مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ( 89 ) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 90 ) .

ثم بين تعالى حال السعداء والأشقياء يومئذ فقال: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ) - قال قتادة:بالإخلاص. وقال زين العابدين:هي لا إله إلا الله - وقد بيَّن في المكان الآخر أن له عَشْر أمثالها ( وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) ، كما قال في الآية الأخرى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ [ الأنبياء:103 ] ، وقال: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [ فصلت:40 ] ، وقال: وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [ سبأ:37 ] .

وقوله: ( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) أي:مَنْ لقي الله مسيئًا لا حسنة له، أو:قد رجحت سيئاته على حسناته، كل بحسبه ؛ ولهذا قال: ( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

وقال ابن مسعود وأبو هريرة وابن عباس، رضي الله عنهم، وأنس بن مالك، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم النَّخَعي، وأبو وائل، وأبو صالح، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، والزهري، والسُّدِّي، والضحاك، والحسن، وقتادة، وابن زيد، في قوله: ( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ) يعني:بالشرك.

إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 91 ) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ( 92 ) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 93 ) .

يقول تعالى مخبرًا رسوله وآمرًا له أن يقول: ( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ) ، كَمَا قَالَ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ [ يونس:104 ] .

وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها والاعتناء بها، كما قال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [ قريش:3، 4 ] .

وقوله: ( الَّذِي حَرَّمَهَا ) أي:الذي إنما صارت حرامًا قدرًا وشرعًا، بتحريمه لها، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: « إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لُقَطَتُه إلا لِمَنْ عرفها، ولا يختلى خلاها » الحديث بتمامه. وقد ثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من طرق جماعة تفيد القطع ، كما هو مبين في موضعه من كتاب الأحكام، ولله الحمد.

وقوله: ( وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ) :من باب عطف العام على الخاص، أي:هو رب هذه البلدة، ورب كل شيء ومليكه ، ( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أي:الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المطيعين له.

ب

وقوله: ( وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ) أي:على الناس أبلغهم إياه، كقوله: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [ آل عمران:58 ] ، وكقوله: نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ القصص:3 ] أي:أنا مبلغ ومنذر، ( فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) أي:لي سوية الرسل الذين أنذروا قومهم، وقاموا بما عليهم من أداء الرسالة إليهم، وخَلَصُوا من عهدتهم، وحساب أممهم على الله، كقوله تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [ الرعد:40 ] ، وقال: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [ هود:12 ] .

( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ) ، أي:لله الحمد الذي لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، والإعذار إليه؛ ولهذا قال: ( سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ) كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [ فصلت:53 ] .

وقوله: ( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) أي:بل هو شهيد على كل شيء.

قال ابن أبي حاتم:ذكر عن أبي عمر الحوضي حفص بن عمر:حدثنا أبو أمية بن يعلى الثقفي، حدثنا سعيد بن أبي سعيد، سمعت أبا هريرة يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا أيها الناس، لا يَغْترَّنَّ أحدكم بالله؛ فإن الله لو كان غافلا شيئًا لأغفل البعوضة والخردلة والذرة » .

[ قال أيضا ] :حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا نصر بن علي، قال أبي:أخبرني خالد بن قيس، عن مطر، عن عمر بن عبد العزيز قال:فلو كان الله مغفلا شيئًا لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم.

وقد ذكر عن الإمام أحمد، رحمه الله، أنه كان ينشد هذين البيتين، إما له أو لغيره:

إذَا مَـا خَـلَوتَ الدهْـرَ يَومًـا فَلا تَقُل خَــلَوتُ وَلكـن قُـل عَـليّ رَقيـب

وَلا تَحْسَـبَن اللـه يَغْــفُـل ساعـةً وَلا أن مَــا يَخْــفى عَلَيْـه يَغيـب

[ بسم الله الرحمن الرحيم. رب يسر بفضلك ]

 

 

تفسير سورة القصص

 

[ وهي مكية ]

قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله:حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا وَكِيع، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن معد يكرب قال:أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين، فقال:ما هي معي، ولكن عليكم مَن أخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم:خَبَّاب بن الأرَت. قال:فأتينا خَبَّاب بن الأرت، فقرأها علينا، رضي الله عنه .

طسم ( 1 ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 3 ) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( 4 ) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ( 5 ) .

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة.

وقوله: ( تلك ) أي:هذه ( آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) أي:الواضح الجلي الكاشف عن حقائق الأمور، وعلم ما قد كان وما هو كائن.

وقوله: ( نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) كما قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [ يوسف:3 ] أي:نذكر لك الأمر على ما كان عليه، كأنك تشاهد وكأنك حاضر.

ثم قال: ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ ) أي:تكبر وتجبر وطغى. ( وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) أي:أصنافا، قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته.

وقوله: ( يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ ) يعني:بني إسرائيل. وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم. هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العنيد يستعملهم في أخس الأعمال، ويكُدُّهُم ليلا ونهارًا في أشغاله وأشغال رعيته، ويقتل مع هذا أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إهانة لهم واحتقارا، وخوفا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته من أن يوجد منهم غلام، يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه. وكانت القبط قد تلقوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل، حين ورد الديار المصرية، وجرى له مع جبارها ما جرى، حين أخذ سارة ليتخذها جارية، فصانها الله منه، ومنعه منها بقدرته وسلطانه. فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته مَن يكون هلاك ملك مصر على يديه، فكانت القبط تتحدث بهذا عند فرعون، فاحترز فرعون من ذلك، وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل، ولن ينفع حذر من قدر؛ لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، ولكل أجل كتاب؛ ولهذا قال: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ .