الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 17 )

وقوله: ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) يخبر تعالى عن عدله في حكمه بين خلقه، أنه لا يظلم مثقال ذرة من خير ولا من شر، بل يجزي بالحسنة عشر أمثالها، وبالسيئة واحدة؛ ولهذا قال: ( لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ) كما ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربه عز وجل- أنه قال: « يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا - إلى أن قال- :يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه » .

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) أي:يحاسب الخلائق كلهم، كما يحاسب نفسًا واحدة، كما قال: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ لقمان:28 ] ، وقال [ تعالى ] : وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [ القمر:50 ] .

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ( 18 ) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ( 19 ) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 20 )

يوم الآزفة هو:اسم من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لاقترابها، كما قال تعالى: أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ [ النجم:57 - 58 ] وقال اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [ القمر:1 ] ، وقال اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [ الأنبياء:1 ] وقال أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [ النحل:1 ] وقال فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ [ الملك:27 ] .

وقوله: ( إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ) [ أي ساكتين ] ، قال قتادة:وقفت القلوب في الحناجر من الخوف، فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها. وكذا قال عكرمة، والسدي، وغير واحد.

ومعنى ( كَاظِمِينَ ) أي:ساكتين، لا يتكلم أحد إلا بإذنه يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [ النبأ:38 ] .

وقال ابن جُرَيْج : ( كَاظِمِينَ ) أي:باكين.

وقوله: ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) أي:ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع فيهم، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير.

وقوله: ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) يخبر تعالى عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، دقيقها ولطيفها؛ ليحذر الناس علمه فيهم، فيستحيوا من الله حَقّ الحياء، ويَتَّقُوهُ حق تقواه، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، فإنه تعالى يعلم العين الخائنة وإن أبدت أمانة، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر.

قال ابن عباس في قوله: ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) وهو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم، وفيهم المرأة الحسناء، أو تمر به وبهم المرأة الحسناء، فإذا غفلوا لحظ إليها، فإذا فطنوا غَضّ، فإذا غفلوا لحظ، فإذا فطنوا غض [ بصره عنها ] وقد اطلع الله من قلبه أنه وَدّ أن لو اطلع على فرجها. رواه ابن أبي حاتم.

وقال الضحاك: ( خَائِنَةَ الأعْيُنِ ) هو الغمز، وقول الرجل:رأيت، ولم ير؛ أو:لم أر، وقد رأى.

وقال ابن عباس:يعلم [ الله ] تعالى من العين في نظرها، هل تريد الخيانة أم لا؟ وكذا قال مجاهد، وقتادة.

وقال ابن عباس في قوله: ( وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) يعلم إذا أنت قدرت عليها هل تزني بها أم لا؟.

وقال السدي: ( وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) أي:من الوسوسة .

وقوله: ( وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) أي:يحكم بالعدل.

وقال الأعمش:عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] في قوله: ( وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة، وبالسيئة السيئة ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .

وهذا الذي فسر به ابن عباس في هذه الآية كقوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [ النجم:31 ] . وقوله: ( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) أي:من الأصنام والأوثان والأنداد، ( لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ) أي:لا يملكون شيئا ولا يحكمون بشيء ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) أي:سميع لأقوال خلقه، بصير بهم، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الحاكم العادل في جميع ذلك .

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ( 21 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 22 )

يقول تعالى:أولم يسر هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد ( فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:من الأمم المكذبة بالأنبياء، ما حل بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة ( وَآثَارًا فِي الأرْضِ ) أي:أثروا في الأرض من البنايات والمعالم والديارات، ما لا يقدر عليه هؤلاء، كما قال: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [ الأحقاف:26 ] ، وقال وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [ الروم:9 ] أي:ومع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد، أخذهم الله بذنوبهم، وهي كفرهم برسلهم، ( وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) أي:وما دفع عنهم عذاب الله أحد، ولا رده عنهم راد، ولا وقاهم واق.

ثم ذكر علة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها، فقال: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) أي:بالدلائل الواضحات والبراهين القاطعات، ( فَكَفَرُوا ) أي:مع هذا البيان والبرهان كفروا وجحدوا، ( فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ ) أي:أهلكهم ودمَّر عليهم وللكافرين أمثالها، ( إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) أي:ذو قوة عظيمة وبطش شديد، وهو ( شَدِيدُ الْعِقَابِ ) أي:عقابه أليم شديد وجيع. أعاذنا الله منه.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 23 ) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( 24 ) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ( 25 )

يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه، ومبشرًا له بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة، كما جرى لموسى بن عمران ، فإن الله تعالى أرسله بالآيات البينات، والدلائل الواضحات؛ ولهذا قال: ( بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) والسلطان هو:الحُجة والبرهان.

( إِلَى فِرْعَوْنَ ) هو:ملك القبط بالديار المصرية، ( وَهَامَانَ ) وهو:وزيره في مملكته ( وَقَارُونَ ) وكان أكثر الناس في زمانه مالا وتجارة ( فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) أي:كذبوه وجعلوه ساحرًا مُمَخْرِقًا مموهًا كذابًا في أن الله أرسله. وهذه كقوله [ تعالى ] : كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [ الذاريات 52، 53 ] .

( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا ) أي:بالبرهان القاطع الدال على أن الله تعالى أرسله إليهم، ( قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) وهذا أمر ثان من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل. أما الأول:فكان لأجل الاحتراز من وجود موسى، أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم، أو لمجموع الأمرين. وأما الأمر الثاني:فللعلة الثانية، لإهانة هذا الشعب، ولكي يتشاءموا بموسى، عليه السلام؛ ولهذا قالوا: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [ الأعراف:129 ] .

قال قتادة:هذا أمر بعد أمر.

قال الله تعالى: ( وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ) أي:وما مكرهم وقصدهم الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا يُنصروا عليهم، إلا ذاهب وهالك في ضلال.