رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ( 37 ) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 38 )

فقوله: ( رِجَال ) فيه إشعار بهممهم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عُمَّارا للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره، وتوحيده وتنـزيهه، كما قال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [ الأحزاب:23 ] .

فأما النساء فَصَلاتهن في بيوتهن أفضل لهن؛ لما رواه أبو داود، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن غَيْلان، حدثنا رِشْدِين، حدثني عمرو، عن أبي السمح، عن السائب مولى أم سلمة عن أم سلمة - رضي الله عنها، - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « خير مساجد النساء [ قعر ] بيوتهن » .

وقال الإمام أحمد أيضًا:حدثنا هارون، أخبرني عبد الله بن وهب، حدثنا داود بن قيس، عن عبد الله بن سُوَيد الأنصاري، عن عمته أم حميد - امرأة أبي حميد الساعدي - أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك قال: « قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حُجْرَتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي » . قال:فأمَرَت فبُني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه ، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله، عز وجل. لم يخرجوه.

هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال، بشرط أن لا تؤذي أحدًا من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب كما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر أنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تمنعوا إماء الله مساجد الله » .

رواه البخاري ومسلم، ولأحمد وأبي داود: « وبيوتهن خير لهن » وفي رواية: « وليخرجن وهن تَفِلات » أي:لا ريح لهن.

وقد ثبت في صحيح مسلم، عن زينب - امرأة ابن مسعود - قالت:قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا » .

وفي الصحيحين عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت:كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرجعن متلفعات بمُرُوطهن، ما يُعْرَفْن من الغَلَس .

وفي الصحيحين أيضًا عنها أنها قالت:لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهُنّ المساجد، كما مُنعت نساء بني إسرائيل .

وقوله: ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) ، كقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [ المنافقون:9 ] ، وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ الجمعة:9 ]

يقول تعالى:لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها ومَلاذ بَيعها وريحها، عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم؛ لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق؛ ولهذا قال: ( لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ) أي:يقدمون طاعته ومُرَاده ومحبته على مرادهم ومحبتهم.

قال هُشَيْم:عن سَيَّار : [ قال ] حُدِّثت عن ابن مسعود أنه رأى قومًا من أهل السوق، حيث نودي بالصلاة، تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله:هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه: ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) .

وهكذا روى عَمْرو بن دينار القَهْرَمَانيّ، عن سالم، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر:فيهم نـزلت: ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) . رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عبد الله بن بكر الصنعاني، حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عبد الله بن بُجَيْر، حدثنا أبو عبد رب قال:قال أبو الدرداء، رضي الله عنه:إني قمت على هذا الدرج أبايع عليه، أربح كل يوم ثلاثمائة دينار، أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد، أما إني لا أقول: « إن ذلك ليس بحلال » ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله: ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) .

وقال عمرو بن دينار الأعور:كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخَمَّرُوا متاعهم، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد، فتلا سالم هذه الآية: ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) ثم قال:هم هؤلاء.

وكذا قال سعيد بن أبي الحسن، والضحاك:لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها.

وقال مطر الوَرَّاق:كانوا يبيعون ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانُه في يده خفضه، وأقبل إلى الصلاة.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ( لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) يقول:عن الصلاة المكتوبة. وكذا قال الربيع بن أنس ومقاتل بن حيان.

وقال السُّدِّي:عن الصلاة في جماعة.

وعن مقاتل بن حيان:لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة، وأن يقيموها كما أمرهم الله، وأن يحافظوا على مواقيتها، وما استحفظهم الله فيها.

وقوله: ( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ ) أي:يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار، أي:من شدة الفزع وعظمة الأهوال، كما قال تعالى وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [ غافر:18 ] ، وقال تعالى: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [ إبراهيم:42 ] ، وقال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [ الإنسان:8- 12 ] .

وقال هاهنا ( لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ) أي:هؤلاء من الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم.

وقوله: ( وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) أي:يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [ النساء:40 ] ، وقال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [ الأنعام:160 ] ، وقال مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [ البقرة:245 ] ، وقال وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [ البقرة:261 ] كما قال هاهنا: ( وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) .

وعن ابن مسعود:أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحدًا واحدًا، فكلهم لم يشربه لأنه كان صائمًا، فتناوله ابن مسعود وكان مفطرًا فشربه، ثم تلا قوله تعالى ( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ ) ، رواه النسائي، وابن أبي حاتم، من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عنه .

وقال [ ابن أبي حاتم ] أيضًا:حدثنا أبي، حدثنا سُوَيْد بن سعيد، حدثنا علي بن مُسْهِر عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن شهر بن حَوْشَب عن أسماء بنت يزيد قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد فنادى بصوت يُسمع الخلائق:سيعلم أهلُ الجمع من أولى بالكرم، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. فيقومون، وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلائق » .

وروى الطبراني، من حديث بَقيَّة، عن إسماعيل بن عبد الله الكندي، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [ فاطر:30 ] قال: أُجُورَهُمْ يدخلهم الجنة وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة، لمن صنع لهم المعروف في الدنيا .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 39 ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ( 40 )

هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار، كما ضرب للمنافقين في أول « البقرة » مثلين ناريًا ومائيًا، وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم في سورة « الرعد » مثلين مائيًا وناريًا، وقد تكلمنا على كل منها في موضعه بما أغنى عن إعادته، ولله الحمد والمنة.

فأما الأول من هذين المثلين:فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم، الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، وليسوا في نفس الأمر على شيء، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض عن بعد كأنه بحر طام . والقيعة:جمع قاع، كجار وجيرَةٍ. والقاع أيضًا:واحد القيعان، كما يقال:جار وجيران. وهي:الأرض المستوية المتسعة المنبسطة، وفيه يكون السراب، وإنما يكون ذلك بعد نصف النهار. وأما الآل فإنما يكون أول النهار، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض، فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء، حسبه ماءً فقصده ليشرب منه، فلما انتهى إليه ( لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) ، فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملا وأنه قد حَصَّل شيئًا، فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها، ونوقش على أفعاله، لم يجد له شيئًا بالكلية قد قُبل، إما لعدم الإخلاص، وإما لعدم سلوك الشرع، كما قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [ الفرقان:23 ] .

وقال هاهنا: ( وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) . وهكذا رُوي عن أُبي بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة وغير واحد.

وفي الصحيحين :أنه يقال يوم القيامة لليهود:ما كنتم تعبدون؟ فيقولون:كنا نعبد عُزَيْر ابن الله. فيقال:كذبتم، ما اتخذ الله من ولد، ماذا تبغون؟ فيقولون:أي رَبَّنَا، عَطشنا فاسقنا. فيقال:ألا ترون؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا، فينطلقون فيتهافتون فيها .

وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب. فأما أصحاب الجهل البسيط، وهم الطَّماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر، الصم البكم الذين لا يعقلون، فمثلهم كما قال تعالى: ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ) :قال قتادة:وهو العميق. ( يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ) أي:لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يدري أين يذهب، ولا [ هو ] يعرف حال من يقوده، بل كما يقال في المثل للجاهل:أين تذهب؟ قال:معهم. قيل:فإلى أين يذهبون؟ قال:لا أدري.

وقال العوفي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: ( يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ) يعني بذلك:الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر، وهي كقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ البقرة:7 ] ، وكقوله : أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [ الجاثية:23 ] .

وقال أُبيّ بن كعب في قوله: ( ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ) فهو يتقلب في خمسة من الظلم:كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات، إلى النار.

وقال الربيع بن أنس، والسُّدِّي نحو ذلك أيضًا.

وقوله: ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ) أي:من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائر بائر كافر، كما قال تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ [ الأعراف:186 ] وهذا [ في ] مُقابلة ما قال في مثل المؤمنين: ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نورًا، وعن أيماننا نورًا، وعن شمائلنا نورًا، وأن يعظم لنا نورًا.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( 41 ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( 42 )

يخبر تعالى أنه يُسَبِّحه من في السماوات والأرض، أي:من الملائكة والأناسي، والجان والحيوان، حتى الجماد، كما قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [ الإسراء:44 ] .

وقوله: ( وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ) أي:في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه، وهو يعلم ما هي فاعلة؛ ولهذا قال: ( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) أي:كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله، عز وجل.

ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك، لا يخفى عليه من ذلك شيء؛ ولهذا قال: ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) .

ثم أخبر تعالى:أن له ملك السماوات والأرض، فهو الحاكم المتصرف الذي لا معقب لحكمه، وهو الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له. ( وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) أي:يوم القيامة، فيحكم فيه بما يشاء؛ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [ النجم:31 ] ، فهو الخالق المالك، ألا له الحكم في الدنيا والأخرى، وله الحمد في الأولى والآخرة؟!.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ( 43 )

يذكر تعالى أنه بقدرته يسوق السحاب أول ما ينشئها وهي ضعيفة، وهو الإزجاء ( ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ) أي:يجمعه بعد تفرقه، ( ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا ) أي:متراكمًا، أي:يركب بعضه بعضًا ، ( فَتَرَى الْوَدْقَ ) أي المطر ( يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) أي:من خَلَله. وكذا قرأها ابن عباس والضحاك.

قال عبيد بن عمير الليثي:يبعث الله المثيرة فَتَقُمّ الأرض قمًا، ثم يبعث الله الناشئة فتنشئ السحاب، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه، ثم يبعث [ الله ] اللواقح فتلقح السحاب. رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، رحمهما الله.

وقوله: ( وَيُنـزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) :قال بعض النحاة: « من » الأولى:لابتداء الغاية، والثانية:للتبعيض، والثالثة:لبيان الجنس. وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من المفسرين إلى أن قوله: ( مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) ومعناه:أن في السماء جبالَ بَرَد ينـزل الله منها البرد. وأما من جعل الجبال هاهنا عبارة عن السحاب، فإن « من » الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضا، لكنها بَدَل من الأولى، والله أعلم.

وقوله: ( فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ ) يحتمل أن يكون المراد بقوله: ( فَيُصِيبُ بِهِ ) أي:بما ينـزل من السماء من نوعي البرد والمطر فيكون قوله: ( فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ ) رحمة لهم، ( وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ ) أي:يؤخر عنهم الغيث.

ويحتمل أن يكون المراد بقوله: ( فَيُصِيبُ بِهِ ) أي:بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم. ويصرفه عمن يشاء [ أي: ] رحمة بهم.

وقوله: ( يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ ) أي:يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته.