إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ( 96 ) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ( 97 ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ( 98 ) .

يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي ترضي الله، عز وجل، لمتابعتها الشريعة المحمدية - يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه. وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه.

قال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا أبو عَوَانة، حدثنا سُهَيْل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال:يا جبريل، إني أحب فلانًا فأحبه. قال:فيحبه جبريل » . قال: « ثم ينادي في أهل السماء:إن الله يحب فلانًا » . قال: « فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبدًا دعا جبريل فقال:يا جبريل، إني أبغضُ فلانًا فأبغضه » . قال: « فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء:إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه » . قال: « فيُبْغضُه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض » .

ورواه مسلم من حديث سُهَيْل . ورواه أحمد والبخاري، من حديث ابن جُرَيْج، عن موسى بن عتبة عن نافع مولى ابن عمر، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم بنحوه .

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ميمون أبو محمد المرئي، حدثنا محمد بن عباد المخزومي، عن ثوبان، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد ليلتمس مرضات الله، فلا يزال كذلك فيقول الله، عز وجل، لجبريل:إن فلانًا عبدي يلتمس أن يرضيني؛ ألا وإن رحمتي عليه، فيقول جبريل: « رحمة الله على فلان، ويقولها حملة العرش، ويقولها من حولهم، حتى يقولها أهل السماوات السبع، ثم يهبط إلى الأرض »

غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد:حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شَرِيك، عن محمد بن سعد الواسطي، عن أبي ظَبْيَة، عن أبي أمامة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن المقة من الله » - قال شريك:هي المحبة- والصيت من السماء، « فإذا أحب الله عبدًا قال لجبريل، عليه السلام:إني أحب فلانًا، فينادي جبريل:إن ربكم يمق - يعني:يحب- فلانا، فأحبوه » - وأرى شريكًا قد قال: « فتنـزل له المحبة في الأرض- وإذا أبغض عبدًا قال لجبريل:إني أبغض فلانًا فأبغضه » ، قال: « فينادي جبريل:إن ربكم يبغض فلانا فأبغضوه » . قال:أرى شريكًا قد قال: « فيجري له البغض في الأرض » . غريب ولم يخرجوه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو داود الحَفَريّ، حدثنا عبد العزيز - يعني ابن محمد، وهو الدَّرَاوَرْدي- عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل:إني قد أحببت فلانًا، فأحبه، فينادي في السماء، ثم ينـزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قول الله، عز وجل: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) »

رواه مسلم والترمذي كلاهما عن قتيبة، عن الدراوردي، به . وقال الترمذي:حسن صحيح.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) قال:حبًّا.

وقال مجاهد، عنه: ( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) قال:محبة في الناس في الدنيا.

وقال سعيد بن جبير، عنه:يحبهم ويُحببهم، يعني:إلى خلقه المؤمنين. كما قال مجاهد أيضًا، والضحاك وغيرهم.

وقال العوفي، عن ابن عباس أيضًا:الود من المسلمين في الدنيا، والرزق الحسن، واللسان الصادق.

وقال قتادة: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) إي والله، في قلوب أهل الإيمان، ذكر لنا أن هَرِم بن حَيَّان كان يقول:ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم.

وقال قتادة:وكان عثمان بن عفان، رضي الله عنه، يقول:ما من عبد يعمل خيرًا، أو شرًّا، إلا كساه الله، عز وجل، رداء عمله.

وقال ابن أبي حاتم، رحمه الله:حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، عن الربيع بن صَبِيح، عن الحسن البصري، رحمه الله قال:قال رجل:والله لأعبدن الله عبادة أذكر بها، فكان لا يرى في حين صلاة إلا قائما يصلي، وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج، فكان لا يعظم، فمكث بذلك سبعة أشهر، وكان لا يمر على قوم إلا قالوا: « انظروا إلى هذا المرائي » فأقبل على نفسه فقال:لا أراني أذكر إلا بِشَرّ، لأجعلن عملي كله لله، عز وجل، فلم يزد على أن قلب نيته، ولم يزد على العمل الذي كان يعمله، فكان يمر بعد بالقوم، فيقولون:رحم الله فلانا الآن، وتلا الحسن: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا )

وقد روى ابن جرير أثرًا أن هذه الآية نـزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف. وهو خطأ، فإن هذه السورة بتمامها مكية لم ينـزل منها شيء بعد الهجرة، ولم يصح سند ذلك، والله أعلم.

وقوله: ( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ ) يعني:القرآن، ( بِلِسَانِكَ ) أي:يا محمد، وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل، ( لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ) أي:المستجيبين لله المصدقين لرسوله، ( وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ) أي:عوجًا عن الحق مائلين إلى الباطل.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( قَوْمًا لُدًّا ) لا يستقيمون.

وقال الثوري، عن إسماعيل - وهو السُّدِّي- عن أبي صالح: ( وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ) عوجًا عن الحق.

[ وقال الضحاك:هو الخصم، وقال القرظي:الألد:الكذاب ]

وقال الحسن البصري: ( قَوْمًا لُدًّا ) صمًّا.

وقال غيره صم آذان القلوب

وقال قتادة: ( قَوْمًا لُدًّا ) يعني قريشًا.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( قَوْمًا لُدًّا ) فجارًا، وكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد.

وقال ابن زيد:الألد:الظلوم، وقرأ قول الله: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [ البقرة:204 ] .

وقوله: ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ) أي:من أمة كفروا بآيات الله وكذبوا رسله، ( هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ) أي:هل ترى منهم أحدًا، أو تسمع لهم ركزًا.

قال ابن عباس، وأبو العالية، وعكرمة، والحسن البصري، وسعيد بن جُبَير، والضحاك، وابن زيد:يعني:صوتًا.

وقال الحسن، وقتادة:هل ترى عينًا، أو تسمع صوتًا.

والركز في أصل اللغة:هو الصوت الخفي، قال الشاعر :

فَتَوجســت رِكْز الأنيــس فَرَاعَهــا عَـنْ ظَهْـر غَيـب والأنيسُ سَـقَامُها

آخر تفسير « سورة مريم » ولله الحمد والمنة. ويتلوه إن شاء الله تعالى تفسير « سورة طه » والحمد لله.

 

 

تفسير سورة طه

 

هي مكية.

روى إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب « التوحيد » ، عن زياد بن أيوب، عن إبراهيم بن المنذر الحِزَامي، حدثنا إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، عن عمر بن حفص بن ذَكْوَان، عن مولى الحُرقة - يعني عبد الرحمن بن يعقوب - عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله قرأ ( طه ) و ( يس ) قبل أن يخلق آدم بألف عام، فلما سمعت الملائكة قالوا:طوبى لأمة ينـزل عليهم هذا وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسن تتكلم بهذا » .

هذا حديث غريب، وفيه نكارة، وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تُكلِّم فيهما.

بسم الله الرحمن الرحيم

طه ( 1 ) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ( 2 ) إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ( 3 ) تَنْزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا ( 4 ) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( 5 ) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ( 6 ) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ( 7 ) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ( 8 )

تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة « البقرة » بما أغنى عن إعادته.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة الواسطي، حدثنا أبو أحمد - يعني:الزبيري - أنبأنا إسرائيل عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:طه:يا رجل. وهكذا روي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، و [ عطاء ] ومحمد بن كعب، وأبي مالك، وعطية العوفي، والحسن، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن أبزى أنهم قالوا: « طه » بمعنى:يا رجل.

وفي رواية عن ابن عباس، وسعيد بن جبير والثوري أنها كلمة بالنبطية معناها:يا رجل. وقال أبو صالح هي مُعَرّبة.

وأسند القاضي عياض في كتابه « الشفاء » من طريق عبد بن حميد في تفسيره:حدثنا هاشم بن [ القاسم ] عن ابن جعفر، عن الربيع بن أنس قال:كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنـزل الله تعالى ( طه ) ، يعني:طأ الأرض يا محمد، ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) . ثم قال:ولا خفاء بما في هذا من الإكرام وحسن المعاملة .

وقوله ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) قال جويبر، عن الضحاك:لما أنـزل الله القرآن على رسوله، قام به هو وأصحابه، فقال المشركون من قريش:ما أنـزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى! فأنـزل الله تعالى: ( طه * مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) .

فليس الأمر كما زعمه المبطلون، بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيرًا كثيرًا، كما ثبت في الصحيحين، عن معاوية قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين » . .

وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال:

حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا العلاء بن سالم، حدثنا إبراهيم الطالقاني، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن سِمَاك بن حرب، عن ثعلبة بن الحكم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده:إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم، ولا أبالي » .

إسناده جيد وثعلبة بن الحكم هذا [ هو الليثي ] ذكره أبو عمر في استيعابه، وقال:نـزل البصرة، ثم تحول إلى الكوفة، وروى عنه سماك بن حرب .

وقال مجاهد في قوله: ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) :هي كقوله: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ [ المزمل:20 ] وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة.

وقال قتادة: ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) :لا والله ما جعله شقاء، ولكن جعله رحمة ونورًا، ودليلا إلى الجنة.

إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) :إن الله أنـزل كتابه، وبعث رسله .

رحمة، رحم بها العباد، ليتذكر ذاكر، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله، وهو ذكر أنـزل الله فيه حلاله وحرامه.

وقوله: ( تَنـزيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا ) أي:هذا القرآن الذي جاءك يا محمد [ هو ] تنـزيل من [ ربك ] رب كل شيء ومليكه، القادر على ما يشاء، الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها، وخلق السموات العلى في ارتفاعها ولطافتها. وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره. أن سُمْك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبُعْد ما بينها والتي تليها [ مسيرة ] خمسمائة عام .

وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا حديث الأوعال من رواية العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه.

وقوله ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) :تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف، بما أغنى عن إعادته أيضًا، وأن المسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف، إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل.

وقوله: ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) أي:الجميع ملكه وفي قبضته، وتحت تصريفه ومشيئته وإرادته وحكمه، وهو خالق ذلك ومالكه وإلهه، لا إله سواه، ولا رب غيره.

وقوله: ( وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) قال محمد بن كعب:أي ما تحت الأرض السابعة.

وقال الأوزاعي:إن يحيى بن أبي كثير حدثه أن كعبًا سُئِل فقيل له:ما تحت هذه الأرض؟ فقال:الماء. قيل:وما تحت الماء؟ قال:الأرض. قيل:وما تحت الأرض؟ قال:الماء. قيل:وما تحت الماء؟ قال:الأرض، قيل:وما تحت الأرض؟ قال:الماء. قيل:وما تحت الماء؟ قال:الأرض، قيل:وما تحت الأرض؟ قال الماء. قيل:وما تحت الماء؟ قال:الأرض، قيل:وما تحت الأرض؟ قال:صخرة. قيل:وما تحت الصخرة؟ قال:ملك. قيل:وما تحت الملك؟ قال:حوت معلق طرفاه بالعرش، قيل:وما تحت الحوت؟ قال:الهواء والظلمة وانقطع العلم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو عبيد الله بن أخي بن وهب، حدثنا عمي، حدثنا عبد الله بن عَيَّاش، حدثنا عبد الله بن سليمان عن دَرَّاج، عن عيسى بن هلال الصَّدَفي، عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، والعليا منها على ظهر حوت، قد التقى طرفاه في السماء، والحوت على صخرة، والصخرة بيد الملك، والثانية سجن الريح، والثالثة فيها حجارة جهنم، والرابعة فيها كبريت جهنم، والخامسة فيها حيات جهنم والسادسة فيها عقارب جهنم، والسابعة فيها سَقَر، وفيها إبليس مُصَفّد بالحديد، يد أمامه ويد خلفه، فإذا أراد الله أن يطلقه لما يشاء أطلقه » .

هذا حديث غريب جدًا ورفعه فيه نظر.

وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده:حدثنا أبو موسى الهروي، عن العباس بن الفضل [ قال ] : قلت:ابن الفضل الأنصاري؟ قال:نعم، [ عن القاسم ] بن عبد الرحمن، عن محمد بن علي، عن جابر بن عبد الله قال:كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فأقبلنا راجعين في حر شديد، فنحن متفرقون بين واحد واثنين، منتشرين، قال:وكنت في أول العسكر:إذ عارضنا رجل فَسَلّم ثم قال:أيكم محمد؟ ومضى أصحابي ووقفت معه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل في وسط العَسْكَر على جمل أحمر، مُقَنَّع بثوبه على رأسه من الشمس، فقلت:أيها السائل، هذا رسول الله قد أتاك. فقال:أيهم هو؟ فقلت:صاحب البَكْر الأحمر. فدنا منه، فأخذ بخطام راحلته، فكف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :أنت محمد؟ قال: « نعم » . قال:إني أريد أن أسألك عن خصال، لا يعلمهن أحد من أهل الأرض إلا رجل أو رجلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سل عما شئت » . فقال:يا محمد، أينام النبي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تنام عيناه ولا ينام قلبه » . قال:صدقت. ثم قال:يا محمد، مِنْ أين يشبه الولد أباه وأمه؟ « قال ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فأيّ الماءين غلب على الآخر نـزع الولد » . فقال صدقت. فقال:ما للرجل من الولد وما للمرأة منه؟ فقال: « للرجل العظام والعروق والعصب، وللمرأة اللحم والدم والشعر » قال:صدقت. ثم قال:يا محمد، ما تحت هذه، يعني الأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خلق » . فقال:فما تحتهم؟ قال: « أرض » . قال:فما تحت الأرض؟ قال « الماء » قال:فما تحت الماء؟ قال: « ظلمة » . قال:فما تحت الظلمة؟ قال: « الهواء » . قال:فما تحت الهواء؟ قال: « الثرى » . قال:فما تحت الثرى؟ ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، وقال: « انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق، أيها السائل، ما المسئول عنها بأعلم من السائل » . قال:فقال:صدقت، أشهد أنك رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيها الناس، هل تدرون من هذا؟ » قالوا:الله ورسوله أعلم. قال: « هذا جبريل صلى الله عليه وسلم » .

هذا حديث غريب جدًا، وسياق عجيب، تفرد به القاسم بن عبد الرحمن هذا، وقد قال فيه يحيى بن معين: « ليس يساوي شيئًا » وضعفه أبو حاتم الرازي، وقال ابن عدي:لا يعرف.

قلت:وقد خلط في هذا الحديث، ودخل عليه شيء في شيء، وحديث في حديث. وقد يُحْتَمل أنه تَعَمَّد ذلك، أو أدخل عليه فيه، فالله أعلم.

وقوله: ( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) أي:أنـزل هذا القرآن الذي خلق [ الأرض والسموات العلى، الذي يعلم السر وأخفى، كما قال تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي ] السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [ الفرقان:6 ] .

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال:السر ما أسرّ ابن آدم في نفسه، ( وَأَخْفَى ) :ما أخفى على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه فالله يعلم ذلك كله، فَعلْمه فيما مضى من ذلك وما بقي عِلْم واحد، وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة، وهو قوله: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ لقمان:28 ] .

وقال الضحاك: ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال:السر:ما تحدث به نفسك، وأخفى:ما لم تحدث به نفسك بعد.

وقال سعيد بن جبير:أنت تعلم ما تسر اليوم، ولا تعلم ما تسر غدًا، والله يعلم ما تسر اليوم، وما تسر غدًا.

وقال مجاهد: ( وَأَخْفَى ) يعني:الوسوسة.

وقال أيضًا هو وسعيد بن جبير: ( وَأَخْفَى ) أي:ما هو عامله مما لم يحدث به نفسه.

وقوله: ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) [ أي:الذي أنـزل القرآن عليك هو الله الذي لا إله إلا هو ذو الأسماء الحسنى ] والصفات العلى.

وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة « الأعراف » ولله الحمد والمنة.

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ( 9 ) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ( 10 )

من هاهنا شَرَعَ، تبارك وتعالى، في ذكر قصة موسى [ عليه السلام ] وكيف كان ابتداء الوحي إليه وتكليمه إياه، وذلك بعد ما قضى موسى الأجَل الذي كان بينه وبين صهْره في رعاية الغنم وسار بأهله قيل:قاصدًا بلاد مصر بعدما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين، ومعه زوجته، فأضل الطريق، وكانت ليلة شاتية، ونـزل منـزلا بين شعاب وجبال، في برد وشتاء، وسحاب وظلام وضباب، وجعل يقدح بزند معه ليُوريَ نارًا، كما جرت له العادة به، فجعل لا يقدح شيئًا، ولا يخرج منه شرر ولا شيء. فبينا هو كذلك، إذ آنس من جانب الطور نارًا، أي:ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه، فقال لأهله يبشرهم: ( إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ ) أي:شهاب من نار. وفي الآية الأخرى: أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ [ القصص:29 ] وهي الجمر:الذي معه لهب، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [ القصص:29 ] دلّ على وجود البرد، وقوله: ( بِقَبَسٍ ) دلّ على وجود الظلام.

وقوله: ( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) أي:من يهديني الطريق، دلّ على أنه قد تاه عن الطريق، كما قال الثوري، عن أبي سعد الأعور، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: ( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) قال:من يهديني إلى الطريق. وكانوا شاتين وضلوا الطريق، فلما رأى النار قال:إن لم أجد أحدًا يهديني إلى الطريق آتكم بنار توقدون بها.

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ( 11 ) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ( 12 )

يقول تعالى: ( فَلَمَّا أَتَاهَا ) أي:النار واقترب منها، ( نُودِيَ يَا مُوسَى ) وفي الآية الأخرى: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ [ القصص:30 ] وقال هاهنا ( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) أي:الذي يكلمك ويخاطبك، ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ) قال علي بن أبي طالب، وأبو ذر، وأبو أيوب، وغير واحد من السلف:كانتا من جلد حمار غير ذكيّ.

وقيل:إنما أمره بخلع نعليه تعظيمًا للبقعة.

قال سعيد بن جبير:كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة.

وقيل:ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافيًا غير منتعل. وقيل:غير ذلك، والله أعلم.

وقوله: ( طُوًى ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:هو اسم للوادي.

وكذا قال غير واحد، فعلى هذا يكون عطف بيان.

وقيل:عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه.

وقيل:لأنه قُدّس مرتين، وطوى له البركة وكررت:والأول أصح، كقوله إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [ النازعات:16 ] .