شيئًا. قاله ابن عباس.

وقال السدي:قالت وهي تطلق من الحبل - استحياء من الناس:يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل ( وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) نُسِيَ فتُرِك طلبه، كخِرَق الحيض إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر. وكذلك كل شيء نُسِيَ وترك فهو نَسِيّ.

وقال قتادة: ( وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) أي:شيئًا لا يعرف، ولا يذكر، ولا يدرى من أنا.

وقال الربيع بن أنس: ( وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) وهو السقط.

وقال ابن زيد:لم أكن شيئًا قط.

وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة، عند قوله: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [ يوسف:101 ]

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ( 24 ) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ( 25 )

قرأ بعضهم ( مَنْ تَحْتَهَا ) بمعنى الذي تحتها. وقرأ آخرون: ( مِنْ تَحْتِهَا ) على أنه حرف جر.

واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو؟ فقال العوفي وغيره، عن ابن عباس: ( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، وكذا قال سعيد بن جبير، والضحاك، وعمرو بن ميمون، والسدي، وقتادة:إنه الملك جبريل عليه الصلاة والسلام، أي:ناداها من أسفل الوادي.

وقال مجاهد: ( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قال:عيسى ابن مريم، وكذا قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة قال:قال الحسن:هو ابنها. وهو إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير:أنه ابنها، قال:أولم تسمع الله يقول: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [ مريم:29 ] ؟ واختاره ابن زيد، وابن جرير في تفسيره

وقوله: ( أَلا تَحْزَنِي ) أي:ناداها قائلا لا تحزني، ( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال سفيان الثوري وشعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب: ( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال:الجدول. وكذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:السريّ:النهر. وبه قال عمرو بن ميمون:نهر تشرب منه.

وقال مجاهد:هو النهر بالسريانية.

وقال سعيد بن جُبَيْر:السري:النهر الصغير بالنبطية.

وقال الضحاك:هو النهر الصغير بالسريانية.

وقال إبراهيم النَّخَعِي:هو النهر الصغير.

وقال قتادة:هو الجدول بلغة أهل الحجاز.

وقال وهب بن مُنَبِّه:السري:هو ربيع الماء.

وقال السدي:هو النهر، واختار هذا القول ابن جرير. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع، فقال الطبراني:

حدثنا أبو شعيب الحَرَّاني:حدثنا يحيى بن عبد الله البَابلُتِّي حدثنا أيوب بن نَهِيك، سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول:سمعت ابن عمر يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن السري الذي قال الله لمريم: ( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) نهر أخرجه الله لتشرب منه » وهذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه. وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي قال فيه أبو حاتم الرازي:ضعيف. وقال أبو زُرْعَة:منكر الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي:متروك الحديث.

وقال آخرون:المراد بالسري:عيسى، عليه السلام، وبه قال الحسن، والربيع بن أنس، ومحمد بن عَبَّاد بن جعفر. وهو إحدى الروايتين عن قتادة، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والقول الأول أظهر؛ ولهذا قال بعده: ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) أي:وخذي إليك بجذع النخلة. قيل:كانت يابسة، قاله ابن عباس. وقيل:مثمرة. قال مجاهد:كانت عجوة. وقال الثوري، عن أبي داود نُفَيْع الأعمى:كانت صَرَفَانة

والظاهر أنها كانت شجرة، ولكن لم تكن في إبان ثمرها، قاله وهب بن منبه؛ ولهذا امتن عليها بذلك، أن جعل عندها طعامًا وشرابًا، فقال: ( تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ) أي:طيبي نفسًا؛ ولهذا قال عمرو بن ميمون:ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية الكريمة.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا شَيْبَان، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عُروة بن رُوَيْم، عن علي بن أبي طالب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام، وليس من الشجر شيء يُلَقَّح غيرها » . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أطعموا نساءكم الولدَ الرطَبَ، فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجرة شجرة أكرم على الله من شجرة نـزلت تحتها مريم بنت عمران » .

هذا حديث منكر جدًّا، ورواه أبو يعلى، عن شيبان، به

وقرأ بعضهم قوله: « تساقط » بتشديد السين، وآخرون بتخفيفها، وقرأ أبو نَهِيك: ( تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ) وروى أبو إسحاق عن البراء:أنه قرأها: « تساقط » أي:الجذع. والكل متقارب.