يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ( 44 )

وقوله ( يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) أي:يتصرف فيهما، فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا ثم يأخذ من هذا في هذا، فيطول الذي كان قصيرًا، ويقصر الذي كان طويلا. والله هو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه.
(
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ ) أي:لدليلا على عظمته تعالى، كما قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [ آل عمران:190 ] . وما بعدها من الآيات الكريمات.

وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 45 ) .

يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم، في خلقه أنواع [ المخلوقات ] . على اختلاف أشكالها وألوانها، وحركاتها وسكناتها، من ماء واحد، ( فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ) كالحية وما شاكلها، ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ ) كالإنسان والطير، ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ) كالأنعام وسائر الحيوانات؛ ولهذا قال: ( يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) أي:بقدرته؛ لأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 46 ) .

يقرر تعالى أنه أنـزل في هذا القرآن من الحكم والأمثال البينة المحكمة، كثيرًا جدًا، وأنه يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والنهى؛ ولهذا قال: ( وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( 47 ) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ( 48 ) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( 49 ) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 50 ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 51 ) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( 52 )

يخبر تعالى عن صفات المنافقين، الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، يقولون قولا بألسنتهم: ( آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ) أي:يخالفون أقوالهم بأعمالهم، فيقولون ما لا يفعلون؛ ولهذا قال تعالى: ( وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) .
وقوله: (
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ) أي:إذا طلبوا إلى اتباع الهدى، فيما أنـزل الله على رسوله، أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه. وهذه كقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [ النساء:60 ، 61 ] .
وفي الطبراني من حديث روح بن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبيه، عن الحسن، عن سَمُرَة مرفوعًا:
« من دُعي إلى سلطان فلم يجب، فهو ظالم لا حق له » .
وقوله: (
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) ، أي:وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم، جاؤوا سامعين مطيعين وهو معنى قوله: ( مُذْعِنِينَ ) وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق، وأحب أن يتحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ليروج باطله ثَمّ. فإذعانه أولا لم يكن عن اعتقاد منه أن ذلك هو الحق، بل لأنه موافق لهواه؛ ولهذا لما خالف الحقّ قصده، عدل عنه إلى غيره؛ ولهذا قال تعالى: ( أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ) يعني:لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مَرَض لازم لها، أو قد عرض لها شك في الدين، أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم. وأيّا ما كان فهو كفر محض، والله عليم بكل منهم، وما هو عليه منطو من هذه الصفات.
وقوله: (
بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أي:بل هم الظالمون الفاجرون، والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور، تعالى الله ورسوله عن ذلك.
قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا مبارك، حدثنا الحسن قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحِقّ أذعن، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق. وإذا أراد أن يظلم فدُعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض، وقال:أنطلقُ إلى فلان. فأنـزل الله هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« من كان بينه وبين أخيه شيء، فدُعِي إلى حَكَم من حُكَّام المسلمين فأبى أن يجيب، فهو ظالم لا حق له » .
وهذا حديث غريب، وهو مرسل.
ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، الذين لا يبغون دينا سوى كتاب الله وسنة رسوله، فقال: (
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) أي:سمعًا وطاعة؛ ولهذا وصفهم تعالى بفلاح، وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب، فقال: ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .
وقال قتادة في هذه الآية: (
أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) ذُكر لنا أن عُبَادة بن الصامت - وكان عَقَبيَّا بدريا، أحد نقباء الأنصار - أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية:ألا أنبئك بماذا عليك وَمَاذا لك؟ قال:بلى. قال:فإن عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومَنْشَطك ومكرهك، وأثرةً عليك. وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وألا تنازع الأمرَ أهله، إلا أن يأمروك بمعصية الله بَوَاحا، فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله، فاتبع كتاب الله.
وقال قتادة:وَذُكر لنا أن أبا الدرداء قال:لا إسلام إلا بطاعة الله، ولا خير إلا في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله، وللخليفة وللمؤمنين عامة.
قال:وقد ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يقول:عُروة الإسلام شهادةُ أن لا إله إلا الله، وإقامُ الصلاة، وإيتاء الزكاة، والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين.
رواه ابن أبي حاتم، والأحاديث والآثار في وجوب الطاعة لكتاب الله [
وسنة رسوله، وللخلفاء الراشدين، والأئمة إذا أمروا بطاعة الله ] كثيرة جدًا، أكثر من أن تحصر في هذا المكان.
وقوله (
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي:فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه، ( وَيَخْشَ اللَّهَ ) فيما مضى من ذنوبه، ( وَيَتَقِهِ ) فيما يستقبل.
وقوله (
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) يعني:الذين فازوا بكل خير، وأمنُوا من كل شر في الدنيا والآخرة .

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 53 )

يقول تعالى مخبرا عن أهل النفاق، الذين كانوا يحلفون للرسول صلى الله عليه وسلم لئن أمرهم بالخروج [ في الغزو ] قال الله تعالى: ( قُلْ لا تُقْسِمُوا ) أي:لا تحلفوا.
وقوله: (
طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) قيل:معناه طاعتكم طاعة معروفة، أي:قد عُلمت طاعتكم، إنما هي قول لا فعل معه، وكلما حلفتم كذبتم، كما قال تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [ التوبة:96 ] ، وقال تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ المنافقون:2 ] ، فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [ الحشر:11 ، 12 ]
وقيل:المعنى في قوله: (
طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) أي:ليكن أمركم طاعة معروفة، أي:بالمعروف من غير حَلف ولا إقسام، كما يطيع الله ورسوله المؤمنون بغير حلف، فكونوا أنتم مثلهم.
(
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) أي:هو خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي، فالحلف وإظهار الطاعة - والباطن بخلافه، وإن راج على المخلوق - فالخالق، تعالى، يعلم السر وأخفى، لا يروج عليه شيء من التدليس، بل هو خبير بضمائر عباده، وإن أظهروا خلافها.