فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ( 26 ) .

وقوله: ( فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا ) أي:مهما رأيت من أحد، ( فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) المراد بهذا القول:الإشارة إليه بذلك. لا أن المراد به القول اللفظي؛ لئلا ينافي: ( فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) .

قال أنس بن مالك في قوله: ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) أي:صمتًا وكذا قال ابن عباس، والضحاك. وفي رواية عن أنس: « صومًا وصمتًا » ، وكذا قال قتادة وغيرهما.

والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام، نص على ذلك السدي، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد.

وقال أبو إسحاق، عن حارثة قال:كنت عند ابن مسعود، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر، فقال:ما شأنك؟ قال أصحابه:حلف ألا يكلم الناس اليوم. فقال عبد الله بن مسعود:كلِّم الناس وسلم عليهم، فإنما تلك امرأة علمت أن أحدًا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج. يعني بذلك مريم، عليها السلام؛ ليكون عذرًا لها إذا سئلت. ورواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، رحمهما الله.

وقال عبد الرحمن بن زيد:لما قال عيسى لمريم: أَلا تَحْزَنِي قالت:وكيف لا أحزن وأنت معي؟! لا ذاتُ زوج ولا مملوكة، أي شيء عذري عند الناس؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا، قال لها عيسى:أنا أكفيك الكلام: ( فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) قال:هذا كله من كلام عيسى لأمه. وكذا قال وهب.

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ( 27 ) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ( 28 ) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ( 29 ) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ( 30 ) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ( 31 ) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ( 32 ) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ( 33 ) .

يقول تعالى مخبرًا عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك، وألا تكلم أحدًا من البشر فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها فسلمت لأمر الله، عز وجل، واستسلمت لقضائه، وأخذت ولدها ( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ) فلما رأوها كذلك، أعظموا أمرها واستنكروه جدًّا، وقالوا: ( يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ) أي:أمرًا عظيمًا. قاله مجاهد، وقتادة والسدي، وغير واحد.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سَيَّار حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا أبو عمران الجَوْني، عن نوف البِكَاليّ قال:وخرج قومها في طلبها، وكانت من أهل بيت نبوة وشرف. فلم يحسوا منها شيئًا، فرأوا راعي بقر فقالوا:رأيت فتاة كذا وكذا نَعْتُها؟ قال:لا ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط. قالوا:وما رأيت؟ قال:رأيتها سُجَّدا نحو هذا الوادي. قال عبد الله بن أبي زياد:وأحفظ عن سيار أنه قال:رأيت نورًا ساطعًا. فتوجهوا حيث قال لهم، فاستقبلتهم مريم، فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها، فجاءوا حتى قاموا عليها، ( قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ) أمرًا عظيمًا. ( يَا أُخْتَ هَارُونَ ) أي:يا شبيهة هارون في العبادة ( مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) أي:أنت من بيت طيب طاهر، معروف بالصلاح والعبادة والزهادة ، فكيف صدر هذا منك؟

قال علي بن أبي طلحة ، والسدي:قيل لها: ( يَا أُخْتَ هَارُونَ ) أي:أخي موسى، وكانت من نسله كما يقال للتميمي:يا أخا تميم، وللمضري:يا أخا مضر.

وقيل:نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون، فكانت تقاس به في العبادة، والزهادة.

وحكى ابن جرير عن بعضهم:أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم. يقال له:هارون. ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.

وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم.

حدثنا علي بن الحسين الهِسِنْجَاني حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا المفضل بن فَضَالة، حدثنا أبو صخر، عن القُرَظي في قول الله عز وجل: ( يَا أُخْتَ هَارُونَ ) قال:هي أخت هارون لأبيه وأمه، وهي أخت موسى أخي هارون التي قَصَّت أثر موسى، فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [ القصص:11 ] .

وهذا القول خطأ محض، فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفَّى بعيسى بعد الرسل، فدل على أنه آخر الأنبياء بعثًا وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولهذا ثبت في الصحيح عند البخاري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أنا أولى الناس بابن مريم؛ إلا أنه ليس بيني وبينه نبي » ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي، لم يكن متأخرًا عن الرسل سوى محمد. ولكان قبل سليمان و داود؛ فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى، عليهما السلام في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ البقرة:246 ] فذكر القصة إلى أن قال: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ الآية [ البقرة:251 ] ، والذي جرأ القرظي على هذه المقالة ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر، وإغراق فرعون وقومه، قال:وكانت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين، تضرب بالدف هي والنساء معها يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل، فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى. وهي هفوة وغلطة شديدة، بل هي باسم هذه، وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا عبد الله بن إدريس، سمعت أبي يذكره عن سِمَاك، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة قال:بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران، فقالوا:أرأيت ما تقرءون: ( يَا أُخْتَ هَارُونَ ) ، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال:فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « ألا أخبرتهم أنهم كانوا يَتَسَمّون بالأنبياء والصالحين قبلهم؟ » .

انفرد بإخراجه مسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث عبد الله بن إدريس، عن أبيه، عن سماك، به ، وقال الترمذي:حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس.

وقال ابن جرير:حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن سعيد بن أبي صدقة، عن محمد بن سيرين قال نُبِّئت أن كعبًا قال:إن قوله: ( يَا أُخْتَ هَارُونَ ) :ليس بهارون أخي موسى. قال:فقالت له عائشة:كذبت، قال يا أم المؤمنين، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله، فهو أعلم وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة. قال:فسكتت وفي هذا التاريخ نظر.

وقال ابن جرير أيضًا:حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) قال:كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح، ولا يعرفون بالفساد، [ ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به، وآخرون يعرفون بالفساد ] ويتوالدون به. وكان هارون مصلحًا محببًا، في عشيرته، وليس بهارون أخي موسى، ولكنه هارون آخر، قال:وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفًا، كلهم يسمى هارون، من بني إسرائيل.

وقوله: ( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) أي:إنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها ، وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرْية، وقد كانت يومها ذلك صائمة، صامتة فأحالت الكلام عليه، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه، فقالوا متهكمين بها، ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم: ( كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) ؟

قال ميمون بن مِهْران: ( فَأَشَارَتْ [ إِلَيْهِ ] ) ، قالت:كلموه. فقالوا:على ما جاءت به من الداهية تأمرنا أن نكلم من كان في المهد صبيا!

وقال السدي:لما أشارت إليه غضبوا، وقالوا:لَسُخْريَتُها بنا حين تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها.

( قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) أي:من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره، كيف يتكلم؟ قال: ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ) أول شيء تكلم به أن نـزه جناب ربه تعالى وبرأ الله عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه.

وقوله: ( آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) :تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة.

قال نوف البكالي:لما قالوا لأمه ما قالوا، كان يرتضع ثديه، فنـزع الثدي من فمه، واتكأ على جنبه الأيسر، وقال: ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) إلى قوله: ( مَا دُمْتُ حَيًّا )

وقال حماد بن سلمة، عن ثابت البُنَاني:رفع إصبعه السبابة فوق منكبه، وهو يقول: ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) الآية.

وقال عكرمة: ( آتَانِيَ الْكِتَابَ ) أي:قضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد العزيز بن زياد، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال:كان عيسى ابن مريم قد درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه فذلك قوله: ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) .

يحيى بن سعيد العطار الحمصي:متروك.

وقوله: ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ) قال مجاهد، وعمرو بن قيس، والثوري:وجعلني معلمًا للخير. وفي رواية عن مجاهد:نَفَّاعًا.

وقال ابن جرير:حدثني سليمان بن عبد الجبار، حدثنا محمد بن يزيد بن خُنَيْس المخزومي، سمعت وُهَيْب بن الورد مولى بني مخزوم قال:لقي عالم عالمًا هو فوقه في العلم، فقال له:يرحمك الله، ما الذي أعلن من عملي؟ قال:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده، وقد أجمع الفقهاء على قول الله: ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ) ، وقيل:ما بركته؟ قال:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أينما كان.

وقوله: ( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [ الحجر:99 ] .

وقال عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك بن أنس في قوله: ( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) قال:أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت ، ما أثبتها لأهل القدر.

وقوله: ( وَبَرًّا بِوَالِدَتِي ) أي:وأمرني ببر والدتي، ذكره بعد طاعة الله ربه؛ لأن الله تعالى كثيرًا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين، كما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [ الإسراء:23 ] وقال أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [ لقمان:14 ] .

وقوله: ( وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) أي:ولم يجعلني جبارًا مستكبرًا عن عبادته وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك.

قال سفيان الثوري:الجبار الشقي:الذي يقبل على الغضب.

وقال بعض السلف:لا تجد أحدًا عاقًّا لوالديه إلا وجدته جبارًا شقيًّا، ثم قرأ: ( وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) ، قال:ولا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورًا، ثم قرأ: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا [ النساء:36 ]

وقال قتادة:ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، في آيات سلطه الله عليهن، وأذن له فيهن، فقالت:طوبى للبطن الذي حملك وللثدي الذي أرضعت به، فقال نبي الله عيسى، عليه السلام، يجيبها:طوبى لمن تلا كلام الله، فاتبع ما فيه ولم يكن جبارًا شقيًّا.

وقوله: ( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) :إثبات منه لعبوديته لله عز وجل، وأنه مخلوق من خلق الله يحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد، [ صلوات الله وسلامه عليه ]

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ( 34 ) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 35 ) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 36 ) فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 37 ) .

يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:عليه ذلك الذي قصصنا عليك من خبر عيسى، ( قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) أي:يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به؛ ولهذا قرأ الأكثرون: « قول الحق » برفع قول. وقرأ عاصم، وعبد الله بن عامر: ( قَوْلَ الْحَقِّ ) .

وعن ابن مسعود أنه قرأ: « ذلك عيسى ابن مريم قَالُ الحق » ، والرفع أظهر إعرابًا، ويشهد له قوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [ آل عمران:59 ، 60 ] .

ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبدًا نبيًّا، نـزه نفسه المقدسة فقال: ( مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ ) أي:عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علوًّا كبيرًا، ( إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) أي:إذا أراد شيئًا فإنما يأمر به، فيصير كما يشاء، كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [ آل عمران:59 ، 60 ] .

وقوله: ( وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) أي:ومما أمر عيسى به قومه وهو في مهده، أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربهم وربه ، وأمرهم بعبادته، فقال: ( فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) أي:هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم، أي:قويم، من اتبعه رشد وهدي، ومن خالفه ضل وغوى.

وقوله: ( فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ) أي:اختلفت أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله، وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فصَمَّمَت طائفة - وهم جمهور اليهود، عليهم لعائن الله - على أنه ولد زنْيَة، وقالوا:كلامه هذا سحر. وقالت طائفة أخرى:إنما تكلم الله. وقال آخرون:هو ابن الله، وقال آخرون:ثالث ثلاثة. وقال آخرون:بل هو عبد الله ورسوله. وهذا هو قول الحق، الذي أرشد الله إليه المؤمنين. وقد روي [ نحو هذا ] عن عمرو بن ميمون، وابن جريج، وقتادة، وغير واحد من السلف والخلف.

قال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: ( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ، قال:اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم:هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء - وهم اليعقوبية. فقال الثلاثة:كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث:قل أنت فيه، قال:هو ابن الله - وهم النسطورية. فقال الاثنان:كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر:قل فيه. قال:هو ثالث ثلاثة:الله إله، وهو إله، وأمه إله - وهم الإسرائيلية ملوك النصارى، عليهم لعائن الله. قال الرابع:كذبت، بل هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته، وهم المسلمون. فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا، فاقتتلوا فظُهِرَ على المسلمين، وذلك قول الله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [ آل عمران:21 ] وقال قتادة:وهم الذين قال الله: ( فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ) قال:اختلفوا فيه فصاروا أحزابًا

وقد روى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، وعن عروة بن الزبير، وعن بعض أهل العلم، قريبًا من ذلك. وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم:أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم، فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفًا، فاختلفوا في عيسى ابن مريم، عليه السلام، اختلافًا متباينًا، فقالت كل شرذمة فيه قولا فمائة تقول فيه قولا وسبعون تقول فيه قولا آخر، وخمسون تقول فيه شيئًا آخر، ومائة وستون تقول شيئًا، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة وثمانية منهم، اتفقوا على قول وصَمَّموا عليه ومال إليهم الملك، وكان فيلسوفًا، فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم، فوضعوا له الأمانة الكبيرة، بل هي الخيانة العظيمة، ووضعوا له كتب القوانين، وشرَّعوا له أشياء وابتدعوا بدعًا كثيرة، وحَرَّفوا دين المسيح، وغيروه، فابتنى حينئذ لهم الكنائس الكبار في مملكته كلها:بلاد الشام، والجزيرة، والروم، فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثنتي عشرة ألف كنيسة، وبنت أمه هيلانة قُمَامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي تزعم اليهود والنصارى أنه المسيح، وقد كذبوا، بل رفعه الله إلى السماء.

وقوله: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله، وافترى، وزعم أن له ولدا. ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة وأجلهم حلمًا وثقة بقدرته عليهم؛ فإنه الذي لا يعجل على من عصاه، كما جاء في الصحيحين: « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هود:102 ] وفي الصحيحين أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم » . وقد قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [ الحج:48 ] وقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [ إبراهيم:42 ] ولهذا قال هاهنا: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) أي:يوم القيامة، وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته، عن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله [ ورسوله ] وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل »

أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 38 )

يقول تعالى مخبرًا عن الكفار [ يوم القيامة ] أنهم أسْمَعُ شيء وأبْصَرُه كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [ السجدة:12 ] أي:يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئًا، ولو كان هذا قبل معاينة العذاب، لكان نافعًا لهم ومنقذًا من عذاب الله، ولهذا قال: ( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ) أي:ما أسمعهم وأبصرهم ( يَوْمَ يَأْتُونَنَا ) يعني:يوم القيامة ( لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ ) أي:في الدنيا ( فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي:لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون، فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون، ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك.