وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 39 )

وقوله: ( وَمِنْ آيَاتِهِ ) أي:على قدرته على إعادة الموتى ( أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً ) أي:هامدة لا نبات فيها، بل هي ميتة ( فَإِذَا أَنـزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ) أي:أخرجت من جميل ألوان الزروع والثمار، ( إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 40 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ( 41 ) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ( 42 ) مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ( 43 )

قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا ) ، قال ابن عباس:الإلحاد:وضع الكلام على غير مواضعه.

وقال قتادة وغيره:هو الكفر والعناد.

وقوله: ( لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ) أي:فيه تهديد شديد، ووعيد أكيد، أي:إنه تعالى عالم بمن يلحد في آياته وأسمائه وصفاته، وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال؛ ولهذا قال: ( أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ؟ أي:أيستوي هذا وهذا؟ لا يستويان.

ثم قال - عز وجل- تهديدًا للكفرة: ( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ) قال مجاهد، والضحاك، وعطاء الخراساني: ( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ) :وعيد، أي:من خير أو شر، إنه عليم بكم وبصير بأعمالكم؛ ولهذا قال: ( إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )

ثم قال: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ) قال الضحاك، والسدي، وقتادة:وهو القرآن ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ) أي:منيع الجناب، لا يرام أن يأتي أحد بمثله.

( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) أي:ليس للبطلان إليه سبيل؛ لأنه منـزل من رب العالمين؛ ولهذا قال: ( تَنـزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) أي:حكيم في أقواله وأفعاله، حميد بمعنى محمود، أي:في جميع ما يأمر به وينهى عنه الجميع محمودة عواقبه وغاياته.

ثم قال: ( مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ) قال قتادة، والسدي، وغيرهما:ما يقال لك من التكذيب إلا كما قد قيل للرسل من قبلك، فكما قد كذبت فقد كذبوا، وكما صبروا على أذى قومهم لهم، فاصبر أنت على أذى قومك لك. وهذا اختيار ابن جرير، ولم يحك هو، ولا ابن أبي حاتم غيره.

وقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ [ لِلنَّاسِ ] ) أي:لمن تاب إليه ( وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) أي:لمن استمر على كفره، وطغيانه، وعناده، وشقاقه ومخالفته.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال:لما نـزلت هذه الآية: ( إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لولا غَفْر الله وتجاوزه ما هَنَأ أحدا العيشُ، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد » .

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ( 44 ) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ( 45 )

لما ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته، وإحكامه في لفظه ومعناه، ومع هذا لم يؤمن به المشركون، نبه على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت، كما قال: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [ الشعراء:198، 199 ] . وكذلك لو أنـزل القرآن كله بلغة العجم، لقالوا على وجه التعنت والعناد: ( لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) أي:لقالوا:هلا أنـزل مفصلا بلغة العرب، ولأنكروا ذلك وقالوا:أعجمي وعربي؟ أي:كيف ينـزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه.

هكذا رُوي هذا المعنى عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والسدي، وغيرهم.

وقيل:المراد بقولهم: ( لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) أي:هلا أنـزل بعضها بالأعجمي، وبعضها بالعربي.

هذا قول الحسن البصري، وكان يقرؤها كذلك بلا استفهام في قوله ( أَعْجَمِيٌّ ) وهو رواية عن سعيد بن جبير وهو في [ التعنت و ] العناد أبلغ.

ثم قال تعالى: ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ) أي:قل يا محمد:هذا القرآن لمن آمن به هدى لقلبه وشفاء لما في الصدور من الشكوك والريب، ( وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ ) أي:لا يفهمون ما فيه، ( وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) أي:لا يهتدون إلى ما فيه من البيان كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا [ الإسراء:82 ] .

( أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) قال مجاهد:يعني بعيد من قلوبهم.

قال ابن جرير:معناه:كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد، لا يفهمون ما يقول .

قلت:وهذا كقوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [ البقرة:171 ] .

وقال الضحاك:ينادون يوم القيامة بأشنع أسمائهم.

وقال السدي:كان عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] جالسا عند رجل من المسلمين يقضي، إذ قال:يا لبَّيكاه. فقال عمر:لِمَ تلبي؟ هل رأيت أحدا، أو دعاك أحد؟ قال:دعاني داع من وراء البحر. فقال عمر:أولئك ينادون من مكان بعيد. رواه ابن أبي حاتم.

وقوله: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ) أي:كُذِّبَ وَأُوذِيَ ، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [ الأحقاف:35 ] . وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [ الشورى:14 ] بتأخير الحساب إلى يوم المعاد، ( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) أي:لعجل لهم العذاب، بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ( وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) أي:وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا، بل كانوا شاكين فيما قالوا ، غير محققين لشيء كانوا فيه. هكذا وجهه ابن جرير، وهو محتمل، والله أعلم.

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 46 )

يقول تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ) أي:إنما يعود نفع ذلك على نفسه، ( وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ) أي:إنما يرجع وبال ذلك عليه، ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ) أي:لا يعاقب أحدا إلا بذنب، ولا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه.