فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 11 ) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 12 )

وقوله: ( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي:خالقهما وما بينهما، ( جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) أي:من جنسكم وشكلكم، منة عليكم وتفضلا جعل من جنسكم ذكرا وأنثى، ( وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا ) أي:وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج.

وقوله: ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) أي:يخلقكم فيه، أي:في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم فيه ذكورا وإناثا، خلقا من بعد خلق، وجيلا بعد جيل، ونسلا بعد نسل، من الناس والأنعام.

وقال البغوي رحمه الله: ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) أي:في الرحم. وقيل:في البطن. وقيل:في هذا الوجه من الخلقة.

قال مجاهد:ونسلا بعد نسل من الناس والأنعام.

وقيل: « في » بمعنى « الباء » ، أي:يذرؤكم به.

( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) أي:ليس كخالق الأزواج كلها شيء؛ لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له، ( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )

وقوله: ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) تقدم تفسيره في « سورة الزمر » ، وحاصل ذلك أنه المتصرف الحاكم فيهما، ( يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) أي:يوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء، وله الحكمة والعدل التام، ( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ( 13 ) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ( 14 )

يقول تعالى لهذه الأمة: ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) ، فذكر أول الرسل بعد آدم وهو نوح، عليه السلام وآخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهم:إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم، عليهم السلام. وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية « الأحزاب » عليهم في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الآية [ الأحزاب:7 ] . والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو:عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] . وفي الحديث: « نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد » أي:القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم، كقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [ المائدة:48 ] ؛ ولهذا قال هاهنا: ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) أي:وصى الله [ سبحانه و ] تعالى جميع الأنبياء، عليهم السلام، بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف.

وقوله: ( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) أي:شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد.

ثم قال: ( اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) أي:هو الذي يُقدّر الهداية لمن يستحقها، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد؛ ولهذا قال: ( وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ) أي:إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم، وقيام الحجة عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغيُ والعنادُ والمشاقة.

ثم قال [ الله ] تعالى: ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي:لولا الكلمة السابقة من الله بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد، لعجل لهم العقوبة في الدنيا سريعًا.

وقوله: ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) يعني:الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذّب للحق ( لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) أي:ليسوا على يقين من أمرهم، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا بُرهان، وهم في حيرة من أمرهم، وشك مريب، وشقاق بعيد.

فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 15 )

اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها، [ لها ] حكم برأسه- قالوا:ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضا عشرة فصول كهذه.

قوله ( فَلِذَلِكَ فَادْعُ ) أي:فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم، فادعُ الناس إليه.

وقوله: ( وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ) أي:واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله، كما أمركم الله عز وجل.

وقوله: ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) يعني:المشركين فيما اختلقوه، وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان.

وقوله: ( وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ ) أي:صدقت بجميع الكتب المنـزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم.

وقوله: ( وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) أي:في الحكم كما أمرني الله.

وقوله: ( اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ) أي:هو المعبود، لا إله غيره، فنحن نقر بذلك اختيارا، وأنتم وإن لم تفعلوه اختيارا، فله يسجد من في العالمين طوعا واختيارا.

وقوله: ( لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ) أي:نحن برآء منكم، كما قال تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [ يونس:41 ] .

وقوله: ( لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ) قال مجاهد:أي لا خصومة. قال السدي:وذلك قبل نـزول آية السيف. وهذا مُتَّجَهٌ لأن هذه الآية مكية، وآية السيف بعد الهجرة.

وقوله: ( اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ) أي:يوم القيامة، كقوله: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [ سبأ:26 ] .

وقوله: ( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) أي:المرجع والمآب يوم الحساب.