إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 85 ) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ( 86 ) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 87 ) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 88 ) .

يقول تعالى آمرًا رسولَه، صلوات الله وسلامه عليه، ببلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس، ومخبرًا له بأنه سيرده إلى معاد، وهو يوم القيامة، فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة؛ ولهذا قال: ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) أي:افترض عليك أداءه إلى الناس ، ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) أي:إلى يوم القيامة فيسألك عن ذلك، كما قال تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [ الأعراف:6 ] ، وقال يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ] [ المائدة:109 ] [ وقال ] : وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [ الزمر:69 ] .

وقال السدي عن أبي صالح، عن ابن عباس: ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) ، يقول:لرادُّك إلى الجنة، ثم سائلك عن القرآن. قال السدي:وقال أبو سعيد مثلها.

وقال الحكم بن أَبان، عن عِكْرمِة ، [ و ] عن ابن عباس، رضي الله عنهما: ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال:إلى يوم القيامة. ورواه مالك، عن الزهري.

وقال الثوري، عن الأعمش، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس : ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) :إلى الموت.

ولهذا طُرُقٌ عن ابن عباس، رضي الله عنهما، وفي بعضها:لرادك إلى معدنك من الجنة.

وقال مجاهد:يحييك يوم القيامة. وكذا روي عن عكرمة، وعطاء، وسعيد بن جبير، وأبي قَزَعَةَ، وأبي مالك، وأبي صالح.

وقال الحسن البصري:أي والله، إن له لمعادًا ، يبعثه الله يوم القيامة ثم يدخله الجنة.

وقد رُوي عن ابن عباس غير ذلك، كما قال البخاري في التفسير من صحيحه :

حدثنا محمد بن مقاتل، أنبأنا يعلى، حدثنا سفيان العُصْفُريّ، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال:إلى مكة.

وهكذا رواه النسائي في تفسير سننه، وابن جرير من حديث يعلى - وهو ابن عبيد الطَّنَافِسيّ - به . وهكذا روى العَوْفيّ، عن ابن عباس: ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) أي:لرادك إلى مكة كما أخرجك منها.

وقال محمد بن إسحاق، عن مجاهد في قوله: ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) :إلى مولدك بمكة.

قال ابن أبي حاتم:وقد روى عن ابن عباس، ويحيى بن الجزار، وسعيد بن جبير، وعطية، والضحاك، نحو ذلك.

[ وحدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر قال:قال سفيان:فسمعناه من مقاتل منذ سبعين سنة، عن الضحاك ] قال:لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فبلغ الجُحْفَة، اشتاق إلى مكة، فأنـزل الله عليه: ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) إلى مكة.

وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية، وإن كان مجموع السورة مكيا، والله أعلم.

وقد قال عبد الرزاق:حدثنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال:هذه مما كان ابن عباس يكتمها، وقد رَوَى ابنُ أبي حاتم بسنده عن نعيم القارئ أنه قال في قوله: ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال:إلى بيت المقدس.

وهذا - والله أعلم - يرجع إلى قول من فسر ذلك بيوم القيامة؛ لأن بيت المقدس هو أرض المحشر والمنشر، والله الموفق للصواب.

ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة، وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجله، صلوات الله وسلامه عليه ، كما فسره ابن عباس بسورة إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا أنه أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعي إليه، وكان ذلك بحضرة عمر بن الخطاب، ووافقه عمر على ذلك، وقال:لا أعلم منها غير الذي تعلم. ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله: ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) بالموت، وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت، وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين:الجن والإنس، ولأنه أكمل خلق الله، وأفصح خلق الله، وأشرف خلق الله على الإطلاق.

وقوله: ( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي:قل - لِمَنْ خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين ومَنْ تبعهم على كفرهم - قل:ربي أعلم بالمهتدي منكم ومني، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار، ولِمَنْ تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة.

ثم قال تعالى مذكِّرًا لنبيه نعمته العظيمة عليه وعلى العباد إذ أرسله إليهم: ( وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ ) أي:ما كنت تظن قبل إنـزال الوحي إليك أن الوحي ينـزل عليك، ( إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) أي:إنما نـزل الوحي عليك من الله من رحمته بك وبالعباد بسببك، فإذا منحك بهذه النعمة العظيمة ( فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا ) أي:معينًا ( لِلْكَافِرِينَ ) [ أي ] :ولكن فارقهم ونابذهم وخالفهم.

( وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنـزلَتْ إِلَيْكَ ) أي:لا تتأثر لمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقك لا تلوي على ذلك ولا تباله؛ فإن الله مُعْلٍ كلمتك، ومؤيدٌ دينك، ومظهر ما أرسلت به على سائر الأديان؛ ولهذا قال: ( وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ) أي:إلى عبادة ربك وحده لا شريك له، ( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

وقوله: ( وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) أي:لا تليق العبادة إلا له ولا تنبغي الإلهية إلا لعظمته.

وقوله: ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ) :إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [ الرحمن:26 ، 27 ] ، فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ها هنا: ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ) أي:إلا إياه.

وقد ثبت في الصحيح، من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أصدق كلمة قالها شاعر [ كلمة ] لبيد:»

ألا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ

وقال مجاهد والثوري في قوله: ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ) أي:إلا ما أريد به وجهه، وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر له.

قال ابن جرير:ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر:

أسْـتَغْفِرُ اللـهَ ذنبًـا لَسْـتُ مُحْصِيَـهُ رَبّ العبَــاد, إلَيـه الوَجْـهُ والعَمَـلُ

وهذا القول لا ينافي القول الأول، فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد بها وجه الله عز وجل من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة. والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وهالكة وزائلة إلا ذاته تعالى، فإنه الأول الآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء.

قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب « التفكر والاعتبار » :حدثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عمر بن سليم الباهلي، حدثنا أبو الوليد قال:كان ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد قلبه، يأتي الخربة فيقف على بابها، فينادي بصوت حزين فيقول:أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ) .

وقوله: ( لَهُ الْحُكْمُ ) أي:الملك والتصرف، ولا معقب لحكمه، ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) أي:يوم معادكم، فيجزيكم بأعمالكم، إن كان خيرا فخير، وإن شرا فشر.

[ والله أعلم. آخر تفسير سورة « القصص » ]

 

تفسير سورة العنكبوت

 

بسم الله الرحمن الرحيم

[ وهي ] مكية.

الم ( 1 ) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ( 2 ) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( 3 ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( 4 ) .

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة « البقرة » .

وقوله: ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) استفهام إنكار، ومعناه:أن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان، كما جاء في الحديث الصحيح: « أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء » . وهذه الآية كقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [ آل عمران:142 ] ، ومثلها في سورة « براءة » وقال في البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [ البقرة:214 ] ؛ ولهذا قال هاهنا: ( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) أي:الذين صدقوا في دعواهم الإيمان مِمَّنْ هو كاذب في قوله ودعواه. والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون . وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة؛ ولهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل: إِلا لِنَعْلَمَ [ البقرة:143 ] :إلا لنرى؛ وذلك أن الرؤية إنما تتعلق بالموجود، والعلم أعم من الرؤية، فإنه [ يتعلق ] بالمعدوم والموجود.

وقوله: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي:لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان، فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطم؛ ولهذا قال: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا ) أي:يفوتونا، ( سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي:بئس ما يظنون.

مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 5 ) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( 6 )

يقول تعالى: ( مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ ) أي:في الدار الآخرة، وعمل الصالحات رجاء ما عند الله من الثواب الجزيل، فإن الله سيحقق له رجاءه ويوفيه عمله كاملا موفورا ، فإن ذلك كائن لا محالة؛ لأنه سميع الدعاء، بصير بكل الكائنات ؛ ولهذا قال: ( مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

وقوله: ( وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ) ، كقوله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ [ فصلت:46 ] أي:من عمل صالحا فإنما يعود نفع عمله على نفسه، فإن الله غني عن أفعال العباد، ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل [ واحد ] منهم، ما زاد ذلك في ملكه شيئا؛ ولهذا قال: ( وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) .

قال الحسن البصري:إن الرجل ليجاهد، وما ضرب يوما من الدهر بسيف.