قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ( 42 ) .

ثم قال تعالى: ( قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ) أي:من قبلكم، ( كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) أي:فانظروا ماذا حلَّ بهم من تكذيب الرسل وكفر النعم.

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( 43 ) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( 44 ) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( 45 ) .

يقول تعالى آمرًا عباده بالمبادرة إلى الاستقامة في طاعته، والمبادرة إلى الخيرات: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ) أي:يوم القيامة، إذا أراد كونه فلا رادَّ له ، ( يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) أي:يتفرقون، ففريق في الجنة وفريق في السعير؛ ولهذا قال: ( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ ) أي:يجازيهم مجازاة الفضل:الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما يشاء الله، ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) ، ومع هذا هو العادل فيهم، الذي لا يجور.

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 46 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ( 47 ) .

يذكر تعالى نعَمه على خلقه، في إرساله الرياح مبشرات بين يدي رحمته، بمجيء الغيث عقيبها؛ ولهذا قال: ( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) أي:المطر الذي ينـزله فيحيي به العباد والبلاد، ( وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ) أي:في البحر، وإنما سيرها بالريح، ( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) أي:في التجارات والمعايش، والسير من إقليم إلى إقليم، وقطر إلى قطر، ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي:تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة، التي لا تعد ولا تحصى.
ثم قال: (
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) هذه تسلية من الله لعبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه ، بأنه وإن كذبه كثير من قومه ومن الناس، فقد كُذّبت الرسل المتقدمون مع ما جاءوا أممهم به من الدلائل الواضحات، ولكن الله انتقم ممن كذبهم وخالفهم، وأنجى المؤمنين بهم، ( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) ، هو حقّ أوجبه على نفسه الكريمة، تكرما وتفضلا كقوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [ الأنعام:54 ] .
قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا موسى بن أعين، عن ليث، عن شهر بن حَوْشَب ، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
« ما من امرئ مسلم يَرُدُّ عن عرض أخيه، إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة » . ثم تلا هذه الآية: ( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) .

اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( 48 ) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ( 49 ) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 50 )

يبين تعالى كيف يخلق السحاب التي ينـزل منها الماء فقال: ( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ) ، إما من البحر على ما ذكره غير واحد، أو مما يشاء الله عز وجل. ( فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ ) أي:يَمُدّه فيكثّرهُ ويُنَمّيه، ويجعل من القليل كثيرا، ينشئ سحابة فترى في رأي العين مثل الترس، ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق. وتارة يأتي السحاب من نحو البحر ثقالا مملوءة ماء، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ الأعراف:57 ] ، وكذلك قال هاهنا: ( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا ) . قال مجاهد، وأبو عمرو بن العلاء، ومطر الوَرّاق، وقتادة:يعني قطعا.
وقال غيره:متراكما، قاله الضحاك.
وقال غيره:أسود من كثرة الماء، تراه مدلهما ثقيلا قريبا من الأرض.
وقوله (
فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) أي:فترى المطر - وهو القطر - يخرج من بين ذلك السحاب، ( فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) أي:لحاجتهم إليه يفرحون بنـزوله عليهم ووصوله إليهم.
وقوله: (
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنـزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ) ، معنى الكلام:أن هؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر كانوا قَنطين أزلين من نـزول المطر إليهم قبل ذلك، فلما جاءهم، جاءهم على فاقة، فوقع منهم موقعا عظيما.
وقد اختلف النحاة في قوله: (
مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنـزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ) ، فقال ابن جرير:هو تأكيد. وحكاه عن بعض أهل العربية.
وقال آخرون: [
وإن كانوا ] من قبل أن ينـزل عليهم المطر، ( مِنْ قَبْلِهِ ) أي:الإنـزال ( لَمُبْلِسِينَ ) .
ويحتمل أن يكون ذلك من دلالة التأسيس، ويكون معنى الكلام:أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نـزوله، ومن قبله - أيضا - قد فات عندهم نـزوله وقتا بعد وقت، فترقبوه في إبانه فتأخر، فمضت مدة فترقبوه فتأخر، ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط، فبعد ما كانت أرضهم مقشعرة هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج؛ ولهذا قال: (
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ ) يعني:المطر ( كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) .
ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها، فقال: (
إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى ) أي:إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات، ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .