وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ( 52 ) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ( 53 ) .

وقوله: ( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ ) أي:الجبل ( الأيْمَنِ ) أي:من جانبه الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة، رآها تلوح فقصدها، فوجدها في جانب الطور الأيمن منه ، عند شاطئ الوادي. فكلمه الله تعالى، ناداه وقربه وناجاه . قال ابن جرير:حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى - هو القطان- حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) قال:أدني حتى سمع صريف القلم.

وهكذا قال مجاهد، وأبو العالية، وغيرهم. يعنون صريف القلم بكتابة التوراة.

وقال السدي: ( وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) قال:أدخل في السماء فكلم، وعن مجاهد نحوه.

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: ( وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) قال:نجا بصدقه

قال ابن أبي حاتم:حدثنا عبد الجبار بن عاصم، حدثنا محمد بن سلمة الحراني، عن أبي الوصل، عن شهر بن حَوْشَب، عن عمرو بن معد يكرب قال:لما قرب الله موسى نجيًا بطور سيناء، قال:يا موسى، إذا خلقت لك قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة تعين على الخير، فلم أخزن عنك من الخير شيئًا، ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئًا.

وقوله: ( وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ) أي:وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه، فجعلناه نبيًّا، كما قال في الآية الأخرى: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [ القصص:34 ] ، وقال : قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [ طه:36 ] ، وقال: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) [ الشعراء:13 ، 14 ] ؛ ولهذا قال بعض السلف:ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيًّا، قال الله تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ) .

قال ابن جرير:حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن داود، عن عكرمة قال:قال ابن عباس:قوله: ( وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ) ، قال:كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد:وهب له نبوته.

وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقًا، عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدورقي، به.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا ( 54 ) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ( 55 ) .

هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه ( كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ )

قال ابن جريج:لم يَعدْ ربه عدة إلا أنجزها، يعني:ما التزم قط عبادة بنذر إلا قام بها، ووفاها حقها.

وقال ابن جرير:حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن سهل بن عقيل حدثه، أن إسماعيل النبي، عليه السلام، وعد رجلا مكانًا أن يأتيه، فجاء ونسي الرجل، فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد، فقال:ما برحت من هاهنا؟ قال:لا. قال:إني نسيت. قال:لم أكن لأبرح حتى تأتيني. فلذلك ( كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ) .

وقال سفيان الثوري:بلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولا حتى جاءه.

وقال ابن شَوْذَب:بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع سكنًا.

وقد روى أبو داود في سننه، وأبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه « مكارم الأخلاق » من طريق إبراهيم بن طَهْمَان، عن عبد الله بن مَيْسَرة، عن عبد الكريم - يعني:ابن عبد الله بن شَقيق- عن أبيه، عن عبد الله بن أبي الحمساء قال:بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فبقيت له عليّ بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك، قال:فنسيت يومي والغد، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك، فقال لي: « يا فتى، لقد شققت علي، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك » لفظ الخرائطي ، وساق آثارًا حسنة في ذلك.

ورواه ابن مَنْده أبو عبد الله في كتاب « معرفة الصحابة » ، بإسناده عن إبراهيم بن طَهْمَان، عن بُدَيْل بن ميسرة، عن عبد الكريم، به .

وقال بعضهم:إنما قيل له: ( صَادِقَ الْوَعْدِ ) ؛ لأنه قال لأبيه: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [ الصافات:102 ] ، فصدق في ذلك.

فصدق الوعد من الصفات الحميدة، كما أن خُلْفَه من الصفات الذميمة، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [ الصف:2 ، 3 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « آية المنافق ثلاث:إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان »

ولما كانت هذه صفات المنافقين، كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضًا، لا يعد أحدًا شيئًا إلا وفّى له به، وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب، فقال: « حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي » . ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق:من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَةٌ أو دَيْن فليأتني أنجز له، فجاءه جابر بن عبد الله، فقال:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قال: « لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا » ، يعني:ملء كفيه، فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابرًا، فغرف بيديه من المال، ثم أمره بِعَدّه، فإذا هو خمسمائة درهم، فأعطاه مثليها معها

وقوله: ( وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا ) في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق؛ لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة. وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل... » وذكر تمام الحديث، فدل على صحة ما قلناه.

وقوله: ( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) :هذا أيضًا من الثناء الجميل، والصفة الحميدة، والخلة السديدة ، حيث كان مثابرًا على طاعة ربه آمرًا بها لأهله ، كما قال تعالى لرسوله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [ طه:132 ] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ الآية [ التحريم:6 ] أي:مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملا فتأكلهم النار يوم القيامة، وقد جاء في الحديث، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته، فإن أبت نَضَح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء » أخرجه أبو داود، وابن ماجه .

وعن أبي سعيد، وأبي هريرة، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته، فصليا ركعتين، كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات » . رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، واللفظ له .

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ( 56 ) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ( 57 ) .

وهذا ذكر إدريس، عليه السلام، بالثناء عليه، بأنه كان صديقًا نبيًّا، وأن الله رفعه مكانًا عليًّا. وقد تقدم في الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة.

وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا، فقال:حدثني يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن سليمان الأعمش، عن شَمِر بن عطية، عن هلال بن يساف قال:سأل ابن عباس كعبًا، وأنا حاضر، فقال له:ما قول الله - عز وجل- لإدريس: ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) فقال كعب:أما إدريس فإن الله أوحى إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم، فأحب أن يزداد عملا فأتاه خليل له من الملائكة فقال:إن الله أوحى إليّ كذا وكذا، فكلم لي ملك الموت، فَلْيؤخرني حتى أزداد عملا فحمله بين جناحيه، حتى صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم مَلَك الموت منحدرًا، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس، فقال:وأين إدريس؟ فقال:هو ذا على ظهري. قال ملك الموت:فالعجب! بعثت وقيل لي:اقبض روح إدريس في السماء الرابعة. فجعلت أقول:كيف أقبض روحه في السماء الرابعة، وهو في الأرض؟ فقبض روحه هناك، فذلك قول الله: ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) .

هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة، والله أعلم.

وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن ابن عباس:أنه سأل كعبًا، فذكر نحو ما تقدم، غير أنه قال لذلك الملك:هل لك أن تسأله - يعني:ملك الموت- كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل وذكر باقيه ، وفيه:أنه لما سأله عما بقي من أجله، قال :لا أدري حتى أنظر، ثم نظر، قال:إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين، فنظر الملك تحت جناحه إلى إدريس، فإذا هو قد قبض، عليه السلام، وهو لا يشعر به.

ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس:أن إدريس كان خياطًا، فكان لا يغرز إبرة إلا قال: « سبحان الله » ، فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل عملا منه. وذكر بقيته كالذي قبله، أو نحوه.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) قال:إدريس رفع ولم يمت، كما رفع عيسى.

وقال سفيان، عن منصور، عن مجاهد: ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) قال: [ رفع إلى ] السماء الرابعة.

وقال العوفي عن ابن عباس: ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) قال:رفع إلى السماء السادسة فمات بها. وهكذا قال الضحاك بن مُزَاحم.

وقال الحسن، وغيره، في قوله: ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) قال:الجنة.

أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ( 58 )

يقول تعالى هؤلاء النبيون - وليس المراد [ هؤلاء ] المذكورين في هذه السورة فقط، بل جنس الأنبياء عليهم السلام، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس - ( الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ) الآية.

قال السدي وابن جرير، رحمه الله: [ فالذي عنى به من ذرية آدم:إدريس، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح:إبراهيم ] والذي عنى به من ذرية إبراهيم:إسحاق ويعقوب وإسماعيل، والذي عنى به من ذرية إسرائيل:موسى، وهارون، وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم.

قال ابن جرير:ولذلك فرّق أنسابهم، وإن كان يجمع جميعهم آدم؛ لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة، وهو إدريس، فإنه جد نوح.

قلت:هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح، عليهما السلام. وقد قيل:إنه من أنبياء بني إسرائيل، أخذًا من حديث الإسراء، حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم: « مرحبا بالنبي الصالح، والأخ الصالح » ، ولم يقل: « والولد الصالح » ، كما قال آدم وإبراهيم ، عليهما السلام.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن محمد أن إدريس أقدم من نوح بعثه الله إلى قومه، فأمرهم أن يقولوا: « لا إله إلا الله » ، ويعملوا ما شاءوا فأبوا، فأهلكهم الله عز وجل.

[ ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنسُ الأنبياء، أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ] إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى أن قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [ الأنعام 83- 90 ] وقال تعالى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [ غافر:78 ] . وفي صحيح البخاري، عن مجاهد:أنه سأل ابن عباس:أفي « ص » سجدة؟ قال نعم، ثم تلا هذه الآية: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ، فنبيكم ممن أُمِر أن يقتدي بهم، قال:وهو منهم، يعني داود .

وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا أي:إذا سمعوا كلام الله المتضمن حُجَجه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعًا واستكانة، وحمدًا وشكرًا على ما هم فيه من النعم العظيمة.

« والبُكِيّ » :جمع باك، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا، اقتداء بهم، واتباعًا لمنوالهم

قال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي مَعْمَر قال:قرأ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، سورة مريم، فسجد وقال:هذا السجود، فأين البكى؟ يريد البكاء.

رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وسَقَط من روايته ذكر « أبي معمر » فيما رأيت ، والله أعلم.

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ( 59 ) إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ( 60 ) .

لما ذكر تعالى حزْبَ السعداء، وهم الأنبياء، عليهم السلام، ومن اتبعهم، من القائمين بحدود الله وأوامره، المؤدين فرائض الله، التاركين لزواجره - ذكر أنه ( خَلَفَ مِنْ بَعْدِهم خَلْفٌ ) أي:قرون أخر، ( أَضَاعُوا الصَّلاةَ ) - وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد- وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سيلقون غيا، أي:خَسَارًا يوم القيامة.

وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة هاهنا، فقال قائلون:المراد بإضاعتها تَرْكُها بالكلية، قاله محمد بن كعب القُرَظي، وابن زيد بن أسلم، والسدي، واختاره ابن جرير. ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن الإمام أحمد، وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة، للحديث : « بين العبد وبين الشرك تَركُ الصلاة » ، والحديث الآخر: « العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر » . وليس هذا محل بسط هذه المسألة.

وقال الأوزاعي، عن موسى بن سليمان، عن القاسم بن مُخَيمرة في قوله: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ ) ، قال:إنما أضاعوا المواقيت، ولو كان تركًا كان كفرًا.

وقال وكيع، عن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، والحسن بن سعد، عن ابن مسعود أنه قيل له:إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ و عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ و عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ؟ قال ابن مسعود:على مواقيتها. قالوا:ما كنا نرى ذلك إلا على الترك؟ قال:ذاك الكفر.

[ و ] قال مسروق:لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس، فيكتب من الغافلين، وفي إفراطهن الهلكة، وإفراطهن:إضاعتهن عن وقتهن.

وقال الأوزاعي، عن إبراهيم بن يزيد :أن عمر بن عبد العزيز قرأ: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) ، ثم قال:لم تكن إضاعتهم تركها، ولكن أضاعوا الوقت.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ) قال:عند قيام الساعة، وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ينـزو بعضهم على بعض في الأزقة، وكذا روى ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله .

وروى جابر الجُعْفي، عن مجاهد، وعكرمة، وعطاء بن أبي رباح:أنهم من هذه الأمة، يعنون في آخر الزمان.

وقال ابن جرير:حدثني الحارث، حدثنا الحسن الأشيب، حدثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ) ، قال:هم في هذه الأمة ، يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق، لا يخافون الله في السماء، ولا يستحيون الناس في الأرض.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، حدثنا حيوة، حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني:أن الوليد بن قيس حدثه، أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يكون خلف بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا. ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم. ويقرأ القرآن ثلاثة:مؤمن، ومنافق، وفاجر » . قال بشير :قلت للوليد:ما هؤلاء الثلاثة؟ قال:المؤمن مؤمن به، والمنافق كافر به، والفاجر يأكل به.

وهكذا رواه أحمد عن أبي عبد الرحمن، المقرئ ، به

وقال ابن أبي حاتم أيضًا:حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا عيسى بن يونس، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن مَوْهَب ، عن مالك، عن أبي الرجال، أن عائشة كانت ترسل بالشيء صدقة لأهل الصُّفَّة، وتقول:لا تعطوا منه بربريا ولا بربرية، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « هم الخلف الذين قال الله تعالى: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ ) . هذا حديث غريب . »

وقال أيضًا:حدثني أبي، حدثنا عبد الرحمن بن الضحاك، حدثنا الوليد، حدثنا حَريز ، عن شيخ من أهل المدينة؛ أنه سمع محمد بن كعب القُرَظِي يقول في قوله : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ) الآية، قال:هم أهل الغرب ، يملكون وهم شر من ملك.

وقال كعب الأحبار:والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل:شرابين للقهوات تراكين للصلوات، لعابين بالكعبات، رقادين عن العتمات، مفرطين في الغدوات، تراكين للجمعات قال:ثم تلا هذه الآية: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) .

وقال الحسن البصري:عطلوا المساجد، ولزموا الضيعات.

وقال أبو الأشهب العُطَارِدي:أوحى الله - تعالى- إلى داود:يا داود، حَذّر وأنذر أصحابك أكل الشهوات؛ فإن القلوب المعَلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة، وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته على أن أحرمه طاعتي.

وقال الإمام أحمد:حدثنا زيد بن الحباب حدثنا أبو [ السمح ] التميمي، عن أبي قبيل ، أنه سمع عقبة بن عامر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني أخاف على أمتي اثنتين:القرآن [ واللبن، أما اللبن ] فيتبعون الرّيف، ويتبعون الشهوات ويتركون الصلوات، وأما القرآن فيتعلمه المنافقون، فيجادلون به المؤمنين » .

ورواه عن حسن بن موسى، عن ابن لهيعة، حدثنا أبو قبيل، عن عقبة، به مرفوعًا بنحوه تفرد به .

وقوله: ( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) أي:خسرانا. وقال قتادة:شرًّا.

وقال سفيان الثوري، وشعبة، ومحمد بن إسحاق، عن أبي إسحاق السَّبيعي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود: ( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) قال:واد في جهنم، بعيد القعر، خبيث الطعم.

وقال الأعمش، عن زياد، عن أبي عياض في قوله: ( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) قال:واد في جهنم من قيح ودم.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير:حدثني عباس بن أبي طالب، حدثنا محمد بن زياد بن زيان، حدثنا شرقي بن قطامي، عن لقمان بن عامر الخزاعي قال:جئت أبا أمامة صُدَيّ بن عَجْلان الباهلي فقلت:حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:فدعا بطعام، ثم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم، ما بلغت قعرها خمسين خريفًا، ثم تنتهي إلى غي وآثام » . قال:قلت:وما غي وآثام؟ قال: « بئران في أسفل جهنم، يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللتان ذكر الله في كتابه: ( أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) وقوله في الفرقان: وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا هذا حديث غريب ورفعه منكر. »

وقوله: ( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) ، أي:إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات، فإن الله يقبل توبته، ويحسن عاقبته، ويجعله من ورثة جنة النعيم؛ ولهذا قال: ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ) وذلك؛ لأن التوبة تُجُبُّ ما قبلها، وفي الحديث الآخر: « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » ؛ ولهذا لا يُنْقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئًا، ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص لهم مما عملوه بعدها؛ لأن ذلك ذهب هَدَرًا وترك نسيا، وذهب مَجَّانا، من كرم الكريم، وحلم الحليم.

وهذا الاستثناء هاهنا كقوله في سورة الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [ الفرقان:68 - 70 ]

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ( 61 ) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ( 62 ) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ( 63 ) .

يقول تعالى:الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم، هي ( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) أي:إقامة ( الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ ) بظهر الغيب، أي:هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه؛ وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم.

وقوله: ( إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ) تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره؛ فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله، كقوله: كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا [ المزمل:18 ] أي:كائنا لا محالة.

وقوله هاهنا: ( مَأْتِيًّا ) أي:العباد صائرون إليه، وسيأتونه.

ومنهم من قال: ( مَأْتِيًّا ) بمعنى:آتيا؛ لأن كل ما أتاك فقد أتيته، كما تقول العرب:أتت عليّ خمسون سنة، وأتيت على خمسين سنة، كلاهما بمعنى [ واحد ]

وقوله: ( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ) أي:هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له، كما قد يوجد في الدنيا.

وقوله: ( إِلا سَلامًا ) استثناء منقطع، كقوله: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا [ الواقعة:25 ، 26 ]

وقوله: ( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) أي:في مثل وقت البُكُرات ووقت العَشيّات، لا أن هناك ليلا أو نهارًا ولكنهم في أوقات تتعاقب، يعرفون مضيها بأضواء وأنوار، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معْمَر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أول زُمْرَة تلج الجنة صُورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصُقون فيها، ولا يتمخطون فيها، ولا يَتَغَوّطون، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألْوّة، ورَشْحُهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مُخّ ساقيهما من وراء اللحم؛ من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيًّا » .

أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به

وقال الإمام أحمد:حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني الحارث بن فضيل الأنصاري، عن محمود بن لبيد الأنصاري، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيًّا » تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: ( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قال:مقادير الليل والنهار.

وقال ابن جرير:حدثنا علي بن سهم، حدثنا الوليد بن مسلم قال:سألت زهير بن محمد، عن قول الله تعالى: ( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قال:ليس في الجنة ليل، هم في نور أبدًا، ولهم مقدار الليل والنهار، يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب، وبفتح الأبواب.

وبهذا الإسناد عن الوليد بن مسلم، عن خُلَيْد، عن الحسن البصري، وذكر أبواب الجنة، فقال:أبواب يُرى ظاهرها من باطنها، فتكلم وتكلم، فَتُهَمْهِم انفتحي انغلقي، فتفعل.

وقال قتادة في قوله: ( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) :فيها ساعتان:بكرة وعشي:ليس ثم ليل ولا نهار، وإنما هو ضوء ونور.

وقال مجاهد ليس [ فيها ] بكرة ولا عشي، ولكن يُؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا.

وقال الحسن، وقتادة، وغيرهما:كانت العرب، الأنْعَم فيهم، من يتغدّى ويتعشى، ونـزل القرآن على ما في أنفسهم من النعيم، فقال تعالى: ( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا )

وقال ابن مهدي، عن حماد بن زيد، عن هشام، عن الحسن: ( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قال:البكور يرد على العشي، والعشي يرد على البكور، ليس فيها ليل.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا سليم بن منصور بن عمار، حدثني أبي، حدثنا محمد بن زياد قاضي أهل شَمْشَاط عن عبد الله بن جرير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما من غداة من غدوات الجنة، وكل الجنة غدوات، إلا أنه يزف إلى ولي الله فيها زوجة من الحور العين، أدناهن التي خلقت من الزعفران »

قال أبو محمد:هذا حديث منكر.

[ وقوله تعالى ] تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ) أي:هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة هي التي نورثها عبادنا المتقين، وهم المطيعون لله - عز وجل- في السراء والضراء، والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس، وكما قال تعالى في أول سورة المؤمنين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ إلى أن قال: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ المؤمنون:1- 11 ]

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ( 64 )

قال الإمام أحمد:حدثنا يَعْلى ووكيع قالا حدثنا عمر بن ذَرّ، عن أبيه، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: « ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ » قال:فنـزلت ( وَمَا نَتَنـَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) إلى آخر الآية.

انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عند تفسير هذه الآية عن أبي نعيم، عن عمر بن ذر به. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير، من حديث عمر بن ذر به وعندهما زيادة في آخر الحديث، فكان ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم.

وقال العَوْفي عن ابن عباس:احتبس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحَزَن، فأتاه جبريل وقال:يا محمد، ( وَمَا نَتَنـزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا )

وقال مجاهد:لبث جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة، ويقولون [ قُلِيَ ] فلما جاءه قال:يا جبريل لقد رِثْتَ عليّ حتى ظن المشركون كل ظن. فنـزلت: ( وَمَا نَتَنـَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ [ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ] ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) قال:وهذه الآية كالتي في الضحى.

وكذلك قال الضحاك بن مُزَاحم، وقتادة، والسدي، وغير واحد:إنها نـزلت في احتباس جبريل.

وقال الحكم بن أبان، عن عكرمة قال:أبطأ جبريل النـزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يومًا، ثم نـزل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « ما نـزلت حتى اشتقت إليك » فقال له جبريل:بل أنا كنت إليك أشوق، ولكني مأمور، فأوحِيَ إلى جبريل أن قل له: ( وَمَا نَتَنـزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) الآية. رواه ابن أبي حاتم، رحمه الله، وهو غريب.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مجاهد قال:أبطأت الرسلُ على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه جبريل فقال له:ما حبسك يا جبريل؟ فقال له جبريل:وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم، ولا تُنْقُون براجمكم، ولا تأخذون شواربكم، ولا تستاكون؟ ثم قرأ: ( وَمَا نَتَنـزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) إلى آخر الآية.

وقد قال الطبراني:حدثنا أبو عامر النحوي، حدثنا محمد بن إبراهيم الصوري، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن [ الدمشقي ] حدثنا إسماعيل بن عياش، أخبرني ثعلبة بن مسلم، عن أبي كعب مولى ابن عباس، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم:أن جبريل أبطأ عليه، فذكر ذلك له فقال:وكيف وأنتم لا تَسْتَنّون، ولا تُقَلّمُون أظفاركم، ولا تقصون شواربكم، ولا تُنْقُون رواجبكم.

وهكذا رواه الإمام أحمد، عن أبي اليمان، عن إسماعيل بن عياش، به نحوه .

وقال الإمام أحمد:حدثنا سَيَّار، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا المغيرة بن حبيب - [ ختن ] مالك بن دينار- حدثني شيخ من أهل المدينة، عن أم سلمة قالت:قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أصلحي لنا المجلس، فإنه ينـزل ملك إلى الأرض، لم ينـزل إليها قط »

وقوله: ( لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا ) قيل:المراد ما بين أيدينا:أمر الدنيا، وما خلفنا:أمر الآخرة، ( وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ) ما بين النفختين. هذا قول أبي العالية، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير. وقتادة، في رواية عنهما، والسدي، والربيع بن أنس.

وقيل: ( مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ) ما نستقبل من أمر الآخرة، ( وَمَا خَلْفَنَا ) أي:ما مضى من الدنيا، ( وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ) أي:ما بين الدنيا والآخرة. يروى نحوه عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة، وابن جريج، والثوري. واختاره ابن جرير أيضًا، والله أعلم.

وقوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) قال مجاهد [ والسُّدِّيّ ] معناه:ما نسيك ربك.

وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [ الضحى:1- 3 ]

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي، حدثنا محمد بن عثمان - يعني أبا الجماهر - حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة، عن أبيه، عن أبي الدرداء يرفعه قال: « ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت [ عنه ] فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا » ثم تلا هذه الآية: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا )