فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ( 15 ) .

وقوله: ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ ) أي:الذين آمنوا بنوح عليه السلام. وقد تقدَّم ذكر ذلك مفصلا في سورة « هود » ، وتقدَّم تفسيره بما أغنى عن إعادته.

وقوله: ( وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) أي:وجعلنا تلك السفينة باقية، إما عينها كما قال قتادة:إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي، أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق، كيف نجاهم من الطوفان، كما قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ * إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [ يس:41- 44 ] ، وقال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [ الحاقة:11، 12 ] ، وقال هاهنا: ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) ، وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس، كقوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [ الملك:5 ] أي:وجعلنا نوعها، فإن التي يرمى بها ليست هي التي زينة للسماء . وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [ المؤمنون:12، 13 ] ، ولهذا نظائر كثيرة.

وقال ابن جرير:لو قيل:إنّ الضمير في قوله: ( وَجَعَلْنَاهَا ) ، عائد إلى العقوبة، لكان وجهًا، والله أعلم.

وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 16 ) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 17 ) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 18 ) .

يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء:أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له في التقوى، وطلب الرزق منه وحده لا شريك له، وتوحيده في الشكر ، فإنه المشكور على النعم، لا مُسْدٍ لها غيره، فقال لقومه: ( اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ) أي:أخلصوا له العبادة والخوف، ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي:إذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة، واندفع عنكم الشر في الدنيا والآخرة.

ثم أخبرهم أن الأصنام التي يعبدونها والأوثان، لا تضر ولا تنفع، وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء، سميتموها آلهة، وإنما هي مخلوقة مثلكم. هكذا روى العوفي عن ابن عباس. وبه قال مجاهد، والسدي.

وروى الوالبي ، عن ابن عباس:وتصنعون إفكا، أي:تنحتونها أصناما. وبه قال مجاهد - في رواية - وعكرمة، والحسن، وقتادة وغيرهم، واختاره ابن جرير، رحمه الله.

وهي لا تملك لكم رزقا، ( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ ) وهذا أبلغ في الحصر، كقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ الفاتحة:5 ] ، رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [ التحريم:11 ] ، ولهذا قال: ( فَابْتَغُوا ) أي:فاطلبوا ( عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ ) أي:لا عند غيره، فإن غيره لا يملك شيئا، ( وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ) أي:كلوا من رزقه واعبدوه وحده ، واشكروا له على ما أنعم به عليكم، ( إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) أي:يوم القيامة، فيجازي كل عامل بعمله.

وقوله: ( وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) أي:فبلغكم ما حل بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل، ( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) يعني:إنما على الرسول أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة، والله يضل مَنْ يشاء ويهدي مَنْ يشاء، فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء.

وقال قتادة في قوله: ( وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) قال:يُعزي نبيه صلى الله عليه وسلم. وهذا من قتادة يقتضي أنه قد انقطع الكلام الأول، واعترض بهذا إلى قوله: ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ) . وهكذا نص على ذلك ابن جرير أيضا .

والظاهر من السياق أن كل هذا من كلام إبراهيم الخليل، عليه السلام [ لقومه ] يحتج عليهم لإثبات المعاد، لقوله بعد هذا كله: ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ) ، والله أعلم.

أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 19 ) قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 ) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ( 21 ) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 22 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 23 ) .

يقول تعالى مخبرًا عن الخليل عليه السلام، أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه، بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم، بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، ثم وجدوا وصاروا أناسا سامعين مبصرين، فالذي بدأ هذا قادر على إعادته؛ فإنه سهل عليه يسير لديه.

ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة من خلق الله الأشياء:السموات وما فيها من الكواكب النيرة:الثوابت، والسيارات، والأرضين وما فيها من مهاد وجبال، وأودية وبرارٍ وقفار، وأشجار وأنهار، وثمار وبحار، كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار، الذي يقول للشيء:كن، فيكون؛ ولهذا قال: ( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) ، كقوله: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [ الروم:27 ] .

ثم قال تعالى: ( قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ ) أي:يوم القيامة، ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [ فصلت:53 ] ، وكقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [ الطور:35، 36 ] .

وقوله: ( يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ ) أي:هو الحاكم المتصرف، الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، فله الخلق والأمر، مهما فعل فَعَدْلٌ؛ لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة، كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن: « إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم » . ولهذا قال تعالى: ( يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) أي:ترجعون يوم القيامة.

وقوله: ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ) أي:لا يعجزه أحد من أهل سماواته وأرضه، بل هو القاهر فوق عباده، وكل شيء خائف منه، فقير إليه، وهو الغني عما سواه.

( وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ ) أي:جحدوها وكفروا بالمعاد، ( أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ) أي:لا نصيب لهم فيها، ( وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي:موجع في الدنيا والآخرة.