إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ( 47 ) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ( 48 )

ثم قال: ( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ) أي:لا يعلم ذلك أحد سواه، كما قال صلى الله عليه وسلم، وهو سيد البشر لجبريل وهو من سادات الملائكة - حين سأله عن الساعة، فقال: « ما المسئول عنها بأعلم من السائل » ، وكما قال تعالى: إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [ النازعات:44 ] ، وقال لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ [ الأعراف:187 ] .

وقوله: ( وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ ) أي:الجميع بعلمه، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وقد قال تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا [ الأنعام:59 ] ، وقال جلت عظمته: يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [ الرعد:8 ] ، وقال وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [ فاطر:11 ] .

وقوله: ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي ) أي:يوم القيامة ينادي الله المشركين على رءوس الخلائق:أين شركائي الذين عبدتموهم معي؟ ( قَالُوا آذَنَّاكَ ) أي:أعلمناك، ( مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ) أي:ليس أحد منا اليوم يشهد أن معك شريكا.

( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ ) أي:ذهبوا فلم ينفعوهم، ( وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) أي:وظن المشركون يوم القيامة، وهذا بمعنى اليقين، ( مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) أي:لا محيد لهم عن عذاب الله، كقوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [ الكهف:53 ] .

لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ( 49 ) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ( 50 ) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ( 51 )

يقول تعالى:لا يَمَلّ الإنسان من دعائه ربّه بالخير - وهو:المال، وصحة الجسم، وغير ذلك- وإن مسه الشر - وهو البلاء أو الفقر- ( فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ) أي:يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير.

( وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي ) أي:إذا أصابه خير ورزق بعد ما كان في شدة ليقولن:هذا لي، إني كنت أستحقه عند ربي، ( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ) أي:يكفر بقيام الساعة، أي:لأجل أنه خُوِّل نعمة يفخر، ويبطر، ويكفر، كما قال تعالى: كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [ العلق:6، 7 ] .

( وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى ) أي:ولئن كان ثَمّ معاد فليُحسنَنّ إلي ربي، كما أحسن إلي في هذه الدار، يتمنى على الله، عز وجل، مع إساءته العمل وعدم اليقين. قال تعالى: ( فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) يتهدد تعالى من كان هذا عمله واعتقاده بالعقاب والنكال.

ثم قال: ( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ) أي:أعرض عن الطاعة، واستكبر عن الانقياد لأوامر الله، عز وجل، كقوله تعالى: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ [ الذاريات:39 ] .

( وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ ) أي:الشدة، ( فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ) أي:يطيل المسألة في الشيء الواحد فالكلام العريض:ما طال لفظه وقل معناه، والوجيز:عكسه، وهو:ما قل ودل. وقد قال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [ يونس:12 ] .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( 52 ) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 53 ) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ( 54 )

يقول تعالى:قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن: ( أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ ) هَذَا الْقُرْآنُ ( مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ) أي:كيف تُرَون حالكم عند الذي أنـزله على رسوله؟ ولهذا قال: ( مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) ؟ أي:في كفر وعناد ومشاقة للحق، ومَسْلَك بعيد من الهدى.

ثم قال: ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ) أي:سنظهر لهم دلالاتنا وحُجَجنا على كون القرآن حقا منـزلا من عند الله، عز وجل، على رسوله صلى الله عليه وسلم بدلائل خارجية ( فِي الآفَاقِ ) ، من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان.

قال مجاهد، والحسن، والسدي:ودلائل في أنفسهم، قالوا:وقعة بَدْر ، وفتح مكة، ونحو ذلك من الوقائع التي حَلّت بهم، نصر الله فيها محمدا وصحبه، وخذل فيها الباطل وحِزْبَه.

ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة، كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى. وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة، من حسن وقبيح وبين ذلك، وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله، وقوته، وحِيَله، وحذره أن يجوزها، ولا يتعداها، كما أنشده ابن أبي الدنيا في كتابه « التفكر والاعتبار » ، عن شيخه أبي جعفر القرشي:

وَإذَا نَظَـــرْتَ تُريــدُ مُعْتَـــبَرا فَــانظُـرْ إليْــكَ فَفِيــكَ مُعْتَـبَرُ

أنــتَ الـذي يُمْسِـي وَيُصْبـحُ فـي الدنيــا وكُــلّ أمُـــوره عـبَـرُ

أنـتَ المصـرّفُ كــانَ فـي صِغَـرٍ ثُــمّ اســتَقَلَّ بِشَــخْصِكَ الكِــبَرُ

أنــتَ الـــذي تَنْعَــاه خـلْقَتُـه يَنْعــاه منــه الشَّـــعْرُ والبَشَـرُ

أنــتَ الــذي تُعْطَـى وَتُـسْـلَب لا يُنْجيــه مــن أنْ يُسْــلَبَ الحَـذَرُ

أنْــتَ الــذي لا شَـيءَ منْـه لَـهُ وَأحَــقُّ منـْــه بـِمَالــه القَـدَرُ

وقوله تعالى: ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ؟ أي:كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم، وهو يشهد أن محمدًا صادق فيما أخبر به عنه، كما قال: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ [ النساء:166 ] .

وقوله: ( أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ ) أي:في شك من قيام الساعة؛ ولهذا لا يتفكرون فيه، ولا يعملون له، ولا يحذرون منه، بل هو عندهم هَدَرٌ لا يعبئون به وهو واقع لا ريب فيه وكائن لا محالة.

قال ابن أبي الدنيا:حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا خلف بن تميم، حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد الأنصاري:أن عمر بن عبد العزيز صَعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:أما بعد، أيها الناس، فإني لم أجمعكم لأمر أحدثه فيكم، ولكن فكرت في هذا الأمر الذي أنتم إليه صائرون، فعلمت أن المصدق بهذا الأمر أحمق، والمكذب به هالك ثم نـزل.

ومعنى قوله، رضي الله عنه: « أن المصدق به أحمق » أي:لأنه لا يعمل له عمل مثله، ولا يحذر منه ولا يخاف من هوله، وهو مع ذلك مصدق به موقن بوقوعه، وهو مع ذلك يتمادى في لعبه وغفلته وشهواته وذنوبه، فهو أحمق بهذا الاعتبار، والأحمق في اللغة:ضعيف العقل.

وقوله: « والمكذب به هالك » هذا واضح، والله أعلم.

ثم قال تعالى - مقررا على أنه على كل شيء قدير، وبكل شيء محيط، وإقامة الساعة لديه يسير سهل عليه تبارك وتعالى- : ( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ) أي:المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته، وتحت طي علمه، وهو المتصرف فيها كلها بحكمه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

[ آخر تفسير سورة فصلت ] .