خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( 6 )

وقوله: ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) أي:خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة، وهو آدم عليه السلام ( ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) ، وهي حواء، عليهما السلام، كقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً [ النساء:1 ] .

وقوله: ( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) أي:وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية، أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [ الأنعام:143 ] ، وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [ الأنعام:144 ] .

وقوله: ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) أي:قدركم في بطون أمهاتكم ( خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) أي:يكون أحدكم أولا نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يخلق فيكون لحما وعظما وعصبا وعروقا، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [ المؤمنون:14 ] .

وقوله: ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) يعني:ظلمة الرحم، وظلمة المشيمة - التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد - وظلمة البطن. كذا قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو مالك، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد [ وغيرهم ] .

وقوله: ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ) أي:هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وخلقكم وخلق آباءكم ، هو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك، ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) أي:الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، ( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) أي:فكيف تعبدون معه غيره؟ أين يُذْهَبُ بعقولكم؟! .

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 7 ) وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( 8 )

يقول تعالى مخبرا عن نفسه تعالى:أنه الغني عما سواه من المخلوقات، كما قال موسى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [ إبراهيم:8 ] .

وفي صحيح مسلم: « يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا » .

وقوله ( وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) أي:لا يحبه ولا يأمر به، ( وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) أي:يحبه منكم ويزدكم من فضله.

( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) أي:لا تحمل نفس عن نفس شيئا، بل كل مطالب بأمر نفسه، ( ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) أي:فلا تخفى عليه خافية .

وقوله: ( وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ) أي:عند الحاجة يضرع ويستغيث بالله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [ الإسراء:67 ] . ولهذا قال: ( ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ) أي:في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع، كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [ يونس:12 ] .

( وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) أي:في حال العافية يشرك بالله، ويجعل له أندادا. ( قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) أي:قل لمن هذه حاله وطريقته ومسلكه:تمتع بكفرك قليلا. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، كقوله: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [ إبراهيم:30 ] ، وقوله: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [ لقمان:24 ] .

أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ( 9 )

يقول تعالى:أمن هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له أندادا؟ لا يستوون عند الله، كما قال تعالى: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [ آل عمران:113 ] ، وقال هاهنا: ( أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا ) أي:في حال سجوده وفي حال قيامه؛ ولهذا استدل بهذه الآية من ذهب إلى أن القنوت هو الخشوع في الصلاة، ليس هو القيام وحده كما، ذهب إليه آخرون.

قال الثوري، عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود أنه قال:القانت المطيع لله ولرسوله.

وقال ابن عباس، والحسن، والسدي، وابن زيد: ( آنَاءَ اللَّيْلِ ) :جوف الليل. وقال الثوري، عن منصور:بلغنا أن ذلك بين المغرب والعشاء.

وقال الحسن، وقتادة: ( آنَاءَ اللَّيْلِ ) :أوله وأوسطه وآخره.

وقوله: ( يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ) أي:في حال عبادته خائف راج ، ولا بد في العبادة من هذا وهذا، وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب؛ ولهذا قال: ( يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ) ، فإذا كان عند الاحتضار فليكن الرجاء هو الغالب عليه، كما قال الإمام عبد بن حميد في مسنده.

حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا ثابت عن أنس قال:دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت، فقال له: « كيف تجدك ؟ » قال:أرجو وأخاف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله عز وجل الذي يرجو، وأمنه الذي يخافه » .

ورواه الترمذي والنسائي في « اليوم والليلة » ، وابن ماجه، من حديث سَيَّار بن حاتم، عن جعفر بن سليمان، به . وقال الترمذي: « غريب. وقد رواه بعضهم عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا » .

وقال ابن أبي حاتم، حدثنا عمر بن شبَّة ، عن عبيدة النميري، حدثنا أبو خَلَف عبد الله بن عيسى الخَزَّاز، حدثنا يحيى البّكَّاء، أنه سمع ابن عمر قرأ: ( أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ) ؛ قال ابن عمر:ذاك عثمان بن عفان، رضي الله عنه.

وإنما قال ابن عمر ذلك؛ لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان بالليل وقراءته، حتى إنه ربما قرأ القرآن في ركعة، كما روى ذلك أبو عبيدة عنه، رضي الله عنه ، وقال الشاعر .

ضَحُّـوا بأشْـمَطَ عُنـوانُ السُّـجُودِ بِهِ يُقَطَّــع الليــلَ تَسْــبيحا وقُرآنـا

وقال الإمام أحمد:كتب إلي الربيع بن نافع:حدثنا الهيثم بن حميد، عن زيد بن واقد، عن سليمان بن موسى، عن كثير بن مرة ، عن تميم الداري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة » .

وكذا رواه النسائي في « اليوم والليلة » عن إبراهيم بن يعقوب، عن عبد الله بن يوسف والربيع بن نافع، كلاهما عن الهيثم بن حميد، به .

وقوله: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) أي:هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله؟! ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ) أي:إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو العقل.

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 10 )

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالاستمرار على طاعته وتقواه ( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ) أي:لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في دنياهم وأخراهم.

وقوله: ( وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ) قال مجاهد:فهاجروا فيها، وجاهدوا، واعتزلوا الأوثان.

وقال شريك، عن منصور، عن عطاء في قوله: ( وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ) قال:إذا دعيتم إلى المعصية فاهربوا، ثم قرأ: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [ النساء:97 ] .

وقوله: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال الأوزاعي:ليس يوزن لهم ولا يكال ، إنما يغرف لهم غرفا.

وقال ابن جريج:بلغني أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط، ولكن يزادون على ذلك.

وقال السدي: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) يعني:في الجنة.