إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ( 40 ) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 41 ) إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 42 )

ثم قال: ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ ) وهو يوم القيامة، يفصل الله فيه بين الخلائق، فيعذب الكافرين ويثيب المؤمنين.

وقوله: ( مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) أي:يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم.

( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا ) أي:لا ينفع قريب قريبًا، كقوله: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [ المؤمنون:101 ] ، وكقوله وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ [ المعارج:10 ، 11 ] أي:لا يسأل أخًا له عن حاله وهو يراه عيانًا.

وقوله: ( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) أي:لا ينصر القريب قريبه، ولا يأتيه نصره من خارج.

ثم قال: ( إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ ) أي:لا ينفع يومئذ إلا من رحمه الله، عز وجل، لخلقه ( إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) أي:هو عزيز ذو رحمة واسعة.

إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ ( 43 ) طَعَامُ الأَثِيمِ ( 44 ) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ( 45 ) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ( 46 ) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ( 47 ) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ( 48 ) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( 49 ) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ( 50 )

يقول تعالى مخبرًا عما يعذب به [ عباده ] الكافرين الجاحدين للقائه: ( إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأثِيمِ ) والأثيم أي:في قوله وفعله، وهو الكافر. وذكر غير واحد أنه أبو جهل، ولا شك في دخوله في هذه الآية، ولكن ليست خاصة به.

قال ابن جرير:حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم عن همام بن الحارث، أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلا ( إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأثِيمِ ) فقال:طعام اليتيم فقال أبو الدرداء قل:إن شجرة الزقوم طعام الفاجر. أي:ليس له طعام غيرها.

قال مجاهد:ولو وقعت منها قطرة في الأرض لأفسدت على أهل الأرض معايشهم. وقد تقدم نحوه مرفوعا.

وقوله: ( كَالْمُهْلِ ) قالوا:كعكر الزيت ( يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ) أي:من حرارتها ورداءتها.

وقوله: ( خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ ) أي: [ خذوا ] الكافر، وقد ورد أنه تعالى إذا قال للزبانية ( خُذُوهُ ) ابتدره سبعون ألفًا منهم.

( فَاعْتِلُوهُ ) أي:سوقوه سحبا ودفعا في ظهره.

قال مجاهد: ( خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ ) أي:خذوه فادفعوه.

وقال الفرزدق:

لَيسَ الكِـــرَامُ بِنَــاحِلِيكَ أَبَــاهُمُ حَــتَّى تُــرَدَّ إلـى عَطيَّـة تُعْتَـلُ

( إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) أي:وسطها.

( ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ) كقوله يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [ الحج:19 ، 20 ] .

وقد تقدم أن الملك يضربه بمقمعة من حديد، تفتح دماغه، ثم يصب الحميم على رأسه فينـزل في بدنه، فيسلت ما في بطنه من أمعائه، حتى تمرق من كعبيه - أعاذنا الله تعالى من ذلك.

وقوله: ( ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) أي:قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ.

وقال الضحاك عن ابن عباس:أي لست بعزيز ولا كريم.

وقد قال الأموي في مغازيه:حدثنا أسباط، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن عكرمة قال:لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل - لعنه الله- فقال: « إن الله تعالى أمرني أن أقول لك: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [ القيامة:34 ، 35 ] قال:فنـزع ثوبه من يده وقال:ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء. ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء، وأنا العزيز الكريم. قال:فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته، وأنـزل: ( ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) .»

وقوله: ( إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ) ، كقوله يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [ الطور:13 - 15 ] ، ؛ ولهذا قال هاهنا: ( إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ )

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ( 51 ) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 52 ) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ( 53 ) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ( 54 ) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ( 55 ) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 56 ) فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 57 ) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 58 ) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ( 59 )

لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر [ حال ] السعداء - ولهذا سُمّي القرآن مثاني- فقال: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ ) أي:لله في الدنيا ( فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ) أي:في الآخرة وهو الجنة، قد أمنوا فيها من الموت والخروج، ومن كل هم وحزن وجزع وتعب ونصب، ومن الشيطان وكيده، وسائر الآفات والمصائب.

( فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجر الزقوم، وشرب الحميم.

وقوله تعالى: ( يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) وهو:رفيع الحرير، كالقمصان ونحوها ( وَإِسْتَبْرَقٍ ) وهو ما فيه بريق ولمعان وذلك كالرياش، وما يلبس على أعالي القماش، ( مُتَقَابِلِينَ ) أي:على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره.

وقوله: ( كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) أي:هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحور العين الحسان اللاتي لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [ الرحمن:56 ، 74 ] كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [ الرحمن:58 ] هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ [ الرحمن:60 ] .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا نوح بن حبيب، حدثنا نصر بن مزاحم العطار، حدثنا عمر بن سعد، عن رجل عن أنس - رفعه نوح- قال:لو أن حوراء بَزَقَت في بحر لُجِّي، لعَذُبَ ذلك الماء لعذوبة ريقها .

وقوله: ( يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ) أي:مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم، وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه، بل يحضر إليهم كلما أرادوا.

وقوله: ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى ) هذا استثناء يؤكد النفي، فإنه استثناء منقطع ومعناه:أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدًا، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح، ثم يقال:يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت » وقد تقدم الحديث في سورة مريم .

وقال عبد الرزاق:حدثنا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي مسلم الأغر، عن أبي سعيد وأبي هريرة، رضي الله عنهما، قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقال لأهل الجنة:إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تَبْأسوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا » . رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق به .

هكذا يقول أبو إسحاق وأهل العراق « أبو مسلم الأغر » ، وأهل المدينة يقولون: « أبو عبد الله الأغر » .

وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني:حدثنا أحمد بن حفص، عن أبيه، عن إبراهيم بن طَهْمَان، عن الحجاج - هو ابن حجاج - عن عبادة ، عن عبيد الله بن عمرو، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من اتقى الله دخل الجنة، ينعم فيها ولا يبأس، ويحيا فيها فلا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه » .

وقال أبو القاسم الطبراني:حدثنا أحمد بن يحيى، حدثنا عمرو بن محمد الناقد، حدثنا سليمان بن عبيد الله الرقي، حدثنا مصعب بن إبراهيم، حدثنا عمران بن الربيع الكوفي، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر، رضي الله عنه، قال:سُئل نبي الله صلى الله عليه وسلم:أينام أهل الجنة؟ فقال: « النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون » .

وهكذا رواه أبو بكر بن مُرْدَويه في تفسيره:حدثنا أحمد بن القاسم بن صدقة المصري، حدثنا المقدام بن داود، حدثنا عبد الله بن المغيرة، حدثنا سفيان الثوري، عن محمد بن الْمنكَدِر، عن جابر بن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون » .

وقال أبو بكر البزار في مسنده:حدثنا الفضل بن يعقوب، حدثنا محمد بن يوسف الفِريابي، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال:قيل:يا رسول الله، هل ينام أهل الجنة؟ قال: « لا النوم أخو الموت » ثم قال: « لا نعلم أحدًا أسنده عن ابن المنكدر، عن جابر إلا الثوري، ولا عن الثوري، إلا الفريابي » هكذا قال، وقد تقدم خلاف ذلك، والله أعلم.

وقوله: ( وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) أي:مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم، وسلمهم ونجاهم وزحزحهم من العذاب الأليم في دركات الجحيم، فحصل لهم المطلوب، ونجاهم من المرهوب؛ ولهذا قال: ( فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) أي:إنما كان هذا بفضله عليهم وإحسانه إليهم كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « اعملوا وسددوا وقاربوا، واعلموا أن أحدًا لن يُدخله عمله الجنة » قالوا:ولا أنت يا رسول الله؟ قال: « ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله برحمة منه وفضل » .

وقوله: ( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) أي:إنما يسرنا هذا القرآن الذي أنـزلناه سهلا واضحًا بينًا جليًا بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأحلاها وأعلاها ( لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) أي:يتفهمون ويعملون. ثم لما كان مع هذا البيان والوضوح من الناس من كفر وخالف وعاند، قال الله تعالى لرسوله مسليا له وواعدًا له بالنصر، ومتوعدًا لمن كذبه بالعطب والهلاك: ( فَارْتَقِبْ ) أي:انتظر ( إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ) أي:فسيعلمون لمن يكون النصر والظفر وعُلُو الكلمة في الدنيا والآخرة، فإنها لك يا محمد ولإخوانك من النبيين والمرسلين ومن اتبعكم من المؤمنين، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [ المجادلة:21 ] ، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ غافر:51 ، 52 ] .

آخر تفسير سورة الدخان، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة