بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 90 ) .

ثم قال تعالى: ( بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ ) ، وهو الإعلام بأنه لا إله إلا الله، وأقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك، ( وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) أي:في عبادتهم مع الله غيره، ولا دليل لهم على ذلك، كما قال في آخر السورة: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ، فالمشركون لا يفعلون ذلك [ عن دليل قادهم إلى ما هم فيه من الإفك والضلال، وإنما يفعلون ذلك ] اتباعا لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال، كما قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [ الزخرف:23 ] .

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 91 ) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 92 ) .

ينـزه تعالى نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك، فقال: ( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) أي:لو قُدِّر تعدد الآلهة، لانفرد كل منهم بما يخلق، فما كان ينتظم الوجود. والمشاهد أن الوجود منتظم متسق، كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض، في غاية الكمال، مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [ الملك:3 ] ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض. والمتكلمون ذكروا هذا المعنى وعبروا عنه بدليل التمانع، وهو أنه لو فرض صانعان فصاعدا، فأراد واحد تحريك جسم وأراد الآخر سكونه، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين، والواجب لا يكون عاجزًا، ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد. وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد، فيكون محالا فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان الغالب هو الواجب، والآخر المغلوب ممكنًا؛ لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهورا؛ ولهذا قال: ( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) أي:عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك علوا كبيرا.

( عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) أي:يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه، ( فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) أي:تقدس وتنـزه وتعالى وعز وجل [ عما يقول الظالمون والجاحدون ] .

قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ( 93 ) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 94 ) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ( 95 ) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ( 96 ) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ( 97 ) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ( 98 ) .

يقول تعالى آمرًا [ نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم ] أن يدعو هذا الدعاء عند حلول النقم: ( رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ) أي:إن عاقبتهم - وإني شاهدُ ذلك- فلا تجعلني فيهم، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي - وصححه- : « وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون » .

وقوله: ( وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ) أي:لو شئنا لأريناك ما نحل بهم من النقم والبلاء والمحن.

ثم قال مرشدًا له إلى التِّرْياق النافع في مخالطة الناس، وهو الإحسان إلى من يسيء، ليستجلب خاطره، فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة، فقال: ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) ، وهذا كما قال في الآية الأخرى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [ فصلت:34، 35 ] :أي ما يلهم هذه الوصية أو الخصلة أو الصفة إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا أي:على أذى الناس، فعاملوهم بالجميل مع إسدائهم إليهم القبيح، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي:في الدنيا والآخرة.

وقوله: ( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ) :أمره أن يستعيذ من الشياطين، لأنهم لا تنفع معهم الحيل، ولا ينقادون بالمعروف.

وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من هَمْزه ونَفْخه ونَفْثه » .

وقوله: ( وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) أي:في شيء من أمري؛ ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور - وذلك مطردة للشياطين - عند الأكل والجماع والذبح، وغير ذلك من الأمور؛ ولهذا روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « اللهم إني أعوذ بك من الهَرَم، وأعوذ بك من الهَدْم ومن الغرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم، من الفزع: « بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون » قال:فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها، كتبها له، فعلقها في عنقه.

ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث محمد بن إسحاق ، وقال الترمذي:حسن غريب.

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ( 99 ) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 100 ) .

يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت، من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى، وقيلهم عند ذلك، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته؛ ولهذا قال: ( رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا ) كما قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [ المنافقون:10، 11 ] ، وقال تعالى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [ إبراهيم:44 ] ، وقال تعالى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [ الأعراف:53 ] ، وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [ السجدة:12 ] ، وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [ الأنعام:27، 28 ] ، وقال تعالى: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [ الشورى:44 ] ، وقال تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ * ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [ غافر:11، 12 ] ، وقال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [ فاطر:37 ] ، فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة، فلا يجابون، عند الاحتضار، ويوم النشور ووقت العرض على الجبار، وحين يعرضون على النار، وهم في غمرات عذاب الجحيم.

وقوله:هاهنا: ( كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) :كلا حرف ردع وزجر، أي:لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه.

وقوله: ( كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) :قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:أي لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم.

ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله: « كلا » ، أي:لأنها كلمة، أي:سؤاله الرجوع ليعمل صالحا هو كلام منه، وقول لا عمل معه، ولو رد لما عمل صالحا، ولكان يكذب في مقالته هذه، كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ

وقال محمد بن كعب القرظي: ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ) قال:فيقول الجبار: ( كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) .

وقال عمر بن عبد الله مولى غُفْرَة:إذا سمعت الله يقول: ( كَلا ) فإنما يقول:كذب .

وقال قتادة في قوله تعالى: ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) :قال:كان العلاء بن زياد يقول:لينـزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت، فاستقال ربه فأقاله، فليعمل بطاعة الله عز وجل.

وقال قتادة:والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها، ولا قوة إلا بالله. وعن محمد بن كعب القرظي نحوه.

وقال محمد بن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن يوسف، حدثنا فضيل - يعني:ابن عياض- عن لَيْث، عن طلحة بن مُصَرِّف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال:إذا وضع - يعني:الكافر- في قبره، فيرى مقعده من النار. قال:فيقول:رب، ارجعون أتوب وأعمل صالحا. قال:فيقال:قد عُمِّرت ما كنت مُعَمَّرا. قال:فيضيق عليه قبره، قال:فهو كالمنهوش، ينام ويفزع، تهوي إليه هَوَامّ الأرض وحياتها وعقاربها.

وقال أيضا:حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن علي، حدثني سلمة بن تمام، حدثنا علي بن زيد . عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، أنها قالت:ويل لأهل المعاصي من أهل القبور!! تدخل عليهم في قبورهم حيات سود - أو:دُهُم- حية عند رأسه، وحية عند رجليه، يقرصانه حتى يلتقيا في وسطه، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى: ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )

وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى: ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ ) يعني:أمامهم.

وقال مجاهد:البرزخ:الحاجز ما بين الدنيا والآخرة.

وقال محمد بن كعب:البرزخ:ما بين الدنيا والآخرة. ليسوا مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون، ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم.

وقال أبو صخر:البرزخ:المقابر، لا هم في الدنيا، ولا هم في الآخرة، فهم مقيمون إلى يوم يبعثون.

وفي قوله: ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ) :تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ، كما قال: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ [ الجاثية:10 ] وقال وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [ إبراهيم:17 ] .

وقوله: ( إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) أي:يستمر به العذاب إلى يوم البعث، كما جاء في الحديث: « فلا يزال معذبا فيها » ، أي:في الأرض.

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ( 101 ) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 102 ) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ( 103 ) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ( 104 ) .

يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور، وقام الناس من القبور، ( فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ ) أي:لا تنفع الأنساب يومئذ، ولا يرثي والد لولده، ولا يلوي عليه، قال الله تعالى: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ [ المعارج:10، 11 ] أي:لا يسأل القريب قريبه وهو يبصره، ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره، وهو كان أعز الناس عليه - كان- في الدنيا، ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة، قال الله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [ عبس:34- 37 ] .

وقال ابن مسعود:إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد:ألا من كان له مظلمة فليجئ فليأخذ حقه:قال:فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا; ومصداق ذلك في كتاب الله: ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) رواه ابن أبي حاتم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو سعيد - مولى بني هاشم- حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثتنا أم بكر بنت المِسْوَر بن مَخْرَمَة، عن عُبَيْد الله بن أبي رافع، عن المِسْوَر - هو ابن مَخْرَمَة- رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:فاطمة بَضْعَةٌ مني، يَقْبِضُني ما يقبضها، ويَبْسُطني ما يبسطها وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري « . »

هذا الحديث له أصل في الصحيحين عن المسور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو عامر، حدثنا زهير، عن عبد الله بن محمد، عن حمزة بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: « ما بال رجال يقولون:إن رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنفع قومه؟ بلى، والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإني - أيها الناس- فرط لكم، إذا جئتم » قال رجل:يا رسول الله، أنا فلان بن فلان، [ وقال أخوه:أنا فلان ابن فلان ] فأقول لهم: « أما النسب فقد عرفت، ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقري » .

وقد ذكرنا في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من طرق متعددة عنه، رضي الله عنه:أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، قال:أما - والله- ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « كل سبَبٍ ونَسب فإنه منقطع يوم القيامة، إلا سببي ونسبي » .

رواه الطبراني، والبزار والهيثم بن كليب، والبيهقي، والحافظ الضياء في « المختارة » وذكرنا أنه أصدقها أربعين ألفا؛ إعظاما وإكراما، رضي الله عنه؛ فقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي العاص بن الربيع - زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم- من طريق أبي القاسم البغوي:حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام، عن إبراهيم بن يزيد، عن محمد ابن عباد بن جعفر، سمعت ابن عمر يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري » . وروي فيها من طريق عمار بن سيف، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: « سألت ربي عز وجل ألا أتزوج إلى أحد من أمتي، ولا يتزوج إلي أحد منهم، إلا كان معي في الجنة، فأعطاني ذلك » . ومن حديث عمار بن سيف، عن إسماعيل، عن عبد الله بن عمرو.

وقوله: ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي:من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة، قاله ابن عباس.

( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي:الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة.

وقال ابن عباس:أولئك الذين فازوا بما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.

( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) أي:ثقلت سيئاته على حسناته، ( فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) أي:خابوا وهلكوا، وباؤوا بالصفقة الخاسرة.

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا داود بن المُحَبَّر، حدثنا صالح المُرِّيّ، عن ثابت البُناني وجعفر بن زيد ومنصور بن زاذان، عن أنس بن مالك يرفعه قال: « إن لله ملكا موكلا بالميزان، فيؤتى بابن آدم، فيوقف بين كفتي الميزان، فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق:سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وإن خف ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق:شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا » .

إسناده ضعيف، فإن داود بن المُحَبَّر متروك.

ولهذا قال: « في جهنم خالدون » أي:ماكثون، دائمون مقيمون لا يظعنون.

( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) ، كما قال تعالى: وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [ إبراهيم:50 ] ، وقال لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [ الأنبياء:39 ] .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء ، حدثنا محمد بن سلمان الأصبهاني، عن أبي سِنَان ضِرَار بن مُرَّة، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « إن جهنم لما سيق [ إليها ] أهلها يلقاهم لهبها، ثم تلفحهم لفحة، فلم يبق لحم إلا سقط على العرقوب » .

وقال ابن مردويه:حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى الفَزَّاز، حدثنا الخضر بن علي بن يونس القطان، حدثنا عمر بن أبي الحارث بن الخضر القَطَّان، حدثنا سعد بن سعيد المقبري، عن أخيه، عن أبيه، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: ( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) قال: « تلفحهم لفحة، فتسيل لحومهم على أعقابهم » .

وقوله: ( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:يعني عابسون.

وقال الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود: ( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ) قال:ألم تر إلى الرأس المُشَيَّط الذي قد بدا أسنانه وقَلَصت شفتاه.

وقال الإمام أحمد، رحمه الله:أخبرنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله - هو ابن المبارك، رحمه الله- أخبرنا سعيد بن يزيد، عن أبي السَّمْح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخُدْري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ) ، قال: « تَشْويه النار فَتَقَلَّصُ شفته العليا حتى تبلغ وَسَطَ رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تَضْرب سُرَّته » .

ورواه الترمذي، عن سُوَيْد بن نصر عن عبد الله بن المبارك، به وقال:حسن غريب.