تفسير سورة الشعراء

 

وهي مكية. وَوَقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتُها:سورة الجامعة.

بسم الله الرحمن الرحيم

طسم ( 1 ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 3 ) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( 4 ) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ( 5 ) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 6 ) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( 7 ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ( 8 ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 9 ) .

أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد تكلمنا عليه في أول تفسير سورة البقرة.

وقوله: ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) أي:هذه آيات القرآن المبين، أي:البين الواضح، الذي يفصل بين الحق والباطل، والغي والرشاد.

وقوله: ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ ) أي:مهلك ( نفسك ) أي:مما تحرص [ عليهم ] وتحزن عليهم ( أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ، وهذه تسلية من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه، في عدم إيمان مَنْ لم يؤمن به من الكفار، كما قال تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [ فاطر:8 ] ، وقال: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [ الكهف:6 ] .

قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وعطية، والضحاك: ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ) أي:قاتل نفسك. قال الشاعر

ألا أيّهــذاَ البَــاخعُ الحُـزنُ نفسَـه لشــيء نَحَتْــهُ عَنْ يَدَيه الَمقَــادِرُ

ثم قال الله تعالى: ( إِنْ نَشَأْ نُنـزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) أي:لو شئنا لأنـزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا، ولكَّنا لا نفعل ذلك؛ لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري؛ وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [ يونس:99 ] ، وقال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [ هود:118 ، 119 ] ، فنَفَذ قَدَرُه، ومضت حكمته، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم، وإنـزال الكتب عليهم.

ثم قال: ( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ) أي:كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس، كما قال: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [ يوسف:103 ] ، وقال: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [ يس:30 ] ، وقال: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [ المؤمنون:44 ] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا: ( فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) أي:فقد كذبوا بما جاءهم من الحق، فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [ الشعراء:227 ] .

ثم نبه تعالى على عظمته في سلطانه وجلالة قدره وشأنه، الذين اجترؤوا على مخالفة رسوله وتكذيب كتابه، وهو القاهر العظيم القادر، الذي خلق الأرض وأنبت فيها من كل زوج كريم، من زروع وثمار وحيوان.

قال سفيان الثوري، عن رجل، عن الشعبي:الناس من نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم.

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) أي:دلالة على قدرة الخالق للأشياء، الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء، ومع هذا ما آمن أكثر الناس، بل كذبوا به وبرسله وكتبه، وخالفوا أمره وارتكبوا زواجره.

وقوله: ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ) أي:الذي عَزّ كلَّ شيء وقهره وغلبه، ( الرحيم ) أي:بخلقه، فلا يعجل على مَنْ عصاه، بل ينظره ويؤجله ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.

قال أبو العالية، وقتادة، والربيع بن أنس، و [ محمد ] بن إسحاق:العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره.

وقال سعيد بن جبير:الرحيم بِمَنْ تاب إليه وأناب.

وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 10 ) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ( 11 ) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ( 12 ) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ( 13 ) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ( 14 ) قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ( 15 ) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 16 ) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 17 ) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ( 18 ) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 19 )

يقول تعالى مخبرًا عما أمر به عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران، صلوات الله وسلامه عليه، حين ناداه من جانب الطور الأيمن، وكلمه وناجاه، وأرسله واصطفاه، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه؛ ولهذا قال: ( أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه، كما قال في سورة طه: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [ طه:25- 36 ] .

وقوله: ( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) أي:بسبب ما كان [ من ] قتل ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر.

( قَالَ كَلا ) أي:قال الله له:لا تخف من شيء من ذلك كما قال: قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا أي:برهانا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [ القصص:35 ] .

فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) كما قال تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [ طه:46 ] أي:إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي.

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وقال في الآية الأخرى: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [ طه:47 ] أي:كل منا رسول الله إليك، ( أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي:أطلقهم من إسارك وقبضتك وقهرك وتعذيبك، فإنهم عباد الله المؤمنون، وحزبه المخلصون، وهم معك في العذاب المهين. فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون عما هنالك بالكلية، ونظر بعين الازدراء والغمص فقال: ( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ . [ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ] ) [ أي:أما أنت الذي ربيناه فينا ] ، وفي بيتنا وعلى فراشنا [ وغذيناه ] ، وأنعمنا عليه مدة من السنين، ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة، أن قتلت منا رجلا وجحدت نعمتنا عليك؛ ولهذا قال: ( وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) أي:الجاحدين. قاله ابن عباس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.