إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ( 12 ) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ( 13 ) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ( 14 ) .

وقوله: ( إِذَا رَأَتْهُمْ ) أي:جهنم ( مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) يعني:في مقام المحشر. قال السدي:من مسيرة مائة عام ( سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) أي:حنقا عليهم، كما قال تعالى: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [ الملك:7 ,8 ] أي:يكاد ينفصل بعضها من بعض؛ من شدة غيظها على من كفر بالله.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا إدريس بن حاتم بن الأخيف الواسطي:أنه سمع محمد بن الحسن الواسطي، عن أصبغ بن زيد، عن خالد بن كثير، عن خالد بن دُرَيْك، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من يقل عَلَيَّ ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه، أو انتمى إلى غير مواليه، فليتبوأ [ مقعده من النار » . وفي رواية: « فليتبوأ ] بين عيني جهنم مقعدا » قيل:يا رسول الله، وهل لها من عينين؟ قال: « أما سمعتم الله يقول: ( إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) الآية » .

ورواه ابن جرير، عن محمد بن خِدَاش، عن محمد بن يزيد الواسطي، به .

وقال أيضًا:حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسي، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عيسى بن سليم، عن أبي وائل قال:خرجنا مع عبد الله - يعني:ابن مسعود - ومعنا الربيع بن خُثَيْم فمروا على حداد، فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار، ونظر الربيع بن خثيم إليها فتمايل ليسقط، فمر عبد الله على أتّون على شاطئ الفرات، فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية: ( إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) فصعق - يعني:الربيع بن خُثَيْم - فحملوه إلى أهل بيته ورابطه عبد الله إلى الظُّهر فلم يفق، رضي الله عنه.

وحدثنا أبي:حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:إن العبد ليجر إلى النار، فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف.

هكذا رواه ابن أبي حاتم مختصرا، وقد رواه الإمام أبو جعفر بن جرير:

حدثنا أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقي، حدثنا عُبَيْد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:إن الرجل ليجر إلى النار، فتنـزوي وتنقبض بعضها إلى بعض، فيقول لها الرحمن:ما لك؟ قالت:إنه يستجير مني. فيقول:أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليُجَرّ إلى النار، فيقول:يا رب، ما كان هذا الظن بك؟ فيقول:فما كان ظنك؟ فيقول:أن تَسَعني رحمتك. فيقول:أرسلوا عبدي، وإن الرجل ليجر إلى النار، فتشهق إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وهذا إسناد صحيح.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن منصور، عن مجاهد، عن عُبَيد بن عُمَيْر في قوله: ( سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) قال:إن جهنم تزفر زفرة، لا يبقى ملك ولا نبي إلا خَرّ تَرْعَد فرائصه، حتى إن إبراهيم عليه السلام، ليجثو على ركبتيه ويقول:رب، لا أسألك اليوم إلا نفسي .

وقوله: ( وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا ) قال قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو قال:مثل الزج في الرمح أي:من ضيقه.

وقال عبد الله بن وهب:أخبرني نافع بن يزيد، عن يحيى بن أبي أسيد - يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن قول الله ( وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ ) قال: « والذي نفسي بيده، إنهم ليُسْتَكرهون في النار، كما يستكره الوتد في الحائط » .

وقوله ( مُقَرَّنِينَ ) قال أبو صالح:يعني مكتفين: ( دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ) أي:بالويل والحسرة والخيبة . ( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ) وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أول من يُكسَى حُلَّةً من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه، ويسحبها منْ خَلْفه، وذريته من بعده، وهو ينادي:يا ثبوراه، وينادون:يا ثبورهم. حتى يقفوا على النار، فيقول:يا ثبوراه. ويقولون:يا ثبورهم. فيقال لهم:لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا، وادعوا ثبورا كثيرا » .

لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ورواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن سِنَان، عن عفان، به:ورواه ابن جرير، من حديث حماد بن سلمة به .

وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: ( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ) أي:لا تدعوا اليوم ويلا واحداً، وادعوا ويلا كثيرا.

وقال الضحاك:الثبور:الهلاك.

والأظهر:أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار، كما قال موسى لفرعون: وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [ الإسراء:102 ] أي:هالكا. وقال عبد الله بن الزبَعْرى:

إذْ أجَاري الشَّيطانَ في سَنَن الغـيْ يِ ,وَمنْ مَــالَ مَيْلَــهُ مَثْبُورُ

قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ( 15 ) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا ( 16 ) .

يقول تعالى:يا محمد، هذا الذي وصفناه من حال أولئك الأشقياء ، الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم، فتتلقاهم بوجه عبوس وبغيظ وزفير، ويُلقَون في أماكنها الضيقة مقرَّنين، لا يستطيعون حراكا، ولا انتصاراً ولا فكاكا مما هم فيه - :أهذا خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده، التي أعدها لهم، وجعلها لهم جزاء على ما أطاعوه في الدنيا، وجعل مآلهم إليها.

( لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ) [ أي ] :من الملاذ:من مآكل ومشارب، وملابس ومساكن، ومراكب ومناظر، وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَر على قلب أحد . وهم في ذلك خالدون أبدا دائما سرمدا بلا انقطاع ولا زوا، ولا انقضاء، لا يبغون عنها حوَلا. وهذا من وَعْد الله الذي تفضل به عليهم، وأحسن به إليهم، ولهذا قال: ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا ) أي لا بد أن يقع وأن يكون، كما حكاه أبو جعفر بن جرير، عن بعض علماء العربية أن معنى قوله: ( وَعْدًا مَسْئُولا ) أي:وعدا واجبا.

وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا ) يقول:سلوا الذي واعدتكم - أو قال:واعدناكم - نُنْجِزْ.

وقال محمد بن كعب القُرَظي في قوله: ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا ) :إن الملائكة تسأل لهم ذلك: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ [ غافر:8 ] .

وقال أبو حازم:إذا كان يوم القيامة قال المؤمنون:ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا، فأنجز لنا ما وعدتنا. فذلك قوله: ( وَعْدًا مَسْئُولا ) .

وهذا المقام في هذه السورة من ذكر النار، ثم التنبيه على حال أهل الجنة، كما ذكر تعالى في سورة « الصافات » حال أهل الجنة، وما فيها من النضرة والحبور، ثم قال: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ * إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [ الصافات:62 - 70 ] .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ( 17 ) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ( 18 ) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ( 19 ) .

يقول تعالى مخبراً عما يَقَع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم مَن عبدوا من دون الله، من الملائكة وغيرهم، فقال: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) . قال مجاهد:عيسى، والعُزَير، والملائكة. ( فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ) أي:فيقول الرب تبارك وتعالى [ للمعبودين ] أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني، أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم، من غير دعوة منكم لهم؟ كما قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إلى آخر الآية؛ [ المائدة:116 - 117 ] ولهذا قال تعالى مخبرًا عما يُجيِب به المعبودون يوم القيامة: ( قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) قرأ الأكثرون بفتح « النون » من قوله: ( نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) أي:ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك، لا نحن ولا هم، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك، بل هم قالوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ونحن برآء منهم ومن عبادتهم، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [ سبأ:40 - 41 ] . وقرأ آخرون: « مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُتَّخَذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ » أي:ما ينبغي لأحد أن يعبدنا، فإنا عبيد لك، فقراء إليك. وهي قريبة المعنى من الأولى.

( وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ ) أي:طال عليهم العمر حتى نَسُوا الذكر، أي:نسوا ما أنـزلته إليهم على ألسنة رسلك، من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك.

( وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) قال ابن عباس:أي هلكى. وقال الحسن البصري، ومالك عن الزهري:أي لا خير فيهم. وقال ابن الزبعرى حين أسلم:

يـا رَسُـولَ المَــليـك إنّ لـسَـاني رَاتــقٌ مــا فَتَقْـتُ إذْ أنـا بُــورُ

إذْ أجـاري الشَّـيطَانَ فـي سَنَن الغيـْ يِ , وَمَــن مـالَ مَيْـلَـه مَثْـبُـورُ

قال الله تعالى: ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ) أي:فقد كذبكم الذين عَبَدْتُم فيما زعمتم أنهم لكم أولياء، وأنكم اتخذتموهم قربانا يقربونكم إليه زلفى، كما قال تعالى وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [ الأحقاف:5 - 6 ] .

وقوله: ( فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) أي:لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم، ( وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ ) أي:يشرك بالله، ( نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ) .

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ( 20 )

يقول تعالى مخبرا عن جميع مَنْ بعثه من الرسل المتقدمين:إنهم كانوا يأكلون الطعام، ويحتاجون إلى التغذي به ( وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ ) أي:للتكسب والتجارة، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم؛ فإن الله جعل لهم من السمات الحسنة، والصفات الجميلة، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، والأدلة [ القاهرة ] ، ما يستدل به كل ذي لب سليم، وبصيرة مستقيمة، على صدق ما جاءوا به من الله عز وجل. ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [ يوسف:109 ] وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [ الأنبياء:8 ] .

وقوله: ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ) أي:اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض، لنعلم مَن يُطيع ممن يعصي؛ ولهذا قال: ( أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) أي:بمن يستحق أن يوحى إليه، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [ الأنعام:124 ] ، ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به، ومن لا يستحق ذلك.

وقال محمد بن إسحاق في قوله: ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ) قال:يقول الله:لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون، لفعلت، ولكنّي قد أردتُ أن أبتلي العباد بهم، وأبتليهم بهم.

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله:إني مُبْتَلِيك، ومُبْتَلٍ بك » . وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة » ، وفي الصحيح أنه - عليه أفضل الصلاة والسلام - خُير بين أن يكون نبياً ملكا أو عبداً رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا.