وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ
كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ( 11 ) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا
إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ( 12 ) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى
مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ( 13 ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا
كُنَّا ظَالِمِينَ ( 14 ) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا
خَامِدِينَ ( 15 ) .
وقوله: ( وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ
كَانَتْ ظَالِمَةً ) هذه صيغة تكثير، كما قال وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ
بَعْدِ نُوحٍ [ الإسراء:17 ] .
وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ
مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [ الحج:45 ] . وقوله: ( وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) أي:أمة أخرى بعدهم.
( فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا ) أي:تيقنوا أن العذاب واقع بهم، كما
وعدهم نبيهم، ( إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ) أي:يفرون هاربين.
( لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى
مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ ) هذا تهكم بهم قدرًا أي:قيل لهم
قدرًا:لا تركضوا هاربين من نـزول العذاب، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة
والسرور، والمعيشة والمساكن الطيبة.
قال قتادة:استهزاء بهم.
( لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) أي:عما كنتم فيه من أداء شكر النعمة.
( قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا
كُنَّا ظَالِمِينَ ) اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك، ( فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ
حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ) أي:ما زالت تلك المقالة، وهي
الاعتراف بالظلم، هِجيراهم حتى حصدناهم حصدًا وخمدت حركاتهم وأصواتهم خمودًا.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ
وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ( 16 ) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ
لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ( 17 ) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ
فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ( 18 ) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا
يَسْتَحْسِرُونَ ( 19 ) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ( 20 ) .
يخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض
بالحق، أي:بالعدل والقسط، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [ النجم:31 ] ، وأنه لم يخلق ذلك عبثًا ولا لعبًا،
كما قال: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ
ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ ص:27 ]
وقوله تعالى: ( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ
لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ) قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ
لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا ) يعني:من عندنا، يقول:وما خلقنا جنة
ولا نارًا، ولا موتًا، ولا بعثًا، ولا حسابًا.
وقال الحسن، وقتادة، وغيرهما: ( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ
لَهْوًا ) اللهو:المرأة
بلسان أهل اليمن.
وقال إبراهيم النَّخعِي: ( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ
لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ ) من الحور العين.
وقال عكرمة والسدي:المراد باللهو
هاهنا:الولد.
وهذا والذي قبله متلازمان، وهو كقوله
تعالى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ سُبْحَانَهُ [ الزمر:4 ] ، فنـزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقًا، لا سيما عما يقولون من الإفك
والباطل، من اتخاذ عيسى، أو العزير أو الملائكة، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [ الإسراء:43 ] .
وقوله: ( إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ) قال قتادة، والسدي، وإبراهيم النخعي،
ومغيرة بن مِقْسَم، أي:ما كنا فاعلين.
وقال مجاهد:كل شيء في القرآن « إن » فهو إنكار.
وقوله: ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى
الْبَاطِلِ ) أي:نبين الحق
فيدحض الباطل؛ ولهذا قال: ( فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) أي:ذاهب مضمحل، ( وَلَكُمُ الْوَيْلُ ) أي:أيها القائلون:لله ولد، ( مِمَّا تَصِفُونَ ) أي:تقولون وتفترون.
ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له،
ودأبهم في طاعته ليلا ونهارًا ، فقال: ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ ) يعني:الملائكة، ( لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ) أي:لا يستنكفون عنها، كما قال: لَنْ
يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا [ النساء:172 ] .
وقوله: ( وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ) أي:لا يتعبون ولا يَملُّون.
( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) فهم دائبون في العمل ليلا ونهارًا، مطيعون قصدًا وعملا قادرون
عليه، كما قال تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ [ التحريم:6 ] .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن أبي
دُلامة البغدادي، أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صفوان بن
مُحرِز، عن حكيم بن حِزَام قال:بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، إذ
قال لهم: « هل تسمعون ما
أسمع؟ » قالوا:ما نسمع من
شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن
تئط، وما فيها موضع شِبْر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم » . غريب ولم يخرجوه .
ثم رواه ابن أبي حاتم من طريق يزيد بن
زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة مرسلا.
وقال أبو إسحاق ، عن حسان بن مخارق، عن
عبد الله بن الحارث بن نوفل قال:جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام، فقلت له:أرأيت
قول الله [ للملائكة ] ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل؟. فقال:فمن هذا
الغلام؟ فقالوا:من بني عبد المطلب، قال:فقبل رأسي، ثم قال لي:يا بني، إنه جعل لهم
التسبيح، كما جعل لكم النفس، أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس؟.
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ
الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ( 21 ) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا
فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 22 ) لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ
وَهُمْ يُسْأَلُونَ ( 23 )
ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة،
فقال:بل ( اتَّخَذُوا
آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ) أي:أهم يحيون الموتى وينشرونهم من
الأرض؟ أي:لا يقدرون على شيء من ذلك. فكيف جعلوها لله ندًا وعبدوها معه.
ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود
آلهة غيره لفسدت السماوات الأرض، فقال ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ ) أي:في السماء والأرض، ( لَفَسَدَتَا ) ، كقوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ
مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا
خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [ المؤمنون:91 ] ، وقال هاهنا: ( فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ
الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) أي:عما يقولون إن له ولدًا أو شريكًا، سبحانه وتعالى وتقدس وتنـزه
عن الذي يفترون ويأفكون علوًا كبيرًا.
وقوله: ( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْأَلُونَ ) أي:هو الحاكم الذي
لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد، لعظمته وجلاله وكبريائه، وعلوه وحكمته وعدله
ولطفه، ( وَهُمْ
يُسْأَلُونَ ) أي:وهو سائل خلقه
عما يعملون، كقوله:فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا
يَعْمَلُونَ [ الحجر:92، 93 ] وهذا كقوله تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ
وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [ المؤمنون:88 ] .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً
قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ( 24 )
يقول تعالى:بل ( اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً
قُلْ ) يا محمد: ( هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) أي:دليلكم على ما
تقولون، ( هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ ) يعني:القرآن، ( وَذِكْرُ مَنْ
قَبْلِي ) يعني:الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولون وتزعمون، فكل كتاب أنـزل
على كل نبي أرسل، ناطق بأنه لا إله إلا الله، ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون
الحق، فأنتم معرضون عنه؛